Tuesday, January 29, 2013

لوحات عالميـة – 307

قوارب مبحرة قبالة شاطئ لو بوتيه جينفيير
للفنان الفرنسي كلـود مـونيـه، 1874

كان كلود مونيه معلّما لا يُنافَس في رسم الماء. وقد سبق التجريد النقيّ للقرن العشرين بعالمه الصامت من الأضواء والتموّجات المائيّة. كان مونيه يرسم مياه الأنهار من على بعد أو ضمن تأثيرات الشمس والضباب. وقد قُدّر له أن يزور فينيسيا في نهايات حياته فأعجب بطبيعتها النهرية وتأسّف على انه لم يأتِها وهو شابّ.
وكان مونيه، مع رسّامين انطباعيين آخرين مثل إدوار مانيه وبيرتا موريسو وبيير رينوار، يجدون في نهر السين وفي البلدات الواقعة على ضفّتيه مصدرا للإلهام. لذا كانوا يقصدون النهر بانتظام ليرسموا المراكب المبحرة فيه ويصوّروا الأضواء على ضفّتيه.
فكرة الماء، بما تثيره من مشاعر وذكريات، ألهمت أيضا عددا من الروائيين والموسيقيين، من أشهرهم دي موباسان وكلود ديبوسي، بالإضافة إلى المصوّرين الفوتوغرافيين ومخرجي الأفلام الذين كانوا يجدون في الماء وانعكاساته موضوعا لأعمالهم.
في هذه اللوحة يرسم مونيه منظرا مفتوحا لبلدة لو بوتيه جينفيير الواقعة على الضفّة اليسرى لنهر السين. وقد سجّل في هذا المنظر وببراعة لحظة من الزمن، محوّلا المكان إلى شيء خالد ولا نهائي. وهذه هي المفارقة في أعمال مونيه، فهو يمسك بانطباع متلاشٍ، ثم يحوّله إلى صورة تتّسم بالثبات والديمومة.
القوارب المبحرة في مياه النهر تذوب وتتلاشى لتتحوّل إلى نقاط متوهّجة من الأرجوانيّ والأبيض. ضربات الفرشاة وصفيّة تُمسك بشخصيّة الأشياء كأضواء ما بعد الظهيرة ولون الشمس المبهر وانعكاسات الغيوم، وتعطي انطباعا بالعمق والتراجع. الضفّة البعيدة من الماء تنسحب وتتراجع إلى أن تصل إلى نقطة التلاشي.
اللون القرمزيّ في هذه اللوحة هو احد الألوان التقليدية القليلة التي كان مونيه يستخدمها. وهو هنا يمزجه بألوان أخرى كالزبرجدي والأخضر والزمرّدي. وكلّ هذه الألوان كانت تُعتبر ألوانا حديثة في ذلك الوقت.
حتى القرن التاسع عشر، كانت معظم اللوحات التي تصوّر بيئات بحرية أو نهرية تُنفّذ داخل الاستديو. وكانت في الغالب ثمرة لمخيّلة الرسّام. وكثيرا ما كان البحر أو النهر يُستخدم كخلفية لقصّة أو حدث دراميّ، من قبيل غرق السفينة المأساوي الذي صوّره ثيودور جيريكو في لوحته طوف الميدوسا.
كان البحر حتى ذلك الوقت يُعتبر مكانا غير مضياف بالنسبة للطبقة الباريسية الثريّة. لكنّ الحال تبدّل مع اختراع سكك الحديد وازدهار السياحة إلى الشطآن الشمالية. ولم يمضِ وقت طويل حتى تحوّل الساحل الشماليّ لفرنسا من تجمّعات سكّانية تعيش على ما ينتجه البحر من غذاء وغلال إلى مكان يؤمّه الناس طلباً للهدوء والمتعة، فأقيمت المصائف والمنتجعات على طول النهر وشهدت السياحة نموّا غير مسبوق.
وسرعان ما انتقل الرسّامون إلى الشواطئ وبدءوا يرسمون أعمالهم هناك. وأسهم ظهور رُقَع الرسم المحمولة لأوّل مرة في تشجيع الرسّامين على الذهاب إلى خارج البيوت لتسجيل أنشطة الحياة الحديثة ومظاهر التغيير الاجتماعي والاقتصادي. وكان هناك سبب آخر مهمّ يتمثّل في أن الرسّامين كانوا يأملون في أن الأثرياء الذين يقضون عطلاتهم هناك ربّما ينفقون جزءا من ثرواتهم على شراء اللوحات الفنّية.
لو بوتيه جينفيير كانت، وما تزال إلى اليوم، مكانا للعطلات الأسبوعية ومقصدا للسيّاح من أماكن كثيرة ومختلفة. وقد بلغت البلدة أوج شعبيّتها أثناء فترة الإمبراطورية الفرنسية الثانية. لكنها كانت أيضا مكانا مهمّا بالنسبة للرسّامين الانطباعيين. وهناك ما لا يقلّ عن 300 لوحة رُسمت عن طبيعة ومعالم هذه البلدة، بما فيها بيوتها وحقولها الصفراء ومطعمها العائم الذي يمكن رؤيته في لوحة أخرى رسمها مونيه خلال فترة إقامته فيها عام 1869م.
هدوء البلدة وجمال شواطئها اجتذب إليها مونيه الذي اخذ عائلته وانتقل إلى هناك. وقد تطلّب منه ذلك شراء قارب قام بتحويله إلى استديو عائم وأصبح السين والقوارب المبحرة فيه موضوعا مفضّلا للوحاته.