Thursday, May 21, 2009

لوحات عالميـة - 197

شـارب الأبسـنـث
للفنان التشيكي فيكتـور اوليفـا، 1903

رغم شهرة هذه اللوحة، فإن فيها جانبا غير مألوف وهو أنها غير موجودة في متحف أو صالة لعرض الأعمال الفنية، وإنّما في مقهى تاريخي مشهور يقع في وسط براغ عاصمة جمهورية التشيك.
اللوحة تتحدّث عن مشروب يسمى الابسنث (وبالعربية الشيح أو شجرة مريم) يُستخلص من نبات ذي رائحة عطرية ومذاق شديد المرارة ينمو عادةً في المناطق الصخرية والصحراوية.
وقد ذكره الطبيب الفيلسوف علي ابن سينا في بعض كتبه، وكان يصفه لمرضاه كعلاج لبعض اعتلالات الجهاز الهضمي.
غير أن النبات يكتسب خواصّ مُسْكرة إذا ما تمّ خلطه بأعشاب وموادّ أخرى عن طريق التقطير.
الرسّام فيكتور اوليفا اعتاد تعاطي الابسنث في مقهى كافيه سلافيا في براغ، كما يشير إلى ذلك في مذكّراته. وكان قد تعرّف على الشراب أثناء إقامته بحي مونمارتر الباريسي حيث كان آنذاك جزءا من مجتمع الفنانين فيها.
وكان أوّل من توصّل إلى تركيبة الابسنث طبيب فرنسي في القرن الثامن عشر. وبعد ذلك أصبح شرابا يحظى بشعبية كبيرة في فرنسا وخارجها.
بعض الفنانين وصفوا تأثير الابسنث بأنه يجلب حالة من السُكْر الشفّاف الذي يفتح الذهن ويصفّي الحواسّ ويحفّز شاربه على الدخول إلى عالم الأفكار والتأمّلات العميقة.
وقد عرفه الانطباعيون الفرنسيون الذين كانوا يجلبونه من السوق السوداء حيث كان يباع سرّا بعد أن تمّ حظره عقب تسبّبه في بعض حالات العنف والهلوسة وحتى الانتحار.
يروي اوليفا انه كان جالسا ذات يوم في المقهى مع امرأة صديقة يتناولان الشراب. وعندما أمسك بالكأس ونظر خلاله رأى صورة المرأة الجالسة أمامه وقد اتّخذت هيئة جنّية خضراء بدت وكأنها تسبح داخل الكأس.
وقرّر اوليفا أن ينقل هذه الصورة الذهنية على الورق، فرسم نفسه جالسا إلى طاولة في المقهى كما رسم المرأة بعد أن تحوّلت إلى شبح امرأة خضراء عارية.
الذي يتمعّن في هذه القصّة لا بدّ وأن يتخيّل طبيعة الابسنث وما يقال عن تأثيره الفتّاك على عقل ووعي من يتناوله.
ويقال بأن العديد من الفنانين كانوا يتعاطونه لاعتقادهم بأنه يعدّل المزاج ويستحثّ الإلهام ويعزّز المقدرة الإبداعية ويستثير عند متعاطيه حالة من التجلّي والصفاء الذهني. ومن أشهر هؤلاء بيكاسو وسيزان وفان غوخ وتولوز لوتريك وإدفارد مونك وغوغان. وقد رسم كلّ من بيكاسو وديغا ومانيه لوحات تتّخذ من هذا الشراب موضوعا لها وتحمل نفس اسم هذه اللوحة. وفي هذه اللوحات يبدو متعاطو الابسنث في حالة من التوحّد والشرود، ليس لأنهم غائبون عن الوعي كليّاً، وإنما بتأثير التهويمات والخيالات الكثيرة التي يفترض أنهم يرونها أثناء تناول الشراب.
البيرت مينان رسم أيضا لوحة أخرى عن الموضوع تصوّر شاعرا في حالة استسلام لإغواء امرأة خضراء. وقد ارتبط الابسنث دائما باللون الأخضر الناتج عن محتوى الكلوروفيل في النبات الذي يستخلص منه. ومن ذلك اللون ظهرت أسطورة الجنّية الخضراء التي يراها المتعاطي عند تناوله كمّية كبيرة من الشراب، والتي أصبحت صورة مجازية لشيطان الخلق والإلهام.
الابسنث ارتبط دائما بالحياة البوهيمية. ويقال أن تأثيره الأسطوري يعود إلى تركيزه الكحولي الهائل والقريب الشبه بالماريوانا.
وهناك بعض الروايات التي تقول إن فان غوخ أقدم على قطع أذنه تحت تأثير الشراب الرهيب، وأن الغلالات الخضراء الشاحبة التي تظهر في بعض لوحاته يمكن أن تُعزى، ولو جزئيا، إلى إدمانه للابسنث.
في هذه اللوحة ليس هناك الكثير مما يسترعي الانتباه. هيئة النادل القادم من بعيد بمشيته المتعثّرة تبدو طريفة بعض الشيء. ونظراته التي لا تخلو من تعابير الدهشة توحي بأنه هو أيضا يرى المرأة المتحوّلة، ما يعطي الانطباع بأنه ربّما يكون هو نفسه واقعا تحت تأثير الشراب.
من أشهر من كانوا يتعاطون الابسنث من الأدباء والكتّاب ارنست همنغواي وإدغار ألان بو واوغست ستريندبيرغ، بالإضافة إلى اوسكار وايلد الذي وصف تأثيره بقوله: بعد الكأس الأولى ترى الأشياء كما تتمنّى أن تكون. وبعد الكأس الثانية ترى الأشياء خلاف ما هي عليه. وأخيرا ترى الأشياء كما هي بالفعل. وهذا من أكثر الأمور فظاعة في العالم".
علاقة الإبداع بالنشاط العصبي الناتج عن تناول الموادّ المسكرة والمؤثّرة في الوعي موضوع قديم جدّا ويحيطه الكثير من الجدل والغموض. الإغريق، مثلا، كان عندهم ديونيسوس، أو باخوس، إله الخمر وملهم الطقوس الجنونية الذي يحرّر الأشخاص من أنفسهم من خلال الشراب وما يثيره من نشوة وإلهاب للمخيّلة. وبعض الجماعات البدائية كانت ترى في المسكرات جانبا روحيا وتستخدمها في طقوسها الدينية. وممّا يروى عن الشاعر الروماني القديم هوريس قوله إن القصيدة لا تبهج سامعها ولا تدوم طويلا ما لم تكن مكتوبة بالنبيذ. وبودلير كان يتحدّث كثيرا عن تأثير الأفيون في كتاباته. وتينيسي وليامز كان معروفا هو الآخر بولعه الشديد بتناول الكحول والمخدّرات أثناء الكتابة.
الفنان فيكتور اوليفا ولد في بوهيميا بالتشيك ودرس في أكاديمية براغ للفنون ثم في أكاديمية ميونيخ. وخلال وجوده في باريس تبنّى تيّار الرسم الحديث.
وفي ما بعد عمل مديرا للتصوير في عدد من الصحف التشيكية. وتناول في لوحاته الطبيعة والأشخاص كما وضع رسوما إيضاحية لعدد من الروايات وكتب الشعر.
في السنوات الأخيرة أصبح الابسنث مسموحا به في العديد من بلدان العالم، وبذا فقَدَ صفته كفاكهة محرّمة ونُزعت عنه تلك الهالة من الغموض التي لازمته طويلا. وهناك أنواع كثيرة منه بدرجات متفاوتة من الجودة. كما أن لتناوله طقوسا خاصّة. غير أن كثيرا من الأطباء يؤكّدون احتواءه على مركّب كيماوي غامض يجلب الاكتئاب ويؤدّي إلى نوبات من التشنّج والإغماء والهلوسة. كما أن هناك كتبا عديدة تتحدّث عن الابسنث وتتناول مخاطره وأضراره من أهمّها كتاب "الابسنث البشع : تاريخ للشيطان في زجاجة" للكاتب البريطاني جاد أدامز.
لكنّ كلّ هذه المحاذير والأخطار لم تمنع محبّي الشراب ومتعاطيه، وبينهم فنانون وشعراء وعلماء وخبراء تقطير، من تأسيس جمعية لهم على الانترنت يجتمع أعضاؤها سنويا ليتدارسوا سبل الترويج للابسنث وعكس الانطباع السلبي الذي استقرّ في أذهان الناس عنه وعن مخاطره.

Monday, May 18, 2009

لوحات عالميـة - 196

علـى ضفـاف البحيـرة
للفنان الياباني سايكـي كـورودا، 1896

تُعتبر هذه اللوحة أحد أكثر الأعمال الفنية شهرة واحتفاءً في اليابان. وقد أصبحت منذ ظهورها في أواخر القرن التاسع عشر رمزا للثقافة وللروح اليابانية المعاصرة. فهي حاضرة دائما في المناهج الدراسية وعلى طوابع البريد. كما كُتبت فيها قصائد شعر وكانت موضوعا للعديد من الدراسات والنقاشات الأكاديمية التي تناولت أهمّيتها في الثقافة اليابانية والسياق التاريخي الذي ظهرت فيه.
وجانب من أهمّية اللوحة وشهرتها يعود إلى طبيعة الظروف التاريخية التي كانت تمرّ بها اليابان حوالي منتصف القرن التاسع عشر. فقد كان النظام الإقطاعي القديم الذي اتسم حكمه بالتوتّرات السياسية والأزمات الاقتصادية يعيش سنواته الأخيرة.
وكانت اليابان تتأهّب لاستقبال حكم الميجي الذي أتى بالإمبراطور موتسوهيتو إلى السلطة والذي دشّن في عهده حقبة جديدة من الاستقرار السياسي والتنوير الثقافي والتحديث الاقتصادي والانفتاح التجاري والثقافي على الغرب.
وكان الرسم في ذلك الوقت وسيلة مهمّة في تعزيز الانفتاح الثقافي على الخارج من خلال تصويره لجوانب من حياة اليابانيين التي لم تكن معروفة من قبل للكثيرين خارج اليابان.
وقد تزعّم سايكي كورودا هذا الاتجاه لدرجة انه صار يُلقب بأبي الرسم الياباني على الطريقة الغربية.
في مستهلّ شبابه، ذهب كورودا إلى باريس لدراسة الرسم هناك. في ذلك الوقت كان الانطباعيون يحكمون سيطرتهم على المشهد الفنّي الباريسي وكانت اسماء رينوار ومونيه وغيرهما من رموز الانطباعية تتردّد على كلّ لسان. ووجد الرسّام نفسه جزءا من الحركة الجديدة فقرّر إتباع الأسلوب الانطباعي في الرسم. وقد قضى في فرنسا عشر سنوات درس خلالها على يد رافائيل كولين الذي كان مشهورا برسم نساء عاريات في طبيعة مائية.
وأثناء إقامته في فرنسا، رسم كورودا هذه اللوحة التي حققت وقتها نجاحا ساحقا أهّله لنيل أكثر من جائزة بالإضافة إلى ثناء النقّاد.
اللوحة تصوّر امرأة تجلس على ضفّة بحيرة وترتدي اللباس التقليدي الياباني المسمّى بالكيمونو بينما تمسك بيدها مروحة. وفي خلفية اللوحة تلوح طبيعة من الجبال والتلال الخضراء.
من الواضح أن كلّ العناصر التي تتضمّنها اللوحة يابانية بامتياز: ملامح المرأة، ثيابها، أسلوب تصفيف شعرها والمروحة ذات النقوش والزخارف المصمّمة على الطراز الياباني.
براعة الرسام تبدو واضحة في استخدام الألوان والضوء والظلال. أيضا طريقته في تمثيل مياه البحيرة وانعكاسات الألوان والظلال على سطحها تشي هي الأخرى بقدر غير قليل من المهارة والإتقان.
هناك أيضا ملامح المرأة الوقورة ونظراتها المتأمّلة التي تعطي انطباعا بالهدوء والسكينة وربّما التذكّر والتوق.
المرأة والبحر ثيمة ظلّت تتكرّر باستمرار في الفنّ. ولطالما تنافس الرسّامون في تصوير مناظر لطبيعة بحرية تتضمّن عناصر نسائية في أجواء تعطي شعورا بالرومانسية أحيانا وبالهدوء والتأمّل أحيانا أخرى. ومن أشهر من تناولوا هذه الفكرة جون ووترهاوس وكلود مونيه وجون سيمونز ووليام بوغورو وبيير رينوار.
كان سايكي كورودا سليل عائلة من الساموراي أو قدامى المحاربين الذين كانوا مقرّبين تقليديا من النخب الحاكمة.
وكان هو أكبر إخوته وقد نشأ في بيئة توفّر لها من عوامل الثراء والنفوذ ما لم يتوفّر لغيرها. فعمل على تثقيف نفسه بالقراءة والاطلاع ودرس اللغات الأجنبية وأتقن الانجليزية والفرنسية.
ويقال إن تأثيره في الفنّ الياباني لا يشبه تأثير أيّ فنان آخر. فإليه يعود الفضل في إعادة صياغة أسلوب الرسم الياباني القديم وإعطائه نكهة غربية.
وهو الذي اقنع الجمهور الياباني، لأوّل مرّة، بقبول الرسوم العارية كموضوع في الفنّ بعد أن كان اليابانيون ينفرون من مناظر العري ويعتبرونها دخيلة على تقاليدهم وأعرافهم المحافظة.
بعد سبع سنوات من ظهور هذه اللوحة في باريس، تمّ عرضها في طوكيو. وقد أثارت هناك الكثير من النقد لأنها اعتبرت خروجا واضحا على تقاليد الرسم الواقعي الياباني.
عندما عاد كورودا إلى اليابان عُيّن رساما للبلاط الإمبراطوري ومديرا لأكاديمية الفنون الجميلة ثم عضوا في مجلس الأعيان. وأدّى انصرافه للعمل السياسي والأكاديمي إلى تقليل نشاطه الفنّي فأصبح لا يرسم إلا نادرا.
وعندما توفي في العام 1924 منحته الدولة وساما عاليا وأمرت بجمع لوحاته، بما فيها هذه اللوحة، وإيداعها في متحف أقيم تكريما له وحمل اسمه.