Wednesday, May 27, 2009

لوحات عالميـة - 199

عـودة غيـر متوقّعـة
للفنان الروسي إيـليـا ريـبـيـن، 1884

لم يكن إيليا ريبين أحد أشهر رسّامي روسيا في القرن التاسع عشر فحسب، وإنما يمكن اعتباره مفكّرا سياسيا واجتماعيا وزعيما ثوريا كثيرا ما تردّد صدى أفكاره ومواقفه في أعمال الأدباء الروس الكبار في زمانه. وهناك من يضع اسمه جنبا إلى جنب مع أسماء تولستوي ودستويفسكي وغوركي وتشايكوفيسكي وريمسكي كورساكوف الذين كانت أعمالهم انعكاسا لروح ومزاج الشعب الروسي وتعبيرا عن همومه وتطلعاته.
ولوحات ريبين التي تجذب العين بقوّتها وإحكامها وبتفاصيلها وأجوائها المشحونة عاطفيا ودراميا تذكّر بطبيعة المجتمع الروسي وما كان يمرّ به من أحداث مصيرية وعاصفة خلال السنوات الأخيرة من حكم القياصرة.
ولوحته هنا يمكن اعتبارها احد أفضل الأعمال التشكيلية الروسية والعالمية، كما أنها توفّر مثالا ممتازا على تمكّن الفنان وبراعته في الإمساك بأدقّ وأصعب المواقف والانفعالات الإنسانية.
في اللوحة يصوّر ريبين المشاعر الإنسانية المتفاوتة لأفراد عائلة عاد والدهم من أحد معسكرات الاعتقال في سيبيريا بعد صدور عفو مفاجئ عنه.
في ذلك الوقت، كان كلّ من يُنفى إلى سيبيريا يعتبر في حكم الأموات. والكثيرون ممّن نُفوا إلى تلك الأرض الباردة والموحشة انتهى بهم الأمر إمّا إلى الموت أو الجنون أو الانتحار بعد أن تعرّضوا للجوع والتعذيب وشتّى صنوف القمع والإذلال بسبب معارضتهم للسلطة القيصرية.
وكان من عادة الأسر التي تعرّض بعض أفرادها للنفي أن تفرض ستارا من الصمت على مصيرهم وتحاول إقناع الأفراد الأصغر سنّا في العائلة بأن المفقود مات أو انه لن يعود أبدا.
وقد كان ما يحدث في معسكرات التعذيب تلك من أهوال وقصص مرعبة، سواءً في عهد القياصرة أو في العهود اللاحقة، موضوعا للكثير من الأعمال الأدبية لعلّ أشهرها رواية أرخبيل الغولاغ للروائي الروسي الكسندر سولجنتسين.
ولا بدّ وأن كلّ هذه القصص والوقائع كانت حاضرة في ذهن الرسّام وهو يخطّط لتفاصيل هذه اللوحة التي يمكن القول أنها عبارة عن قّصّة، لكنها مكتوبة بالفرشاة والألوان بدلا من الكلمات.
فقد عاد هذا الأب من منفاه السيبيري بشكل غير متوقّع إثر صدور عفو عنه بعد سنوات طويلة من الغياب. لكنه يعود بنفس منكسرة ووجه يعلوه الوجوم، بينما يبدو ممسكا بقبّعته ومتردّدا في الدخول إلى الغرفة حيث تجلس والدته وزوجته وطفلاه.
والدته العجوز لا تنكر ملامحه. لذا تهبّ واقفة من على كرسيّها تحت وقع المفاجأة وتتفرّس في وجه ابنها وكأنها غير مصدّقة ما تراه.
والزوجة المنهمكة في العزف على البيانو تتعرّف هي أيضا عليه، فتتوقّف عن العزف فجأة. إنها تتشبّث بالكرسي بينما تثبّت عينيها المرعوبتين على الرجل تحت تأثير إحساسها بالصدمة وعدم اليقين.
الابن الظاهر في أقصى يمين اللوحة يتعرّف هو أيضا على ملامح والده فتعلو وجهه ابتسامة هي مزيج من الفرح والذهول.
لكن البنت الصغيرة تنظر إلى ما يجري بشكّ واستغراب وربّما بخوف. فهي لا تتذكّر وجه والدها جيّدا. ويُحتمل انه بدأ رحلة النفي قبل أن تولد أو وهي بعدُ في سنّ صغيرة جدّا.
وعلى الباب تقف الخادمة وهي ما تزال تمسك بالمقبض بينما تبدو على وجهها علامات الجدّية والوقار بانتظار ما سيحدث لاحقا.
اختيار الفنان لأماكن الشخصيات في اللوحة، وهم أفراد أسرته الحقيقيون، ينمّ عن مهارة وإتقان عاليين. فالناظر يرى الوجوه من أيّ اتجاه ويلمس نوعية الانفعالات الظاهرة على ملامح كلّ شخص بطريقة مباشرة وواضحة.
هذه اللوحة يمكن اعتبارها دراسة نموذجية في طريقة التعبير عن تباين الانفعالات الإنسانية إزاء موقف أو حالة ما في لحظة معيّنة.
ومن الأمور اللافتة فيها براعة الرسّام في توزيع الظلّ والضوء. ورغم كثرة الظلال الداكنة التي تتوزّع على مساحة اللوحة معمّقة الإحساس بالقلق والتوتّر، فإن المشهد ما يزال يثير شعورا نسبيا بالارتياح بفعل لمعان اللوحة وسطوع الألوان في تلك المناطق التي يغمرها الضوء.
لكن بوسع الناظر إلى اللوحة أن يتنبّأ بما سيعقب هذه اللحظة المتجمّدة من الزمن وما سينجلي عنه المشهد بعد لحظات من صرخات فرح ودموع ابتهاج احتفالا بعودة الغائب ومعه انتهاء سنوات الآلام والمعاناة.
كان ايليا ريبين وما يزال مصدر إلهام للكثير من الرسّامين الروس. وقد عُرف على نحو خاصّ برسوماته للطبيعة والمواضيع الدينية وباهتمامه بتصوير متاعب الطبقة الفقيرة وبورتريهاته التي رسمها لأصدقائه من الكتّاب والمثقفين الروس وفي طليعتهم الروائي الكبير ليو تولستوي والموسيقي موديست موسوريسكي.
درس ايليا ريبين الرسم في أكاديمية سانت بيترسبورغ للفنون. وفي إحدى الفترات سافر إلى ايطاليا ثم استقرّ في باريس لبعض الوقت حيث اجتذبته لوحات مانيه وعقد صداقة مع الموسيقي الفرنسي كميل سان سونس. وفيها أيضا التقى ناتاليا نوردمان؛ المرأة التي أصبحت في ما بعد زوجته.
وعندما عاد الفنان إلى روسيا لم يستقرّ به المقام فيها طويلا. فسافر إلى فنلندا المجاورة حيث ابتاع فيها منزلا وأقام هناك بشكل دائم.
كان ريبين دائما مقاتلا من اجل الحرّية والمساواة والعدالة الاجتماعية. وعندما قامت ثورة أكتوبر الاشتراكية في العام 1917، فضّل البقاء في فنلندا رغم الإغراءات الكثيرة التي قدّمها له القادة الجدد لكي يعود.
ويبدو انه لم يعترف بالثورة ولم يتسامح مع العنف وسفك الدماء وعمليات الإعدام التي ارتكبها البلاشفة آنذاك.
وبعد وفاته في فنلندا عام 1930 وهو في سنّ السادسة والثمانين، تمّ تحويل منزله إلى متحف يضمّ لوحاته وأشياءه الخاصّة. غير أن هذه اللوحة وغيرها من لوحات ريبين انتقلت في ما بعد لتصبح من مقتنيات متحف تريتيكوف في موسكو.

موضوع ذو صلة: تولستوي بريشة ريبين

Sunday, May 24, 2009

لوحات عالميـة - 198

بورتريه الكونتيسـة آنـا دو نُـواي
للفنان الاسباني إغنـاثيـو ثولـواغـا، 1913

في بدايات القرن العشرين، لم يكن في فرنسا امرأة تنافس ما كان لـ آنا دو نواي من مكانة وشهرة. فقد كانت جزءا من مجتمع باريس المخملي، وكان صالونها الأدبي ملتقى لأهمّ الأدباء والكتّاب المعروفين آنذاك، مثل بول فاليري وجان كوكتو وادمون روستان واندريه جيد ومارسيل بروست.
كانت دو نواي شاعرة وروائية في نفس الوقت. بل كانت أوّل شاعرة في فرنسا تنال تكريما عاليا بمنحها وسام الأكاديمية الفرنسية بمرتبة الشرف. وقد عُرف عنها رعايتها للآداب والفنون وتأسيسها جائزة لأفضل النساء الكاتبات إبداعا وتميّزا.
كانت دو نواي امرأة ذات شخصيّة قويّة ومتنفّذة. وقد ساعدها على البروز أكثر انتماؤها إلى عائلة ارستقراطية من الأمراء والنبلاء.
ويقال إن قربها من مارسيل بروست دفعه إلى استلهام شخصيّتها في إحدى رواياته. وقد كان شديد الإعجاب بها، إلى حدّ انه وصفها في إحدى المناسبات بأنها ملكة فرنسا وأفضل شاعراتها.
وقد اجتذبت موهبة المرأة ومكانتها وجمالها عددا من الفنانين الذين رسموا لها بورتريهات ومن أهمّهم فيليب دي لازلو وجان لوي فورين، بالإضافة إلى اوغست رودان الذي نحت لها تمثالا نصفيا من المرمر هو اليوم من مقتنيات متحف المتروبوليتان في نيويورك.
غير أن هذه اللوحة التي رسمها لها اغناثيو ثولواغا، والموجودة اليوم في متحف بيلباو في مدريد، ظلّت دائما أشهر لوحة تصوّر الأميرة الشاعرة. بل إن هناك من يعتبرها من بين أفضل الأعمال التشكيلية التي ظهرت في القرن الماضي. وقد أنجز الفنان اللوحة أثناء إقامته في فرنسا. وفيها تبدو الكونتيسة دو نواي متّكئة على أريكة ومرتدية فستانا زهريا بينما طوّقت كتفيها العاريين بوشاح بنّي اللون.
نظرات المرأة الهادئة ووجهها الوسيم ذو الملامح الدقيقة وابتسامتها الخفيفة تنبئ عن طبيعتها الواثقة ومزاجها الشاعري والمتأمّل.
وعلى الأرضية هناك مزهرية وكتاب مفتوح وإلى جوارهما عقد ضخم ومجموعة من الكتب.
ألوان الغرفة الداكنة، الستائر ذات الألوان السوداء والأرجوانية والخلفية الزرقاء تحيل الناظر تلقائيا للتركيز على وسط اللوحة، أي على هيئة المرأة، بملابسها الفاتحة ولون بشرتها، التي تعكس تباينا مع بقيّة العناصر الأخرى في الغرفة.
تميّزت أشعار دو نواي بالغنائية وقوّة العاطفة وكثافة الصور. ومواضيعها تتمحور حول أفكار الحبّ والطبيعة والموت. وبعض قصائدها يغلب عليها الجانب الايروتيكي مع مسحة من العنف والمأساوية التي طبعت أشعارها المتأخّرة.
وبالإضافة إلى الشعر، ألّفت عددا من الروايات والقصص القصيرة. وكانت مصادر إلهامها مزيجا من ثقافة اليونان الوثنية وأفكار فريدريش نيتشه المتطرّفة.
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، تغيّر المشهد الأدبي كثيرا في فرنسا مع ظهور الداديّة والرمزية والسوريالية وموجة الأدب والفنّ الطليعي. ويبدو أن دو نواي وجدت صعوبة في التكيّف مع التغيير الجديد، ففضّلت الاحتفاظ بأسلوبها القديم.
وعندما توفيت في العام 1933 سار في جنازتها نخبة الأدباء والفنانين والساسة المعروفين في ذلك الوقت.
اليوم وبعد مرور حوالي مائة عام على وفاتها، لا يكاد احد يتذكّر الكونتيسة دو نواي إلا باعتبارها سيّدة ارستقراطية جميلة وصديقة للأدباء والكتاب في زمانها.
أما اغناثيو ثولواغا فقد عُرف بتأثّره بالرسّامين الأسبان الكبار. وبعض لوحاته لا يمكن تمييزها عن لوحات فيلاسكيز وإل غريكو. لكن بعضها الأخر يبدو أكثر شبها بـ دي غويا. فقد كان هو أيضا معنيا بتصوير الوجه الحقيقي لاسبانيا لكن ضمن منظور أكثر حداثة.
ومثل غويا أيضا، كان ثولواغا منجذبا لرسم مباريات مصارعة الثيران والغجر والمغنّين المتجوّلين والفلاحين وشعراء التروبادور.