Thursday, June 15, 2017

لوحات عالميـة – 397

متـآمـرون في اللَّيـل
للفنان الفرنسي ايتـيان دينـيه، 1923

تعود الجذور الأولى لفنّ الاستشراق إلى عصر النهضة. لكنّه لم يكتسب شهرة واسعة في أوساط جامعي الفنّ والنقّاد والجمهور إلا في بدايات القرن التاسع عشر، بسبب المزاج الرومانسيّ الذي كان سائدا في أوربّا آنذاك.
وهناك اتّفاق بين المؤرّخين على أن العامل الأهمّ الذي دفع بالاستشراق إلى مركز الصدارة كان غزو نابليون لمصر عام 1798، والذي أثار اهتماما كبيرا في أوربّا بالمنطقة العربية وثقافاتها المتنوّعة.
ونتيجة لذلك بدأ عدد من الرسّامين الأوربّيين، ومعظمهم فرنسيّون، بالتوافد على بلدان المشرق وشمال أفريقيا، حيث أنتجوا هناك العديد من الرسومات التي تناولت الحياة اليومية للناس مع صور لمساجد وقوافل وأسواق وخلافه.
ومن بين أهمّ الرسّامين الأوائل الذين تبنّوا الرسم الاستشراقيّ الفنّان الفرنسيّ الرومانسيّ الكبير اوجين ديلاكروا وزميله الرسّام الأكاديميّ جان ليون جيروم. لكن كان هناك رسّامون آخرون ذهبوا إلى الشرق وصوّروا جوانب مختلفة من حياة شعوبه وثقافاته.
ومن بين هؤلاء ايتيان دينيه الذي زار منطقة شمال أفريقيا، ثم أقام في الجزائر بشكل دائم بعد أن أحبّ شعبها وطبيعتها، وفيها اعتنق الإسلام وغيّر اسمه من ايتيان إلى نصر الدين دينيه.
وأكثر لوحات هذا الفنّان التي رسمها هناك يظهر فيها أطفال صغار وهم يلهون ويلعبون. كما تصوّر لوحات أخرى له مناظر غناء ورقص وبعض المظاهر الدينية.
في هذه اللوحة، يرسم دينيه مشهدا ليليّا لخمسة رجال غامضين يحملون الأسلحة. وظهور رجال بأسلحتهم يُعتَبر أمرا نادر الشيوع في مجموعة لوحات الرسّام. الرجال في الصورة يرتدون زيّا قبائليا موحّدا، وهم مجتمعون ليلا في مكان مظلم وكثير الأشجار.
و دينيه يترك للناظر حرّية أن يتوقّع ما الذي ينوي هؤلاء الرجال الخمسة فعله. سرّية المكان والتركيز الذي يبديه زعيم المجموعة، إلى اليسار، والذي يؤمي بيده باتجاه رفاقه، يقود المرء لأن يفترض أنهم يخطّطون لإعداد كمين ما.
وربّما يكونون صيّادين يستعدّون للانقضاض على فريسة. وهناك احتمال آخر بأن يكون الرجال الخمسة منهمكين في التخطيط لغارة على قبيلة مناوئة أو لعملية تهريب أو قطع طريق.
ومن الواضح أن الرسّام درس تعبيرات الأشخاص جيّدا قبل تنفيذ اللوحة. وهم يبدون متنبّهين ويقظين وأيديهم على بنادقهم، بينما يستمعون بحرص إلى توجيهات زعيمهم. الرجل إلى أقصى يمين الصورة وضعيّته تشير إلى أن دوره قد يكون الأهمّ وأن مهمّته تتطلّب أسلوب المباغتة والكُمون والحذر.
هذه الصورة توفّر مثالا على أسلوب دينيه في تصوير نمط الحياة في الصحراء من خلال مزج تقنية الكياروسكورو، أي التباين ما بين الضوء والظلّ، مع تقنيات الرسم الكلاسيكيّ.
وقد درس الفنّان وخطّط بدقّة تعبيرات الأشخاص الذين تبدو ملامح وجوههم مقرّبة، وكأنّما أراد أن يمسك بالروح البدوية للقبائل.
ونفس ملامح زعيم هذه المجموعة تظهر في لوحات أخرى للفنّان، كما انه مرسوم هناك بنفس الحركات والإيماءات التي يشير بها إلى رفاقه في هذه اللوحة.
صور المغامرات والصّيد في الصحراء كانت ذات شعبية كبيرة بين الرسّامين الأوربّيين الأوائل الذين زاروا الجزائر ومناطق شمال أفريقيا.
وكان من عادة دينيه عند رسمه مناظر لفرسان على ظهور الخيل أن يضفي على هذه الصور إحساسا بالنبل والدراما.
وباختيار الرسّام تخوم الصحراء الكبرى كخلفيّة للموضوع ووَضْع شخوصه في وسط اللوحة بدلا من الصخور الحمراء التي تظهر عادة في رسوماته الأخرى، فإنه يؤكّد على اهتمامه بإبراز هيئات وملامح هؤلاء الرجال الذين اختار أن يقيم له منزلا في وسطهم.
هذه اللوحة موجودة اليوم في إحدى المجموعات الفنّية الخاصّة، لكنّ مالكها الأوّل كان رجلا فرنسيّا وفنّانا كان يعرف دينيه. كما كان صديقا لأحد أعيان القبائل ويُدعى إبراهيم بن سليمان. وقد اعتاد دينيه على أن يلتقي بصديقيه وزوّار آخرين من محبّي ومشتري وهواة الرسم الذين كانوا يأتون إليه في منزله لمعاينة اللوحات التي كان يرسمها.
كان بعض المؤرّخين والنقّاد يصوّرون الفنّ الاستشراقي على انه دعاية ثقافية مضلّلة وأن وراءه أجندة استعمارية خفيّة. وهذا الوصف قد يكون صحيحا إلى حدّ ما، لكنه ليس صحيحا على إطلاقه. وهو ينطبق بوجه خاصّ على بعض الأعمال التي كانت تلعب على وتر التهويمات الايروتيكية لجامعي الفنون الأوربّيين والعوامّ على حدّ سواء.
ولد ايتيان دينيه في باريس عام 1861 لأب كان يعمل في القضاء. وقد درس الرسم في مدرسة الفنون الوطنية في باريس. وفي السنة التالية تعلّم على يد وليام بوغرو وفيكتور غالان. وكان من بين زملائه كارلوس دوران وبوفي دو شافان والنحّات اوغست رودان.
وقد وصل دينيه إلى الجزائر لأوّل مرّة عام 1884، وفي زيارة تالية لها في عام 1903 اشترى منزلا دائما في ضاحية بوسعادة. وبعد خمس سنوات أعلن اعتناقه للإسلام وأسمى نفسه نصر الدين. وفي عام 1929، ذهب إلى مكّة المكرّمة بصحبة زوجته لأداء مناسك الحجّ.
وطوال إقامته في الجزائر، ظلّ الرسّام يحظى باحترام ومحبّة الجزائريين. وعندما توفّي في يناير من عام 1930 عن تسعة وستّين عاما، سار الآلاف منهم في جنازته.