Saturday, August 27, 2005

لوحـات عالميـة – 29


بورتريه للفنان في سن الثالثة والستين
للفنان الهولندي رمبـرانــدت، 1669

يعتبر رمبراندت واحدا من اعظم الفنانين في جميع العصور.
ولد في هولندا في العام 1606 ومات فيها. تخصّص رمبراندت في رسم البورتريه وفي تصوير مشاهد من الإنجيل.
وإلى رمبراندت يعود الفضل في إضفاء لمسة فلسفية على فنّ البورتريه، فقد سبق له وان رسم بورتريه للفيلسوف أرسطو وهو يتأمّل تمثالا نصفيا لهوميروس.
وكل البورتريهات التي رسمها رمبراندت حاول فيها النفاذ إلى العقل الخفيّ للشخص، إلى روحه وشخصيّته الداخلية.
ولوحات رمبراندت لا تعنى بالمتعة الظاهرية إلا بمقدار ما تقود تلك المتعة إلى المعرفة.
وقد ألغى الفنان كل ما كان يهتم به الفنانون الهولنديون الآخرون مما له علاقة بحقائق العالم المادي، لكي يوصل إحساسا بالجوانب الروحية والسايكولوجية.
وقد كان صديقه الظلام لانه يظهر النفس في حالة عزلة، بينما لم يكن يرى في النور حقيقة بصرية وإن كان يمكن توظيفه في المسرح.
كان رمبراندت يحبّ الألوان الحية مثل الذهبي والبرونزي والبنّي.
ورغم انه رسم بورتريهات عديدة لنفسه (حوالي المائة)، فإنه كان يبدو في كل منها مختلفا عن الآخر من حيث اللبس والمزاج، وكان يرتدي ملابس غريبة وكأنه يحاول اكتشاف هويّته الحقيقية.
عندما كبر رمبراندت في السنّ رسم لنفسه بورتريها تخلى فيه عن الأقنعة والثياب الغريبة ليبدو أمام نفسه وأمامنا بهيئته الحقيقية والمجرّدة، وبطريقة من الوضوح والمباشرة قلّ أن نجد لها مثيلا في تاريخ الفن.
في هذا البورتريه الجميل والمعبّر لا ننظر إلى مجرّد لوحة وانما نلتقي برمبراندت نفسه: الوهج الخفيف للصورة والنور الذي يملأ وجه الفنان المسنّ وفخامة الملابس التي يرتديها وطريقة الوقوف التي يجللها الكبرياء، والرأس المائل باتجاه الناظر وكأنه يخفي داخل نفسه ألما عظيما.
الصورة توصل إحساسا بالحزن الدفين، رغم أننا لا نعرف الكثير عن حياة رمبراندت.
غير أننا نعرف انه عانى من الإفلاس في نهايات حياته، بعد النجاح الساحق الذي حقّقه.
وفي هذا الوقت بالذات، كان الفنان قد فقد كل من كان يحبّهم باستثناء ابنه.
في بورتريه رمبراندت يبدو الفنان مملوءا بالكبرياء والأنفة رغم المعاناة الواضحة على ملامحه، وهو يبدو هنا إنسانا اكثر من كونه فنانا، وهذا ما جعل هذه التحفة الفنية الفريدة تعيش في الذاكرة كل هذا الزمن الطويل.

Friday, August 26, 2005

لوحـات عالميـة – 28


شخـص عنـد النـافـذة
للفنان الإسباني سلفـادور دالــي، 1925

لوحة أخرى من اشهر لوحات دالي. والشخص الواقف عند النافذة هو آنا ماريا شقيقة الفنان التي كانت موضوعا للعديد من البورتريهات التي رسمها في العام 1925.
آنا ماريا في اللوحة لا تظهر سوى من الخلف فيما اخفي وجهها، وهو تصرّف غريب من دالي أعطي في حينه الكثير من التفسيرات والتخريجات السايكولوجية. واخفاء العنصر الإنساني يخلق تباينا واضحا مع جوّ العطلة الذي يوحي به منظر النهر وصفاء المشهد نفسه.
عرضت هذه اللوحة في أول معرض فني منفرد للوحات دالي في برشلونة من ذلك العام، وقد نال هذا العمل بالذات إعجاب بابلو بيكاسو الذي كان حاضرا.
كانت آنا ماريا بمثابة الأم لشقيقها دالي الذي استخدمها كموديل لرسوماته، إلى أن ظهرت غالا ايلوار في حياته عام 1929 لتزيح آنا ماريا وتجلس مكانها، الأمر الذي أذكى مشاعر العداء والحقد في قلب الأخيرة.
المنظر الطبيعي خلف النافذة هو جزء من خليج كاداكيس حيث كان دالي وعائلته يقضون عطلة الصيف من كل عام.
وفي هذا المكان كتب الشاعر الإسباني الكبير غارسيا لوركا مذكّراته، واصفا إقامته على سواحل الخليج بالحلم الرائع والجميل، ومتوقفا بشكل خاص عند منظر البحر من النافذة في ساعات الصحو.
كان دالي وشقيقته قريبين جدا من بعضهما البعض، خاصّة بعد وفاة والدتهما. لكن ظهور غالا المفاجئ افسد تلك العلاقة. وفي ما بعد كتبت آنا ماريا تصف شقيقها بصفات يبدو أنها لم تعجبه، إذ أنها كانت تتناقض مع الصورة التي حرص هو على رسمها لنفسه في سيرته الذاتية، مما دفعه إلى رسم نسخة أخرى من هذه اللوحة وأطلق عليها اسما مهينا بحقّ شقيقته.
لوحة "شخص عند النافذة" يغلب عليها اللونان الأزرق الخفيف والأرجواني الشاحب، والمشهد بعمومه يمنح إحساسا بالهدوء والطمأنينة، وهي سمة نادرة وغير مألوفة في معظم رسومات سلفادور دالي.

Thursday, August 25, 2005

لوحـات عالميـة – 27

قيـظ يـونيـو
للفنان البريطاني فريدريك ليتون، 1895

تُعتبر هذه اللوحة من الأعمال الفنّية المثيرة للجدل. الآراء حولها منقسمة، بعض الناس يحبّها كثيرا والبعض الآخر يعتبرها فنّا مضحكا. البعض يصفها بأنها فنّ مبتذل، بينما البعض الآخر يثني على المهارة والتوظيف الرائع للألوان فيها.
كان الرسّام فريدريك ليتون متخصّصا في رسم الموضوعات التاريخية والدينية والكلاسيكية المستمدّة من التراث الفيكتوري. وتُعتبر هذه اللوحة تحفته بلا منازع. وقد حظيت من بين جميع أعماله بشهرة واسعة.
بل الواقع أنها إحدى أشهر اللوحات الفنّية من العصر الفيكتوري، وربّما كانت أشهر من الرسّام نفسه. وهي ما تزال مفضّلة في البوسترات وفي صالات الجلوس في البيوت وغرف الانتظار.
ويُعتقد أن للوحة علاقة بالنوم والموت والإثارة. كما أنها تجسّد فلسفة الفنّ للفنّ، أي الاعتقاد بأن قيمة الفنّ تكمن في سماته الجمالية أكثر من موضوعه.
وربّما لهذا السبب وغيره كانت وما تزال موضوع جدل بين النقّاد حول قيمتها الإبداعية. المنتقدون يقولون إنها مملّة وعديمة القيمة وأنها تخلو من أيّ توتّر أو إتقان أو مغامرة صورية. بينما يصفها المعجبون بأنها صورة من صور الجمال الفخم و"سيمفونية رائعة من التشكيل واللون تكشف عن عبقرية الرسّام في اللون وعن كلاسيكيّته الأصيلة".
وبعض مؤرّخي الرسم يعتبرون أن اللوحة بمثابة اعتراف واضح من الرسّام بالتقاليد العظيمة في الفنّ والتي تعود إلى عصر جورجيوني و تيشيان اللذين برعا في تصوير نساء نائمات كان يشار إليهنّ بالاسم الميثي "فينوس".
كانت التقاليد الفيكتورية صارمة وغير متسامحة مع الفنّ الذي يروّج للعري أو الإثارة الحسّية. وبينما لا تبدو المرأة في اللوحة عارية على الإطلاق، فإن رداءها البرتقالي الذي يجذب العين اُريد به إثارة الانفعالات الحسّية، وإنْ بشكل محسوب وحذر.
واللون البرتقاليّ النابض بالحياة في الصورة يصاحبه نطاق ناعم من الأزرق في الخلفية. والجمع الفريد بين هذه العناصر هو إحدى الخصائص التي تجعل منها عملا مميزا.
اللوحة، التي يقال أن الرسّام استلهمها من منحوتة الليل لميكيل انجيلو واختار لها توليفا دائريّا على قماش مربّع، لا تخدم أيّ غرض سرديّ أو وعظيّ أو دينيّ أو سياسيّ. لكن من الواضح أن الفنّان يدعو الناظر إلى التأمّل في وضعية المرأة.
جسد المرأة النائمة في ثوب زعفرانيّ شفاّف مقابل بحر يلمع على خطّ أفق عال لا يقدّم دليلا على من تكون ولا بماذا تحلم. هناك فقط نبتة سامّة عطرة الزهر تستقرّ فوق رأسها وموضوعة على حاجز من معمار كلاسيكي.
إنها زهرة الاولياندر التي كتب عنها شعراء في العصر الفيكتوري، وهي زهرة إغراء، لكنها سامّة جدّا. ورؤية زهرة سامّة في اللوحة أثار سؤالا عمّا إذا كانت الجميلة النائمة ليست أكثر من "أنثى قاتلة".
ويقال أن المرأة كانت موديل ليتون المفضّلة دوروثي دين. وقد ظهرت في العديد من لوحاته وكانت ممثّلة أيضا. وقبل وفاته أوصى لها ببعض من ثروته، ويقال أنهما كانا على وشك الزواج.
القصّة المرتبطة بهذه اللوحة أضافت لها المزيد من الذيوع والشهرة. فقد ظلّت تنتقل من يد إلى يد، ومع مرور الوقت كانت تتحوّل إلى موضة قديمة. وقد اختفت لعقود حتى أعيد اكتشافها في منزل مهجور بلندن.
وقبل نصف قرن، فشلت في أن تباع بالمزاد، ما سمح لأحد السياسيين الذي أصبح في ما بعد حاكما على بورتو ريكو أن يشتريها مقابل ألفي جنيه إسترليني فقط، وأصبحت أهمّ عمل فنّي في مجموعته، وتُلقّب اليوم بموناليزا الجنوب.
ورغم أن اللوحة غير معروضة للبيع إلا أن الموسيقيّ البريطاني اندرو لويد ويبر، الذي يحتفظ بمجموعة نادرة من اللوحات الفيكتورية، دفع مؤخّرا مقابل الحصول عليها ستّة ملايين جنيه.
ولد فريدريك ليتون في سكاربورو بإنجلترا في العام 1830. وعاش أربع سنوات في باريس حيث التقى فيها فنّانين كبارا من أمثال انغر وديلاكروا وغيرهما. ثم درس لبعض الوقت في روما وفلورنسا. وبعدها انتقل إلى لندن حيث تولّى في ما بعد رئاسة الأكاديمية الملكية.
كان ليتون شخصية مهمّة ونافذة في الفنّ الفيكتوري، وبعض أعماله جمعتها الملكة فيكتوريا والأمير البيرت ليضمّاها إلى مجموعتهما الفنّية.
وقبيل وفاته في العام 1896، مُنح لقب "نبيل" وهو تشريف نادرا ما ناله فنّان من قبل. وبعد أن توفّي تمّ تحويل منزله إلى متحف يضمّ رسوماته ومنحوتاته.

لوحـات عالميـة – 26

يتيمـة فـي المقـابــر
للفنان الفرنسي أوجيـن ديـلاكـــروا، 1824

يعتبر أوجين ديلاكروا واحدا من أهم الفنانين الفرنسيين وأكثرهم تأثيرا.
وهو مصنّف في الغالب ضمن فناني المدرسة الرومانتيكية.
ويقول بعض النقاد إن طريقة استخدام ديلاكروا للون كان لها تأثير كبير على الرسّامين الانطباعيين وعلى رموز الفن الحديث وعلى رأسهم بيكاسو.
ولد ديلاكروا في العام 1798 في فرنسا، وعلى امتداد مسيرته الفنية أنتج أكثر من 850 عملا فنيا.
أول أعماله كان لوحته المسماة "دانتي وفرجيل في الجحيم" التي عرضها في صالون باريس عام 1822.
ولوحات الفنان، عموما، تتدفّق بالمشاعر الفيّاضة والألوان المتألقة في حيوية صاخبة.
وقد اشتهر بتصوير النمور المتحفّزة والمعارك الضارية والأساطير المتوارثة. ويعتبر من بين الفنانين الأوربيين القلائل الذين اهتمّوا برسم مظاهر الحياة في الشرق، من قبيل لوحتيه الشهيرتين "نساء الجزائر" و "عرب يتقاتلون في الجبال".
لكن ديلاكروا كان يهتم أيضا بتصوير المشاعر والمواقف الإنسانية العميقة. وهذه اللوحة تمثل احد أشهر أعماله وأكثرها احتفاءً.
واللوحة تصوّر فتاة وحيدة تجلس وسط القبور، وقد تحجّرت الدموع في مآقيها، وارتسمت في عينيها نظرة مشحونة تحمل ما لا تستطيع الكلمات التعبير عنه من وحدة موحشة ويأس وضياع وتساؤل واتهام لتلك السماء التي تصوّب نحوها نظراتها الخرساء..
قد تكون الفتاة جاءت إلى هذا المكان الموحش لتتذكر أبا أو أمّا راحلة. وأوّل ما يجذب العين في اللوحة هو قوّتها التعبيرية الهائلة. وهذا واضح من تعابير الوجه، والعينين على وجه الخصوص.
وللوهلة الأولى تبدو نظرات الفتاة كما لو أنها تعطي انطباعا بالخوف والتوتّر أكثر من كونه حزنا.
لكن يمكن القول إجمالا أن الانفعالات التي ينطق بها المشهد قويّة ومعبّرة جدّا، ربّما أكثر بكثير ممّا يمكن أن تصفه أو تعبّر عنه الكلمات.

Wednesday, August 24, 2005

لوحـات عالميـة – 25


العشـاء الأخيــر
للفنان الإيطالي ليــونــاردو دافـنـشـي، 1499

أصبحت هذه اللوحة واحدة من اشهر الأعمال الفنية في العالم بعد وقت قليل من إتمامها في العام 1498. ولم تفقد شيئا من ذلك البريق والوهج والشهرة حتى اليوم. وبالرغم من تغيّر الأذواق والأساليب الفنية، والتدهور الفيزيائي السريع الذي حلّ باللوحة، فإن مكانتها باعتبارها إبداعا استثنائيا لم تكن أبدا عرضة للشكّ أو التساؤل.
وأهمية "العشاء الأخير" لا تكمن فقط في الخصائص الفنية للوحة وانما في تفوّق دافنشي التعبيري. واللوحة هي تمثيل صوري بليغ للحدث الأكثر أهمية في تاريخ المسيحية. وليس هناك لوحة أخرى عن هذا الموضوع استطاعت أن تثير خيال الناس بمثل ما فعلته تحفة دافنشي هذه.
وهناك طبعات ونسخ كثيرة من اللوحة تزيّن البيوت ودور العبادة والمتاحف عبر العالم. ومع ذلك فإننا عندما نتذكّر قصّة العشاء الأخير للمسيح فإن أذهاننا تتحوّل تلقائيا إلى دافنشي ولوحته الفريدة.
هذه اللوحة كانت مثار اهتمام الكثيرين أيضا بسبب عمليات الترميم التي أجريت عليها منذ إنجازها في القرن الخامس عشر. وآخر عمليات الترميم تلك استمرّت عشرين عاما وكانت موضع جدل كبير.
واللوحة التي بقيت بعد تلك الترميمات يقال أنها "أعيد رسمها" وليس "ترميمها". ورغم أن الترميم قد يكون "عدّل" اللوحة إلى درجة ما فانه أطال عمرها لكي يمكن للأجيال القادمة أن تراها وتقدّر الإبداع المبذول فيها.
يذكر في هذا الصدد أن اللوحة نجت بمعجزة من قصف قوات الحلفاء لروما في العام 1943.
رسم دافنشي اللوحة بناءً على طلب دوق ميلانو الذي كان يريد من الفنان رسم تلك الواقعة التاريخية المهمة، وعمل دافنشي على اللوحة حوالي 18 سنة، وقد رسمها في غرفة الطعام في دير سانتا ماريا.
استخدمت اللوحة في الكثير من الإعلانات التجارية والمواد المكتوبة. ولو كان دافنشي ما يزال حيا إلى اليوم لكان قد كسب البلايين من وراء هذه اللوحة وربّما لكان الفنان الأغلى في العالم الآن.
العشاء الأخير تصوّر المسيح جالسا على المائدة مع حوارييه الـ 12 الذين يظهرون بهيئة بشرية بسيطة فهم يتصرّفون وينفعلون مثل الناس العاديين.
وهناك نقطة مهمة جدا في هذه اللوحة تتعلق بالمنظور الفني الذي اتبعه الفنان بشكل إعجازي في رسم عناصر اللوحة. فكل عنصر فيها يوجه اهتمام الناظر مباشرة إلى وسطها، أي إلى رأس السيد المسيح نفسه. ويقال إن العشاء الأخير هي اعظم مثال تم إبداعه عن منظور النقطة الواحدة.
في الليلة التي سبقت خيانة المسيح من قبل أحد اتباعه، جمعهم للطعام واخبرهم بما سيحدث. واللوحة تحكي عن تلك الثواني القليلة من القصة أي بعد أن ألقى المسيح على الحواريين مفاجأته الصاعقة بأن أحدهم سيخونه قبيل شروق الشمس.
واللوحة تكشف بوضوح عن ردود فعل الحواريين التي كانت مزيجا من الرعب والصدمة والغضب.
بالإضافة إلى المسيح نفسه، فإن الشخصية المحورية في اللوحة هي شخصية يهودا المتآمر "الخامس من اليسار" ، وقد تعمّد دافنشي رسم وجهه في الظل، بينما بدا خلف يهودا مباشرة بطرس بلحية بيضاء ووجه غاضب متحدّثا إلى يوحنّا المعمدان الذي يظهر بملامح أنثوية بينما يميل برأسه ليستمع إلى بطرس.
الشخص الوحيد في الغرفة الذي يبدو وجهه هادئا هو المسيح نفسه.
يقال أن دافنشي نجح كثيرا في تصوير الانفعالات الدقيقة على وجوه الشخصيات بفضل الساعات الطوال التي قضاها في دراسة التشريح، وهذا بالذات هو ما يميّز "العشاء الأخير" عن عشرات اللوحات الأخرى التي تناولت نفس القصة.

موضوع ذو صلة: على العشاء مع ليوناردو

Tuesday, August 23, 2005

لوحـات عالميـة – 24


تشكيــل رقــم 8
للفنان الروسي فاسيلي كاندينسكي، 1923

لوحات كاندينسكي ليست من ذلك النوع الذي يروق للعين أو يريح الأعصاب. بل إن بعضها محيّر ومزعج ومشوّش للذهن. والمفارقة هي أن نسخا كثيرة من لوحات هذا الفنّان التي تستعصي على الفهم أو التفسير وجدت طريقها اليوم إلى كلّ مكان تقريبا؛ من ردهات المستشفيات إلى غرف الجلوس بالمنازل إلى المكاتب وحتى إلى جدران المقاهي والمطاعم الكبيرة.
ومن السهل التعرّف على لوحات كاندينسكي وتمييزها عن لوحات سواه بدوائرها الملوّنة وزواياها وخطوطها المتعرّجة والمنحنية والمتقاطعة والمتوازية وبأصواتها وغيومها الأثيرية وذبذباتها وهالاتها المضيئة والمتوهّجة.
وينظر بعض النقاد الى كاندينسكي باعتباره احد أكثر الفنانين أصالة ونفوذا في القرن العشرين.
وقد أدّت نظريته حول "الضرورة الداخلية لتفسير الأفكار الانفعالية" إلى ظهور أسلوب تجريدي جديد في الرسم يرتكز على الخصائص اللاتمثيلية للون والشكل.
وتشكيلات كاندينيسكي كانت ذروة جهوده لإبداع "لوحات فنية نقية" توفّر نفس القوّة الانفعالية التي توفّرها المؤلفات الموسيقية.
كان كاندينسكي ينظر إلى التشكيلات باعتبارها تلخيصا لأفكاره ومواقفه الفنية، فهي تشترك في العديد من السمات التي تجسّد الأشكال التعبيرية للوعي والسموّ التمثيلي من خلال التصوير المجرّد.
ومثلما تحدّد السيمفونيات الموسيقية معالم معيّنة من تطوّر مهنة المؤلف، فإن تشكيلات كاندينسكي كانت تمثل ذروة رؤيته الفنّية في مرحلة معيّنة من مراحل مسيرته الفنية.
في لوحته هنا، يركّز كاندينسكي على الإيقاع الهندسي للتشكيل. وقد أعاد رسم هذه اللوحة عشر مرّات في العام 1923 كي يعكس من خلالها تأثير البنائية التي استوعبها في روسيا فبل أن يعود إلى ألمانيا لمزاولة التدريس.
وفي التوليف انتقل الفنان من اللون إلى الشكل باعتباره العنصر التشكيلي المهيمن. فالأشكال المتباينة توفر التوازن الديناميكي للعمل، والدائرة الكبيرة في أعلى اللوحة إلى اليسار تقابلها شبكة من الخطوط المحدّدة والدقيقة في الجزء الأيمن.
والفنان يستخدم ألوانا مختلفة داخل الأشكال لتنشيط بنائها الهندسي: دائرة صفراء بهالة زرقاء مقابل دائرة زرقاء بهالة صفراء.
أما الخلفية فمهمّتها تعزيز ديناميكية وعمق التشكيل، فيما تتراجع الأشكال وتتقدّم ضمن هذا العمق منتجة تأثير دفع وجذب ديناميكيا.
وبرأي بعض النقاد، فإن الفضل يعود لـ كاندينسكي في رسم أوّل لوحات تجريدية في تاريخ الفنّ ليصبح بعد ذلك رائد التجريدية في العالم، بل ومنظّرها الأوّل بلا منازع . لكن طموحه الفنّي ذهب به إلى أبعد من ذلك، فقد أراد استدعاء الصوت من خلال حاسّة الإبصار ومن ثم إيجاد معادل فنّي لسيمفونية لا تثير فقط العين وإنما الأذن أيضا.
كان كاندينسكي يؤمن بأن الكون واقع تحت تأثير ذبذبات صادرة عن قوى ما فوق الطبيعة وعن هالات الضوء والطاقة و"أشكال من الأفكار". وهي نفس آراء بعض الحركات الغامضة وشبه الدينية مثل الثيوصوفية التي تمارس طقوسا من التأمّل الروحي والفلسفي.
لقد أنجز كاندينسكي تجريدا صافيا عندما استبدل القلاع والأبراج العالية التي كانت تظهر في مناظره الطبيعية بكتل لونية أو بـ "أنغام وجمل موسيقية تؤلف معا أغنية "بصرية"، كما كان يراها.
وبهذه الطريقة نفسها رسم تكويناته الملتفّة مستخدما ضربات "متعدّدة الأصوات والنغمات" قوامها الأصفر الدافيء ذو التدرّجات الداكنة الذي تمّت موازنته برُقع من الأزرق "الرنّان" أو الأسود "الصامت".

موضوع ذو صلة: كاندينسكي.. العين تسمع والأذن ترى

Monday, August 22, 2005

لوحـات عالميـة – 23


امـرأة بمظلـة "مدام مونيه وابنها"
للفنان الفرنسي كـلـود مـونيـه، 1875

مونيه بالنسبة للكثيرين هو واسطة العقد بين جميع الفنانين الانطباعيين، وكلّ عمل من أعمال هذا الفنان الاستثنائي هو عالم قائم بذاته.
ومعظم نقاد الفنّ يجمعون على اعتبار هذه اللوحة احد اشهر وأفضل أعماله. ويمكن التدليل على ذلك بما حققته اللوحة من ذيوع وانتشار كبيرين. وبالإمكان رؤيتها على أغلفة العديد من الروايات العاطفية وكتب النقد الفني وأقراص الموسيقى المدمجة وخلافها.
في هذه اللوحة يلخّص مونيه المفهوم الانطباعي عن اللمحة الخاطفة. فاللوحة توصل بطريقة رائعة الإحساس باللقطة عندما تقتنص في اللحظة المناسبة خلال رحلة لزوجة الفنّان وابنه في يوم مشمس جميل.
طريقة رشّ الألوان النابضة والخفيفة تلعب دورا رئيسيا في خلق شعور بالتلقائية. ومن الصعب ونحن نتمعّن في هذه اللوحة أن نتبيّن إلى أين ستنتهي الغيوم الخفيفة آو متى تبدأ الريح في تحريك وشاح المرأة.
الطيّات اللولبية في فستان السيّدة هي تجسيد للنسيم الذي نكاد نحسّ به هنا وهو يتخلّل ثنايا المشهد كله.
أما ضوء الشمس الآتي من جهة اليسار فيقف في مواجهة الريح القادمة من اليمين، والشمس والريح يتماسّان ليشكلا دوّامة في منتصف اللوحة تبدأ بأوراق العشب المتثنية وتنعطف عبر المساحات البيضاء في مؤخّرة الفستان وحتى أعلى المظلّة.
أما المنظر من اسفل فيضفي ظلا على صورتي المرأة والطفل ليكثف بالتالي التأثير الديناميكي للشمس والضوء.
مونيه استطاع في هذه اللوحة أن يحقّق تباينا مبهجا بين الريح والغيم والضوء وثبات ارض المرتفع، من خلال ربط كلّ هذه العناصر بوضعية شخص المرأة.
واخيرا تجدر الإشارة إلى أن مصطلح الانطباعية اشتقّ من اسم لوحة لـ مونيه بعنوان "شروق انطباعي". وقد اختير الاسم ليوضع على عجل كعنوان للدليل المصوّر الخاصّ بمعرض فنّي أقيم في باريس العام 1874م.

Sunday, August 21, 2005

لوحـات عالميـة – 22


عائلة لاعبي السيرك المتجوّلين
للفنان الإسباني بابلـو بيكـاسـو، 1905

يعتبر بابلو بيكاسو أحد اكثر الفنانين نشاطا وتأثيرا خلال القرن الماضي، وقد أحرز نجاحات كثيرة في ميادين الرسم والنحت والسيراميك، كما تمرّس في العديد من الأساليب الفنية لكنه برز على نحو خاص في الرسوم التعبيرية وابتكر ما ُسمي في ما بعد بالتكعيبية.
درس بيكاسو الرسم في أكاديميتي برشلونة وسان فرناندو في مدريد، وفي العام 1899 كانت دائرة أصدقائه تضم الفنانين والكتاب الطليعيين الشباب الذين كانوا يسافرون ما بين مدريد وبرشلونة وباريس.
في 1904 انتقل بيكاسو إلى باريس واستقر في حي مونمارتر الذي تقطنه الطبقة العاملة فاختلط بهم وتشرّب ثقافتهم تدريجيا. ورغم أن بيكاسو استفاد كثيرا من أجواء باريس فانه كان ما يزال يشعر بالتعاسة والوحدة والفقر.
في السنة التالية كانت أعمال بيكاسو تتسم بغلبة اللون الزهري عليها ، ومن هنا سميّت تلك المرحلة بالمرحلة الزهرية، وجزء كبير من رسوماته التي أنجزها في تلك المرحلة كانت تعالج قضايا المشرّدين والمهمشين ولاعبي السيرك.
واللوحة المختارة هنا تنتمي لتلك المرحلة واسمها "عائلة لاعبي السيرك المتجولين" وهي تصوّر جماعة من لاعبي السيرك، لكن بيكاسو أراد أن تكون اللوحة تعبيرا مجازيا عن الفنان الحديث الذي لا جذور له حيث لا يعمل تحت رعاية ملك أو نبيل أو كنيسة، فالحداثة، طبقا لبيكاسو، حالة تشرّد وعزلة.
أما الأشخاص الظاهرون في اللوحة فهم بيكاسو نفسه واصدقاؤه، حيث يرتدي هو ثياب المهرّج، إلى اليسار، ثم هناك ابولينير الشاعر والناقد وأول من ابتكر مصطلح السوريالية، والشاعران اندريه سالمون وماكس جيكوب ويمثلهما الولدان الصغيران، أما الأنثى الجالسة إلى اليمين فهي فرناند خليلة بيكاسو، والطفلة الصغيرة التي تمسك بيد المهرج هي ابنة بيكاسو وفرناند بالتبني.
أما الحيز الفارغ إلى أعلى فيرمز للغياب النسبي للأفكار التي رافقت المرحلة الزرقاء: الشعور بالتوق والوحدة والنبذ والخواء.
والأشخاص هنا اكثر تحديدا ووضوحا من أشخاص المرحلة الزرقاء الذين كانوا يتّسمون بالتشوهات المؤلمة.
ورغم أن الألوان أصبحت فاتحة اكثر مع ألوان زهرية اكثر دفئا، فان المزاج السائد ما يزال سوداويا إلى حدّ ما مع إحساس بالارتياح النسبي المشوب بالمرارة.
استمرت المرحلة الزهرية سنة واحدة فقط بعد المرحة الزرقاء لكن بيكاسو لم يعد يشعر بالغربة فقد اصبح له صديقة وعائلة من نوع ما، واصبح يقضي بعض الوقت في السيرك لاكتساب أصدقاء جدد.
الأرض التي يقف عليها الأشخاص في اللوحة منعزلة ونائية، ورغم أن بيكاسو يربط كل واحد منهم بالآخر وفق وضع محسوب بعناية، فان كل شخص منهم منعزل نفسيا عن الآخرين. وفي المرحلة الزهرية ابتعد بيكاسو عن الصور المثيرة جدا للشفقة، ففي هذه اللوحة يسود جو هو مزيج من الاستبطان والتأمل الحزين.
وختاما، قد لا تكفي لوحة واحدة ولا موضوع واحد للتعبير عن عبقرية هذا الفنان الكبير والأثر الضخم الذي تركه على حركة الفن التشكيلي في العالم.