Saturday, August 20, 2011

لوحات عالميـة - 285

ثلاث نساء على الشاطئ
للفنان الفرنسي بييـر بوفـي دو شافـان، 1879


ينتمي بيير دو شافان إلى جيل غوستاف مورو وإدوار مانيه. كما كان مرتبطا بالرسّامين الطليعيين. لكنّه كان أيضا منجذبا إلى الأساليب الفنّية الأكثر محافَظةً وتقليدية. وقد عُرف برسوماته التي تتناول المواضيع التاريخية والرمزية والأسطورية. وكان يتّبع غالبا التقاليد الأكاديمية. غير أن بعض أعماله لا تخلو من لمسات تجريدية وحديثة.
بدأ اهتمام دو شافان بالرسم بعد زيارة له إلى ايطاليا التي ذهب إليها لدراسة الهندسة. وفي روما اكتشف جداريات كواتروسينتو وقرّر أن يصبح رسّاما. وخلال ثمانينات وتسعينات القرن التاسع عشر أصبح رسّاما معترفا به وذا شأن في الصالون. ثم لم يلبث أن أصبح احد المحكّمين فيه. وقد عُرف بتعاطفه مع أعمال الرسّامين الأكثر شبابا وتمرّدا. وفي مرحلة تالية قاوم الواقعية الفوتوغرافية الجافّة التي أصبحت تميّز الرسم الأكاديمي في نهاية القرن التاسع عشر.
كان دو شافان موضع إعجاب الكتّاب والفنّانين الرمزيين مثل غوغان وريدون وموريس دونيه. ويقال إن تأثيره في الحركة الرمزية كان اكبر من تأثير زميله غوستاف مورو الذي كثيرا ما يقترن اسمه ببدايات نشوء الحركة الرمزية.
وبعض لوحاته تثير إحساسا بالعظمة والفخامة ومنطق التنظيم، وهي الصفات الأساسية المطلوبة في رسّامي اللوحات الكبيرة. وعادة، لا تعكس أسطح مناظره أيّ ضوء، وإن بدا حريصا على أن يكون لكلّ لوحة إيقاع خاصّ بها.
وقد اشتهر دو شافان، بشكل خاص، بلوحاته التي يصوّر فيها أشخاصا منعزلين وفي حالة تأمّل، بينما تلفّهم هالة من الغموض والطقوسية كما لو أنهم ينتمون إلى عالم خاصّ من الأحلام والرؤى.
في هذه اللوحة، يرسم الفنّان ثلاث نساء بشعور طويلة وملابس متقشّفة على شاطئ صخري لبحر هادئ الأمواج. إحدى النساء، الواقفة، تُرى من الخلف وهي منهمكة بترتيب شعرها. بينما تتّكئ الأخرى على طرف صخرة وتجلس الثالثة في وضع يخفي جانبا من جسدها.
ويُرجّح أن الفنان رسم اللوحة كي تزيّن احد المنازل الفخمة. وقد وضع لها عدّة اسكتشات في البداية. وعندما عرضها في صالون باريس عام 1879 لاقت إعجاب معظم النقّاد. لكن احدهم وصفها بأنها "يرقة بلا لون ولا شكل"، في إشارة إلى نقص وشحوب الألوان فيها. ومن الملاحظ أن الرسّام اكتفى باستخدام ظلال خفيفة من الأبيض والأزرق والبنّي والأخضر والزهري.
ويبدو أن دو شافان استعان بنفس الموديل لرسم النساء الثلاث في اللوحة. غير انه عمد إلى تغيير لون وظلال الشعر قليلا. أي أن أمامنا نفس المرأة ولكنْ في ثلاثة أوضاع مختلفة. كما حرص على أن يكون بناء اللوحة متناغما وأن تتضمّن سمة إيقاعية وموسيقية، وهي خاصّية تميّز معظم لوحاته.
الوضعيات التي تتّخذها الشخصيات الثلاث في اللوحة تذكّر بالتقاليد الكلاسيكية في الرسم. والانطباع العام الذي يثيره المشهد هو مزيج من الهدوء والشاعرية والتأمّل المشوب بشيء من الحزن.
الفنّانون الرمزيون، ومن ضمنهم دو شافان، دشّنوا فنّا جديدا تبدو فيه الطبيعة مفتوحة على مساحات من الضباب والساحات الغامضة التي تعكس الحقائق العميقة في الحياة وفي اللاوعي. وقد أصبحت مثل هذه الأفكار شائعة كثيرا في فنّ وأدب القرن التاسع عشر. ومن الواضح أنهم استفادوا من رسومات ليوناردو دافنشي عن طبيعة لا تنتمي لهذا العالم وعن أماكن شفّافة ومياه بعيدة يثير بعضها أخيلة عن عصور ما قبل التاريخ مع ما يرتبط بذلك من حالات وجدانية وتأمّلية.
ولوحات دو شافان التي تصوّر الأزمنة القديمة كثيرا ما تُفسّر على أنها إشارة إلى ماضي فرنسا المثالي الذي كان يتميّز بالتناغم العرقي والثقافي المستند إلى الثقافة اللاتينية. وهناك أيضا من رأى فيها تمثيلا لمستقبل ما بعد الثورة التي كانت تعد الناس بالخلاص من مظاهر عدم المساواة ومن الفقر والطبقية، ومن ثمّ العيش بحرّية وتناغم في رحاب الطبيعة.
كان دو شافان لغزا في حياته. ولم تكن له صفة معيّنة بحيث يسهل معها ربطه بتيار فنّي محدّد. ومع ذلك فإن بعض مؤرخّي الفنّ يرون فيه نموذجا للروح الفرنسية، لدرجة أن فنّه اجتذب رسّاما فرنسيا جدّا، هو الآخر، هو هنري ماتيس.
مع نهاية الحرب العالمية الأولى بدأ بيير دو شافان يفقد شيئا من وهجه. لكن بعض الفنّانين آنذاك، وعلى رأسهم بيكاسو، كانوا ما يزالون ينقّبون في لوحاته ويكتشفون فيها من الخصائص والأسرار ما لم يكن متوفّرا عند غيره.

Thursday, August 18, 2011

لوحات عالميـة - 284

بورتريه مادا اوجينيا بريمافيشي
للفنان النمساوي غـوستـاف كليـمـت، 1912


كانت مادا اوجينيا بريمافيشي طفلة تملك كلّ شيء. وقد عاشت طفولة تشبه الحكايات الخرافية في فيلا والديها البعيدة في مورافيا. كان أبوها رجل أعمال ومصرفيا مرموقا، بينما كانت أمها ممثّلة.
ولوحة كليمت التي رسم فيها الفتاة، بملابسها الوردية والبيضاء، هي صورة واقعية تعكس بدقّة نوعية الحياة الساحرة التي كانت مادا بريمافيشي تعيش في كنفها.
وقد مهّد الفنّان للبورتريه برسم اسكتشات عديدة بالقلم الرصاص. كما جرّب عدّة أوضاع مع خلفيات بموتيفات مختلفة. وأخيرا اختار تناولا مفتوحا يتوافق مع التصاميم الحديثة في ذلك الوقت. كما وظّف في اللوحة موتيفات زخرفية مرحة تبدو مناسبة تماما لفتاة عمرها تسع سنوات.
كانت مادا الطفلة الأثيرة والمدلّلة عند والدها. لذا لم يكن مستغربا أنه اختارها من بين أشقّائها الأربعة ليرسمها كليمت.
وكان كليمت يفهم الأطفال بطريقة غريزية رغم انه نادرا ما أتيحت له الفرصة لرسمهم.
وقد ظلّت مادا تتذكّره كشخص عطوف ومجامل. وكان يدرك حاجة الطفلة أثناء الرسم للحركة الدائمة، فتركها تتصرّف بعفوية ولم يفرض عليها أن تظلّ ساكنة.
كليمت نفسه كان فيه شيء من طبيعة الأطفال. يقال مثلا انه كان يستمتع بإلقاء القبّعات الورقية من نافذة منزله ويراقبها وهي تهبط بخفّة على رؤوس الغرباء المارّين تحته.
هذه اللوحة يبدو أنها كانت تعتبر احد انجازات كليمت الكبيرة والناجحة.
وقد أتمّ رسمها قبيل عيد ميلاد الفتاة العاشر وقبل وفاته، هو، بحوالي أربع سنوات.
واللوحة تتضمّن عناصر وأنماطا متعدّدة تظهر في الخلفية، من بينها كلب وأوراق وأعشاب وطيور. وكلّ هذه العناصر متخيّلة وليست واقعية على الأرجح. أما الأزهار فقد تكون حقيقية، وربّما تكون جزءا من نمط السجّادة.
تفاصيل اللوحة تكشف عن بشرة مضيئة بطبقات سميكة ومن ألوان كثيرة ومدهشة. والصورة إجمالا تتحدّث بوضوح عن قوّة وجمال الألوان الضاربة إلى الحمرة.
كانت عائلة بريمافيشي معروفة برعايتها للآداب والفنون في النمسا. وكانوا يملكون قصرا في بروكسيل يضمّ بعضا من أشهر لوحات كليمت.
وبعد سنة من إتمام كليمت لهذا البورتريه، دعاه والد مادا ليرسم والدتها هذه المرّة. وقد رسمها وهي ترتدي كيمونو يابانياً ساطع الألوان، وكان في ذلك الوقت موضة سائدة في فيينا.
بعد انهيار الإمبراطورية النمساوية الهنغارية في العام 1918، أصبح أفراد عائلة بريمافيشي مواطنين أجانب في البلد الذي ولدوا فيه، والذي أصبح يقع ضمن حدود ما يُعرف اليوم بجمهورية التشيك.
وقد هاجرت العائلة في البداية إلى النمسا. لكن تبعات وآثار ما بعد الحرب العالمية الثانية لاحقتهم إلى هناك. فاضطرّوا في نهاية خمسينات القرن الماضي إلى الهجرة مجدّدا واختاروا الإقامة الدائمة في كندا.
في عام 1986، وكان معظم أفراد عائلتها قد توفّوا، زارت مادا بريمافيشي نيويورك لرؤية معرض يصوّر الحياة في فيينا في مطلع القرن الماضي. واكتشفت أن اللوحة التي رسمها لها كليمت كانت من ضمن اللوحات المعروضة.
وبعد أن انتقلت اللوحة إلى متحف المتروبوليتان، كانت تداوم على زيارة المتحف لرؤية صورتها.
وقد توفّيت مادا بريمافيشي عام 2000م، أي بعد أن رسمها كليمت بسبعة وثمانين عاما. أي أنها عاشت حياة أطول بكثير من جميع الأشخاص الذين رسمهم.