Saturday, March 17, 2018

لوحات عالميـة – 455

لقـاء على دَرَج القلعـة
للفنان الايرلندي فريـدريـك بيـرتـون، 1864

ارتبط الرسّام فريدريك بيرتون بحركة الفنّانين ما قبل الرافائيليين، وكان مثلهم يحترم المعلّمين القدامى ويميل إلى رسم أعمال تصوّر قصصا عاطفية أو ذات مضمون أخلاقيّ ووعظيّ. وغالبا ما كان يستلهم صوره من أفكار الأدب وأساطير القرون الوسطى.
هذه اللوحة تُعتبَر أشهر وأفضل أعمال الرسّام. وقد اختيرت عام 2012 كأفضل لوحة في ايرلندا. وفيها يصوّر حكاية دنمركية تعود إلى القرون الوسطى عن فتاة تُدعى ايليلا وقعت في حبّ احد حرّاسها الإثني عشر ويُدعى هيلدبراند.
لكن يبدو أن والد المرأة لم يكن راضيا عن تلك العلاقة، فأمر أبناءه الستّة بالتخلّص من الحارس قتلاً. لكن هذا الأخير اظهر انه خصم عنيد، فقتل والدها ثم قتل خمسة من إخوتها بينما أبقى على حياة الأخير، أي أصغرهم، بناءً على توسّلات ايليلا.
وقد مات هيلدبراند في ما بعد متأثّرا بجراح أُصيب بها أثناء تلك المبارزات. وبعد مقتله، قام شقيق المرأة الذي نجا من القتل بربطها إلى حصان ثم سحبها وسجنها داخل إحدى القلاع القديمة إلى أن ماتت بعد ذلك بفترة قصيرة.
وقد تجنّب الرسّام في اللوحة تصوير الدماء أو العنف الذي نتج عن ذلك الصراع مفضّلا أن يتبنّى تفسيرا ناعما للقصّة، فرسم لحظات الوداع الأخيرة والعابرة التي تخيّل أنها جرت بين وهيلدبراند وايليلا عندما تقابلا للمرّة الأخيرة على سلالم إحدى القلاع الحجرية بعد تلك الأحداث الأليمة.
وفي اللوحة يظهر الحارس وهو يلثم ذراع ايليلا ويهمّ باحتضانها. وبينما تشيح بوجهها عنه، تسقط أزهار بيضاء من يدها على الأرض في إشارة إلى العلاقة القصيرة التي ربطت بينهما والنهاية المفجعة التي آلت إليها.
موقف المرأة الضعيف يوحي بالحبّ المجهَض أو الممنوع. كما أن انعدام أيّ تواصل بالعيون ومنظر المرأة وهي على وشك سحب ذراعها والمغادرة، كلّ ذلك يشير إلى صعوبة وغموض اللحظة.
شخصية المرأة، خاصّة، تجذب الانتباه، وتصويرها من الخلف يُظهِر ثوبها وجزءا من وجهها فقط. والفستان الأزرق الذي ترتديه اسكندينافيّ الطراز مع فراء ابيض وزخارف لطيور. وهذه التفاصيل تذكّر بالأشياء القديمة من القرون الوسطى.
اهتمّ الرسّام بأدقّ التفاصيل في الصورة واستخدم فراشي ناعمة لإنتاج صورة واقعية، ووضع اسكتشات متعدّدة بالقلم الرصاص والألوان المائية وجرّب العديد من الألوان. وقد ترك توقيعه بالأحرف الثلاثة الأولى من اسمه مع تاريخ اللوحة في أسفل اليسار على الجدار.
رسم بيرتون هذه اللوحة وهو في قمّة مجده الفنّي. وقد بيعت في ما بعد إلى شخص يُدعى ادوارد وايت، ثم تعاقب على امتلاكها أشخاص عديدون طوال أربعين عاما.
وفي عام 1898، اشترتها امرأة تعرف الرسّام واسمها مارغريت ستوكس. وقبل وفاتها عام 1900، أوصت بأن تذهب الصورة مع عدد آخر من أعمال بيرتون إلى ملكية الناشيونال غاليري في ايرلندا والذي ما تزال فيه إلى اليوم.
لأن بيرتون لم يكن يتحمّل رائحة الألوان الزيتية، فقد رسم اللوحة بالألوان المائيّة. ولهذا السبب، وخوفا من أن يؤدّي تعريضها للضوء الطبيعيّ وعلى فترات ممتدّة إلى تآكلها وشحوب ألوانها، قرّر المتحف أن لا يعرضها سوى لساعة واحدة ولأربعة أيّام في الأسبوع، ثم تعاد إلى مكانها داخل خزانة خاصّة خلف أبواب موصدة. وهذا العامل أضفى على هذه الصورة مزيدا من الفتنة والغموض.
ولد فريدريك بيرتون في ايرلندا في ابريل 1816. وتلقّى تدريبه كرسّام في دبلن، ثم ذهب إلى انجلترا التي عُرف فيها واشتهر. ثم زار ألمانيا حيث قضى فيها ستّ سنوات كرسّام في بلاط ماكسيميليان الثاني ملك بافاريا.
وفي عام 1874، عُيّن مديرا للناشيونال غاليري في دبلن، وبقي في ذلك المنصب إلى أن تقاعد عام 1894. وفي عهده اشترى الغاليري حوالي خمسمائة لوحة، منها لوحات مشهورة مثل عذراء الصخور لدافنشي. وفي عام 188، منحته الملكة فيكتوريا وسام فارس تكريما له.
توفّي فريدريك بيرتون في كنزنغتون في لندن في مارس من عام 1900.

Monday, March 12, 2018

لوحات عالميـة – 454

فـي مطعـم مُـوكـان
للفنان الأمريكي وليـام غـلاكينـز، 1905

في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، ازدهرت في مدينة نيويورك مستعمرة فرنسية كانت تضمّ أفرادا من مختلف المهن والحرف، من موسيقيين وفنّانين ومثقّفين وطُهاة وما إلى ذلك. وفي تشيلسي خاصّة، اُنشيء عدد من المطاعم الفرنسية التي أصبحت ذات شعبية كبيرة في أوساط الأهالي، وكان أشهرها مطعم يُعرَف بـ مُوكان.
كان يرتاد هذا المطعم رجال أعمال وممثّلون وفنّانون وكتّاب ومثقّفون. وكان من بين هؤلاء الرسّام وليام غلاكينز وزميله الرسّام روبيرت هنري. وكان هذان الاثنان جزءا من حلقة من الرسّامين الذين كانوا يصوّرون في لوحاتهم تفاصيل المدينة من حولهم ويسجّلون حياة الشوارع وأنشطة الراحة والترفيه.
في هذه اللوحة، يرسم غلاكينز جان مُوكان زوجة مالك المطعم هنري موكان وهي تتناول شرابا مع شخص آخر صديق للعائلة يُدعى جيمس مور الذي كان يمتلك مقهى فرنسيا في الجوار.
المرأة ترتدي فستانا اخضر موشّى بالزخارف والزينة وقبّعة ضخمة سوداء وتضع في عنقها لؤلؤة سوداء كبيرة بينما تنظر هي وشريكها ناحية اليسار، كما لو أنهما يتابعان شيئا أو شخصا ذاهبا أو قادما.
وغلاكينز هنا يقلّد إدوار مانيه في لوحته المشهورة حانة في فولي بيرجير التي رسم فيها الشخصية أمام مرآة. ففي المرآة الضخمة على الجدار الخلفيّ، يظهر في الوسط انعكاس لصورة زوجة الرسّام نفسه من الخلف وهي جالسة مع ناقد فنّي يُدعى تشارلز فيتزجيرالد. وفي مقدّمة الطاولة بعض تفاصيل لحياة ساكنة.
جان موكان هي نقطة الارتكاز في المنظر. وقد رسم الفنّان فستانها مستخدما ضربات فرشاة سائلة، كما نقل إلى اللوحة نظراتها الغامضة والمتململة.
والرسّام يثبت هنا تميّز أسلوبه واستخدامه البارع للألوان واختياره موضوعا برجوازيّا. كان غلاكينز مهتمّا بتصوير حياة الليل الحديثة. وهو يقدم هاتين الشخصيتين بلا تعليق أو نقد، بل بحكم كونهما صديقين فحسب.
ومع أن المنظر يوحي بالمتع وسمات الحياة المعاصرة، إلا أن الرسّام انتُقد على تصويره سلوكا غير لائق يتمثّل في إظهاره رجلا وامرأة وهما يشربان الكحول. ومثل هذا المنظر كان مألوفا وقتها في الرسم الفرنسي، لكن الجمهور الأمريكي لم يكن قد تقبّل مثل هذه الأشياء بعد في الرسم.
كان غلاكينز قد استوعب الحداثة الفرنسية ووظّفها في محاولة لدفع الرسم الأمريكي إلى الأمام. وكان يفضّل هذا المطعم بالذات لأنه كان يذكّره بالفترة التي قضاها في باريس للدراسة.
لوحات غلاكينز كثيرا ما تُشبَّه بلوحات رينوار، لدرجة انه كان يُلقّب بـ "رينوار الأمريكيّ". وكان يؤاخَذ على هذا من قبل بعض النقّاد. وكان ردّه دائما أنه ما من رسّام جدير بأن يُحتذى ويقلَّد أكثر من رينوار. ويمكن رؤية تأثير الأخير في بعض أعمال غلاكينز مثل مقهى لافاييت . ومثل رينوار، فإن لوحات غلاكينز تشيع جوّاً من الاسترخاء والسعادة.
ولد وليام غلاكينز في بنسلفانيا في مارس من عام 1870. وتدرّب في أكاديمية بنسلفانيا للفنون الجميلة على يد توماس آنشوتز، وكان من بين زملائه الرسّام جون سلون.
في عام 1895، سافر غلاكينز إلى أوربّا لدراسة أعمال المعلّمين الأوائل. وقد زار أوّلا هولندا، ثم باريس التي تعرّف فيها، هو وزميله روبيرت هنري، على أعمال الانطباعيين وتأثّرا بهم.
وقد أعجب الفنّان بالرسم الأوربّيّ وروّج له في أمريكا، خاصّة الأسلوب الانطباعي الذي يعتمد استخدام الفرشاة السريعة والألوان الساطعة. وعند عودته إلى نيويورك، انتُخب أستاذا في أكاديمية التصميم.
ثم أصبح عضوا مؤسّسا في ما عُرف بـ "مدرسة آشكان" أو مجموعة الثمانية. وعلى النقيض من زملائه في تلك المدرسة، لم يركّز غلاكينز على تصوير أكواخ الطبقة الفقيرة ومعاناة العمّال، بل فضّل أن يتعامل مع مناظر التسلية والراحة التي تتّسم بها حياة الطبقات الوسطى.
وقد شكّل اهتمامه باللون والفرشاة التعبيرية والرغبة في التجريب انعطافة مهمّة في مسار الرسم الحديث في الولايات المتّحدة.