Tuesday, April 01, 2014

لوحات عالميـة – 342

إستـراحة أثنـاء الرحلـة إلـى مصـر
للفنان الايطـالـي كـارافــاجـيــو، 1597

في وقت ما من القرن السادس عشر، أصدرت الكنيسة الكاثوليكية أمرا بألا يرسم الفنّانون أساطير تُعتبر مشكوكا في صحّتها. ورغم أن القصّة التي تحكي عن رحلة العائلة المقدّسة، أي مريم ويوسف النجّار والمسيح الطفل، إلى مصر ذُكرت بشكل عابر في الإنجيل وروى أخبارها بتفاصيل مختلفة المسيحيّون الأوائل ورجال الدين في القرون الوسطى، إلا أن سلطات الكنيسة ظلّت تشكّك في مصداقيّتها.
لكنّ هذا لم يثنِ الفنّانين عن رسم القصّة في العديد من الأعمال التي يعود أقدمها إلى نهاية القرن السادس عشر. بل لقد أصبحت هذه القصّة موضوعا مفضّلا ورائجا في الرسم طوال القرون الثلاثة التالية. وبدأ رسمها في هولندا ابتداءً من القرن الخامس عشر، ثم أصبحت موضوعا مفضّلا عند الرسّامين الألمان الرومانتيكيين وعند غيرهم.
تقول القصّة إن ملاكا ظهر أمام يوسف النجّار وحذّره من خطط الملك الروماني هيرود لقتل المسيح الرضيع. ثم نصحه الملاك بأخذ الطفل وأمّه إلى مصر طلبا للامان. ويقال إن ذلك ترافق مع زيارة المجوس للقدس وذهابهم إلى هيرود ليسألوه أين يمكن أن يجدوا الطفل الرضيع أو "ملك اليهود" الذي أنباتهم بمولده النجوم.
وقد شعر هيرود بالذعر من احتمال أن يهدّد الطفل عرشه فصمّم على قتله. وكان هذا هو السبب في ارتكاب هذا الملك لما أصبح يُعرف في ما بعد بمذبحة الأبرياء، وذلك عندما أمر رجاله بقتل كلّ الأطفال الرضّع على أمل أن يكون المسيح الصغير من بينهم.
ولهذا السبب، قرّرت العائلة المقدّسة، يوسف والعذراء والمسيح الصغير، الفرار إلى مصر على ظهر بغل. وكانت مصر اختيارا مناسبا، لأنها تقع خارج نفوذ هيرود. كانت مصر وفلسطين في ذلك الوقت جزءا من الإمبراطورية الرومانية. ولأنهما مرتبطتان بطريق يمرّ عبر ساحل البحر، فقد كان السفر بينهما أمرا سهلا ومأمونا.
مكث يوسف وعائلته لبعض الوقت في مصر. وعادوا من هناك إلى فلسطين بعد أن مات أعداؤهم كما تقول القصّة. فهيرود انتهى إلى ميتة شنيعة. وأصبحت الجليل يحكمهما ملك أكثر ميلا للهدوء والحكمة وصارت المدينة في عهده ملاذا آمنا للكثيرين.
ومن أشهر الأعمال التشكيلية التي تناولت موضوع الرحلة إلى مصر هذه اللوحة لكارافاجيو. وعلى غرار ما فعله العديد من الرسّامين الآخرين، فقد رسم كارافاجيو العائلة المقدّسة أثناء توقّفها للراحة في بستان بعد ثلاثة أيّام متواصلة من السفر.
كارافاجيو رسم هنا العذراء وطفلها ويوسف وهم يستريحون في احد الحقول. ورسم أيضا وسيلة السفر؛ أي البغل الذي يظهر في اللوحة وهو يراقبهم من الخلف. لكن الرسّام ضمّن المنظر شخصية لملاك أنثى تعزف الموسيقى.
الملاك التي تعطي ظهرها للناظر رُسمت عموديّا كي تقسم اللوحة إلى جزأين: جزء إلى اليمين نرى فيه جانبا من نهر، والعذراء وهي تحتضن طفلها. وجزء إلى اليسار وفيه يظهر يوسف وهو جالس وممسك بنوتة موسيقية كتبها إكراما للعذراء.
ومن الواضح أن الملاك التي تظهر وهي تعزف الكمان ليس لها أيّ دور في القصّة الأصلية كما لم يرد ذكرها في أيّ مصدر، بل هي من ابتكار الرسّام، ربّما لكي يضفي على المشهد طابعا سماويّا. ومع ذلك فالموسيقى ظلّت، ولأجيال طويلة، صورة مجازية للإبداع الفنّي.
شخص الملاك نفسها يشبه تمثالا من الحجر، مع وشاح ابيض يلتفّ حول جسدها ويشبه، هو أيضا، آلة كمان. وهذا مثال جيّد للتدليل على مدى قابلة الأشياء للتكييف والتحوير.
واقعية اللوحة واضحة في طريقة الرسّام في تمثيل الأشجار والأوراق والحجارة وغيرها من التفاصيل. والمنظر الطبيعي يثير إحساسا بالحنين. كما انه يذكّرنا بمناظر كارافاجيو التي كان يستلهمها من تراث وطبيعة بلده فينيسيا.
قصّة الرحلة إلى مصر كثيرا ما تُروى مع معجزات وتفاصيل غريبة، مثل سقوط صنم بمجرّد أن يمرّ المسيح الطفل بقربه، ولصوص يتخلّون من تلقاء أنفسهم عن خططهم للإغارة على العائلة في الصحراء، ونخلة تثني نفسها كي تسمح لهم بقطف ثمارها، وينبوع ماء يتفجّر في الصحراء فجأة كي يرووا منه عطشهم.
وهناك روايات تتحدّث عن قصّة أخرى حدثت لهم بعد وصولهم إلى مصر، وهي لقاء الطفل المسيح بابن عمّه يوحنّا المعمدان الذي تقول الأسطورة انه أنقذ من مذبحة الأبرياء في بيت لحم على يد احد الملائكة. وقد كان موضوع هذا اللقاء رائجا في رسم عصر النهضة. وأفضل مثال عنه هو لوحة ليوناردو دافنشي "عذراء الصخور" ولوحة رافائيل "عذراء كنيسة سيستين".
موضوع الرحلة إلى مصر رُسم أحيانا مع ملائكة، وأحيانا أخرى مع ولد يقال انه ابن يوسف من زواج سابق. وفي بعض اللوحات، كانت العذراء تُرسم مع نور ذهبيّ يشعّ من رأسها ورأس الطفل.
ومن بين من رسموا القصّة الفنّان الفرنسي جيرار دافيد، والرسّام الأمريكي من أصول افريقية هنري تانر الذي ضمّن القصّة أفكارا معيّنة مثل الحرّية الشخصية والهرب من الاضطهاد وهجرة الأمريكيين السود من الجنوب إلى الشمال.
الجدير بالذكر أن كارافاجيو كُلّف برسم هذه اللوحة من قبل الكاردينال فرانسيسكو دل مونتي الذي كان كارافاجيو رسّامه الخاص. ويقال إن الكاردينال كان يتمتّع بذوق رفيع وثقافة عالية. ويبدو أن هذه اللوحة كانت تناسب شخصيّته واهتماماته.