Wednesday, December 27, 2017

لوحات عالميـة – 437

الفقـر
للفنانة الألمانية كاثـي كولفيـتز، 1893

معظم الرسّامين يميلون إلى إظهار جمال العالم في لوحاتهم. لكن كاثي كولفيتز كرّست وقتها وموهبتها لرسم الجانب المظلم من الحياة، حيث الألم والحزن والمعاناة جزء من الحالة الإنسانية.
عاشت هذه الرسّامة كشاهد على زمنها الذي اتّسم بالاضطرابات السياسية والاجتماعية، وعاصرت حربين عالميتين، ورأت عيانا معاناة البشر والحيوات الكثيرة التي أزهقت، بمن فيهم ابنها الذي قُتل في الحرب العالمية الأولى وحفيدها الذي قُتل في الحرب الثانية.
كانت كولفيتز فنّانة ملتزمة وأصبحت بنظر الكثيرين تجسّد ضمير ألمانيا بدعوتها إلى السلام ونبذ الكراهية والحروب، وهو موقف شجاع ومحفوف بالمخاطر بالنسبة لأيّ فنّان عاش في ألمانيا في تلك الفترة.
وعندما تحوّل الحكم النازيّ إلى فاشية شمولية، أصبحت السلطة تنظر إلى فنّها بعين الشكّ والتوجّس. ومنع النازيّون آنذاك ودمّروا كلّ ما كانوا يعتبرونه فنّا منحلا واضطهدوا، بل وقتلوا العديد من الرسّامين والمفكّرين والمثقّفين.
لوحات كاثي كولفيتز ليست جميلة ولا مريحة، بل تثير الحزن والألم لأنها تتحدّث عن الحرب والجوع والفقر والموت. وقد رسمتها في وقت كان فيه الحماس لأفكار نيتشه قويّا رغم أن فلسفته لم تحظَ بالرّواج الواسع إلا في بديات القرن العشرين.
في الكثير من لوحاتها، وبدلا من رسم نموذج المرأة الغنيّة كما جرت العادة، رسمت كولفيتز النساء اللاتي يعانين من الفقر الذي يحرمهنّ من إطعام أطفالهنّ والاستمتاع بالأمومة.
وهذه الفكرة تتكرّر كثيرا في أعمالها. وقد عبّرت عنها بتصوير أمّهات يرضعن أو يحمين أو يرعَين أطفالهنّ وقت موتهم.
في هذه اللوحة مثلا، ترسم أمّا شابّة وهي تنحني بيأس فوق طفلها الذي يحتضر في السرير أمامها. وفي الخلفية عند النافذة، تظهر امرأة عجوز مع طفل آخر وهما يراقبان ما يجري بألم وصمت.
الأمّ أيضا تضع يديها على رأسها في إشارة إلى أنها متعبة وعاجزة وبلا قوّة. والطفل يبدو واهناً كهيكل عظميّ بسبب انعدام الطعام. والمنظر بأكمله يُظهر ما يمكن أن يجلبه الفقر للإنسان من تعاسة وبؤس.
الأشياء المظلمة في الغرفة تبدو بلا قيمة. والظلال المخيّمة تعمّق الدراما في المشهد. وخيوط النسيج هي تذكير بمهنة ربّ البيت وكذلك بالقدَر الذي يسيّر حياة البشر دون أن يملكوا له دفعا.
هذه اللوحة هي واحدة من سلسلة من ستّ لوحات تصوّر فيها الرسّامة الحياة القاسية للنسّاجين. وقد جلبت لها تلك السلسلة شهرة واسعة ودفعتها إلى مركز الضوء وأصبحت بفضلها محطّ اهتمام النقّاد والجمهور على السواء.
تعاطُف كولفيتز مع الطبقة العاملة والفئات الاجتماعية المهمّشة عبّرت عنه في العديد من أعمالها بأسلوب بليغ ومقنع. ويقال أن فقدانها لابنها، ومن ثمّ لحفيدها، أسهم في تعاطفها وتبنّيها لقضايا الطبقات الفقيرة والمعدمة.
كانت الرسّامة قد تزوّجت طبيبا كان يعيش في حيّ فقير جدّا في برلين. وقد رأت عيانا ولسنوات طوال معاناة الفقراء وآلامهم. وتركت تلك التجربة أثرها على أفكارها وأعمالها. وكان زوجها أيضا يهتمّ بالفقراء ويقوم بعلاجهم مجّانا في عيادة بالطابق الأرضيّ من منزلهما.
لوحات كولفيتز عموما مظلمة وصادمة، وهي تعكس بيئة باردة وقاسية بتصويرها طبيعة الحياة التي كان يعيشها الناس في ذلك الوقت، وكأنها تطلب من المتلقي أن يرى ويشعر ويفكّر بما يحدث.
ورغم واقعية رسوماتها، إلا أنها اليوم تُعتبر أكثر ارتباطا بالتعبيرية. وهناك من يشبّه لوحتها هذه بلوحة ادفارد مونك أمّ ميّتة وطفل .
في إحدى أشهر لوحاتها الأخرى بعنوان أمّ مع طفلها المّيت ، ترسم الفنانة طفلا ميّتا تحتضنه أمّه إلى صدرها بحنوّ ومحبّة. ورغم أن الطفل ميّت، إلا أن أمّه ما تزال تحسّ به وتضمّه بعطف كما لو انه ما يزال على قيد الحياة. وقد تحوّلت هذه اللوحة إلى عمل نحتيّ واختير عام 1993، أي بعد وفاة الرسّامة بخمسين عاما، ليكون النصب التذكاريّ لضحايا الحرب والاستبداد في ألمانيا.
بالإضافة إلى لوحاتها الملتزمة، رسمت الفنّانة أكثر من مائة بورتريه لنفسها خلال الستّين عاما التي قضتها في الرسم. وبورتريهاتها لنفسها تشبه تلك التي رسمها رمبراندت لنفسه، من حيث ثرائها وعمقها السيكولوجيّ. وتبدو في تلك الصور على درجة من الإنسانية والتواضع وفي حالة بحث وتساؤل دائمين.
ولدت كاثي كولفيتز في بروسيا بألمانيا لأب كان يعتنق الفكر الاشتراكيّ وأمّ لوثرية الديانة. ومنذ صغرها درست الدين والأفكار الاشتراكية. وقد رتّب لها والدها دروسا في الرسم عندما كانت في الثانية عشرة. وبعد أربع سنوات، بدأت ترسم الفلاحين والبحّارة الذين كانت تراهم في مكتب أبيها. وبعد زواجها في سنّ السابعة عشرة، ذهبت لتتعلّم الرسم في ميونيخ.
وفي مرحلة تالية، عملت أستاذة في أكاديمية بروسيا للفنون. وفي عام 1933، اجبرها النازيّون على الاستقالة من وظيفتها، كما أزيلت لوحاتها من المتاحف، ومُنعت من عرض أعمالها، رغم أن النازيّين وظّفوا لوحتها بعنوان أمّ وطفلها لأغراض الدعاية.
وبعد ثلاث سنوات، زارها وزوجها أفراد من البوليس السرّيّ "الغستابو" وهدّدوهما باعتقالهما وإرسالهما إلى احد معسكرات الاعتقال. وقرّر الزوجان أن يقدما على الانتحار متى ما أصبح ذلك الاحتمال ممكنا.
كانت كولفيتز وقتها قد أصبحت شخصية مشهورة في أوربّا وخارجها. لذا تردّد النازيون في اتخاذ إجراءات أخرى ضدّها. وفي عام 1937، أي في عيد ميلادها السبعين، تلقّت رسائل تعاطف من عدد من الشخصيات العالمية وعرضا للقدوم إلى أمريكا والإقامة فيها بشكل دائم. لكنها رفضت العرض خوفا من أن تتسبّب في إثارة أعمال انتقامية ضدّ عائلتها.
وفي عام 1940، توفّي زوجها. وبعد ثلاثة أعوام، قُصف منزلها في برلين أثناء غارة جويّة لطيران الحلفاء، فانتقلت إلى بلدة أخرى حيث توفّيت هناك بعد ذلك بسنتين، أي في ابريل 1945.
وهناك اليوم في برلين متحف يحمل اسم كاثي كولفيتز ويتألّف من أربعة طوابق ويضمّ حوالي مائتين من أعمالها. وقد شُيّد المتحف على أنقاض منزلها القديم الذي أعيد ترميمه ومن ثمّ حُوّل إلى متحف بتمويل من بنك ألمانيا وبلدية برلين.

Sunday, December 24, 2017

لوحات عالميـة – 436

الكاهـن المتـزلّـج على الجليـد
للفنان الاسكتلندي هنـري ريبـيـرن، 1790

كانت نهاية القرون الوسطى تمثّل العصر الذهبيّ للوحات التي تصوّر مناظر الثلج والتزلّج على الجليد.
ولم يكن هذا بالشيء المستغرب، ففي تلك الفترة ساد أرجاء أوربّا ما عُرف بالعصر الجليديّ الصغير، وكان على الناس وقتها أن يواجهوا الظروف الصعبة الناتجة عن الجوّ البارد جدّا.
وكان من أفضل فنّاني هذا النوع من الرسم كلّ من هندريك ايفركامب ويوهان جونكيند وفريدريك كروزمان وغيرهم.
الرسّام هنري ريبيرن رسم، هو أيضا، واحدة من أشهر لوحات الفصول وأكثرها جاذبيةً. وفيها يظهر راهب يُدعى روبيرت ووكر وهو يتزلّج في بحيرة لوك المتجمّدة في اسكتلندا. ووراءه يظهر أفق فضّيّ تذوب فيه التلال في الجليد.
المفارقة التي تثيرها الصورة هي أن زعيما دينيا يجد ما يكفي من الوقت لأن يتخفّف من أعباء مسئولياته ويمارس هوايته الأثيرة. وهو في اللوحة يبدو جادّا، وفي نفس الوقت منهمكا في إمتاع نفسه.
المنظر يثير أيضا شعورا بالانضباط والمهارة، فذراعا الرجل مطويتان خلف ظهره لتخفيف المقاومة. والمنحنيات الظاهرة على سطح الجليد تشير إلى آثار المتزلّجين الذين سبقوه. ومزيج الألوان الزهرية والرمادية للغيوم تشكّل خلفية رائعة، وهي مع الصورة الظلّية للرجل وُظّفت لتوصل الإحساس بلحظات السعادة.
كان ووكر عضوا في جمعية ادنبره للتزلّج على الجليد، وكان أعضاء الجمعية يلتقون دوريّا لممارسة هوايتهم على مياه البحيرة المتجمّدة. و ووكر معروف بين زملائه بأنه متزلّج حاذق ويتقن المناورة.
وكان الرجل قد قضى معظم طفولته في هولندا، حيث كان والده يعمل كاهنا للكنيسة الاسكتلندية في روتردام. وقد تعلّم مهارات التزلّج على الجليد أثناء إقامتهم هناك. وعندما عاد إلى ادنبره، أسّس مع عدد من أصدقائه ناديا للتزلّج اعتُبر أوّل نادٍ من نوعه في العالم.
اللوحة تتضمّن لمسة بهلوانية وهي أيضا تجسّد البراعة وروح الدعابة، بينما الملابس الداكنة مع القبّعة تشيع نوعا من الوقار. كما أن الصورة تنقل لمحة عن اسكتلندا القديمة قبل ما يقرب من المائتي عام.
ولد ريبيرن في ادنبره في مارس عام 1756. وتوفّي والده وهو صغير، فتولّى أخوه الأكبر رعايته. وفي صغره عمل في ورشة لصنع المجوهرات، وكانت وظيفته نقش الصور على الحليّ.
ويمكن القول انه علّم نفسه بنفسه إلى أن أصبح رسّام بورتريه معروفا. وفي ما بعد، ذهب إلى روما للدراسة واستنسخ بعض أعمال ميكيل انجيلو. وبعد عامين عاد إلى اسكتلندا.
وقد صوّر ريبيرن بعض الشخصيات المشهورة في عصره مثل السير والتر سكوت الذي رسمه أربع مرّات. كما رسم صورا لمثقّفي وتجّار اسكتلندا. وفي عام 1812 انتُخب رئيسا لجمعية الرسّامين الاسكتلنديين ثم عضوا في الأكاديمية الملكية. وفي عام 1822 منحه الملك جورج الرابع لقب فارس.
ولوحات ريبيرن تتّسم عموما بالواقعية الشديدة وبآثار الضوء الدراماتيكيّ وغير المألوف. وكان بعض النقّاد يفضّلونه على غينسبورو ورينولدز، غير أن رسوماته اقل بريقا وأناقة من رسوماتهما.
ومع ذلك فإن لوحته هذه غير عاديّة، لدرجة أنها اختيرت كأفضل لوحة في اسكتلندا بسبب جاذبيّتها التي لا تقاوَم والمتعة الاحتفالية التي تصوّرها.
وفي ما بعد وضُعت على طوابع البريد واستُنسخت كثيرا على ربطات العنق وعلى علب الشيكولاته والمناديل وغيرها.
ولأن الصورة لا تحمل سمات محدّدة، فقد شكّك بعض مؤرخّي الفنّ في نسبتها لريبيرن، وساد اعتقاد أن من رسمها قد يكون الفرنسيّ بيير دانلو الذي كان يعمل في اسكتلندا في أواخر القرن الخامس عشر. لكن في ما بعد، ثبت أنها لريبيرن فعلا.
والبعض يشبّهها بلوحة للرسّام الأمريكيّ غيلبيرت ستيوارت رسمها هو الأخر في ادنبره وقريبا من هذا المكان. والأخيرة تصوّر طبيعة جليدية يظهر في خلفيّتها عدد من المتزلّجين مع بعض الأشجار.
توفّي هنري ريبيرن في ادنبره في يوليو عام 1823.

Tuesday, December 19, 2017

لوحات عالميـة – 435

بورتـريه ماريّـا بورتيـناري
للفنان الألماني هانـز ميمـلينـك، 1470

استمرّ عصر النهضة حوالي مائتي عام، وكان له تاريخ طويل ومعقّد ما يزال يُدرَّس ويناقَش حتى اليوم. في ذلك العصر، شهد الرسم والنحت والمعمار ازدهارا غير مسبوق في أماكن متفرّقة من أوربّا.
هانز ميملينك كان احد أعظم رسّامي البورتريه في عصر النهضة الشمالية. ورغم انه مولود في ألمانيا، إلا انه اعتُبر رسّاما هولنديّا لأنه قضى معظم حياته في بورغيس الواقعة في مقاطعة الفلاندرز والتي كانت آنذاك مستعمرة ايطالية.
كان ميملينك متأثّرا بأسلوب فان دايك في تركيزه على الدقّة وإبراز التفاصيل. وقد ترك بصمته على عدد من الرسّامين الايطاليين في القرن الخامس عشر، بمن فيهم رافائيل.
لوحات ميملينك تتميّز بأناقتها مع إحساس كبير بالتناغم. وملامح شخوصه تنطق بالجمال والنعومة، كما في رسمه لوجوه المادونات.
كان الرسّام قد انتقل إلى هولندا عام 1465، حيث درس على يد روهيير فان دير وايدن ثم اكتسب جنسية بورغيس وصار واحدا من أهم الرسّامين فيها. وبحلول عام 1480، كان قد أصبح احد أغنى الأثرياء في المدينة بفضل براعته في رسم البورتريه وإتقانه تصوير المناظر الدينية.
في عام 1440، وصل إلى بورغيس من فلورنسا مصرفيّ ايطاليّ يُدعى توماسو بورتيناري كي يتولّى إدارة بنك ميدتشي في المدينة. وكانت عائلة ميدتشي وقتها تدير اكبر نظام مصرفيّ في أوربّا، مع فروع في سويسرا وفرنسا وانجلترا وغيرها.
وبعد سنوات من عمله في بورغيس، تزوج بورتيناري من فتاة ايطالية تُدعى ماريّا، وهي مثله تنتمي إلى عائلة ثريّة من فلورنسا. وفي أيّام الشاعر دانتي، كانت كلّ من عائلة اليغييري التي تنتسب إليها الفتاة وعائلة بورتيناري ترتبطان بعلاقة مصاهرة وقربى.
وقد أصبح توماسو وزوجته أشهر راعيين للفنون في أواخر القرن الخامس عشر. وكانا يعرفان ميملينك ويقدّران عمله بحكم اهتماماتهما الفنّية. وقد طلبا منه أن يرسم لهما بورتريها ثلاثيا: جزء منه يصوّر الزوج، والجزء الآخر الزوجة، على أن تتوسّط صورتيهما صورة للمادونا وطفلها.
كان توماسو بورتيناري وقتها في الثامنة والثلاثين من عمره وماريّا في الرابعة عشرة. وكان الزوج يعمل في نفس الوقت مستشارا لدوق بورغيس. وقد أراد أن يكون البورتريه رمزا لحبّهما ومعبّرا عن ارتباطهما بالبلاط.
الجزء الأوسط من اللوحة لم يعد موجودا اليوم. وبورتريه الزوجة هو الذي قُدّر له أن يبقى وأن يشتهر، بل إن معظم النقّاد يعتبرونه اليوم تحفة ميملينك الأولى.
وفي البورتريه، تظهر الزوجة وهي ترتدي ملابس فخمة تعكس ثراءها ومكانتها الاجتماعية وتناسب موضة المجتمع الرفيع في هولندا وايطاليا آنذاك. واللباس يتألّف من فستان بألوان بنّية وسوداء، مع حزام وياقة من الفراء الأبيض، بالإضافة إلى غطاء رأس مخروطيّ وخمار شفّاف وقلادة مرصّعة بالجواهر.
خلفية اللوحة مسطّحة ومعتمة. واليدان تأخذان وضعية الصلاة. والوجه مثاليّ ويتوافق مع الأفكار الجمالية في ذلك الوقت، خاصّة الحاجبين الرفيعين والأنف المستطيل. والنعومة التي رسم بها الفنّان وجه المرأة تضفي على ملامحها مسحة نحتية.
كان الزوجان بورتيناري يمثّلان الروابط والمصالح التجارية والثقافية بين كلّ من ايطاليا وهولندا. وكانا يتمتّعان بالثروة والمكانة والقبول. لكن الرياح جرت بما لا يشتهيان، عندما فقدَ الزوج وظيفته بسبب سلسلة من القروض الضخمة وغير الآمنة التي قدّمها لأحد أصدقائه وأدّت في النهاية إلى إفلاس البنك. ولم يمضِ وقت طويل حتى توفّي. وكانت ماريّا ما تزال حيّة عام 1501 عندما أصبحت هي المنفّذة لوصيّته.
من بين جميع لوحات ميملينك، ظلّت هذه اللوحة بحالة ممتازة، باستثناء غطاء الرأس الذي ضاعت تفاصيله بعد أن امتزجت ألوانه بالخلفية الداكنة بفعل تقادم الزمن.
المعروف أن ماريّا بورتيناري رسمها أكثر من فنّان، ومنهم الهولنديّ هوغو فان دير جوس الذي يُعتقد انه اعتمد في رسمه لها على هذه اللوحة.
ولد هانز ميملينك في فرانكفورت بإقليم الراين عام 1430. وبعد انتقاله إلى هولندا قرّر أن يعمل ضمن تقاليد الرسم الهولنديّ المبكّر.
وقد ظلّ يمارس عمله في بورغيس إلى أن توفّي فيها عام 1494 تاركا وراءه ثلاثة أطفال وثروة معتبرة. وفي القرون التالية اختفى اسمه من التداول، إلى أن اُعيد اكتشافه في القرن التاسع عشر.

Thursday, December 14, 2017

لوحات عالميـة – 434

الكمـان القـديـم
للفنان الأمريكي وليـام هـارنيـت، 1887

في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كان رسم الطبيعة هو الاتجاه الغالب على الرسم في أمريكا، بالنظر إلى جمال وتنوّع الطبيعة الأمريكية التي كانت تغري الفنّانين برسمها، بالإضافة إلى مضامينها المجازية والروحية. ولهذا السبب لم يكن رسم الحياة الساكنة يحظى سوى بالقليل من الاهتمام.
ومن بين الرسّامين الأمريكيين الذين اختاروا أن يتخصّصوا في تصوير الحياة الصامتة وليام هارنيت، الذي أصبح في ما بعد احد أشهر الرسّامين الذين برعوا في هذا النوع من الرسم. كان هارنيت يُلّقب بأبي الحياة الصامتة في أمريكا، وكانت لوحاته مشهورة في زمانه، وما يزال لها جاذبية حتى اليوم.
كان هارنيت بارعا في فنّ الإيهام الذي نشأ أوّل الأمر في فرنسا، ويعني رسم الأشياء بأحجامها الحقيقية وبواقعية شديدة في فراغ ثلاثيّ الأبعاد باستخدام المنظور، مع تفاصيل دقيقة وألوان حقيقية ونسيج مقنع، لدرجة أن المظهر العامّ للأشياء المرسومة يبدو قريبا جدّا من الواقع.
هذه اللوحة تُعتبر تحفة هارنيت بلا منازع. وقد اعتبرها النقّاد وقتها انجازا كبيرا وغير عاديّ في مجال التلوين. كما أعيد استنساخها عشرات المرّات طوال مائة عام وبأشكال مختلفة.
وموضوعها بسيط ومعقّد في الوقت نفسه، فقد رسم الفنّان آلة كمان ونوتة موسيقية أمام خلفية تتشكّل من باب خشبيّ قديم وقصاصة جريدة وظرف رسالة ازرق.
اللوحة تبدو حديثة جدّا والأشياء فيها مرتّبة بعناية. وبراعة الرسّام تظهر في تصويره الدقيق للنسيج والخشب والطلاء المهتريء.
والصورة تتضمّن طبقات متعدّدة من المعاني، كالعلاقة ما بين الوهم والواقع، وما بين القديم والحديث، وما بين المؤقّت والدائم. وفي قلب كلّ هذه المعاني مرور الزمن المعبّر عنه بعلامات البِلى والتقادم.
وهناك أيضا النوتة الموسيقية وهي لإحدى أغاني الموسيقيّ الايطاليّ فينسنزو بلليني التي تتحدّث كلماتها عن التغييرات الدنيوية. الكمان الصامت والمرسوم بحجمه الحقيقيّ أصبح باليا ويعلوه الغبار لكثرة ما استُخدم، لكنه ما يزال يذكّر بالماضي ومُتَعه.
كان هارنيت يقول انه يريد للوحاته أن تحكي قصصا، حقيقية كانت أو مجازية. وكان الحنين إلى الماضي احد سمات العصر الذي عاش فيه. كان الناس وقتها يحنّون إلى زمن منقضٍ كانت فيه الحياة بسيطة وسهلة. ولهذا السبب تتواتر في لوحاته صور تذكّر بذلك الماضي الغابر، كالأقلام والشموع والآلات الموسيقية ونحوها.
والعناصر الموسيقية، بشكل خاصّ، تتكرّر كثيرا في لوحات الفنّان، كما لو أنها تعبير عن تقديره العالي للموسيقى، جنبا إلى جنب مع أكداس الكتب والصفحات الممزّقة.
وعُمر الكمان في هذه اللوحة هو احد مفاتيحها الرئيسية. واختياره يعكس فكرة هارنيت القائلة بأن الأشياء الجديدة لا يمكن رسمها بدقّة، على عكس الأشياء القديمة التي يمكن رسمها بطريقة تُظهر عمرها المعتّق والطويل.
عندما عرض الرسّام لوحته هذه لأوّل مرّة أثارت الكثير من الجدل. وقد وُضع عليها حرّاس كانت مهمّتهم منع الجمهور من الاقتراب منها أو إتلافها أثناء محاولتهم معرفة ما إذا كانت قصاصة الجريدة حقيقة أم أنها مجرّد خدعة.
كما أثارت اللوحة نقاشا حول جماليات الأعمال التي تحاكي الواقع بشدّة. والصورة تعيد إلى الأذهان الأسطورة الإغريقية التي تتحدّث عن منافسة بين الرسّامين زيوكسيس وباراسيوس حول أيّ منهما رسوماته أكثر واقعية من الآخر.
بعد سنوات من انجاز الفنّان رسم هذه اللوحة، ابتاعها منه فرانك توكفاربر الذي كان خبيرا في الطباعة الحجرية بالألوان. وقد بنى على منوالها لوحة بنفس الاسم ضمّنها سبعة عشر حجرا وطبعها على المعدن والزجاج والورق.
ولد وليام هارنيت في عام 1848 لأبوين من أصل ايرلنديّ. وبدأ عمله في الرسم في نيويورك عام 1869، حيث عمل كحفّار على الفضّة. ثم درس في الأكاديمية الوطنية للتصميم في نيويورك. وفي عام 1874، رسم أولى لوحاته. وكان زبائنه من أبناء الطبقة الوسطى غالبا.
كان هارنيت زميلا للرسّام المشهور توماس ايكنز الذي كان يعمل معه في فيلادلفيا. وقد زار في ما بعد فرنسا وانجلترا وألمانيا، حيث عاش في ميونيخ أربع سنوات درس خلالها الرسم.
بعض النقّاد اليوم يقولون إن لوحات هارنيت غير مقنعة وأن شهرته لم تصمد أمام امتحان الزمن رغم براعته. ويضيفون أن واقعيّته المفرطة ربّما أكسبته شعبية كبيرة في عصره، لكنها أصبحت اقل إثارةً للإعجاب هذه الأيّام.
كما أن الأشياء في رسوماته الصامتة تفتقر إلى الدفء والحميمية. ومقارنة صوره بلوحات الطبيعة العظيمة في عصره تكشف عن تواضع لوحاته مفاهيمياً، مع أن بعضها يقترب من الشاعريّ والغيبيّ وما فوق الواقعيّ أحيانا.
المعروف أن وليام هارنيت عانى في أواخر حياته من مرض مزمن بالكلى وتوفّي في سنّ مبكّرة وعمره لا يتجاوز الرابعة والأربعين.

Saturday, December 09, 2017

لوحات عالميـة – 433

شـاي في سانتـا مونيكـا
للفنان الروسي نيكـولاي فيتشيـن، 1923

كان نيكولاي فيتشين احد كبار الفنّانين الروس الذين تخصّصوا في رسم البورتريه. وبسبب قدرته الكبيرة على الإمساك بجوهر الشخص المرسوم، أصبح يُصنّف في عِداد مشاهير الفنّانين الانطباعيين الذين برعوا في هذا النوع من الرسم.
كان فيتشين تلميذا لامعا للرسّام الروسيّ المشهور ايليا ريبين. وتحت إشراف الأخير، رسم فيتشين في سان بطرسبورغ عددا من اللوحات ذات المواضيع التاريخية، ثم بدأ يركّز على رسم البورتريه.
وقد سافر في عام 1904 إلى سيبيريا مع صديق جيولوجيّ، وزار بعض المناطق الريفية هناك وسجّل بعض مظاهر الحياة اليومية للمزارعين المحليّين. وفي ما بعد، أصبحت رسوماته تلك للحياة الزراعية في روسيا حديث المعارض الكبيرة في أوربّا وأمريكا.
في فبراير من عام 1917، تنازل القيصر نيكولاي الثاني عن الحكم في روسيا وتولّت السلطة في موسكو حكومة ثورية. ثم لم تلبث البلاد أن دخلت فترة من الاضطرابات السياسية والاجتماعية والحروب الأهلية المتقطّعة. وأدّى ذلك إلى انهيار القانون ونقص الأغذية والدواء وغيرها من ضرورات الحياة.
لذا قرّر فيتشين أن يرحل عن روسيا للبحث عن حياة أخرى في وطن جديد. وفي عام 1922، تمكّن هو وعائلته من مغادرة روسيا إلى الولايات المتحدة بمساعدة صديق أمريكيّ.
وقد وصل إلى نيويورك عام 1923 وهو في سنّ الثانية والأربعين. وهناك بدأ يرسم صورا سرعان ما اجتذبت انتباه وثناء النقّاد. ثم عمل معلّما في مدرسة للفنّ أسّسها مع آخرين في نيويورك.
لكنه لم يلبث أن عانى من مرض السلّ، فانتقل إلى الغرب الأمريكيّ حيث المناخ أكثر جفافا وأكثر ملاءمة لصحّته. واستقرّ هو وعائلته في تاوس في نيومكسيكو التي أعجب بطبيعتها ورأى أنها تجسّد أمريكا الحقيقية. كما اعتبر أن سكّانها من الهنود الحمر يتمتّعون بنفس السمات والخصائص التي يتميّز بها قومه من التتّار في موطنه الأمّ روسيا.
وقد رسم العديد من أصدقائه وجيرانه الهنود ورسم طبيعتهم. ودفعه افتتانه بعادات السكّان الأصليين في أمريكا إلى السفر إلى المكسيك وإلى جزيرة بالي الاندونيسية حيث رسم السكّان المحليين فيهما متذكّرا رسوماته المبكّرة لفلاحي بلدته الروسية.
في هذه اللوحة، يرسم فيتشين سيّدة من منتجع سانتا مونيكا المشهور في لوس انجيليس بولاية كاليفورنيا التي قضى فيها آخر عشرين سنة من حياته. كانت هذه المرأة صديقة لعائلة الرسّام، وقد رسمها بقبّعة سوداء وفستان ازرق بياقة بيضاء واسعة، بينما تمسك بيدها كأسا من الشاي.
أسلوب فيتشين المتفرّد في الرسم يظهر واضحا هنا من خلال البراعة في توظيف الألوان واستخدام السكّين، بل وحتى الأصابع، كي ينجز التأثيرات التي يبحث عنها. وقد ترك خلفية المنظر تجريدية تماما، بينما أضفى لمسة واقعية على مناطق معيّنة كالوجه واليدين، وهذه سمة يمكن ملاحظتها في معظم لوحاته.
تفضيل الرسّام لطبقات سميكة من الألوان مع القليل جدّا من الزيت والمزاوجة بين التجريديّ والواقعيّ أكسبه شهرة عالمية في السنوات الأولى من القرن العشرين وأهّله لنيل العديد من الجوائز في أكثر من دولة. كان في رسوماته يستخدم غالبا ضربات فرشاة عريضة وكان دائما يعدّ قماش الرسم بنفسه ولا يضع اسكتشات أوّلية للوحاته إلا في ما ندر.
ولد نيكولاي فيتشين في مدينة قازان الروسية الواقعة على ضفاف نهر الفولغا وقضى طفولته في غابة هناك. وقد تعلّم فنّ النقش على الخشب في سنّ مبكّرة على يد والده الذي كان يتعامل مع المعادن والأخشاب.
وفي ما بعد، درس الرسّام في أكاديمية سانت بطرسبورغ وتتلمذ على يد ايليا ريبين الذي كان يعلّم طلابه أن يركّزوا على سلبيات المجتمع ويتأمّلوا حياة الناس وينقلوها في لوحاتهم.
وقد تخرّج من الأكاديمية بتقدير عال وكوفئ بابتعاثه إلى روما. ثم عاد بعد ذلك إلى بلدته حيث درّس الرسم لبعض الوقت. وقد رسم نفسه ووالده وزوجته وابنته، بالإضافة إلى بعض مشاهير عصره وأشخاص آخرين لا يعرفهم لكنّ ملامحهم اجتذبته لرسمهم.
زار الفنّان ميونيخ وباريس كما زار متاحف في النمسا وألمانيا وايطاليا. وبعد أن استقرّ في أمريكا، أصبح احد أشهر الرسّامين المهاجرين هناك ابتداءً من أوائل العشرينات.

موضوع ذو صلة: فيتشين: جسر بين ثقافتين

Tuesday, December 05, 2017

لوحات عالميـة – 432

العائلـة المرحـة
للفنان الهولندي يـان سْتـين، 1668

كان يان ستين احد أشهر رسّامي ما يُعرف بالعصر الذهبيّ للفنّ الهولنديّ. ولوحاته معروفة بعمقها السيكولوجيّ وبروح الدعابة فيها ووفرة الألوان. كان حكواتيّا بارعا مع موهبة مسرحية ومعرفة بكيفية اختيار المزاج الذي يناسب كلّ لوحة.
وكانت أعمال ستين تُقيّم عاليا من قبل معاصريه وتبيع جيّدا. وقد رسم خلال حياته أكثر من ثمانمائة لوحة لم يتبقّ منها اليوم سوى ثلاثمائة. واشتهر خاصّة ببراعته في رسم الضوء وباهتمامه بالتفاصيل، وخاصّة رسم السجّاد وغيره من أنواع النُّسُج والأقمشة.
أسلوب الفنّان الفخم في الرسم، والمضمون الأخلاقيّ للوحاته، لفت إليه أنظار الكثيرين في عصره وفي العصور التالية. كان يوظّف في رسوماته أفكارا من المسرح. وكثير من الشخصيات التي رسمها هي شخصيات مسرحية وليست من الواقع.
وللوهلة الأولى قد تظنّ أن مناظره رُسمت لمجرّد التسلية، غير أنها في الغالب تتضمّن إشارات ورسائل خفيّة، بالإضافة إلى إشارات من الأدب والأمثال الهولندية القديمة.
من أشهر أعمال ستين هذه اللوحة، وفيها يرسم مشهدا من الحياة اليومية هو عبارة عن عائلة يجتمع أفرادها حول طاولة. والجميع يبدون سعداء ومستمتعين بوقتهم. لكن من الواضح انه رغم أجواء المرح والانشراح، إلا أن هذه الحفلة لا تبدو طبيعية.
الأب والجدّة يؤدّيان أغنية بحماس ومرح، بينما يعزف ابنان الموسيقى ويدخّن آخران الغليون، فيما يصبّ ابنان آخران النبيذ لنفسيهما. أيضا الطفل الذي يطلّ من النافذة يدخّن ويمسك بآلة بوق. أما الطفل الرضيع ذو الوجنتين المتورّدتين الذي يجلس في حضن أمّه فيرفع ملعقته لأخيه الذي يعزف الفلوت.
وفي خضمّ هذه الفوضى المنزلية، لا يبدو أن الأب مهتمّ بما يحدث، بينما الكلب يتفرّج على الحفلة بانتظار ما قد يتساقط من المائدة من طعام كي يأكله. وعلى أرضية الغرفة، ألقيت بإهمال أدوات الطبخ، وهي عبارة عن آنيّة فخار وملعقة زجاجية وصحن ومقلاة.
المناظر العائلية للرسّام يان ستين تتضمّن دائما درسا أخلاقيا أو تحذيرا من سلوك غير منضبط. ومنزل هذه العائلة يبدو في حالة فوضى وغير محكوم بقواعد أو نظام، بدليل أن الأطفال يتصرّفون كما يحلو لهم ويفعلون أشياء لا تتناسب مع أعمارهم، كالتدخين وشرب النبيذ.
وعلى مدخنة المنزل، في أعلى يمين اللوحة، أُلصقت ورقة كُتب عليها مثل هولنديّ يقول "ما يفعله الكبار يقلّده الصغار"، أو "كما يكون الآباء يكون الأبناء".
والرسّام من خلال الصورة يحذّر من عواقب التربية غير السليمة وأثرها على الأطفال ويتساءل عن ماذا يمكن أن يحصل للأطفال إذا كان الآباء يقدّمون قدوة سيّئة. حتى الأطفال الصغار يدخّنون ويشربون ويفعلون ما يفعله الكبار الذين يكرسّون نموذجا سيّئا.
الشيء الوحيد الهادئ في هذا المهرجان العائليّ الصاخب هو الضوء الذي يسقط على قماش المائدة الأبيض ونسيجها السجّاديّ الملوّن.
الشخصيات في اللوحة ممتلئة بالحياة وحركاتها واقعية وكذلك تعبيرات الوجوه. ويلاحَظ أن الرسّام أعطى الأب والجدّة ملامح كوميدية تشبه رسومات الكاريكاتير.
كان من عادة ستين أن يستخدم أفراد عائلته كنماذج لصوره. ويُرجَّح انه استخدم نفسه أيضا كموديل لشخصية الأب في اللوحة. وملامح الأب تشبه فعلا بورتريها شخصيّا رسمه الفنّان لنفسه حوالي ذلك الوقت. وكان قد رسم لنفسه عددا من البورتريهات التي يظهر فيها ميّالا للبساطة والبعد عن الكبرياء والتصنّع.
وكما هو الحال مع معظم لوحات الرسّام، فإن في هذه اللوحة مسحة مسرحية واضحة. وقد أقام مسرح حفله العائلي ببراعة ومع الكثير من النشاط والضجيج. وهو كان متأثّرا بالمسرح وبالنماذج التي تصوّر شخصيات وحالات بطريقة مبالغ فيها.
وبسبب براعته في رسم مثل هذه الأجواء المنزلية الصاخبة، شاع مصطلح "منزل يان ستين" الذي صار يصف حال البيوت التي تتّسم أجواؤها بالصّخب وانعدام النظام.
ولد يان ستين عام 1626، وكان اكبر إخوته الثمانية. ودرس في المدرسة اللاتينية في لايدن، ثم تلقّى دروسا في الرسم على يد فنّان ألماني يُدعى نيكولاس نوكتوبر.
وفي ما بعد، انتقل إلى مدينة هارلم وتأثّر برسومات مواطنَيه الفنّانين ادريان وايساك فان اوستيد. وفي عام 1648، أسّس مع غابرييل ميتسو رابطة الرسّامين في لايدن، ثم أصبح مساعدا لرسّام الطبيعة المشهور يان فان غوين. وفي السنة التالية تزوّج من شقيقة غوين التي أنجب منها ثمانية أطفال.
كان ستين متخصّصا أساسا في رسم الحياة اليومية، لكنه أيضا رسم مواضيع تاريخية ودينية وأسطورية. ورغم شهرته، إلا انه لم يكن قادرا على إعالة أسرته من خلال الرسم لوحده، لذا فتح مقهى بالقرب من بيته، واستخدم ذلك المقهى كخلفية للعديد من لوحاته.

Thursday, November 30, 2017

لوحات عالميـة – 431

بورتريه شخصيّ: الحيرة ما بين الرسم والموسيقى
للفنانة السويسرية انجيـليكا كوفمـان، 1794

في القرن الثامن عشر، كان العرف الشائع في أوربّا هو أن تبقى النساء في المنازل وأن يركّزن اهتمامهنّ على تربية الأطفال ورعاية العائلة. وكانت أفكار شخصيّات مثل جان جاك روسو ونابليون تؤكّد على هذا المنحى.
وما كرّس ذلك الاتجاه أكثر هو إقبال الناس وقتها على دراسة واستعادة حياة وتراث الرومان الأقدمين الذين كانت أعرافهم لاجتماعية تنحو باتجاه إخضاع النساء لإرادة الرجال ومنحنهنّ القليل جدّا من الحقوق.
لكن هذا لم يمنع ظهور بعض النساء المبدعات اللاتي اضطررن لاستخدام أسماء ذكورية لكي لا يُتّهمن بمصادمة العرف الاجتماعيّ، والقليل منهنّ تمكنّ من انتزاع بعض الحقوق والتمتّع باستقلالية نسبية.
ومن بين هؤلاء الرسّامة انجيليكا كوفمان التي ولدت لأب كان يعمل رسّاما محترفا، وقد علّمها منذ صغرها أصول الرسم. كان عمرها ستّة عشر عاما عندما أخذها والدها معه إلى النمسا وايطاليا وألمانيا حيث زارت العديد من المتاحف واستنسخت أعمال بعض كبار الرسّامين، كي تطوّر مهاراتها وتوسّع معرفتها بأساليب الرسم وطرقه المبتكرة.
وفي ايطاليا، انتظمت الرسّامة في أكاديمية فلورنسا للتصميم وكانت تتردّد على متحف اوفيتزي المشهور لتقليد الأعمال الفنّية الموجودة فيه.
كما توفّرت لها فرصة الالتقاء بعالم الآثار الألمانيّ المشهور يوهان فينكلمان الذي أمدّها بدروس مهمّة في علم المنظور وظّفتها في ما بعد في رسم أعمالها. وهناك أيضا قابلت الرسّام الأمريكيّ بنجامين ويست الذي كان يزور روما في ذلك الحين.
كانت كوفمان مهتمّة بالأفكار الجمالية للحركة النيوكلاسيكية التي كانت تركّز على الدقّة التاريخية والتأثير المسرحيّ وتوظيف الآثار في الأدب والرسم. وكان لتلك الحركة تأثير كبير على الرسم والنحت والمعمار والأدب في أوربّا القرن الثامن عشر.
في ذلك الوقت، بدأ المثقّفون والمتنوّرون يعيدون اكتشاف تراثهم القديم كما تجسّده حضارات وآثار اليونان القديمة. وكان الرسم والنحت وسيطين مفضّلين في إيصال رسائل أخلاقية من خلال توظيف الرمز والأسطورة.
عندما كانت كوفمان صغيرة، كانت تفكّر في ما الذي تريد أن تكونه عندما تكبر. كانت وقتها قد بدأت ترسم وكان لديها في الوقت نفسه شغف بالموسيقى والغناء.
تردّدها وحيرتها في أيّ الفرعين تختار، الرسم أو الموسيقى، دفع والدها لأخذها إلى احد أصدقائه لاستشارته في الأمر. وقد نصحها ذلك الصديق بأن تختار الموسيقى على أساس أنها مهنة سهلة ومتاحة للنساء، بينما الرسم حرفة صعبة ولا يمتهنها سوى الرجال عادة.
والرسّامة في هذه اللوحة تصوّر حيرتها تلك وكيف أنها فضّلت في نهاية الأمر الرسم على الموسيقى. وقد استلهمت في اللوحة قصّة البطل الأسطوريّ هيروكليس الذي كان هو الآخر محتارا بين الشهرة أو الترف.
وتَظهر الرسّامة في الصورة وهي واقفة بين امرأتين، الأولى إلى اليمين ترمز للرسم والأخرى إلى اليسار ترمز للموسيقى. وعليها أن تختار الذهاب مع إحداهما.
المرأة التي ترمز للموسيقى ترتدي فستانا احمر وتمسك بيدها نوتة موسيقية. أما التي ترمز للرسم فترتدي فستانا ازرق وأمامها رقعة رسم وألوان. كما أنها تنظر إلى الرسّامة وتشير بيدها إلى معبد يقوم على تلّة قريبة، في إشارة - ربّما - إلى المجد الذي ينتظرها إن هي اختارت الرسم.
كانت هوفمان تعرف أن الرسم سيكون مهمّة صعبة وغير مناسبة لها كامرأة، لأنها باختياره تكون قد اقتحمت منطقة تخصّ الرجال. ومع ذلك قرّرت أن لا تقيّد حياتها بجنسها.
في اللوحة، تظهر وهي تعطي يدها للمرأة إلى اليمين وتميل بجسدها نحوها، بينما تشدّ على يد المرأة الأخرى في ما يشبه إيماءة الوداع. وعلى الرغم من أنها كانت عازفة موهوبة على أكثر من آلة موسيقية، إلا أنها تقرّر أخيرا أن تودّع الحياة السهلة للموسيقى وأن تتبع الحياة الصعبة للرسم.
بدأت هوفمان الرسم في مرحلة مبكّرة من عمرها واستمرّت ترسم حتى الأشهر الأخيرة قبل وفاتها. وخلال سنوات حياتها الطويلة أنتجت مئات اللوحات وأصبحت رسّامة مشهورة في عصرها، وتناولت في صورها مواضيع أسطورية وتاريخية وأدبية بأساليب القرن الثامن عشر.
وقد نجحت كرسّامة واستطاعت تخطّي أعراف المجتمع الذكوريّ، وذلك بفضل تشجيع والدها لها وصداقتها لبعض المشاهير في زمانها مثل الرسّام جوشوا رينولدز الذي ربطته بها علاقة طويلة، بالإضافة إلى الفيلسوف الألمانيّ يوهان غوته الذي التقته في روما أثناء زيارته الإيطالية المشهورة.
ولدت انجيليكا كوفمان في سويسرا عام 1741 لأبوين كاثوليكيين متديّنين. وبعد وفاة والدتها وهي صغيرة، سافرت مع والدها في أرجاء عديدة من أوربّا. وقد انتهى بها المطاف في انجلترا التي قضت فيها سنوات عدّة، وفيها أسهمت مع آخرين في تأسيس الأكاديمية الملكية في لندن.
وبعد عودتها إلى روما استمرّت ترسم، ومن بين لوحاتها التي رسمتها آنذاك لوحة تصوّر موت دافنشي. كما أقامت لها صالونا كان يحضره بعض المشاهير الذين كانوا يأتون إلى ايطاليا زائرين.
وعندما توفّيت في عام 1807، أقيمت لها جنازة كبيرة أشرف عليها النحّات المشهور انطونيو كانوفا الذي كان معروفا، هو أيضا، بفنّه النيوكلاسيكيّ وبأعماله المنفّذة ببراعة وإتقان. ولوحات الرسّامة موجودة اليوم في أشهر المتاحف الأوربّية والأمريكية.

Friday, November 24, 2017

لوحات عالميـة – 430

لله ما أعطـى ولله ما أخـذ
للفنان البريطاني فـرانك هـول، 1868

كان الرسّام فرانك هول معروفا بتعاطفه الشديد مع أحزان وهموم الفقراء والمحتاجين. وكان يزور قرى الصيّادين ويرسم النساء والأطفال داخل بيوتهم المتواضعة.
بل انه لم يتردّد في دخول الأحياء الواقعة في أطراف لندن، رغم خطورتها. وقد رسم من واقع زياراته تلك مناظر لم يكن الناس قد رأوها من قبل، وإن كانوا قد قرءوا عنها في روايات تشارلز ديكنز وغيره من الكتّاب الواقعيين الانجليز.
في ذلك الوقت، كان الفنّانون يفضّلون رسم مناظر للرجال وهم يزاولون أعمالهم اليومية. لكن هول كان يركّز على النساء والأطفال ويرسم ردود أفعالهم على الكوارث والموت.
في إحدى لوحاته ، يرسم الفنّان زوجة صيّاد وهي تدفن وجهها بين يديها تعبيرا عن قلقها، إذ تنتظر ما يبدو وكأنه أخبار محزنة عن زوجها.
وفي لوحة أخرى ، نرى أمّاً حزينة فقدت طفلها للتوّ. وإلى جانبها تظهر طفلتها الأخرى وهي تنظر إليها بحزن إذ لا تعرف ما الذي يمكنها فعله للتخفيف عن أحزانها.
في زمن هول، كانت الوفيات في أوساط الأطفال الرضّع عالية جدّا، خاصّة بين الفقراء. وكان طفل من كلّ خمسة أطفال يموت قبل بلوغه الخامسة بسبب تفشّي الكوليرا والسلّ ونقص الرعاية الصحّية.
من خلال هذه النوعية من المناظر، كان الرسّام يهدف إلى توعية الناس بمشاكل ومعاناة الفئات الاجتماعية البسيطة والمهمّشة. وكان اهتمامه بالتفاصيل كبيرا، لدرجة أن لوحاته اليوم تُعتبر سجلا فريدا لظروف الحياة في انجلترا خلال القرن التاسع عشر.
في هذه اللوحة، يصوّر الفنّان عائلة يرتدي أفرادها ملابس الحداد السوداء ويجتمعون حول طاولة بعد أن فقدوا والدهم. وموضوع اللوحة مستوحى من رواية شعبية تتضمّن مشهدا لعائلة بالملابس السوداء.
وبينما هم مجتمعون وصامتون وأعينهم مطرقة إلى الأرض، يدخل عليهم الأخ الأكبر ويشغل الكرسيّ الفارغ في الغرفة، في إشارة إلى انه سيصبح مسئولا عن أفراد الأسرة بعد رحيل معيلهم.
رسم هول هذه اللوحة عندما كان في الرابعة والعشرين، واسمها مقتبس من كلمات منسوبة للنبيّ أيّوب عليه السلام. أما الأشخاص الظاهرون فيها فهم أفراد عائلة الرسّام نفسه.
وقد نال عليها ثناء النقّاد والجمهور، كما كافأته الأكاديمية الملكية بابتعاثه إلى ايطاليا لمواصلة دراسته فيها. وقد أبدت الملكة فيكتوريا رغبتها في شراء اللوحة، إلا أن الرسّام رفض أن يبيعها أو يتخلّى عنها.
في إحدى المرّات، ذهب الفنّان إلى احد السجون ورأى فيه امرأة وأطفالها وهم يزورون عائلهم الذي كان نزيلا في ذلك السجن. وقد استخدمهم في رسم إحدى أفضل صوره ورسمها داخل السجن وجسّد فيها شعور الإنسان في الأسر.
لوحات فرانك هول ربّما تبدو للمتلقّي الحديث عاطفية أكثر من اللازم، لكنها في زمانه اعتُبرت تحفا واقعية مهمّة. وكان من بين معجبيه فان غوخ الذي جمع بعض أعماله المحفورة على الخشب. كما أعجب به جورج واتس الذي يُعدّ احد أشهر الرسّامين الفيكتوريين.
ولد فرانك هول في يوليو من عام 1845 لأب كان يعمل هو الآخر رسّاما. ومنذ طفولته علّمه والده بأن من واجبه أن يسهم في تغيير المجتمع إلى الأفضل. وفي سنّ الخامسة عشرة، انتظم في الأكاديمية الملكية لدراسة الرسم.
ولوحاته المبكّرة كانت أيضا تتناول فقر الطبقة العاملة، وهو أمر كان يعكس تربيته الاشتراكية. لكنه انتُقد أحيانا للمضمون السياسيّ للوحاته، فتحوّل إلى المواضيع الدينية على الرغم من انه لم يكن يحبّها كثيرا.
بدأ الرسّام عرض أعماله في الأكاديمية في سنّ الثامنة عشرة. ثم عمل في إحدى مجلات الرسومات الأسبوعية وأنتج وقتها سلسلة من الصور التي كانت ترافق القصص المنشورة. وبعد ذلك ذهب إلى ايطاليا، لكنه قطع دراسته هناك بعد شهرين وعاد إلى انجلترا.
ثم قرّر أن يذهب إلى اسبانيا، فزار مدريد وتجوّل في متحف برادو ودرس أعمال فيلاسكيز الذي كان رسّامه المفضّل بالإضافة إلى كلّ من رمبراندت وفان دايك.
وفي ما بعد، تحوّل هول إلى رسم البورتريه لأنه كان بحاجة إلى المال ولأن بعض النقّاد هاجموا أسلوبه آنذاك باعتباره موضة قديمة. وقد رسم بورتريهات لبعض المشاهير في وقته، مثل المؤلّف الموسيقيّ آرثر سوليفان ووليام غلادستون رئيس وزراء انجلترا.
توفّي فرانك هول في يوليو من عام 1888 عن عمر قاربَ الثالثة والأربعين بعد إصابته بأزمة قلبية مفاجئة. ومعظم أعماله لم يعد يراها الناس هذه الأيّام نظرا إلى أنها مملوكة لمجموعات خاصّة.

Sunday, November 19, 2017

لوحات عالميـة – 429

متحف صُوَر لمناظر من روما الحديثة
للفنان الايطالي جيـوفاني باولـو بانيـني، 1759

كان جيوفاني بانيني أشهر فنّان رَسَم معالم مدينة روما. وهو يشبه كثيرا مواطنه الرسّام كاناليتو الذي اشتهر برسوماته لمدينة فينيسيا. وقد رسم الاثنان العديد من اللوحات التي كانت تروق لزوّار المدينتين من الأجانب.
وبفضل لوحاته التي كان العديد منها يصوّر آثار روما القديمة، أسهم بانيني إلى حدّ كبير في الترويج للسياحة في ايطاليا والتعريف بمعالمها.
وكانت مناظره مطلوبة كثيرا من قبل زوّار المدينة، خاصّة الشغوفين بالآثار الكلاسيكية. وكانوا يشترونها للاحتفاظ بها كتذكارات للمدينة ولصروحها القديمة والمشهورة.
كان معظم زبائن بانيني من انجلترا، وكان بينهم أمراء ونبلاء وتجّار. وفي ما بعد انتقل ذلك الشغف بايطاليا وحضارتها إلى الأمريكيين في القرن التاسع عشر.
كانت رسومات هذا الفنّان لمباني وآثار روما تتميّز بدقتّها ووضوحها، وكان أحيانا يضعها في سياق غير مرّتب ويضفي عليها عناصر من الحقبة الرومانسية ومن أواخر عصر الباروك. ولطالما أثارت تلك الصور الحنين إلى ايطاليا كأرض قديمة وخالدة.
هذه اللوحة هي واحدة من سلسلة من أربع لوحات رسمها بانيني لروما وضمّنها صورا لأهمّ معالم المدينة القديمة والحديثة، وذلك على شكل أعمال فنّية من لوحات وتماثيل موضوعة في متحف متخيّل.
وقد كلّفه برسم اللوحات الأربع الدوق ايتيان فرانسوا دي ستينفيل الذي كان سفيرا لفرنسا لدى الفاتيكان في الفترة من 1753 إلى 1757. وقد أراد السفير من ورائها أن تكون تذكارا لإقامته في العاصمة الايطالية.
وهذه اللوحة تصوّر جزءا من معالم روما كما تبدو عليه زمن الرسّام، أي أنها صور معاصرة، وقد ضمّنها صورا لعدد من المباني والصروح واللوحات والمنحوتات التي كانت معروفة في روما في ذلك الوقت.
إلى اليمين، تظهر لوحات لكنيسة سانتا مارجيوري وبياتزا نافونا وفيللا آلدو برانديني، وإلى اليسار رسومات لكنيسة القدّيس بطرس ونافورة تريفي والدرَج الاسباني.
وفي الوسط، أربعة تماثيل هي من الأمام للخلف "أسد ميدتشي" وتمثال "موسى" لميكيل انجيلو وتمثالي "داود" و "دافني وأبوللو" لجيان لورنزو برنيني.
وفي اللوحة، كما في اللوحات الثلاث الأخرى، رسم بانيني راعيه وزبونه، أي السفير كجزء من المنظر. وهو يظهر جالسا على أريكة من الحرير الأحمر في منتصف المتحف ومحاطا باللوحات والتماثيل وأيضا بلوحات أخرى لبانيني. وكلّ هذه الصور تُبرز التفاصيل الدقيقة للمباني الرومانية والنوافير وغيرها من معالم روما في القرنين السابع عشر والثامن عشر، بما في ذلك ميدان القدّيس بطرس.
كان الدوق دي ستينفيل سياسيّا ورجل دولة بارزا في زمن الملك لويس الخامس عشر. كما كان جامع تحف فنّية مشهورا. ومثل الكثير من الأوربّيين، كان السفير مهتمّا كثيرا بالمناظر التي تصوّر ماضي روما وحاضرها.
وعندما انتهت فترة عمله في الفاتيكان، عاد إلى باريس برفقة اللوحات الأربع. لكن في عام 1760، تضاءلت حظوظه السياسية فجأة، فباع اللوحات إلى صديق له يُدعى جاك لوي راي.
ولد جيوفاني بانيني عام 1691، وتتلمذ على يد بينيديتو لوتي. ثم سجّل في أكاديمية سانتا لوكا. وأوّل لوحاته كانت بعنوان الاسكندر يزور قبر أخيل ، وفيها يبدو الأشخاص صغارا أمام المباني المعمارية الفخمة والشاهقة.
وفي إحدى لوحاته المبكّرة، يصوّر بانيني معبد البانثيون الرومانيّ، وفي الصورة يظهر مجموعة من الأشخاص الذين ينظرون بذهول وإعجاب إلى التفاصيل الداخلية للبناء الرائع، ومن بينهم رجال دين وجنود وسُيّاح.
وكلّ هؤلاء يبدون ضئيلين مقارنة بتفاصيل المبنى الضخم. كما أن المكان مرسوم بعناية ومغمور في ضوء منتصف الظهيرة الذي يأتي من فتحة دائرية في السقف.
في ما بعد، وابتداءً من عام 1711، استقرّ الرسام في روما وعمل كرسّام جداريات، لكنه لم يلبث أن تحوّل إلى رسم مناظر المدينة التي اشتهر بها بقيّة حياته.
درس بانيني علم المنظور في الأكاديمية الفرنسية بروما. وكان تأثيره قويّا على الرسّامين الفرنسيين والايطاليين، لدرجة أن الفرنسيين عيّنوه عضوا في أكاديمية باريس للنحت والرسم، وهو تكريم يندر أن ناله فنّان من قبل.
وبالإضافة إلى لوحاته ومناظره لروما التي يعرفه بها أكثر الناس، رسم بانيني أيضا مواضيع تاريخية ودينية. والعدد الكبير من لوحاته والنسخ الكثيرة منها، بالإضافة إلى الطبيعة التجارية لبعضها، تؤكّد انه كان يعتمد على ورشة كبيرة. وكان ابنه فرانسيسكو مساعده الأوّل في محترفه، وبعد وفاة الرسّام في أكتوبر من عام 1765، تولّى الابن مهمّة تسويق فنّ والده وطبع لوحاته على وسائط مختلفة.

Wednesday, November 15, 2017

لوحات عالميـة – 428

بورتـريه امـرأة تُدعـى سافـو
القرن الأوّل الميلاديّ

تُعتبر سافو أوّل شاعرة أنثى عرفتها الحضارة الإنسانية وأحد الأصوات النسائية القليلة التي تتحدّث إلينا من العصور القديمة.
وقد عاشت على أرض جزيرة ليزبوس اليونانية في الفترة ما بين عامي 620 و 570 قبل الميلاد. وكان سكّان هذه الجزيرة مشهورين باهتمامهم بالآداب والفنون.
حياة سافو تلفّها الأساطير والمعلومات المتوفّرة عنها قليلة. لكن يقال مثلا أن أسلافها جاءوا من الأناضول أو من بلاد فارس، وأنها ولدت حوالي عام ستمائة قبل الميلاد لإحدى العائلات الثريّة.
وما من شكّ في أن هذه المرأة لعبت دورا مهمّا في إعادة صوغ مفردات الفنّ والحبّ والرغبة. وقصّتها تتغيّر من عصر إلى عصر تبعا لتغيّر نظرة المجتمع إلى مسائل الجندر والجنسانية.
وقيل أيضا أنها كتبت أشعارها لطائفة من النساء اللاتي كنّ يحتفين بالأنثى ويركّزن على مسائل النضج والزواج والولادة وما إلى ذلك.
وقد كتبت سافو تسعة دواوين شعرية تضمّ أكثر من عشرة آلاف بيت. وكانت قصائدها مشهورة جدّا في العالم القديم الذي كان ينظر إلى أشعارها كرمز للحبّ والرغبة بين النساء. وهناك رأي يقول إن سافو لم تصبح مشهورة إلا بعد وفاتها بثمانمائة عام.
وفي أحد الأوقات، كانت مكتبة الإسكندرية تضمّ نسخا من دواوينها، لكنها ضاعت إلى الأبد بعد انتصار المسيحية على عالم اليونان الوثنيّ. وهناك رواية تقول إن احد الباباوات أمر بإحراق مخطوطات أشعارها، بحجّة أنها فاسدة ومبتذلة.
لكن في عامي 2005 و 2014، اكتشف خبراء أجزاء طويلة من أشعارها التي تتحدّث في بعضها عن الشيخوخة والسنّ المتقدّم. لكن ظروف ذلك الاكتشافين ظلّت غير معروفة.
سافو كانت الشاعرة الوحيدة التي أدرج القدماء اسمها في قائمة الشعراء الغنائيين المهمّين. وبعض المؤرّخين يشيرون إلى أنها لعبت دورا مهمّا في تاريخ الأدب القديم لا يقلّ عن دور هوميروس.
وقصيدتها المشهورة "إصنعوا الحبّ لا الحرب" هي النقيض للإلياذة، لأنها تضع قيمة الحبّ في درجة أعلى من قيم المؤسّسة الحربية الإغريقية.
والواقع أن لا احد يعرف على وجه التأكيد كيف كانت ملامح سافو. ومعظم الأوصاف التي تذكرها تعود إلى مئات السنين بعد وفاتها.
لكن في مايو من عام 1760، عُثر على هذا البورتريه في احد منازل مدينة بومبي الأثرية الايطالية. وكان جزءا من مجموعة من الزخارف التي كانت تزيّن جدار أحد البيوت المهجورة في المدينة قبل أن يدمّرها البركان المشهور.
ثم لم تلبث اللوحة أن أصبحت إحدى أشهر الجداريات في العالم. وهي تعرّف المرأة الظاهرة فيها على أنها سافو. واللوحة اقرب ما تكون إلى بورتريه مثاليّ أكثر منها تصويرا لامرأة حقيقية.
وفيها تظهر المرأة التي يُظنّ أنها الشاعرة المشهورة وهي تمسك بقلم وبلوح من الخشب، وفي هذا رمز للتعلّم والثقافة.
ووضعها للقلم على فمها يوصل معنى التفكير العميق قبل أن تشرع في الكتابة مجدّدا. كما أن وضعية المرأة الدارسة أو المتأمّلة في الصور القديمة تشي بانتمائها إلى عائلة ميسورة الحال.
كما أن المرأة تضع على رأسها خمارا تبرز من أطرافه خصلات ذهبية تغطّي جبينها وجانبي وجهها وتضفي عليها شيئا من الجدّية والوقار.
من الأشياء الأخرى اللافتة أيضا العينان الواسعتان والرداء ذو الألوان البنّية والخضراء والقرطان الذهبيّان اللذان يزيّنان أذنيها.
ورغم كثرة من يقولون بأن البورتريه يصوّر سافو فعلا، إلا أن هناك وجهة نظر تشكّك في هذه الفرضية، على اعتبار أن الألواح الخشبية كانت تُستخدم عادةً للحساب وليس لكتابة الشعر.
ولأنه لا توجد للشاعرة صورة من عصرها، فإن ملامحها غير معروفة على وجه اليقين. ومعظم الصور القديمة والحديثة لها إمّا تخيّلية أو مفاهيمية. لكن بعض المصادر القديمة تذكر أنها كانت صغيرة القوام وسمراء، وهو وصف مستمدّ من بعض قصائدها، على الرغم من انه لا يتوافق مع الأفكار المثالية للإغريق عن جمال المرأة.
ومع ذلك ففي الفترات اللاحقة، صُنعت لها تماثيل عدّة ورُسمت صورها على العملات المعدنية وعلى الأواني الخزفية . بل إن سكّان جزيرة ليزبوس طبعوا صورتها المتخيّلة على عملاتهم. كما أن تمثالا لها يزيّن اليوم مجلس بلدية سيراكوزا في صقلّية.
وفي بعض صورها المرسومة، تظهر وهي تحمل عودا أو قيثارة، ما يشي بأنها كانت أيضا مغنّية. ومن أشهر الفنّانين الذين رسموا سافو في العصر الحديث كل من جون وليام غودوورد و وليام كوتاربنسكي و النحّات بروسبير ديبيناي ، كما تظهر في تمثال رومانيّ يعود إلى الحقبة الهيلينية.
من الواضح أن سافو كانت موضع احتفاء كبير في زمانها، وكانت قصائدها تملأ أرفف المكتبات القديمة لقرون. وفي العصور التالية، أصبحت حياتها عنصر إلهام لمسرحيات وروايات وكتب كثيرة. كما استُنسخت العديد من قصائدها ووُضعت دراسات لا تُحصى عن حياتها وشعرها.
بعض النقّاد المعاصرين حاولوا التخفيف من جموح قصائد سافو الايروتيكية بالقول أنها تصف تقاليد طقوسية أو شكلية. ورغم فقدان معظم قصائدها، إلا أنها ظلّت حتى اليوم موضع افتتان العديد من المؤرّخين والفنّانين.
وقد احتفى بها أفلاطون واصفا إيّاها بالملهمة العاشرة. كما خصّص لها الشاعر الفرنسيّ بودلير قصيدة بعنوان "ليزبوس" ضمن ديوانه "أزهار الشرّ".
في مرحلة تالية، انتقلت الشاعرة وعائلتها إلى جزيرة صقلّية بإيطاليا بعد أن حُكم عليهم بالنفي لسبب ما.
وفي تلك الفترة أحبّت نجّارا يُدعى "فيون". لكن يبدو أن ذلك الحبّ كان من طرف واحد. فأقدمت على قتل نفسها بالقفز من قمّة جرف في الجزيرة. وقد تحوّل ذلك المكان في ما بعد وطوال قرون إلى مزار سياحيّ.
والشاهد الرخاميّ الذي يعلو قبرها يحمل كلمات من إحدى قصائدها تقول فيها أنها لن تموت لأن دواوينها التسعة ستظلّ خالدة مثل الملهمات التِّسع.

Thursday, November 09, 2017

لوحات عالميـة – 427

حقول الخشخاش بالقرب من ارجنتوي
للفنان الفرنسي كلـود مـونيـه، 1873

كان من عادة الانطباعيين أن يولوا أهميّة خاصّة للانطباع الفوريّ للمنظر مع إغفال معناه أو دلالته. وقد قدّموا في أسلوب رسمهم الجديد نظرة حديثة عن عالم مقبول ومحتفى به.
كلود مونيه كان الشخصية الرائدة والأكثر أهمّية في الحركة الانطباعية. وكان هو وزملاؤه، بيسارو ورينوار وسيسلي، مهتمّين كثيرا بالإمساك بالتأثيرات البصرية لضوء الشمس على ألوان وأشكال الطبيعة.
في هذه اللوحة، والتي رسمها في نفس الوقت تقريبا الذي رسم فيه لوحته المشهورة انطباع عن شروق الشمس، يكشف مونيه عن شغفه بالألوان برسمه منظرا لحقول الخشخاش في بلدة ارجنتوي الواقعة على ضفاف نهر السنين على بعد حوالي عشرة كيلومترات من باريس.
كان الفنّان قد عاش في تلك البلدة حوالي ستّ سنوات من عام 1871 إلى 1878. وهو يستذكر في اللوحة نزهة قام بها على الأقدام بصحبة زوجته وابنه في احد أيّام الصيف.
في مقدّمة الصورة تظهر زوجته كميل التي تمسك بمظلّة وتعتمر قبّعة مع ابنه جان الذي يمسك بباقة من الأزهار بينما يختفي وسطه بين العشب. وهما مرسومان بضربات من البنفسجيّ والأصفر والأسود. وفي أعلى التلّة تظهر امرأة أخرى وطفل، وليس هناك ما يشير إلى ارتباط بين المرأتين.
الصورة تتضمّن نُسُجا وأشكالا متنوّعة للأشخاص والأزهار والعشب والنباتات والسحب دون تفصيل كثير. والأزهار مرسومة ببقع من الأحمر الذي يلمع وسط الحقول الفارهة الخضرة. وفي الأفق يظهر خطّ من الأشجار يقوم في وسطه منزل بسطح من القرميد البرتقاليّ اللون.
من التفاصيل التي تلفت الاهتمام في اللوحة معطف زوجة الرسّام القاتم الألوان، والتباينات اللونية الحادّة على قبّعتها، والبقع الحمراء الفضفاضة التي توحي بنبات الخشخاش الذي يعطي اللوحة اسمها.
والاسم الذي اختاره مونيه للوحة يصرف الاهتمام عن الأشخاص ويركّز بدلا من ذلك على التأثير البصريّ الفوريّ للأزهار الحمراء.
المنظر نفسه حديث لأنه يصوّر المصطافين من الطبقة الوسطى في مكان يلتقي فيه عالم الطبيعة مع البيئة الحضرية التي ترمز إليها الفيللا الحديثة. وهناك ما يوحي بأن المكان قريب من العمران وليس في قلب الريف تماما.
كتب مونيه ذات مرّة إلى زميل له يقول: عندما تذهب إلى خارج البيت لترسم، حاول أن تنسى الأشياء التي أمامك: شجرة، بيت، أو حقل أزهار. ضع مربّعا صغيرا من الأزرق هنا ومستطيلا من الزهريّ هناك وإلى جواره ضع خطّا من الأصفر، وارسم كما لو أن الألوان تنظر إليك إلى أن تنتهي من تصوير انطباعك الفوريّ عن المنظر الذي أمامك".
وهذا ما فعله مونيه في هذه اللوحة، فأشخاص المرأتين والطفلين تتألّف من خطوط وبقع لونية لا تكاد تكشف عن ملامحهم، لكنها تكفي لإظهار هيئاتهم.
أعظم انجازات الرسّام هي فهمه المتقن للعلاقة بين الضوء واللون، ولوحاته التي رسمها في ارجنتوي خاصّة توفّر أفضل الأمثلة على هذا.
مونيه معروف، على وجه الخصوص، بوقته الذي قضاه في بلدة جيفرني. لكنه أيضا قضى سنوات في ارجنتوي، حيث رسم هناك أكثر من مائة وثمانين لوحة، وأصبح منزله في تلك الضاحية مزارا للسيّاح والمهتمّين بالفنّ.
وقد استقرّ فيها الفنّان بعد عودته من زيارته للندن في عام 1782. ورسم فيها سلسلة من المناظر لقوارب مبحرة في الميناء، كما رسم الماء والناس والحدائق. وأصبحت البلدة حاضنة للفنّانين، إذ سرعان ما التحق به هناك كلّ من رينوار ومانيه وسيسلي.
في ذلك الوقت، كانت أعداد متزايدة من سكّان باريس يتوافدون على البلدة لزيارتها والاستمتاع بالحياة فيها، لأنها كانت توفّر لهم نوعا من المتنفّس بعيدا عن حياة باريس الحضرية الصاخبة والمزدحمة.

Sunday, November 05, 2017

لوحات عالميـة – 426

الليـل: مينـاء في ضـوء القمـر
للفنان الفرنسي كلـود جوزيـف فيـرنيه، 1771

كان كلود فيرنيه احد أشهر الفنّانين الذين تخصصوا في رسم المناظر البحرية في القرن التاسع عشر.
وكانت أعماله مثار إعجاب الكثيرين. وقد امتدحه الفيلسوف الفرنسيّ دونيه ديديرو وتعجّب من قدرته على التوفيق بين عدّة تأثيرات متباينة للضوء. كان ديديرو مفتونا بمناظر الطبيعة، خاصّة عندما تكون في حالة ثورة وغضب، وكان يجد فيها بعضا من مظاهر الفخامة والعظمة.
فيرنيه نفسه كان متأثّرا بمناظر الطبيعة الكلاسيكية لنيكولا بُوسان وكلود لوران وبالمناظر البحرية لمناطق شمال أوربّا في القرن السابع عشر. وقد تلقّى في روما تدريبا على يد كلّ من الرسّامين اندريا لوكاتيللي وجيوفاني بانيني.
وهذه اللوحة تُعتبر نموذجا للمناظر التي كان يرسمها. وهي لا تصف مكانا محدّدا، لكنها تستدعي شاطئا متوسّطيا ربّما كان في جنوب نابولي. وفيها نرى مشهدا ليليّا لمجموعة من صيّادي الأسماك. بعضهم يستريحون على الشاطئ بعد عناء يوم عمل ويُعدّون طعامهم على نار بسيطة، بينما يظهر آخرون وهم يصطادون على ضوء القمر.
وإلى اليمين نرى برجا محصّنا وضخما يذكّر بمباني وقلاع القرون الوسطى. وعلى مسافة يمكن رؤية سفينتين كبيرتين مبحرتين في الخليج.
ظلمة الليل ينيرها مصدران للضوء؛ ضوء النار على الشاطئ والضوء الرائع للقمر المكتمل الذي ينبثق من بين السحب ليعكس أنواره على الأمواج إلى الأسفل.
اللوحة هي واحدة من سلسلة من أربع لوحات صوّر فيها الرسّام أربعة أوقات مختلفة من اليوم وركّز فيها على إظهار الإمكانيات اللانهائية للطبيعة والتأثيرات المتباينة للضوء والمناخ خلال ساعات اليوم.
في اللوحة الأولى، أي هذه، رسم فيرنيه الليل. وفي الثانية رسم الصباح وفيها نرى أجواءً ضبابية مع صيّادين في قواربهم. أما اللوحة الثالثة فتصوّر فترة منتصف النهار مع عاصفة قويّة. واللوحة الأخيرة عن المساء وتصوّر مجموعة من النساء يغسلن ملابسهنّ.
وهذه السلسلة تُعتبر أفضل أعمال فيرنيه، وقد رسم المناظر الأربعة في أماكن مختلفة. أما الشخص الذي كلّفه برسمها فكان ثريّا ايرلنديا كان في رحلة إلى روما وتصادف أن التقى الرسّام هناك.
وقد وضع الفنّان اسكتشا لكلّ لوحة من وحي الطبيعة وبحث عن زوايا أصلية وضمّنها تأثيرات ضوء خاصّة. ويُرجّح انه نفّذ هذه اللوحة بالذات في فرنسا، أي بعد عودته من ايطاليا. وهي مرسومة بأسلوب جريء وحرّ، خاصّة منظر السماء والقمر، وعلى نحو يذكّر بأسلوب الرسم الايطاليّ.
أعمال فيرنيه كلّها هي عن الطبيعة. والعنصر العاطفيّ والانفعاليّ فيها محسوب بعناية. وقد ظلّ محافظا على هذا الأسلوب طوال حياته.
ولد كلود جوزيف فيرنيه في أغسطس من عام 1714 لأب كان يعمل رسّام ديكور. وقد عمل في ورشة والده لبعض الوقت، لكن عمله لم يكن يرضي طموحه. فذهب إلى ايطاليا عام 1734، وتركت رحلته تلك أثرا لا يُمحى على مسيرته الفنّية.
في روما، عاش الرسّام حوالي عشرين عاما درس خلالها مناظر البحر وأنتج لوحات تصوّر مناظر لموانئ وعواصف وحيتان، واجتذبت صوره اهتمام الكثيرين وأصبحت له شعبية كبيرة، خاصّة عند الارستقراطيين الانجليز.
وفي عام 1745، استُدعي إلى فرنسا بأمر من الملك كي يرسم سلسلة من اللوحات لموانئ فرنسا. وهذه اللوحات موجودة اليوم في متحف اللوفر.
يقول بعض النقّاد إن فيرنيه كان أوّل رسّام استطاع أن يجعل الإنسان جزءا لا يتجزّأ من المنظر المرسوم وعنصرا مهمّا جدّا فيه. ورسوماته عموما تهتمّ بالتأثيرات المناخية مع إحساس عال بالتناغم يذكّر بمناظر مواطنه الرسّام كلود لوران الذي عاش هو أيضا في ايطاليا.

Wednesday, November 01, 2017

لوحات عالميـة – 425

امـرأة تقـرأ رسـالة
للفنان الهولندي يوهـان فيـرميـر، 1660

بعض الروائيين، من أمثال مارسيل بروست وأغاثا كريستي وتريسي شيفالييه وسوزان فريلاند وكاثرين ويبر وغيرهم، استدعوا مناظر فيرمير في أعمالهم الأدبية. وقد يكون احد الأسباب هو الغموض الذي يحيط بهذا الرسّام بعد أن عاش مائتي عام في عالم النسيان بعد موته. كما أن السمة السردية للوحاته تتيح لكلّ شخص أن يؤلّف قصّة خاصّة عنها.
لوحات فيرمير عن الحياة المنزلية للهولنديين تأخذ المتلقّي إلى مكان وزمان مختلفين. ورغم مرور أكثر من ثلاثمائة عام على وفاته، إلا انه ما يزال لصوره نفس النوعية ونفس القوّة والقدرة على إشراك المتلقّي وجعله جزءا من القصّة.
أحيانا يقال أن فيرمير كان يرسم فنّاً من اجل الفنّ. لكن هذا الرأي لا يدعمه الواقع، فقد كان يرسم غالبا بتكليف من الآخرين، ولو كان يرسم لنفسه أو من اجل المتعة الشخصية لكان هذا الكلام صحيحا.
في هذه اللوحة، يصوّر فيرمير امرأة تقف جانبيّا وسط غرفة وترتدي معطفا من الساتان الأزرق الشاحب بينما تقرأ رسالة. وجهها في الظلّ تقريبا وفمها مفتوح بعض الشيء ورأسها منحنٍ إلى الأمام قليلا. وعلى الطاولة التي أمامها، هناك عقد من اللؤلؤ والصفحة الأولى من الرسالة.
ويبدو أن الرسالة وصلتها للتوّ، لذا أوقفت كلّ شيء لتقرأها. وفيرمير يمسك بلحظة التركيز هذه. وهو يأخذك إلى اللوحة، أي إلى داخل الغرفة مع كرسيّ اختار مكانه بعناية كي يعطيك إحساسا غير عاديّ باللحظة. وفيرمير كان بارعا في خلق هذا النوع من الارتباطات بين الشخص المرسوم والمتلقي.
بحسب بعض النقّاد، يمكن اعتبار هذه اللوحة سيمفونية باللون الأزرق. تنوّعات الأزرق وظلال الأبيض فيها تشير إلى يد معلّم ماهر. وما فعله فيرمير بالأزرق هنا مذهل، كما تُظهره الألوان الثريّة في معطف المرأة، وأيضا أضواء الصباح التي تتخلّل كامل جوّ الغرفة بما في ذلك الأزرق المنعكس على الجدران.
كان فيرمير يصنع أزرقه الجميل، أو الأزرق السماويّ كما كان يسمّيه فان غوخ، من حجر الفيروز. وكان هذا الحجر يُجلب من جبال أفغانستان في القرن السابع عشر. وكان من عادة فيرمير أن يطحن قطعة من الفيروز ثم يضيف إليه الزيت كي يزيد من تماسكه.
ولأنه لم تكن توجد في ذلك الوقت زجاجات محكمة لحفظ الألوان كما هو الحال اليوم، فقد كان يمزج قدرا قليلا من الطلاء كلّ يوم، وبما يكفي لتغطية منطقة بعينها من القماش التي يعمل عليها.
المنظر في اللوحة يعكس مزاجا هادئا ومتأمّلا، لكنه يترك للناظر مهمّة الإجابة على بعض الأسئلة المعلّقة. مثلا من هي المرأة؟ وماذا تقول الرسالة؟ ومن كتبها؟
ثم ما مغزى الابتسامة الخفيفة على وجهها؟ والانتفاخ الظاهر في مقدّمة بطنها هل يؤشّر إلى أنها حامل، أم أنها كانت موضة اللباس في ذلك العصر؟ وعقد اللؤلؤ على الطاولة هل هو هديّة مثلا؟ وما أهميّة الخارطة على الجدار؟
قد تكون الرسالة وصلت من شخص ما في مكان بعيد، وقد يكون مرسلها شخصا تحبّه المرأة. وربّما أُرسلت من على متن إحدى السفن الهولندية التجارية التي جعلت من هولندا بلدا غنيّا في القرن السادس عشر.
فيرمير لا يقول لنا شيئا عن هذه الأمور، رغم انه وحده من يعرف القصّة الحقيقية. لكن ما يهمّ في نهاية الأمر هو حقيقة أن المشهد حميم، وكلّ شخص يمكن أن يؤلّف عنه قصّة.
استخدم الرسّام ظلالا مختلفة من الأزرق لرسم خطوط المعطف. وهو، أي المعطف، واضح من الأمام لأن المرأة تواجه الضوء الآتي من النافذة غير المرئية، لكنه معتم من الخلف، أي في منطقة الظلّ. والأزرق يتحوّل إلى نوع من الأزرق الرماديّ خلفها، وهو أمر يشهد على براعة غير عادية في توظيف اللون والضوء.
كان من عادة فيرمير أن يُرفق بعض لوحاته بخارطة لهولندا. لكن الخارطة هنا قد توحي بأن المرأة متزوّجة من رجل يعمل في التجارة، وقد تكون رمزا للهويّة أو الجنسية. وفي كلّ الأحوال، هي مرسومة بطريقة جميلة وتناسب الخلفية.
يقال انه يجب أن ترى اللوحة الأصلية لكي تفهم سرّ عبقرية فيرمير الفنّية، خاصّة مهارته في رسم الضوء واللون على القماش. والشيء المذهل هو انه خلق كلّ هذه التأثيرات المدهشة دون أن يترك أثرا لأيّ فرشاة.
المعروف أن هذه اللوحة سافرت قبل أربع سنوات من مكانها الدائم في متحف ريكس الهولنديّ إلى كل من شانغهاي وساوباولو ولوس انجيليس كي تُعرض على الجمهور هناك، قبل آن تعاد إلى أمستردام ثانيةً في عام 2013.

Friday, October 27, 2017

لوحات عالميـة – 424

منظـر طبيعـيّ من بـورمي
للفنان الفرنسي هنـري إدمـون كـروس، 1908

يشير مصطلح الانطباعية الجديدة إلى أسلوب في الرسم توضع فيه الألوان على رقعة القماش كنقاط صغيرة جنبا إلى جنب. والناظر يرى هذه الألوان من مسافة كمزيج بصريّ وكأنماط زخرفية تشبه الموزاييك.
وبداية الفكرة تعود إلى عام 1880، عندما درس الرسّام الفرنسيّ جورج سورا بعض الكتابات التي تتحدّث عن نظرية الألوان، ثم ابتكر تقنية جديدة في الرسم اسماها فصل الألوان أو التقسيمية. والميزة الأساسية لها هي أنها تعطي وهجا وحيوية اكبر للألوان.
وعندما توفّي سورا في سنّ مبكّرة خلفه بول سيغناك الذي استبدل تسمية التقسيمية بالنقطية. وفي عام 1886 استبدل الناقد فيليكس فينيون المصطلح بالانطباعية الجديدة.
ولم تلبث هذه الحركة أن انتشرت إلى بلجيكا وهولندا على أيدي رسّامين مثل فان ريسلبيرغ ويان توروب وغيرهما. وحتى فان غوخ عاصر هذه الحركة واهتمّ بنظريات زعيمها سورا ورسم عدّة لوحات بطريقة النقطية.
ومن أشهر شخصيّاتها أيضا هنري كروس وماكسيميليان لوس وسيغناك، ثم انضمّ إليهم في ما بعد كميل بيسارو. وكلّ هؤلاء وظّفوا النظريات العلمية للون والإدراك كي يخلقوا تأثيرات بصرية مستلهمين الأساليب التي طوّرها العلماء.
وكثير من الانطباعيين الجدد كانوا يستخدمون تجانبات وتمازجات غير متوقّعة من الألوان على رقعة الرسم لخلق أضواء لامعة وذات بريق أخّاذ.
كان هنري كروس احد ممثّلي هذه الحركة التي لم تعش طويلا. وهو في هذه اللوحة، يرسم منظرا طبيعيا من بلدة بورمي في جنوب فرنسا التي عاش فيها اعتبارا من عام 1891.
والصورة عبارة عن منظر طبيعيّ لتلال تظهر في مقدّمتها أشجار زيتون وأعداد من الماعز. وفي الخلفية تتناثر أشجار أخرى مرسومة بالألوان الخضراء والزرقاء والأرجوانية والبرتقالية والصفراء.
ويلاحظ أن الرسّام أضفى على الطبيعة سمة زخرفية، كما رسم أفرع أشجار الزيتون بأشكال حلزونية تذكّر بالرسم اليابانيّ. وبدلا من الاكتفاء بلمسات نقطية رفيعة، رسم الفنّان بقع ألوان كبيرة وبيضاوية مليئة بالحركة والطاقة. والطبيعة المحيطة تستثير الأضواء اللامعة لجنوب فرنسا والتي تضفي على المشهد تأثيرات مدهشة.
وقد بدأ كروس رسم اللوحة في محترفه كي يسمح للخيال أن يهيمن على عمله ولكي يجسّد رؤيته الداخلية، ثم أكمل رسمها أمام الطبيعة لتحقيق التناغم المطلوب.
وفكرة الرؤية الداخلية تتوافق مع اعتقاد الانطباعيين الجدد بأن رسم الطبيعة يجب أن يركّز على النواحي الدائمة والأبدية وليس على الأشياء العابرة والمتغيّرة للطبيعة كما كان يفعل الانطباعيون.
تأثير الانطباعية الجديدة استمرّ لبعض الوقت، رغم أنها كانت مجرّد فترة انتقالية في تاريخ الرسم. وفقط بضعة رسّامين ظلّوا مخلصين للحركة مثل كروس وسيغناك، بينما كان آخرون مثل ماتيس وبراك وديرين وبيسارو وديلونيه ينظرون إليها على أنها مجرّد خطوة باتجاه شيء ما مختلف وجديد.
ومعظم الانطباعيين الجدد كانوا يتبنّون أفكار اليسار السياسيّ الفرنسيّ، وهذا واضح في رسومات سورا عن الطبقة العاملة. كما كانت الرؤى المثالية للاشتراكية الفوضوية واضحة في المناظر اليوتوبية التي رسمها الانطباعيون الجدد والتي تمزج بين المضمون الإيديولوجيّ والنظرية الفنّية.
وحتى عندما لا يكون الدافع وراء رسوماتهم سياسيّا فإن تصويراتهم اللامعة والأنيقة للمدن والبحر والضواحي والمناطق الريفية كانت تعكس بحثهم الدائم عن التناغم.
في لوحة أخرى بعنوان أشجار صنوبر على الشاطئ ، يرسم كروس أشجار صنوبر في نفس هذه المنطقة المطلّة على البحر المتوسّط. وهو ينسج من ألوان باردة سطحا يشبه التطريز. واللوحة التي تتألّف من طبقات من الألوان المشعّة هي مثال رائع على الطبيعة الناضجة للفنّان.
ولد هنري ادمون ديلاكروا في مايو من عام 1856، وفي ما بعد غيّر اسمه الأخير إلى كروس كي يميّز نفسه عن الرسّام اوجين ديلاكروا.
وبدأ الفنّان دراسته للرسم عام 1878 في أكاديمية الفنّ في ليل ثم في باريس. وقد تأثّر في بداياته بباستيان لابيج ومانيه وبالرسّامين الانطباعيين. وكان يعرض أعماله بانتظام في صالون المستقلّين بباريس.
صداقة كروس مع سيغناك أكسبته مزيدا من الثقة، فرسم مناظر للبحر والحياة في الريف. لكن ابتداءً من عام 1890 بدأ يتخلّى عن الألوان النقطية الصغيرة ويرسم بضربات فرشاة اعرض. وفي عام 1905 نظّم أوّل معرض منفرد للوحاته.
مناظر كروس الطبيعة لا تخلو من شاعرية، وهي تذكّر بالأشكال الانطباعية في الرسم اليابانيّ، كما أنها تقدّم رؤية "اركادية" مثالية وتوصل إحساسا بالخلود.
توفي الرسّام في باريس عام 1910 عن ثلاثة وخمسين عاما متأثّرا بإصابته بمرض السرطان.

Sunday, October 22, 2017

لوحات عالميـة – 423

أغنـية الـراعـي
للفنان الفرنسي بييـر بوفـي دو شافـان، 1891

بعض الحركات الفنّية نشأت كمحصّلة لعقود من التغيير الثقافي، والبعض الآخر ظهرت نتيجة للاكتشافات الحديثة.
وقريباً من نهاية القرن التاسع عشر، نشأت حركات فنّية ابتدعها وقادها كتّاب وأدباء. ففي عام 1886، نشر الشاعر والناقد الفرنسيّ جان موريه في جريدة لوفيغارو ما عُرف بالبيان الرمزيّ.
في ذلك الوقت، كانت الرومانسية هي المهيمنة على الفنّ والأدب في أوربّا طوال ثمانين عاما. وقد دعا موريه في بيانه إلى التحوّل من التصوير الطبيعيّ للعالم إلى التعبير عن الأفكار الذاتيّة، أي أن يركّز الفنّانون على تصوير رؤاهم الخاصّة باستلهام عالم الأساطير الغامضة. ومن هنا ولدت الرمزية في الفنّ والأدب.
وقد اعتنق العديد من الرسّامين الفكرة الجديدة وطوّروا من خلالها أسلوب رسم مبتكرا ومبسّطا. وكان في طليعة هؤلاء كلّ من بول غوغان وبيير بوفي دو شافان اللذين حوّلا مشاهد الحياة اليومية إلى ما يشبه الطقوس.
ثم لم يلبث أن تبعهم آخرون مثل اوديلون ريدون الذي ساعده خياله الجامح على منح حياة جديدة لهذه الفكرة من خلال مخلوقاته المهجّنة والظلاميّة.
لكن غوستاف مورو يُعتبر بنظر الكثيرين الأب الروحيّ للرمزية. وقد تطوّرت هذه الحركة في ما بعد إلى نسخات جديدة، ومن عباءتها خرج رسّامون أصبحوا مشهورين جدّا مثل غوستاف كليمت وإدفارد مونك وغيرهما.
ويمكن القول اليوم أن الرمزية كانت محطّة انفعالية ومظلمة في تاريخ الرسم. لكنها أسهمت إلى درجة كبيرة في ظهور فنّ الحداثة والفنّ الرؤيويّ اللذين نعرفهما اليوم.
في هذه اللوحة، يرسم بيير بوفي دو شافان منظرا يمثّل أصل الفنون في الأزمنة القديمة. وفيه تظهر امرأتان مع رجل في منظر ريفيّ بسيط يذكّر بأركاديا. وبالقرب منهم يجلس راعٍ على منحدر وهو يعزف الناي برفقة قطيعه وكلبه.
وفي خلفية المنظر يلوح جزء من بحيرة أو غدير تحت سماء غائمة. والملاحظ أن الرسّام استمدّ وضعيات المرأتين والرجل، وحتى ملامح وجوههم، من التماثيل الكلاسيكية القديمة التي كان معجبا بها كثيرا.
كانت هذه اللوحة جزءا من سلسلة من الجداريات الزخرفية التي نفّذها الفنّان لصالح متحف الفنون الجميلة في مدينة ليون. وقد أراد منها أن تكون تجسيدات رمزية لأصول الفنّ.
وفي نفس تلك السنة تلقّى تكليفا برسم تسع جداريات لمكتبة بوسطن الأمريكية. وكانت تلك هي المرّة الوحيدة التي يتلقّى فيها عرضا بالعمل خارج فرنسا. واعتُبرت تلك الخطوة مؤشّرا على الاهتمام الذي أصبح يحظى به فنّ دو شافان خارج وطنه.
ترجمة الرسّام الشاعرية للمواضيع التاريخية والأسطورية، بالإضافة إلى توليفاته المبسّطة وألوانه الطباشيرية والشاحبة كانت مصدر إلهام للعديد من الفنّانين في ذلك الوقت الذين كانوا يتطلّعون إلى بديل عن الانطباعية، بمن فيهم غوغان وسورا.
ومن الواضح أن اللوحة تفتقر للعنصر السرديّ، وهذا هو بالضبط ما كانت تدعو إليه الرمزية، أي رفض السرد والتركيز على التجسيد الذاتيّ للأفكار والمشاعر.
كان للحركة الرمزية معارضون. وهؤلاء كانوا يأخذون على الرمزيين خلوّ أعمالهم من السرد والسيكولوجي لمصلحة الشعر الحزين غالبا والأجواء التي لا تثير سوى الكآبة والمأساة والصمت.
وكان هؤلاء المعترضون يشيرون إلى انه بدلا من رسم الماضي والاحتفاء بالأفكار المثالية عن التأمّل والجمال، يجب على الرسّامين أن يصوّروا العالم المضطرب من حولهم والحياة اليومية بكلّ متاعبها وتناقضاتها.
ولد بيير بوفي دو شافان في ليون في سبتمبر عام 1824. وتلقّى تعليمه الأوّليّ في مدرسة ليون وتتلمذ على يد اوجين ديلاكروا وتوما كوتور، كما كان معجبا بثيودور شازيريو.
وأثناء حياته كان دو شافان مشهورا. وحتى بعد وفاته ظلّ معروفا في أوربّا وأمريكا لبعض الوقت. لكن اسمه توارى عن الأنظار بعد أفول نجم الرمزية بسبب طغيان الانطباعية.
لكنْ هذه الأيّام لم يعد اسمه يعكس أهمّيّة أو مكانة ما، لأنه لا يشبه فان غوخ او مونيه أو سيزان وغيرهم ممّن يُغرم بهم الجمهور وأعمالهم تُعرض في كلّ مكان وتُباع بأغلى الأسعار.
بعد الحرب العالمية الأولى نسي الناس اسم دو شافان تماما تقريبا، رغم ظهور بعض الكتب التي تمجّد فنّه هنا وهناك. والمفارقة أن أسماء بعض أتباعه مثل ماتيس وبونار وفويار كانت تنتشر بسرعة وتنال، وما تزال، ثناء النقّاد والجمهور.
توفّي بيير دو شافان في باريس في أكتوبر عام 1898 عن ثلاثة وسبعين عاما. ولوحاته موجودة اليوم في بعض الكنائس والمباني العامّة وفي عدد من أفضل المتاحف في فرنسا.

Wednesday, October 18, 2017

لوحات عالميـة – 422

آخـر أيّـام بـومبـي
للفنان الروسي كـارل بـريـولـوف، 1830

إبتداءً من منتصف القرن الثامن عشر، أصبحت قصّة ثوَران بركان فيزوف موضوعا يثير افتتان الناس واهتمامهم. وفي نفس الوقت بدأ علماء الآثار عمليات الحفر بحثا عن مدينة بومبي القديمة والمدفونة تحت رماد البركان.
كانت تلك الحادثة ذات جاذبية خاصّة بالنسبة للرسّامين الرومانسيين. ومن بين هؤلاء كارل بريولوف الذي قضى في ايطاليا ثلاثة عشر عاما درس خلالها مدارس الفنّ وأعمال كبار الرسّامين.
وأثناء إقامته في ايطاليا، وبالتحديد عام 1827، زار الرسّام مواقع التنقيب والحفر في بومبي ورأى المدينة محفوظة تحت طبقات كثيفة من الرماد. كانت الكارثة سريعة ومفاجئة وأدّت إلى مقتل غالبية سكّان المدينة في يوم واحد وتوقُّف الحياة بشكل تامّ.
ولكي يرسم منظر الكارثة، بدأ بريولوف بدراسة الآثار التي وُجدت في مكان الحادثة، ثم قرأ الرسائل التي كتبها المؤرّخ الرومانيّ بليني الابن الذي كان شاهد عيان على ما حلّ ببومبي وجارتيها هيركولانيوم وستابيا.
كما قضى الرسّام وقتا طويلا في المتاحف محاولا أن يتخيّل كيف تصرّف الناس بعد الكارثة، وحضر في فلورنسا عرضا أثار مخيّلته لأوبرا تتحدّث عن الواقعة.
قبل عشر سنوات من ثوران بركان فيزوف، كانت بومبي قد تعرّضت لزلزال قويّ أثّر على كلّ مبانيها ومعالمها، لكن أمكن إصلاح الأضرار واستمرّ الناس في حياتهم اليومية كالمعتاد.
لكن في احد أيّام أغسطس من عام تسعة وسبعين للميلاد، وبحسب رواية بليني، رأى سكّان المدينة في إحدى الليالي عمودا من الدّخان يخرج من فوّهة بركان فيزوف ويرتفع عشرات الأميال في السماء.
وقد نظر الناس حولهم مندهشين، وفهموا وهم يرون تساقط الرّماد الأوّل على أسطح منازلهم أن الوضع ينذر بالخطر. لذا جمعوا كلّ ما يستطيعون حمله من منازلهم من حُليّ وأشياء أخرى ثمينة ثم اندفعوا إلى الشوارع. والقليلون ممّن كُتبت لهم النجاة اخذوا القوارب وهربوا باتجاه البحر.
لكن مع ساعات الصّباح الأولى، شقّت سحابة هائلة من الغاز والرماد طريقها إلى أسفل الجبل، وفي ثوان معدودات قُتل جميع من بقي من الأهالي الذين كانوا يحاولون الهرب.
ومن خلال دراسة العظام والبقايا في مكان الكارثة، توصّل العلماء إلى أن الهاربين حُبسوا داخل سحابة ضخمة وصلت حرارتها إلى أكثر من تسعمائة درجة فهرنهايت. وقد ماتوا على الفور نتيجة الصدمة الحرارية، وليس بسبب الاختناق البطيء كما كان العلماء قد استنتجوا من قبل.
كانت بومبي قبل البركان مدينة تجارية مزدهرة يقطنها حوالي عشرين ألف شخص ثلثهم تقريبا من الأطفال. وكانت بيوتها ملحقة بحدائق وأفنية وجداريات من أزهار ونباتات. كما كانت المدينة تتمتّع بنظام محكم لتوزيع وتصريف المياه عبر قنوات محفورة تحت الأرض.
وطوال قرون بعد البركان، مُسحت المدينة من على وجه الأرض واختفت تماما تقريبا من الذاكرة. وعندما زار بريولوف أطلالها فتنه المنظر وتخيّل انه مسافر إلى الوراء عبر الزمن.
وقد صوّر في لوحته هذه فئات مختلفة من مواطني بومبي وردود أفعالهم في اللحظات التي أعقبت ثورة البركان. والصورة يضيئها اللهب المنبعث من البركان والبرق القادم من السماء. والناس فيها إمّا هاربون أو متجمّدون في أماكنهم وهم ينظرون بهلع إلى ما يحدث بينما يحاولون حماية أنفسهم من الحمم والحجارة المتطايرة.
وكلّ تفاصيل اللوحة دقيقة من الناحية التاريخية، بدءا من الشارع الذي تدور فيه الأحداث، إلى شكل الملابس ووضعيات الأشخاص. الصورة نفسها تضجّ بالحياة، من حركة الأشخاص إلى تأثيرات الضوء وتعبيرات الرعب واليأس المرتسمة على الوجوه.
في تسجيله للحادثة، يشير بليني إلى انه كان يسمع أصوات الأطفال والرجال والنساء وهم يصرخون ويرفعون أيديهم إلى الله طالبين منه أن يرأف بحالهم وينقذهم ممّا هم فيه من كرب وبلاء.
مصدر الضوء الرئيسيّ في الصورة هو البرق القويّ الذي يضرب منتصفها، حيث نرى امرأة ميّتة ممدّدة على الأرض وإلى جوارها طفلها الذي يحاول الوصول إليها.
والرسّام يحاول أن يُظهر الإنسانية على حقيقتها، فالمأساة حلّت بالجميع ولم تميّز بين شخص وآخر. في منتصف الصورة، يظهر شخص رافعا يده ومطلقا صرخة خوف وعجز، بينما يبسط وشاحه فوق رأسه وفوق امرأة مع طفلها لتفادي الحجارة الطائشة. وخلفهم يظهر كاهن يرتدي ملابس بيضاء.
وإلى يمين المشهد، يمكن رؤية فارس على ظهر حصان هائج ومبان توشك أن تسقط. وفي المقدّمة إلى أقصى اليمين، يظهر شابّ متزوّج حديثا وهو يحمل زوجته التي ما تزال ترتدي تاج العروس. وفي الوسط منظر لابنين يحملان والدهما المريض.
كان الرسّام قد قرأ ما كتبه بليني عن أمّه التي كانت تتوسّل إليه ألا يتركها. لذا ضمّنه الرسّام في هيئة الشخص الرابع من اليمين مع والدته. وفي الصورة أيضا يمكن رؤية وجه الكونتيسة يوليا سامويليوفا التي كانت راعية وصديقة للرسّام. وقد أعطى ملامحها للأمّ التي تحتضن ابنتيها إلى اليسار وكذلك للمرأة الميّتة.
ولم ينسَ بريولوف أن يُدرج في اللوحة صورا لعدد من الرموز التي تجسّد الكارثة، كتماثيل الآلهة الكلاسيكية المتساقطة في أعلى اليمين والمعابد والمباني المتهدّمة إلى اليسار والتي تمثّل ضعف وهشاشة البشر.
وفي مقدّمة اللوحة، نرى صورا لمجوهرات ومفاتيح تخلّى عنها أصحابها كرمز لعجز الإنسان، إذ لا احد يستطيع أن يأخذ معه شيئا من ممتلكاته إلى القبر.
هذه اللوحة هي أشبه ما تكون بمأساة إغريقية لأنها تثير في نفس الناظر شعورا بالشفقة والخوف. وموضوعها الأساس هو غضب الطبيعة وكيف أن البشر لا يفهمونها ولا يستطيعون السيطرة عليها. وكلّ هذه العناصر ترمز إلى الدمار والمصير النهائيّ الذي حلّ ببومبي وسكّانها.
وارتباط اللوحة بالأدب الكلاسيكيّ والأفكار الرومانسية يضعها في مكان وسيط بين النيوكلاسيكية والرومانسية. ومع أن تناول الرسّام للموضوع أكاديميّ الطابع، إلا أن الصورة قُدّمت للجمهور تحت لافتة الرومانسية. والحقيقة أن فيها العديد من سمات هذه المدرسة: دراما واقعية مع مسحة مثالية، واهتمام بالطبيعة واختيار حدث تاريخيّ كموضوع.
والملاحظ أن كلّ الشخصيات في اللوحة جميلة، على الرغم من أجواء الرعب والدمار التي تصوّرها. وقد وظّف الرسّام فيها تقنية الكياروسكورو بسخاء، واستخدم ألوانا دراماتيكية حمراء وسوداء داكنة في الخلفية وصفراء وزرقاء وذهبية في المقدّمة. كما أن طبقات الطلاء السميك تضفي على نسيج القماش لمعانا وحركة.
كانت هذه اللوحة هي تحفة بريولوف بلا منازع. وكان عرضها في ايطاليا حدثا كبيرا. وقد قارن النقّاد الايطاليون الرسّام بفنّاني الماضي العظام من أمثال رمبراندت وروبنز. وأصبح معاصروه يلقّبونه بـ "كارل العظيم".
عندما عاد بريولوف إلى روسيا عام 1835 استُقبل بحفاوة وأثارت لوحته جدلا واسعا، ثم مُنح شرف لقاء القيصر نيكولا الأوّل.
وعندما رأى الشاعر بوشكين اللوحة ألهمته كتابة قصيدة. كما ألهمت الكاتب ادوارد ليتون كتابة رواية بنفس الاسم. ويقال أن السير والتر سكوت جثا أمام الصورة الضخمة وحدّق فيها لساعة واصفاً إيّاها بأنها قصيدة ملحمية بالألوان. وبهذا أصبح كارل بريولوف أوّل رسّام روسيّ يحظى بإعجاب الغربيين.
كما كتب غوغول الذي كان صديقا حميما لبريولوف مقالا عن اللوحة نوّه فيه بطابعها المسرحيّ، مشيرا إلى أنها تتضمّن قصصا متعدّدة ومشاعر كثيرة ودراما وفوضى. وأضاف أن علاقتها بالأدب والدراما والتاريخ والشعر والموسيقى هو ما يجعل منها تحفة كاملة.
ولد كارل بريولوف في سانت بطرسبورغ عام 1799 لأبوين من أصل ايطاليّ. وقد درس في أكاديمية بطرسبورغ وكان أثناء دراسته طالبا واعدا وموهوبا. وعند تخرّجه عام 1821، إبتُعث إلى أوربّا لدراسة الرسم.
وبعد عودته إلى روسيا، زاول التدريس في الأكاديمية لمدّة ثمان سنوات. وقد استمرّ يرسم، لكنه لم يستطع رسم شيء يشبه هذه اللوحة التي استغرق العمل عليها ثلاث سنوات وتحوّلت في ما بعد إلى إحدى أيقونات الثقافة الروسية.

Friday, October 13, 2017

لوحات عالميـة – 421

مدينة الحمّامات وجامعها
للفنان السويسري بـول كلـي، 1914

يُعتبر بول كلي صاحب أكثر اللوحات موسيقيةً في القرن العشرين. الكثير من لوحاته تتضمّن صورا لموسيقيين وعازفي بيانو ومغنّين وضاربي دفوف. وكثيرا ما كان يمزج صوره بعناصر موسيقية مثل الصيغ والنوتات والتواقيع، وبعناصر البناء الموسيقيّ كالنغم والهارموني والبوليفوني والإيقاع التصويري وخلافه.
ومن خلال أشكاله ورموزه التجريدية، كان كلي يعبّر عن أكثر المواضيع تنوّعا والتي كان يرسمها من مخيّلته، وفي طليعتها الموسيقى والشعر والأدب وعلاقتها بالعالم.
كان الرسّام مفتونا بالكلمات والأنغام. والأسماء الشاعرية الجميلة التي كان يختارها للوحاته تشي بشغفه هذا الذي يعكس ميله لكلّ ما هو فانتازيّ وشاعريّ وتأمّليّ.
ورغم النجاح الذي حقّقه أثناء حياته، إلا انه اعتُبر فنّانا ثانويّا. وفقط بعد موته بدأ يحصل على ثناء النقّاد ومديحهم. ونظرة متفحّصة على نتاجه تشير إلى التأثيرات العظيمة التي تركها على كلّ مدارس الرسم تقريبا.
والمعروف أن كلي قضى حياته كلّها باحثا عن الاستعارات والرموز. وكان يملأ رسوماته بالأسهم والاتجاهات وبالحروف الغامضة وأحيانا الطافية في فضاء رمزيّ. كما كان يرفض أن يضع خطوطا فاصلة بين الفنّ والكتابة.
والكثيرون يشيرون إلى أن تجربته كانت خطوة مهمّة في تطوّر الحداثة، كما ترك أثرا كبيرا على أجيال عديدة من الرسّامين التجريديين الذين أتوا بعده.
وقد عُرف كلي باهتمامه الكبير بالثقافة العربية والذي استمرّ معه طوال حياته. وفي ابريل عام 1914، قام بزيارة إلى تونس كانت الأولى له لبلد خارج أوربّا. وكان بتلك الخطوة يقتفي خطى صديقه كاندينسكي الذي كان قد ذهب إلى تونس زائرا في عام 1904.
وقد أُعجب كلي بجمال ذلك البلد وبأضوائه وألوانه. وكان واضحا أن تجربته التونسية نفذت إلى أعماق روحه وظلّت تغذّي مخيّلته لزمن طويل. كما أثّرت فيه ألوان شمال أفريقيا بعمق، لدرجة أن ألوانه بعد تلك الزيارة بدت كما لو أنها ولدت من جديد.
ذهب الرسّام أوّلا إلى مدينة الحمّامات، وهي بلدة صغيرة تقع شمال غرب تونس على ضفاف البحر المتوسّط. وقد راقت له أصوات البشر والطبيعة فيها وبدا واضحا أنها حرّكت مشاعر الموسيقيّ بداخله وصبغت رسوماته بالمزيد من الحركة والإيقاع. وشيئا فشيئا بدأ يجرّد الألوان من أوصافها وخواصّها الفيزيائية ويستخدمها بشكل منفصل.
في هذه اللوحة، يرسم كلي الحمّامات وجامعها من مكان ما خارج أسوار المدينة. واللوحة تُظهر بدايات تحوّله إلى التجريد بعد أن قرّر أن يدير ظهره إلى الطبيعة. والصورة تتألّف من عناصر تجسيدية وأخرى تجريدية. الجزء العلويّ منها يُظهر الجامع محاطا ببرجين وحديقة، أما السفليّ فيتألّف من مناطق استخدم فيها ألوانا شفّافة ونقيّة مع تبايناتها.
وقد رسم كلي للحمّامات لوحة أخرى تَظهر فيها أشجار النخيل مع بعض الرموز والأنماط التي يمزج فيها بين الأساليب الشرقية والغربية.
وخلال زيارته تلك، ذهب أيضا إلى مدينة القيروان التاريخية التي كانت عاصمة لدولة الأغالبة. وقد فتنته أبواب هذه المدينة وقبابها ونوافذها المزخرفة الألوان والأشكال. كما أُعجب بالشاطئ والزوايا والزقاقات والحدائق الشرقية والبساتين المسوّرة. وطبعت كلّ هذه العناصر رسوماته بنَفَس جديد غير أوربّي.
كما زار كلي أيضا مدينة سيدي بوسعيد الجبلية وتأمّل ميادينها وأبوابها الزرقاء وبيوتها ذات الطابق الواحد وتوقّف أمام بوّابة إحدى حدائقها ليرسم لها اسكتشا حوّله في ما بعد إلى لوحة مائيّة.
زيارة كلي إلى تونس أثارت تأمّلاته وأفكاره ومنحته نموّا روحيّا وأصبحت ألوانه بعدها متحرّرة من أيّ قيود. واستمرّ ذلك البلد يوفّر له الإلهام وظلّ يرسمه من الذاكرة لسنوات طوال. وخلال إقامته هناك رسم أكثر من ثلاثين لوحة مائية.
كان كلي عندما زار تونس في الرابعة والثلاثين من عمره. وقد وصفه من رآه بأنه يشبه العرب لأن جذور والدته تعود إلى شمال أفريقيا. وربّما كانت ملامحه السمراء سببا في ازدياد حنق النازيين عليه، فقد هاجموا فنّه ووصفوه بـ "المنحلّ"، ثم أجبروه على الهجرة إلى سويسرا عام 1933.
الجدير بالذكر أن بول كلي زار مصر أيضا في عام 1929، مدفوعا على ما يبدو بموجة الشغف بمصر التي اكتسحت أوربّا عقب اكتشاف هاوارد كارتر لقبر الفرعون توت عنخ امون. وقد قضى في مصر شهرا زار خلاله الأقصر ووادي الملوك.
وأثناء إقامته هناك رسم عدّة لوحات عبّر من خلالها عن إعجابه وتقديره الكبير للحضارة المصرية القديمة. وقد دفعه إحساسه بالارتباط بتلك الأرض العريقة لأن يضفي على لوحاته تلك شعورا بالديمومة والخلود.

Monday, October 09, 2017

لوحات عالميـة – 420

غـرفة النـوم
للفنان الفرنسي هنري ماتيس، 1921

في عام 1917، ذهب هنري ماتيس، وكان وقتها في سنّ الثامنة والأربعين، إلى نيس في جنوب فرنسا كي يتخفّف من أعراض إصابته بالتهاب شعبي حادّ.
وقد أحبّ المدينة كثيرا وأحسّ فيها بسعادة كبيرة وقّرر أن يبقى هناك حتى نهاية عمره.
وماتيس يصف نيس بقوله: معظم الناس يأتون إلى هنا من اجل الضوء والصور المشهدية. وأنا جئت من شمال فرنسا، وما أذهلني حقّا هنا هو الألوان البديعة والنهارات اللامعة في يناير خاصّة. وعندما أتذكّر أنني سأرى هذا الضوء كلّ صباح، فإنني لا استطيع التعبير عن مقدار سعادتي".
وفي نيس رسم الفنّان مجموعة من لوحاته للاستديو ضمّنها صورا لأشخاص قليلين. وقد رسم اللوحات بأسلوب واقعيّ وضمّنها بعضا من موتيفاته المفضّلة التي أراد من خلالها ربط الفراغ الداخليّ بالخارجيّ، كالأرضية المبلّطة والارابيسك والطاولة المغطّاة بالقماش والمرآة البيضاوية والشبّاك الفرنسيّ والبلكونة بالإضافة إلى امرأة أو اثنتين.
وفكرة رسم الاستديو تكرّرت في لوحاته كثيرا وبالتحديد في العشرينات وبداية الثلاثينات. وإليه يعود الفضل في ابتكار هذه الفكرة، ثم أتى بيكاسو وبنى عليها مع شيء من العمق بتوظيفه أفكارا سيكولوجية مختلفة.
في هذه اللوحة، يرسم ماتيس غرفة في فندق المتوسّط في نيس حيث كان يقيم. إلى يسار اللوحة تظهر امرأتان، واحدة واقفة بجانب ستارة نافذة والأخرى تجلس على كرسيّ.
المرأة الواقفة يُعتقَد أنها ابنته مارغريت المولودة عام 1894 والتي أقامت معه في نفس الفندق عام 1921. والمرأتان لا تنظران إلى المتلقّي وإنما باتجاه الطرف الآخر من الغرفة. وخلفهما نافذة واسعة تحيط بها ستائر بيضاء، وإلى اليمين يظهر جزء من مرآة وطاولة زينة وُضع فوقها كأس ومزهرية.
خطوط التوليف تجذب انتباه الناظر إلى خارج النافذة، أي إلى السماء وشجرة النخيل. والألوان الشاحبة تشير إلى العبور بين تكعيبية العشرية الأولى من القرن العشرين والأسلوب الجديد الذي تبنّاه ماتيس في سنوات العشرينات.
البلاط ذو اللون الزهريّ، وباقة الورد على طاولة الزينة إلى اليمين، والألوان الصفراء في تنّورة المرأة الواقفة وعلى الكرسيّ وورق الجدران، كلّها تضفي لمسة ناعمة من الدفء على الألوان البيضاء والزرقاء والرمادية.
وكلّ الأشياء في الغرفة مرسومة بالتجسيد لأنه يمكن تحديدها في عالم الواقع. وهي تضيف إلى النوعية الطبيعية للوحة. لكن الأشياء والأشخاص مرسومون بشكل مبسّط جدّا. وقد استخدم الرسّام تقنيات الفراغ والكتلة كي يحوّل فراغا مألوفا إلى حدث صوريّ.
كما استخدم ضربات فرشاة سائلة وفضفاضة، ووظّف أكثر من منظور، فالأرضية مرسومة بحيث تبدو كما لو أنها مائلة إلى فوق وليست مسطّحة. وعندما تنظر إلى أسفل تحسّ كما لو أن الغرفة مرتفعة في الهواء.
ولد ماتيس في فرنسا عام 1869. وفي صباه عمل في محلّ لبيع الأزهار كان يملكه والده. وفي سنّ الثامنة عشرة ذهب إلى باريس لدراسة القانون. وبعد أن أتمّ دراسته عاد إلى بلدته ليعمل في إحدى المحاكم.
وبعد عامين قرّر أن يكرّس نفسه للرسم. حدث ذلك أثناء قضائه فترة نقاهة بعد جراحة أجراها لعلاج الزائدة الدودية. في تلك الأثناء كانت والدته توفّر له بعض موادّ الرسم كي يقضي بها أوقات فراغه.
وقد غيّرت تلك الخطوة حياته جذريّا. وكانت والدته تريد منه أن يحافظ على وظيفته في المحاماة، لكنه تخلّى عن تلك الوظيفة في النهاية وسجّل في أكاديمية جوليان للرسم، حيث تلقّى تدريبا على يد وليام بوغرو ثم غوستاف مورو. وقد تأثّر ببعض معلّميه مثل شاردان الذي كان يعتبره أنجب طلابه، كما تأثّر بكلّ من مانيه وبُوسان.
توفّي هنري ماتيس في نيس عام 1954 قبل شهر من احتفاله بعيد ميلاده الخامس والثمانين.

Thursday, October 05, 2017

لوحات عالميـة – 419

امـرأة تقـرأ رسالـة
للفنان الهولندي جيـرارد تير بـورش، 1660

كان جيرارد تير بورش احد أشهر الرسّامين الهولنديين في القرن السابع عشر. وقد عُرف خاصّةً ببراعته في رسم البورتريهات التي يحتشد فيها مجموعة من الأشخاص. وهو من هذه الناحية يختلف عن يوهان فيرمير وبيتر دي هوك اللذين كانا يكتفيان برسم شخص أو شخصين في اللوحة والباقي عبارة عن فراغات.
ويعود إلى هذا الرسّام الفضل في ابتكار مناظر الديكور العالي المكانة الذي أصبحت له شعبية كبيرة في الربع الثالث من القرن السابع عشر. وكانت أعماله الديكورية تتّسم بمستوى عالٍ من الحسّية والنقاء.
ولوحاته في معظمها عبارة عن مناظر حميمة لرجال ونساء مستغرقين في أداء أعمالهم. وقد تميّز تير بورش بإحساسه العظيم باللون وبتعامله الرائع مع الضوء والظلّ والنسيج.
في هذه اللوحة، يرسم الفنّان غرفة تظهر فيها امرأة واقفة وترتدي فستانا ازرق وأصفر وهي تقرأ رسالة في حضور امرأة أخرى وصبيّ. الموديلات في اللوحة هم أفراد عائلة الرسّام. المرأة التي تقرأ الرسالة هي أخته غير الشقيقة والصبيّ هو شقيقه الأصغر.
اللوحة تُعتبر إحدى تحف الرسّام، وهي الأولى في سلسلة من الصور التي تتناول نفس الموضوع. وقد كانت نموذجا اتّبعه فيرمير وغيره من الرسّامين الهولنديين بعد ذلك عندما رسموا رجالا ونساء إمّا يقرؤون أو يكتبون. وكان رسْم مثل هذا الموضوع مؤشّرا على الإثارة والرومانسية في الرسم الهولنديّ.
من الأشياء التي تميّز هذه اللوحة روعة أضوائها وظلالها وكذلك الاستخدام الجميل للألوان فيها، بالإضافة إلى بساطة المنظر نفسه والذي يدفع الناظر لأن يتأمّل الجمال وتفاصيل الأشياء.
رسم تير بورش عددا كبيرا من الصور التي يظهر فيها أشخاص إمّا يقرؤون أو يكتبون رسائل. وكان هذا النوع من الصور شعبيّا كثيرا في عصره. وكتابة الرسائل كانت من الأنشطة المنتشرة في أوساط العائلات الموسرة. ورواج هذه الصور بأجوائها المسترخية وأزياء شخوصها الثمينة لم يكن مستغربا في تلك الفترة التي شهد فيها الاقتصاد الهولنديّ ازدهارا كبيرا.
وقد عُرف الفنّان بموهبته في تصوير النسيج المتعدّد الأشكال وبالإمساك بتفاصيل الثياب بطريقة يصعب تقليدها. وكان بارعا في المواضيع التي تربط بالتباهي والخيلاء. وهذه السمة لها خلفية جمالية لأنها كانت تسمح له بأن يرسم ديكورات أنيقة وملابس زاهية. واستخدامه للأزرق الفيروزيّ على قميص المرأة يشي بلمسة معلّم.
هناك الكثير من الفنّانين ممّن رسموا الساتان والحرير، لكن لا احد كان ينافس تير بورش من هذه الناحية. وربّما كان السبب كثرة أسفاره التي أتاحت له رؤية العديد من العائلات الغنيّة واطّلع عن قرب على نمط حياتها. وغالبا ما كان يرسم الأشخاص أمام خلفية مظلمة وفارغة كي لا يصرف انتباه الناظر عن ملاحظة الشخصية.
ولد جيرارد تير بورش في ديسمبر من عام 1617 في بلدة ديفنتر الهولندية وتلقّى تعليما جيّدا في الرسم على يد والده الذي كان هو أيضا رسّاما. كما تتلمذ في ما بعد على يد بيتر دي مولين في هارلم.
وفي عام 1635، ذهب إلى انجلترا وألمانيا وفرنسا. ثم زار اسبانيا حيث عمل رسّاما في بلاط الملك فيليب الرابع. لكنه قطع إقامته في مدريد وعاد إلى هولندا عام 1650 ليستقرّ في هارلم ثم في ديفنتر التي شغل فيها وظيفة عضو في المجلس البلديّ وحتى وفاته عام 1681.
وكان قد قضى قبل ذلك ثلاث سنوات في وستفاليا، حيث شهد عقد مؤتمر السلام فيها ورسم وفدي كلّ من اسبانيا وهولندا أثناء توقيعهما على المعاهدة عام 1648.

Sunday, October 01, 2017

لوحات عالميـة – 418

عاشـقـان
للفنان الإيراني رضـا عبّـاسي، 1630

تأثّر الفنّ الفارسيّ في بداياته بالثقافة الصينية والهندية، لكنه طوّر سماته الخاصّة في ما بعد. وكان الفنّ وقتها يتضمّن أعمال السيراميك والهندسة المعمارية والنسيج وأعمال المعدن وكتابة الخطّ والرسم.
من ناحية أخرى، كان رسم المنمنمات مجالا صغيرا نسبيّا، لكنه كان يشكّل جزءا مهمّا من أشكال الرسم، وكان حكّام فارس يولونه أهميّة فائقة.
ومن أبرز من برعوا في رسم المنمنمات الفنّان رضا عبّاسي الذي يعدّه الكثيرون احد أعظم الرسّامين الإيرانيين في القرن السابع عشر. كان المعلّم الأوّل في مدرسة أصفهان التي تُعتبر أشهر مدرسة فارسية في رسم المنمنمات.
كان عبّاسي متأثّرا بمدرسة قزوين في الرسم، مفضّلا رسم مواضيع الطبيعة على التصوير الإيضاحي الذي كان قد هيمن على فنّ المنمنمات لأكثر من مائتي عام قبل ذلك.
وقد أحدث هذا الرسّام تغييرا جذريّا في الرسم الفارسيّ بتوظيفه المبكّر لخطّ الكتابة والألوان غير المألوفة. وكان الرسّامون في زمانه يقلّدون أسلوبه، لكنهم لم يقتربوا من مستواه، مع أن العديد منهم أنتجوا أعمالا مميّزة حتى بداية القرن الثامن عشر. ومن بين تلاميذه الذين اشتهروا في ما بعد ابنه محمد شافعي ومعين موسافار.
رسم عبّاسي هذه اللوحة/المنمنمة قرب نهاية عمله الناجح والطويل كرسّام في البلاط الصفويّ، وفيها نرى رجلا وامرأة يحتضنان بعضهما. وجها الشخصين متشابهان مع عيون ورموش طويلة وشفاه رقيقة. الرجل يجلس على ركبته بينما تجلس المرأة في حضنه في وضع غريب. ذراعاه تطوّقانها ويده اليسرى داخل إزارها المفتوح. وهي تضع يدها اليسرى حول كتفه واليمنى فوق رأسه بينما تمسك بوردة.
الرجل يرتدي ثوبا اخضر مع حزام ازرق مذهّب ويضع فوق رأسه وشاحا ازرق. والمرأة ترتدي ثوبا بنّيّاً وتلفّ كتفيها بوشاح ذهبيّ. وقطعة المجوهرات الوحيدة التي ترتديها هي سلسلة صغيرة على كاحل قدمها.
الخلفية ذهبية داكنة مع أوراق ذهبية. وعلى الأرضية هناك صحن فواكه وإناء فيه شراب، وعلى الطرف الأيسر كتابة بالخط العربي. وأحد خصائص أسلوب الرسّام هو إيلاؤه اهتماما كبيرا بالتفاصيل مثل الإبريق والصحن والفاكهة.
من الأشياء اللافتة في الصورة جمال ودقّة الأيدي والوجوه والملابس والانحناءات والشعر المنسدل على جانب الوجه.
وقد استخدم في اللوحة الحبر وماء الذهب. وقد يكون الذهب أضيف في مرحلة تالية بناءً على طلب المشتري. وإضافة الوردة في يد المرأة يشكّل لمسة جميلة ربّما أراد منها الرسّام تجنّب بقاء ذلك الجزء من الصورة فارغا.
كما وظّف التمبرا، وهو نوع من الطلاء استخدمه المصريون القدماء لكنه فقد جاذبيته اعتبارا من عصر النهضة مع أنه ما يزال يُستخدم إلى اليوم، وإن على نطاق ضيّق.
ومن خصائص التمبرا انه يجفّ بسرعة ولا يمكن وضعه إلا بضربات فرشاة صغيرة جدّا. وهذا يعني أن الرسّام أنجز اللوحة ببطء شديد وأنها أخذت منه وقتا طويلا، وهذا أيضا يفسّر كثرة التفاصيل فيها.
ظهور شخصين بجسدين متداخلين في لوحة ربّما كان يعكس موقفا جديدا ومتسامحا مع الصور الحسّية. إذ جرت العادة في العهد الصفويّ أن تُرسم النساء منفصلات عن الرجال. لكن عبّاسي وآخرين نظروا إلى الموضوع نظرة مختلفة، فرسموا النساء مع الرجال لتوضيح أفكار الشعراء الذين كانوا يكتبون قصائدهم غالبا عن الحبّ وأهمّية المرأة. وهناك احتمال بأن الفنّان رسم المرأة والرجل بهذه الكيفية كي يعبّر عن عدم ارتياحه للقيود في البلاط.
أيضا في هذه اللوحة شيء من تأثير الرسم الصينيّ والتركيّ، حيث الوجوه الشاحبة والأعين الطويلة. أما حضور الأزهار والذهب في الخلفية فربّما قُصد منهما أن يكونا رمزا للجنّة، وهي فكرة كانت رائجة عند شعراء ذلك الزمان.
ولد رضا عبّاسي في كاشان بإيران عام 1565. وكان والده علي أصغر رسّام منمنمات معروفاً. وقد تلقّى تعليما أوليّا على يد والده ثم انتظم في مدرسة إسماعيل الأوّل. ولم يلبث أن أصبح خطّاطا ورسّاما بارعا. لكنه عُرف أكثر برسم المنمنمات. ثم انتقل من رسم الكتب والمخطوطات إلى تصوير الحياة اليومية في صور مستقلّة. وفي مرحلة تالية عيّنه الشاه عباس الصفويّ رسّاما للبلاط. وفي تلك الفترة بالذات بلغ رسم المنمنمات أوج ازدهاره في بلاد فارس.
كان عبّاسي غالبا ما يوقّع أعماله، مع إضافة التواريخ وتفاصيل أخرى. ويقال انه كان من بين الرسّامين الذين شاركوا في رسم ملحمة الشاهنامة التي توجد مخطوطتها الأصلية اليوم في مكتبة دبلن بآيرلندا. وبعد وفاته في عام 1635، فقدت مدرسة أصفهان أهميّتها ثم بدأ فنّ رسم المنمنمات في إيران في الأفول.
يُذكر أن أعمال رضا عبّاسي موجودة اليوم في العديد من المتاحف حول العالم، مثل المتحف المسمّى باسمه في طهران ومكتبة قصر طوب كابي في اسطنبول ومتحف سميثسونيان والمتحف البريطانيّ ومتحف اللوفر ومتحف المتروبوليتان وغيرها.

Wednesday, September 27, 2017

لوحات عالميـة – 417

امـرأة بلبـاس فضفـاض
للفنان الفرنسي اندريـه ديـريـن، 1906

في عام 1900 ظهرت الوحوشية، وهي مدرسة فنّيّة لم تعمّر طويلا. وقد حمل لواءها مجموعة من الفنّانين الحداثيين الذين كانت أعمالهم تركّز على نوعية الرسم والألوان القويّة أكثر من القيم الواقعية والتجسيدية التي احتفظت بها الانطباعية.
وقد استمرّت الوحوشية إلى ما بعد عام 1910، واعتُبرت أحيانا نوعا من التعبيرية. وكان زعيماها هما هنري ماتيس وأندريه ديرين. لكن هذا الأسلوب الجديد قوبل بانتقادات واسعة بسبب الألوان الدراماتيكية التي كان يوظّفها والتي دفعت النقّاد للسخرية من لوحاتهم وأسماها احدهم الوحوش البرّيّة، ومن هنا اشتُقّ اسمها.
غير أن هناك أسماء أخرى ارتبطت بهذا الاتجاه، مثل موريس مارينو وموريس فلامنيك وراؤول دوفي وفان دونغن، بالإضافة إلى جورج براك زميل بيكاسو في تأسيس التكعيبية.
كانت لوحات الوحوشيين تتّسم غالبا بتوظيف الفرشاة الجامحة والألوان الغامقة، مع درجة عالية من التبسيط والتجريد. ويمكن اعتبار هذه المدرسة تطوّرا متطرّفا من "ما بعد انطباعية" فان غوخ، مع مزيج من نقطية جورج سورا وغيره من الانطباعيين الجدد. ومن بين من تأثّر بهم الوحوشيون كلّ من بول غوغان وبول سيزان.
هذه اللوحة تعتبر عملا أساسيّا من المرحلة الوحوشية، وفيها يقدّم اندريه ديرين نموذجا لقوّة التعبير الذي يمكن تحقيقه من خلال توظيف الشّكل واللون. وهي تصوّر امرأة ذات شعر أشقر وهي تجلس وتنظر إلى المتلقّي. ورغم الأسلوب التعبيريّ للوحة، إلا أنها مشيّدة من عدد من المثلثّات والتباينات التي توفّرها الألوان الحمراء والخضراء والبرتقالية والزرقاء.
وقد وظّف الرسّام في قميص المرأة الألوان المتعدّدة والفرشاة اللامعة وبالغ في تجسيد الوجه والعينين. كما استخدم جزئيّا الخطوط الخارجية لتحديد الأطراف.
ولد اندريه ديرين في يونيو من عام 1880 في شاتو في باريس. ودرس الرسم على يد اوجين كاريير. ثم قابل ماتيس الذي اقنع والده بأن يسجّله في أكاديمية جوليان. وقد عمل ديرين مع ماتيس في صيف عام 1905 في قرية كوليوري المتوسطية حيث ابتكرا معا الاتجاه الجديد.
ثم ذهب الرسّام إلى لندن ورسم بعض معالمها. وعندما عاد إلى فرنسا بدأ يتحوّل من الألوان اللامعة للوحوشية إلى ألوان باردة وظهرت عليه تأثيرات التكعيبية وشيء من أسلوب سيزان.
وأثناء الاحتلال النازيّ لفرنسا في الحرب العالمية الثانية، عاش الرسّام في باريس. وقد جامله الألمان باعتباره فنّانا ومثقّفا. ثم ذهب إلى ألمانيا عام 1941 مع رسّامين آخرين لحضور معرض في برلين. وقد استغلّت الدعاية النازية زيارته إلى هناك لمصلحتها. وبعد التحرير اعتُبر ديرين متعاملا مع العدوّ ثم عومل بالنبذ من قبل الكثيرين.
وفي أواخر حياته أصيب بمعرض معدٍ في العين لم يُشفَ منه. وتوفّي في باريس في سبتمبر عام 1954 متأثّرا بجروح أصيب بها إثر حادث سيّارة.

Saturday, September 23, 2017

لوحات عالميـة – 416

سـوق ليـلـيّ تضيـئه الشمـوع
للفنان الهولندي بيتـروس فـان شيـندل، 1863

كان بيتروس فان شيندل رسّاما متخصّصا في رسم الأسواق التي تضيئها الشموع ليلا. ويبدو أن هذا كان موضوعه المفضّل الذي لم يكن ينافسه فيه احد تقريبا.
وفي لوحاته كان ينقل، مع شيء من الدراما، أنواعا شتّى من أنشطة الناس في الليل، محاولا إبراز الفروق الدقيقة بين مستويات وتأثيرات متعدّدة من الأضواء والظلال والانعكاسات. ولكلّ لوحة من لوحاته أناقتها الخاصّة التي تجعلها مفعمة بالحركة والحيوية.
وفي ما بعد، رسم الفنّان لوحات أخرى مع مصادر ضوء إضافية غير الشموع وضوء القمر، مثل مصابيح الزيت والألعاب الناريّة والنار المفتوحة.
وخلال فترة قصيرة، أصبح فان شيندل سيّد هذا النوع من الرسم في العصر الرومانسيّ، أي في القرن التاسع عشر.
وبعض لوحاته تصلح لأن تكون سجلا عن طبيعة مدينة أمستردام وتضاريسها ومبانيها في القرن التاسع عشر. وبالنسبة إلى الذين لا يعرفون الكثير عن لاهاي أو روتردام في تلك الفترة، ربّما تُوفّر بعض تلك الصور انطباعا مُقنعا عن مشاهد الأسواق الليلية في مدن هولندا الكبيرة في منتصف القرن قبل الماضي.
وهذه اللوحة تُعتبر من أفضل أعماله، وهي توفّر نموذجا واضحا لبراعته الفنّية. وفيها يصوّر سوقا ليليّا للخضار والفاكهة والسمك في لاهاي، تظهر فيه مجموعة من النساء وهنّ يعرضن سلعهنّ على ضوء الشموع، بينما تتكدّس أمامهنّ أنواع مختلفة من الخضار والفاكهة والأسماك.
المرأة الجالسة إلى اليسار هي نقطة الارتكاز في المشهد، وضوء الشمعة يسقط على وجهها ويديها. والمرأتان الأخريان الواقفتان تحملان السّلال بينما تفاصلان البائعة الجالسة حول الأسعار.
وفي الجوار تقف مجموعة أخرى من النساء يبعن الأسماك. وفي خلفية الصورة، تظهر عدّة مبانٍ يضيئها نور القمر. ومن بين هذه المباني جزء من قاعة المدينة القديمة، بالإضافة إلى برج كنيسة كان محيطها يُستخدم في ذلك الوقت كسوق لبيع اللحوم.
ضوء القمر في اللوحة يأتي من ناحية اليسار، أي من فوق مبنى البلدية. وهناك أشخاص يتفرّجون أو يمرّون بالمكان لرؤية ما تعرضه الأكشاك الأخرى من سلع وبضائع.
منظر السماء المبهر والمباني الضخمة التي تخيّم على المكان تضيف إلى المشهد قدرا من الدراما والإثارة.
على مرّ السنوات، انتقلت هذه اللوحة من مالك لآخر إلى أن اشتراها مالكها الحاليّ من تاجر في غلاسغو عام 1916 بمبلغ زهيد لا يتجاوز الأربعين غيلدر هولنديّ.
ولد بيتروس فان شيندل في ابريل عام 1806 لعائلة من المزارعين التجّار في بلدة بريدا الهولندية. وقد ظهرت موهبته في الرسم منذ صغره، فأرسله والده إلى انتويرب كي يدرس الرسم في أكاديميّتها للفنون.
ثم انتقل بعد ذلك إلى أمستردام حيث رسم أوّل لوحة له، وكانت عبارة عن منظر لسوق ليليّ يستحمّ في ضوء الشموع. وكانت تلك صورة رومانسية أضاف إليها الفنّان من خياله، والاهمّ أنها أكسبته سمعة كبيرة في هولندا وخارجها.
تأثّر فان شيندل في بداياته بأعمال مواطنَيه الرسّامَين غودفريد شالكن وغيريت دو . وبعد ذلك تعرّف على رسّام يُدعى ماثيو فان بري. وقد علّمه الأخير المزيد من المهارات وشجّعه على أن يولي أهميّة اكبر للتفاصيل. ثم بدأ يهتمّ بالإكسسوارات والنسيج وتعلّم كيف ينتج طبقات متعدّدة من الألوان فوق سطح القماش.
وفي تلك الأثناء، تعرّف الرسّام إلى امرأة تُدعى اليزابيث غراسفيلد فتزوّجها وأنجب منها ثلاثة عشر طفلا. في ذلك الوقت، كان ما يزال يناضل من اجل تحسين أحواله المعيشية، فغادر هو وزوجته ليستقرّا في روتردام حيث عمل هناك بوظيفة معلّم للرسم.
وفي روتردام، رسم عددا من اللوحات، وكلّها كانت تؤكّد موهبته الاستثنائية في رسم الأضواء الاصطناعية. ومع مرور الوقت، صار له رعاة وزبائن وأصبح يتلقّى المزيد من طلبات الرسم.
وبعد ذلك انتقل فان شيندل إلى لاهاي التي نظّم فيها أوّل معرض لأعماله اجتذب المزيد من العملاء. وكان ذلك المعرض فرصته لاستكشاف مواهبه الأخرى التي لم يكن يعرفها الناس. وقد كوفيء على عدّة براءات اختراع في مجالات السّكك الحديد والملاحة البحرية والزراعة.
وأثناء إقامته في لاهاي، ترسّخ اسمه أكثر في سوق الفنّ وباع عدّة لوحات على بعض مجموعات الفنّ الملكية في أوربّا. وأصبح من بين زبائنه الملك وليام الثاني والملكة فيكتوريا وملك بلجيكا والعائلة الحاكمة في روسيا. كما نال عدّة جوائز من معارض أقيمت في بروكسل وباريس ومانشيستر وغيرها.
قبل وفاته بعام تقريبا، رسم فان شيندل لنفسه بورتريها يظهر فيه بهيئة شخص ملتحٍ ووقور، يرتدي ملابس أنيقة ويعتمر قبّعة، بينما يجلس متطلّعا إلى البعيد بنظرة متأمّلة.
وبعد وفاته في عام 1870، نسي الناس اسم وفنّ بيتروس فان شيندل مع ظهور مدارس الفنّ الحديث. لكن لوحاته تُقيّم عاليا هذه الأيّام وتحظى باهتمام وإعجاب خبراء الفنّ والجمهور على السواء.

Saturday, September 16, 2017

لوحات عالميـة – 415

سيّـدة تكتـب رسـالة
للفنان الهولندي يوهـان فيـرميـر،1665

عاش يوهان فيرمير قبل أكثر من ثلاثمائة عام. وحتى اليوم لا يُعرف عنه أو عن حياته سوى الشيء القليل. خبراء الفنّ المعاصرون فحصوا السجلات المدنية القديمة في بلدة ديلفت حيث عاش، بحثا عن معلومات عنه أو عن عائلته، لكنهم لم يجددوا الكثير. كما انه لم يترك صورة تقول لنا شيئا عن ملامحه.
لكن من المعروف انه عمل في تجارة الفنّ لبعض الوقت في شبابه مع والده البروتستانتيّ. لكنه وقع في هوى امرأة كاثوليكية تُدعى كاترينا بولنز ثم لم يلبث أن تزوّجها، الأمر الذي دفع عائلته لأن تطرده من البيت وتتبرّأ منه. فاضطرّ لأن ينتقل إلى منزل والدة زوجته في الحيّ الكاثوليكيّ من البلدة، حيث عاش هناك بقيّة حياته.
كان يوهان وكاترينا قريبين من بعضهما كثيرا. ومعظم العائلات الهولندية في ذلك الوقت كانت تكتفي بطفلين أو ثلاثة، لكنه وزوجته أنجبا احد عشر طفلا ملئا بهم البيت وعاشوا حياة فقر وعوز. وقد اضطرّ أحيانا لأن يقايض دائنيه بلوحاته.
في ذلك الوقت، غزا الفرنسيون والألمان هولندا، وكان طبيعيّا أن يعاني الناس من تردّي الاقتصاد والأحوال المعيشة نتيجة الحرب. وعندما توفّي فيرمير عام 1675 في سنّ الثالثة والأربعين كان مفلسا تماما.
ومن الصعب تصوّر فكرة أنه كان شخصا بوهيميّا أو متعطّشا للجنس، بحسب ما تصوّره السينما وبعض الروايات هذه الأيّام. فالذين درسوا حياته يقولون انه كان زوجا محبّا وأبا حنونا. ولم يكن يشغله سوى العلوم والبصريات والرسم.
وحتى ما كان بحوزته أحيانا من مال قليل لم يكن يكفي لاستئجار محترف أو الاستعانة بموديل معروفة. لذا كان من الطبيعيّ أن تكون زوجته وبناته هنّ جليساته في لوحاته. وجوههنّ النضرة وملامحهنّ الهادئة متشابهة. ومن السهل أن ترى كاترينا، الحامل أحيانا، في بعض صوره.
في هذه اللوحة، يرسم فيرمير زوجته وهي جالسة إلى طاولة في غرفة معتمة، بينما تكتب رسالة. وهي ترتدي معطفا اصفر زاهيا يزيّنه فراء ابيض مع قرطين من اللؤلؤ وشرائط شعر بيضاء.
الضوء في اللوحة يسقط من الزاوية اليسرى، ما يجعل المرأة نقطة الارتكاز فيها. وهي تمسك في يدها اليمنى بقلم، بينما تُريح ذراعها الآخر على الطاولة. لكن اهتمامها يتحوّل بعيدا عن الرسالة كما لو أن شخصا ما قاطعها فجأة. وهي تنظر باتجاهه وعلى فمها اثر تساؤل وابتسامة خفيفة.
الطاولة مؤطّرة بقماش ازرق خفيف، وعليها يستقرّ عقد من اللؤلؤ وشريط من الحرير الأصفر. وفي الخلفية، على الجدار، لوحة بالكاد يمكن رؤية تفاصيلها.
التصميم في اللوحة محكم ويكشف عن إحساس هندسيّ دقيق، وهذه هي إحدى سمات فن فيرمير. وإذا صحّت فرضية أن المرأة الظاهرة في الصورة هي زوجته، وهذا أمر مرجّح اليوم، فإنه يصبح من السهل توقّع أنها كانت عند رسمها في منتصف الثلاثين من عمرها، بالنظر إلى أنها مولودة في عام 1631.
الألوان في اللوحة هي مزيج صامت ومتناغم من الأصفر والأزرق والبنّي. والإضاءة الساحرة والنقاء الفوتوغرافيّ والوضعية الأنيقة للمرأة والقلم المعلّق فوق الورق للحظات، كلّها تؤشر إلى النوعية الممتازة للتفاصيل والأشياء والتي أصبحت علامة تميّز فيرمير.
من الأشياء الأخرى اللافتة أيضا في اللوحة التحوّل السلس للألوان والذي ينتج حوافّ ناعمة. وليس هناك أشكال ولا خطوط محدّدة أو واضحة، هناك فقط إيحاء بالأشكال. وتنفيذ مثل هذه المهارات يتطلّب عادةً وقتا وجهدا كبيرين، حتى لو كان الرسّام بارعا فيها من الأساس.
الرسائل هي عادةً عن الحبّ والعلاقات الحميمة. واللوحة تُظهر أن الكتابة فعل مريح وممتع وله نفس أهميّة الأشياء الماديّة الثمينة التي تعامَل أحيانا كالكنوز وتُحفظ بعيدا عن متناول الآخرين. وجوّ اللوحة يعطي الانطباع بأن هذه المرأة التي عاشت قبل أكثر من ثلاثة قرون يمكن أيضا أن تنتمي إلى عالمنا.
من الأشياء اللافتة أيضا في اللوحة أن المعطف الذي ترتديه المرأة هو نفسه الذي يظهر في بعض لوحات الرسّام الأخرى مثل امرأة تعزف الغيتار . وحتى نفس عقد اللؤلؤ والخزانة الخشبية الصغيرة في الخلفية يظهران في لوحات أخرى له، ما يرجّح فرضية أن فيرمير كان يرسم من مجموعة ثابتة من الأقمشة والإكسسوارات التي كان يحتفظ بها دائما ضمن مقتنياته الخاصّة.
تجدر الإشارة إلى أن هناك ستّ لوحات أخرى لفيرمير تناول فيها نفس الموضوع وتصوّر نساءً إمّا يقرأن أو يكتبن. ويقال أن أوّل من روّج لفكرة المرأة التي تكتب هو مواطنه الرسّام جيرارد تير بورش.
المعروف أن فيرمير لم يترك توقيعا على أيّ من لوحاته، لكنه ترك تواريخ على ثلاث منها فقط. ويبدو أن تأثيره على الكثير من الرسّامين الذين أتوا بعده، بالإضافة إلى كثرة اللوحات المزوّرة المنسوبة له، شكّلا تحديّا كبيرا لخبراء الفنّ الذين حاولوا أن يثبتوا أصالة بعض أعماله وصحّة نسبتها إليه.

Tuesday, September 12, 2017

لوحات عالميـة – 414

فناء منزل في الريف الجزائريّ
للفنان الأمريكي فريـدريك آرثـر بريـدجمان، 1920

كان فريدريك آرثر بريدجمان رسّاما استشراقيا مشهورا في زمانه. لكن الكثيرين اليوم يعتبرونه منسيّا إلى حدّ ما، مع أن أعماله تظهر بانتظام وتبيع جيّدا في مزادات الفنّ العالمية.
وهناك من يقول إن السبب في أن اسمه أصبح غير متداول كثيرا اليوم هو أن ترويجه لنفسه أثناء حياته منع الآخرين من الاقتراب منه أو تناول فنّه تناولا نقديّا. ومنذ وفاته، لم يظهر كتاب يؤرّخ لسيرة حياته كما لم يقم أيّ من المتاحف الكبيرة بتنظيم معرض لأعماله.
كان بريدجمان عاشقا كبيرا لبلدان وثقافات الشرق. وقد أخذته أسفاره الطويلة إلى المغرب والجزائر ومصر وسوريا وتركيا ليطّلع على مظاهر الحياة فيها وليصوّرها.
وهو لم يكن رسّاما فحسب، بل كان أيضا شاعرا وأديبا ومؤلّفا وعازفا موسيقيّا. واهتمام جامعي الفنّ العرب، على وجه الخصوص، بفنّه وفنّ غيره من رسّامي الاستشراق مردّه في الأساس كون الرّسم الاستشراقي هو السجلّ البصريّ الوحيد المتوفّر اليوم عن حياة شعوب المنطقة في القرن التاسع عشر. لكن هناك سببا آخر يتمثّل في تقدير هؤلاء الجامعين لبراعة وإبداع بريدجمان بشكل خاصّ.
اعتبارا من عام 1870، اتّخذ الرسّام من فرنسا وطنا دائما له، حيث تعلّم فيها على يد جان ليون جيروم وكان هو الطالب المفضّل عنده. ويمكن تبيّن تأثير أستاذه عليه من خلال تبنّيه الرسم الأكاديميّ ثم المواضيع الاستشراقية. وما من شكّ في أن رحلات جيروم إلى الشرق عام 1850 شجّعت بريدجمان على أن يسافر إلى هناك مقتفياً خطى معلّمه.
رحلة بريدجمان إلى كلّ من مصر والجزائر بدأها عام 1872. وقد وفّرت له تلك التجربة مصدر إلهام دائم. ورسم خلال رحلته تلك أكثر من ثلاثمائة اسكتش كانت الأساس للعديد من اللوحات الزيتية التي نفّذها في ما بعد.
وفي عام 1890، ألّف بريدجمان كتابا بعنوان "شتاء في الجزائر" ضمّنه العديد من الرسومات والقصص التي لا تُنسى عن أسفاره وخبراته الفريدة في ذلك البلد. وقد سُمح له بدخول بيوت الحريم ورسم ما رآه تقريبا ولم يعتمد على ذاكرته مثلما فعل معاصروه من الفنّانين.
وأثناء رحلاته جمع الرسّام ملابس وأدوات فنّية وتراثية ومعمارية زيّن بها منزله في باريس، لدرجة أن بيته صار مزارا للكثير من الفنّانين. واهتمامه الشديد بالأزياء والإكسسوارات وأنماط الحياة اليومية في الجزائر خاصّة يوفّر سجلا قيّما عن بعض سمات الثقافة الجزائرية في مرحلة انفتاح بلدان المنطقة على الغرب.
في هذه اللوحة، يصوّر بريدجمان جانبا من أنشطة الحياة اليومية في فناء منزل ريفيّ زاره في ولاية بسكرة جنوب شرقي الجزائر. كانت الولاية مشهورة بصناعاتها اليدوية وبساطة الحياة فيها.
وفي اللوحة تظهر امرأتان تقومان بأعمال التطريز بصحبة امرأة ثالثة وخادمة سمراء. المرأة الجالسة أمام طاولة النسيج تعالج الخيط، بينما تراقبها الفتاة الصغيرة باهتمام. وخلفهما تقف فتاة أخرى تمسك بباقة أزهار. وإلى اليسار مائدة مذهّبة عليها عنب وتين.
وفي الخلف يمكن رؤية غزالة تستريح تحت الجدار. والرسّام يضمّنها في اللوحة باعتبارها رمزا لجمال المرأة في الثقافة العربية. وهناك أيضا نافورة وعمود من الرخام ذو طراز أنيق.
ومن الأشياء الأخرى التي تلفت الانتباه الأقدام العارية للنساء والحرّية التلقائية التي يتصرّفن بها والملابس الملوّنة واللمّاعة. وكلّ هذه العناصر فيها إشارة إلى الحواسّ الخمس وإلى جاذبية ونبل الأنثى.
كان بريدجمان قد كتب عدّة تحقيقات عن تجربته في الجزائر ونشرها في مجلّتي اتلانتيك وهاربر الأمريكيّتين. وهو كان مفتونا بالديكور المغاربيّ الذي رآه في منازل الجزائريين الأثرياء. وبعض لوحاته عن تلك البيوت تذكّر بأجواء ألف ليلة وليلة.
كما كتب بإسهاب عن التأثير الكلاسيكيّ، الإغريقيّ خاصّة، على المعمار المغاربي من خلال أشكال الأعمدة والأبواب المقوّسة. وأيضا أشار إلى أن المعماريين العرب عدّلوا وحسّنوا ما وجدوه وأضافوا إليه الكثير من الحيوية الفنّية عبر توظيف الأنماط الهندسية التجريدية والعناصر الزخرفية.
من بين أكثر أعمال بريدجمان الأخرى احتفاءً لوحته منظر لزقاق جزائريّ ولوحة أخرى بعنوان لعبة مثيرة . في اللوحة الأخيرة، يتذكّر الفنّان احد مقاهي القاهرة ويرسم تفاصيله المعمارية وأزياء روّاده. والصورة تُظهِر رجلين يلعبان الشطرنج بحضور رجل ثالث وامرأة.
وقد رسم هذا المنظر عندما عاد إلى باريس، وضمّنه تذكارات أخذها معه من رحلاته إلى الجزائر. تَعامُل بريدجمان البارع مع الضوء والظلّ في هذه اللوحة وتصويره غير النمطيّ للأشخاص، بتوظيفه الحركات والأوضاع والإيماءات كأدوات تعبيرية، كلّ ذلك أكسبه ثناء وإعجاب النقّاد.
ولد فريدريك آرثر بريدجمان في ولاية الاباما الأمريكية عام 1847 لأب كان يعمل طبيبا. وفي البداية درس الرسم في مدرسة بروكلين للفنون، ثم سافر إلى باريس عام 1866 حيث تعرّف فيها إلى جان جيروم الذي كان له تأثير كبير في توجيه مساره الفنّي.
بعد الحرب العالمية الأولى، استقرّ بريدجمان في منطقة النورماندي. ورغم انه استمرّ يرسم هناك، إلا انه توقّف عن عرض أعماله على الجمهور. وقد توفّي في روين عام 1928 وسط تجاهل تامّ تقريبا من النقّاد والصحافة.