Thursday, January 18, 2018

لوحات عالميـة – 442

بورتريه سيلفيـا فـون هـاردن
للفنان الألماني اوتـو ديكـس، 1926

في أوائل عشرينات القرن الماضي، كانت ألمانيا تمرّ بتغييرات اجتماعية كبيرة، خاصّة على صعيد علاقات الجندر ونظرة المجتمع إلى المرأة.
وقد ظهر وقتها مفهوم المرأة الجديدة (أو نيو فراو بالألمانية)، الذي يشير إلى النساء اللاتي تخلّين عن القناعات التقليدية حول مكانة ودور المرأة ونظرتها إلى العمل.
كانت المرأة الجديدة تتصرّف خارج إطار ما حدّده المجتمع لها من ادوار مسبقا، فأصبحت تدخّن وتولي اهتماما اكبر بوظيفتها ولا تُظهر اهتماما كبيرا بالزواج أو بناء أسرة.
وكان من بين النساء اللاتي قُدنَ هذا الاتجاه في برلين شاعرة وكاتبة صحفية وناقدة سينمائية تُدعى سيلفيا فون هاردن. كان لفون هاردن حضور فاعل في الصحافة آنذاك وكانت تكتب مقالا أدبيّا في إحدى المجلات الشهرية المعروفة.
الفنّان اوتو ديكس، الذي كان من ابرز رسّامي تلك الفترة، كان قد تعرّف على الشاعرة في مقهى مشهور في برلين كان يتردّد عليه الفنّانون والأدباء. وكان ديكس يرى في هاردن صورة للمرأة الجديدة ورمزا لمرحلة مهمّة في مسار التغيير الاجتماعي. وكان معجبا بكتاباتها وأفكارها، لذا طلب منها أن يرسم لها بورتريها.
وقد كتبت الشاعرة في ما بعد مقالا تشرح فيه قصّة هذا البورتريه الذي أصبح مشهورا. وقالت في ذلك المقال: طلب منّي ديكس أن يرسم لي لوحة، فقلت له: أنت تريد أن ترسم عينيّ الباهتتين وأنفي الطويل وشفتيّ الرقيقتين وساقيّ القصيرتين وقدميّ الكبيرتين. وهذه الأشياء ستخيف الناس منّي، وأكيد لن تجلب لهم السرور".
لكن الرسّام أصرّ على طلبه. وعندما أتمّ عمله، أصبح البورتريه رمزا للجيل الجديد من النساء اللاتي لا يعوّلن على الجمال الخارجيّ وإنّما على الحالة النفسية والذهنية للمرأة.
في البورتريه، رسم الفنّان الكاتبة كامرأة مثقّفة وعصرية ومستقلّة. وهي تجلس باسترخاء في المقهى، قَصّة شعرها حديثة، كما أنها تدخّن أمام الملأ نوعا من السجائر الروسية.
فون هاردن في الصورة تبدو امرأة متحرّرة بملامح اندروجينية "أي لا هي برجل ولا بامرأة"، كما أنها ترتدي فستانا يتناسب مع قِوامها ويهيمن عليه اللون الأحمر وتزيّنه أنماط مربّعة سوداء ورمادية تعكس الشكل العصريّ للأنوثة. لكن الفستان لا يُظهر شيئا من ملامحها الجسدية التي تدلّ على أنها امرأة.
والرسّام يؤكّد على فردانية الشخصية. فهي تجلس على طاولة لشخص واحد، أي أن كلّ اهتمامها مركّز على وظيفتها ولا يشغلها ولا يهمّها أن تكون برفقة أشخاص آخرين.
كما انه ليس في يدها خاتم زواج، ما يشي بأنها ما تزال عزباء، وكأنها لا تريد أن تثقل كاهلها بمسئوليات الزوج والأطفال. ولأنها غير متزوّجة، فإنها تملك من الوقت ما يكفي لأن تقضي بعضه في المقهى لتدخّن وترفّه عن نفسها بدلا من الاهتمام بشئون المنزل.
كما أنها تضع على عينها اليمنى عدسة مكبّرة. وهذا النوع من النظّارات كان مرتبطا أساسا بالرجال، ونادرا ما كانت تستخدمه امرأة. لكنها تضع العدسة لأنها تريد أن ترى عملها وتركّز عليه بشكل أفضل.
اللوحة في عمومها تبدو مثل كاريكاتير، والمرأة تظهر تقريبا في هيئة رجل. وحتى قصّة شعرها تبدو ذكورية، والدليل الوحيد على أنها امرأة هو الفستان الذي ترتديه. ومن الواضح أنها لا تحاول أن تبدو جميلة ولا يهمّها أن يرتسم على وجهها اثر تكشيرة بدلا من ابتسامة.
كان اوتو ديكس يريد من تصويره للمرأة أن يرسم التحوّلات الاجتماعية التي كانت تشهدها بلاده. ويمكن القول أن اللوحة هي صورة ألمانيا الجديدة في عصر ما بعد الحرب العالمية الأولى.
لفون هاردن ديوانا شعر والعديد من المقالات التي نشرتها في الصحف. وقد غادرت الكاتبة ألمانيا عام 1933 واتخذت من انجلترا منفى اختياريا، ومن هناك استمرّت تكتب للصحف الألمانية حتى وفاتها عام 1963.
ولد اوتو ديكس في ديسمبر من عام 1891 لأبوين من الطبقة الوسطى. ولأن أمّه كانت تكتب الشعر وتهوى الأدب، فقد تأثّر الابن بذلك وأصبح منذ صغره يميل إلى الفنون.
ثم تتلمذ على يد ابن عمّه الذي كان رسّاما. وقد علّمه وشجّعه على تحقيق طموحه الفنّي. ثم عمل مع رسّام آخر يُدعى كارل سنيف. وبعد فترة، سجّل كطالب في أكاديمية درسدن للفنون. وكانت أوّل لوحات رسمها عبارة عن مناظر للطبيعة.
وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى، تطوّع ديكس للخدمة في جيش بلاده. وأثناء ذلك نال عددا من الرتب والأوسمة. وفي عام 1918، أصيب بجرح في رقبته تسبّب في تركه الخدمة. وقد تأثّر ديكس كثيرا بما رآه من ويلات الحرب وسجّل بعضها في العديد من صوره.
وعندما جاء النازيّون إلى السلطة، اعتبروه فنّانا منحلا ثم طردوه من وظيفته كأستاذ للفنّ في أكاديمية دريسدن. فاضطرّ للانتقال إلى مدينة أخرى واستمرّ يرسم صورا رمزية تنتقد الحكم النازيّ.
وفي عام 1939، اعتُقل الرسّام ووُجّهت له تهمة الاشتراك في محاولة لاغتيال هتلر، لكن تمّ إطلاق سراحه في وقت لاحق. وبعد زوال النازيّة، أعيد له الاعتبار ومُنح جوائز عدّة من بينها جائزة من مؤسّسة غوته.
توفّي اوتو ديكس في يوليو 1969 إثر إصابته بجلطة في الدماغ.

Sunday, January 14, 2018

لوحات عالميـة – 441

وليمـة كليـوباتـرا
للفنان الايطالي جيوفـاني باتيـستا تيـابولـو، 1744

كان جيوفاني باتيستا تيابولو احد أشهر الرسّامين في أوربّا في القرن الثامن عشر. صوره المتخيّلة التي تصوّر تاريخ وأساطير العالم القديم وقصص الكتب المقدّسة كانت تحظى بشهرة واسعة بسبب لغتها المسرحية والفخمة. وقد عُدّت تلك اللوحات امتدادا لتقاليد عصري الباروك والروكوكو.
عُرف تيابولو بتمثيله الرائع للملابس المترفة والأبنية المعمارية الفخمة. وأوّل لوحاته كانت سلسلة من الصور الضخمة التي رسمها لتزيّن غرفة استقبال واسعة في احد قصور فينيسيا، وهي تصوّر معارك قديمة ضمّنها صورا لتماثيل وملابس غرائبية وأفعال عنيفة.
وربّما كانت أعظم أعماله هي الجداريات التي رسمها لبعض كنائس وأديرة فينيسيا ولعدد من القصور والفيلل في ألمانيا وايطاليا وإسبانيا.
في هذه اللوحة، يتناول تيابولو قصّة مشهورة من التاريخ ذكرها المؤرّخ الرومانيّ بليني في كتابه "التاريخ الطبيعيّ". والقصّة تتناول رهانا مشهورا بين القائد الرومانيّ مارك انطوني والملكة المصرية كليوباترا حول أيّ منهما يستطيع أن يقيم وليمة اكبر من وليمة الآخر.
كان الجنرال مارك انطوني قد قابل كليوباترا في مدينة طرطوس عام واحد وأربعين قبل الميلاد. وقد وقع في هواها من النظرة الأولى بعد أن كانت عشيقة ليوليوس قيصر. وكانت تظنّ أن علاقتها بأنطوني ستعزّز سلطتها في بلدها مصر.
وقضى الاثنان معا شتاء ذلك العام في الاسكندرية. وبعد وليمة عامرة أقامها لها انطوني، راهنته على أن تنظّم وليمة أفخم من وليمته. وكان انطوني يريد أن يعرف ما الذي تنوي فعله، خاصّة وهو المعروف ببذخه الشديد الذي لا ينافسه فيه احد.
وقد أقامت له كليوباترا وليمة، وفي نهايتها نزعت لؤلؤة من قرط كانت تزيّن به أذنها ووضعتها في كأس مملوء بالنبيذ الممزوج بالخلّ. وبعد أن ذابت اللؤلؤة، تناولت الكأس من أمامها ثم شربته. وكانت تلك اللؤلؤة أغلى لؤلؤة في التاريخ وقد أُهديت لها من بعض ملوك الشرق الذين عرفوها.
وفي نهاية المأدبة، اعترف مارك انطوني بأنها كسبت الرهان، لأن تلك اللؤلؤة كانت أغلى بكثير من أيّ شيء آخر يمكن أن يُقدَّم على مائدة.
وبعد الحادثة، هجر مارك انطوني زوجته في روما وانتقل ليقيم مع كليوباترا في الاسكندرية، ومن ثَمّ بدأت أشهر قصّة حبّ في التاريخ.
لكن في عام واحد وثلاثين قبل الميلاد، قام اوكتافيان الحاكم الفعليّ لروما وقتها بإلحاق الهزيمة بجيشي مارك انطوني وكليوباترا في معركة اكتيوم على الساحل الغربيّ لليونان.
وبعد أن خسرا المعركة، عاد الاثنان إلى الإسكندرية حيث أقدم انطوني على الانتحار ومات أخيرا في حضن كليوباترا. ولم يمضِ وقت طويل حتى انتحرت كليوباترا نفسها بلدغة أفعى سامّة كانت تخبّئها في سلّة تين.
في اللوحة، تجلس كليوباترا على طرف المائدة الأيسر، وهي ترتدي فستانا زهريّا بياقة بيضاء واسعة وعلى حجرها كلب صغير. وهي تهمّ بإلقاء اللؤلؤة في الكأس، بينما تنظر بتحدٍّ إلى مارك انطوني الذي يظهر معتمرا خوذة قتال مذهبّة ومرتديا ملابس حمراء، وأسفل منه يجلس كلب ضخم يتابع ما يجري. القائد الرومانيّ يعطي ظهره للناظر، وهو يتراجع إلى الوراء مأخوذا بالمفاجأة.
الشخص الثالث على المائدة، في الوسط، هو لوسيوس بلانكوس الذي يرتدي لباسا بألوان خضراء وصفراء وبيضاء وله لحية كثّة، وقد راح يحدّق في المرأة بفضول. كان بلانكوس وقتها حليفا لأنطوني، وهو الشخص الذي اختير محكّما للمسابقة وبالتالي سيقرّر من الرابح.
الحفل نفسه يجري في الهواء الطلق وسط تفاصيل معمارية فخمة، بينما يظهر في الخلفية جزء من السماء وتحتها شرفة عالية. والمكان يضمّ خدما ومستشارين وسقاة وحرّاسا، وفوق الشرفة العالية المطلّة على البحر يقف حرّاس آخرون وموسيقيون.
اللوحة تحمل سمة الأسلوب المسرحيّ لباولو فيرونيزي الذي عاش قبل ذلك الوقت بمائة عام تقريبا وكان هو أيضا مشهورا بمناظره التي تكثر فيها المآدب الفخمة والصروح العالية.
قصّة وليمة كليوباترا ذُكرت في أشعار شكسبير وفي أدب برنارد شو وفي السينما والأفلام. وفي الرسم صُوّرت القصّة كرسالة تحذير من البذخ والإسراف غير الضروريّ، وأحيانا كإشارة إلى مصير الرجال الأقوياء والنافذين الذين يسلّمون قيادهم للنساء فيهملون مسئولياتهم.
قصّة مارك انطوني وكليوباترا كانت موضوعا شعبيّا بالنسبة لرسّامي القرن الثامن عشر لأنها تتضمّن عدّة عناصر، ففيها رومانسية وحرب وفخامة عسكرية ومأساة وموت. كما أن الرسّامين وجدوا فيها أداة لتصوير الثنائيات الكلاسيكية كالذكر والأنثى والشرق والغرب. ومن أشهر من رسموها من الفنّانين كلّ من جيرارد دي ليريسي و شارل ناتوار و جان دي براي وغيرهم.
تيابولو رسم اللوحة كجدارية تصلح لتزيين الجدران أو السقف. وقد رسم أيضا لوحتين أخريين عن اللقاء الأوّل بين مارك انطوني وكليوباترا وهما محاطان بالحاشية وبتماثيل الآلهة.
في عام 1764، اشترت اللوحة كاثرين العظيمة ملكة روسيا، ثم انتقلت إلى متحف الارميتاج في سانت بطرسبورغ، إلى أن اشتراها تاجر فنون انجليزيّ عام 1932. ثم اشتراها منه متحف فيكتوريا الوطنيّ في ملبورن باستراليا عام 1933 مقابل خمسة وعشرين ألف جنيه إسترليني.
ويقال أن الناشيونال غاليري بلندن كان يطمح في شراء اللوحة، لكنه تنازل عنها في النهاية للمتحف الاسترالي كي يحسّن بها مجموعته من الأعمال الفنّية. وفي عام 2002، أُخضعت اللوحة لعملية ترميم شاملة.
ولد جيوفاني باتيستا تيابولو في فينيسيا في مارس من عام 1696. وقد تلقى دروسا في الرسم على يد والده في سنّ مبكّرة، ثم على يد الرسّام جورجيو لاتزاروني.
وعندما أصبح رسّاما مشهورا أصبحت قائمة زبائنه تضمّ أسماء ملك فرنسا وملك انجلترا وامبراطور روسيا الذين اقتنوا بعضا من صوره.
في عام 1761، طلب منه تشارلز الأوّل ملك اسبانيا أن يأتي إلى مدريد كي يرسم القصر الملكيّ فيها والذي اكتمل بناؤه حوالي ذلك الوقت. ورغم أن تيابولو كان قد صار عجوزا وقتها، إلا انه ذهب إلى اسبانيا لينجز المهمّة المطلوبة.
وعندما توفّي في مدريد في مارس 1770، كانت الموضوعات التاريخية والرمزية والأفكار الدينية قد أصبحت خارج الموضة لتفسح الطريق أمام النيوكلاسيكية. وبنهاية ذلك القرن، ومع سقوط الملكيات الأوربّية وتقلّص نفوذ المؤسّسات الدينية، أصبح فنّ تيابولو شيئا من الماضي. لكنه اليوم يتمتّع بالاحترام كواحد من أهمّ رسّامي القرن الثامن عشر وأحد آخر الرسّامين العظام من عصري النهضة والباروك.