Saturday, August 20, 2005

لوحـات عالميـة - 21


ابــن الإنســان
للفنان البلجيكي رينـيـه مـاغـريـت، 1964

ولد رينيه ماغريت في العام 1898 ودرس الرسم في بروكسل.
ومنذ أعماله الأولى سيطر على فنه أسلوب قريب جدّا من السوريالية، وطبع هذا الأسلوب جميع أعماله في ما بعد.
عُرف ماغريت بدقته ومهارته الفنية، وقد اشتهر بأعماله التي حاول فيها التقريب بين عناصر عادية في سياق غير مألوف لتعطي في النهاية معاني جديدة. ثم أصبح رائدا لهذا الاتجاه في الرسم الذي أطلق عليه في ما بعد الواقعية السحرية.
"ابن الإنسان" هي احد أشهر أعمال ماغريت، وفيها يظهر رجل يعتمر قبّعة ويقف أمام جدار. لكنّ معالم وجه الرجل تحجبها عن الناظر تفّاحة خضراء.
وللتفّاحة أهمّية خاصّة عند ماغريت إذ تظهر كعلامة فارقة في الكثير من لوحاته. ويمكن فهمها وطبيعة وظيفتها ضمن سياقات مختلفة ومتعدّدة. فالتفاحة فاكهة لكنها بنفس الوقت صورة مجازية لأشياء أخرى كالجاذبية والإغراء والخطيئة أو الطرد من الجنّة. كما يمكن أن تكون رمزا لاختراع أو ابتكار ما أو نظرية أو فكرة علمية.. إلى آخره.
يقول ماغريت محاولا مساعدة الناس على فهم هذه اللوحة: "كل شئ نراه يخفي خلفه شيئا آخر، والإنسان يتوق على الدوام إلى رؤية ما يختفي وراء ما يراه"!
وهناك من يعتقد أن العنوان "ابن الإنسان" قد يكون مستمدّا من الإنجيل، أي أن ابن الإنسان ربّما يكون الإنسان الأول، أي آدم.
وقد يكون المعنى الكامن في صورة الرجل الذي يبدو بلا وجه أو ملامح، هو أن خطيئة آدم مستمرّة، فهو قد أكل الفاكهة المحرّمة، وابنه قابيل قتل أخاه هابيل.
أما البدلة الحديثة التي يرتديها الرجل فثمّة احتمال أنها تشير إلى أن الخطيئة سافرت عبر العصور لتصل إلى عصرنا بحيث لا يمكن الهروب منها. فهي معنا أينما وقفنا، وستظلّ هناك أمام وجوهنا تذكّرنا نحن أبناء الإنسان بخطيئة أبينا الأكبر.
وأيّاً ما يكون المعنى الذي أراده ماغريت من وراء هذه اللوحة، فقد عُرف عنه نفوره من التفسيرات التي يرى أنها تخفّف من غموض لوحاته.
في عالم ماغريت، يظهر الأشخاص بهيئة موظفي المكاتب في خمسينات القرن الماضي. فهم بورجوازيون تعلو رؤوسهم قبّعات اسطوانية سوداء وتطوّق أجسادهم بدلات ضيّقة محكمة الأزرار.
وهم محصورون داخل ما يشبه غابة من الحجارة الصلدة الباردة. لكنهم ما يزالون يحتفظون بجزء من إنسانيتهم يتمثل في قدرتهم على التخيّل. فهم يتمتعون بخيال خصب وأرواحهم تحلّق عاليا مثل حمامات بيضاء.
وفي غالب الأحيان تكون ملامح الأشخاص محجوبة عنا، كما هو الحال في هذه اللوحة. وأحيانا لا نرى منهم سوى ظهورهم، الأمر الذي يوحي بأنهم إما منشغلون بالنظر إلى المستقبل أو أنهم لا يعبئون بالماضي أو أن فكرتهم عن العالم مقتصرة فحسب على ما يرونه أمامهم.
توفي رينيه ماغريت في العام 1967. لكن لوحاته ما تزال تحظى بالشعبية والاهتمام رغم غموضها واستعصائها على التفسير في الكثير من الأحيان.

Friday, August 19, 2005

لوحـات عالميـة – 20


تنسيق باللونين البنّي والأسود "بورتريه لأم الفنان"
للفنان الأمريكي جيمـس ويسلـر، 1871

هذه اللوحة الشهيرة لها اسم آخر أكثر اختصارا هو "والدة ويسلر". وقد أصبحت أيقونة ترمز للفنّ الأمريكي بعد أن طافت على عدد من متاحف العالم الكبيرة.
ولد جيمس ويسلر في الولايات المتّحدة، لكنه غادرها في سنّ الحادية والعشرين ليستقرّ في أوربا متنقلا ما بين لندن وباريس.
في لندن أصبح ويسلر صديقا للرسّام دانتي غابرييل روزيتي والكاتب الايرلندي اوسكار وايلد.
وفي باريس أقام علاقة طيّبة مع مانيه وديغا.
وعندما كان في لندن، كانت والدته آنا ما تزال تعيش في الولايات المتحدة. كانت آنذاك أرملة مسنّة وكان أبناؤها قد أصبحوا كبارا. في ذلك الوقت كانت الحرب الأهلية الأمريكية في ذروة استعارها. وقد اقنع الفنان والدته بالمجيء إلى لندن حيث أقامت معه حتى وفاتها.
وعندما رسمها كانت في سنّ السابعة والستين.
وقد حاول ويسلر في اللوحة نقل شخصية والدته البروتستانتية الوقورة. واختار أن يرسمها في وضع جانبي وهي ترتدي فستانا اسود وغطاء رأس ابيض بينما أمسكت بيدها منديلا حريريا ابيض.
ملامح المرأة جامدة وقد لا تعبّر عن انفعال محدّد.
ومما يلفت الانتباه في هذا العمل جمال ورقّة التباين بين الألوان الغالبة على اللوحة، خاصّة الأسود والرمادي والأبيض. ولم ينسَ الرسّام أن يضمّن اللوحة إحدى لوحاته المشهورة التي تبدو معلقة على الجدار.
كان ويسلر من المدافعين الأقوياء عن مدرسة الفنّ للفن، بدليل الاسم الطويل والغريب الذي أطلقه على اللوحة. وهو اسم يحمل تحدّيا واضحا لأسلوب التسميات التقليدية ويحاكي في نفس الوقت العناوين "اللونية" للسيمفونيات والمؤلفات الموسيقية التي وضعها مؤلفون موسيقيون ينتمون إلى هذه المدرسة.
وعندما عُرضت اللوحة في باريس استقبلت استقبالا حسنا ثم اشتراها متحف لوكسمبورغ بمبلغ ستمائة دولار.
لكنها انتقلت في ما بعد إلى متحف اورساي في باريس حيث ظلّت فيه إلى اليوم. وهي من اللوحات ذات الشعبية الكبيرة في أمريكا. حيث ظهرت على الطوابع البريدية وأصبحت رمزا مصاحبا لاحتفالات عيد الأم. كما ظهرت في العديد من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية.
وحتى اليوم ما يزال ُينظر إلى اللوحة في الولايات المتحدة باعتبارها رمزا للأمومة والتعاطف والرفق بالوالدين والقيم العائلية بشكل عام.
وقد اجتذبت اللوحة عددا كبيرا من الفنانين الذين قلّدوها ونسجوا على منوالها من حيث الألوان والخلفية وطريقة جلوس السيّدة.
عاصر ويسلر الانطباعية غير انه لم يتأثّر بها بل فضّل أن يختط لنفسه أسلوبا مستقلا.
وقد كان يتبنّى أفكارا تجديدية في اللون والتوليف تأثّر بها بعض معاصريه من الفنانين ومن أتوا بعده.
ويقال انه لم يتلقّ أبدا التقدير الذي يستحقّه. وفي بعض المرّات انتقدت لوحته هذه بسبب ما قيل عن انعدام العاطفة والدفء الإنساني فيها. وهو ما لا يتوقّعه الناس من فنّان يرسم أمّه، كما قال منتقدوه.
غير انه كان يردّ دائما بأن الجمهور لا يهتمّ عادة بهويّة الشخص المرسوم أو بطبيعته علاقته بالرسّام.
أثناء إقامة ويسلر في باريس كانت موديله المفضّلة جوانا هيفرنان التي ظهرت في بعض لوحاته الباريسية وأصبحت فيما بعد عشيقته.
لكنه تخلّى عنها بعد أن اكتشف أنها هي الموديل التي استخدمها غوستاف كوربيه في لوحته "أصل العالم" التي جلبت عليه غضب وسخط الكثيرين.
وقد قطع ويسلر علاقته بالاثنين في ما بعد. وقيل إن سبب نقمة ويسلر على هيفرنان انه صُدم بتحرّرها المبالغ فيه وربّما كان يتوقّع منها أن تكون بحشمة وورع أمّه.

Wednesday, August 17, 2005

لوحـات عالميـة – 19

ليلـة مرصّعـة بالنجـوم
للفنان الهولندي فنسنـت فــان غــوخ، 1889

تعتبر لوحة "ليلة مرصّعة بالنجوم" اشهر أعمال الفنان فنسنت فان غوخ، ومن السهل التعرف على هذه اللوحة بسبب أسلوبها المتفرد، ومع مرور الأيام أصبحت موضوعا لقصائد الشعر والروايات والمقطوعات الموسيقية.
وبينما لا يوجد من ينكر الرّواج الواسع لهذه اللوحة، فمن المثير للاهتمام أن نلاحظ انه لا يتوفّر سوى معلومات قليلة جدا عن شعور الفنان فان غوخ تجاهها.
فهو لم يذكرها سوى مرّتين في رسائله وبصورة عابرة.
رسم فان غوخ اللوحة في ظروف كان سلوكه خلالها يتسم بغرابة الأطوار بسبب شدّة النوبات التي كانت تجتاحه. وقد رسمها من الذاكرة وليس في الطبيعة الخارجية كما هو الحال مع لوحاته الأخرى. وهذا يفسّر - ربّما - سبب التأثير الانفعالي القويّ لهذه اللوحة والذي يفوق تأثير كافة أعماله الأخرى في نفس الفترة.
ويتساءل النقاد عما إذا كان الأسلوب الهائج الذي رسم به فان غوخ هذه اللوحة يعكس عقلية معذّبة أو ما إذا كانت اللوحة تخفي سرّا ما هو الذي دفع الفنان إلى تصوير السماء الليلية بتلك الصورة الثائرة والمضطربة.
لكن مما لا شك فيه أن هذا الجدل هو أحد الأسباب التي حدت بالنقاد إلى اعتبار هذه اللوحة بالذات اشهر أعمال فان غوخ على الإطلاق وأكثرها قابلية للتفسيرات والمعاني.
بعض النقاد توقّفوا عند الأحد عشر نجما الظاهرة في اللوحة، وتحدّثوا عن إمكانية أن يكون الفنان تأثر بقصة يوسف في العهد القديم، رغم حقيقة أن فان غوخ لم تكن له ميول دينية قوية في العام 1889 الذي رسم فيه اللوحة.
لكن أيا ما كانت التفسيرات أو المعاني الحقيقية للوحة، فقد أصبحت إحدى اشهر واهم الأعمال الفنية التي أنجزت في القرن التاسع عشر.
في اللوحة نجد الهدوء والفوضى، والسلام والاضطراب الكوني جنبا إلى جنب. فالسماء تضطرب باللون الأصفر المحترق والمرتفعات تميد وتهتز، بينما تبعث الألعاب النارية الذهبية والمنطلقة باتجاه السماء الزرقاء شعورا بالارتياح النسبي.
بعض دارسي الفن يقولون إن فان غوخ أراد في الواقع أن يوصل مشاعره فيها بطريقة اكثر قوّة ومباشرة مما تستطيعه الكلمات، وان الأمر لا يتعلق بالشعور بالإحباط أو أعراض الهلوسة، وانما بإحساس الفنان بالأمل كدافع لمحاربة اليأس.
فاللوحة تضجّ بالحيوية والقوّة التي تشير إلى حضور الخالق، فالنجوم لا تشعّ فقط وانما تتفجّر بالشعاع الأخاذ، والأرض تبدو كما لو أنها تستجيب لحركة السماء مشكلة أمواجها الحيّة في الجبال والأشجار التي تحتها.
وفي القرية النائمة، تشعّ نوافذ البيوت بالنور الذي يضئ الكون، بينما يبدو برج الكنيسة كما لو انه يجاهد ليشير إلى الخالق؛ الحاضر الحيّ في هذا المشهد الكوني الاحتفالي الفريد.
وتظلّ لوحة "سماء مرصّعة بالنجوم" تثير الجدل والأسئلة والتفسيرات المختلفة والمتناقضة.

موضوع ذو صلة: تحفة فان غوخ الحقيقية

لوحـات عالميـة – 18

تمـثـال المفـكـّـر
للفنان الفرنسي اوغست رُودان، 1880

بعض النقّاد يلقّبون رودان بـ "موزارت النحت الحديث" ويعتبرونه احد الفنّانين النادرين الذين تتحدّث أعمالهم إلى أعماق النفس الإنسانية. والبعض الآخر يلقّبه بـ "فاغنر عالم النحت الحديث"، على أساس انه واحد من أولئك الفنّانين القلائل الذين تتحدّث أعمالهم إلى التطلّعات العميقة لمعظم الناس. والذين رأوا أعماله لاحظوا فيها عمق الرؤية والحرفية التي يصعب منافستها أو تقليدها.
وهناك من يرى انه يشكّل جسرا ما بين رومانسية القرن التاسع عشر وحداثة القرن العشرين، ما سمح للناس أن يروا الشوط البعيد الذي قطعه الفنّ. احد أعماله الأولى، وكان تمثالا نصفيا بعنوان "رجل بأنف مكسورة"، استلهمه من عامل عجوز كان في أنفه التواء، وصاغ التمثال على بعض ملامح التماثيل النصفية الإغريقية.
وربّما فعل ذلك انطلاقا من حقيقة أن كلّ التماثيل النصفية التي وصلت من الأزمنة القديمة كانت أنوفها مكسورة أو فقدت رؤوسها أو بعضا من أطرافها. وهناك من يقول إن الشاعر رينر ماريا ريلكا الذي عمل سكرتيرا لرودان لبعض الوقت قد يكون استلهم ذلك التمثال في كتابة إحدى أشهر قصائده.
وتمثال المفكّر هو بلا شك أشهر أعمال رودان. كما انه أفضل تحفة فنّية تعبّر عن عملية التفكير عند الإنسان وتجسّد قوّة العقل ودوره في إبداع الأفكار. وقد استغرق العمل على التمثال عشر سنوات. ومنذ ذلك الحين يُنظر إليه باعتباره أحد أفضل الأعمال النحتية على مرّ العصور.
ويكمن نجاح رودان في انه تمكّن من تمثيل عملية التفكير، وهي شيء لا يمكن رؤيته أو لمسه. والتمثال يُظهر رجلا ضخم الجثّة ومسندا رأسه إلى يده وهو مستغرق في التفكير العميق. بل إن أصابع قدميه منغرسة في الأرض من فرط تركيزه واستغراقه.
ويُعتقد انه يصوّر فيلسوفا مشهورا مثل أفلاطون أو حتى سوبرمان نيتشه. غير أن نيتشه لم يكن معروفا آنذاك بما فيه الكفاية. وحتى ملامح أفلاطون ليست قريبة من التمثال.
ولد رودان في باريس ونشأ فيها. ومنذ صغره كان يريد أن يصبح فنّانا. غير أن مدرسة الفنون في باريس رفضت قبوله كطالب، فعمل كحرفيّ وقاطع أحجار قبل أن يلتحق للعمل بأحد الأديرة.
وهناك لاحظ رئيس الدير ميله للنحت وشجّعه على أن يصبح نحّاتا. فتعلّم طريقة شقّ الحجر وصبّ الفولاذ في الفجوات وغيرها من المهارات الفنّية اللازمة في النحت.
ثم وجد ضالّته في معلّم يُدعى البير ارنست بيلوس الذي أخذه معه إلى بروكسل للمساعدة في بناء معالم عامّة أمرت بها الحكومة البلجيكية.
وفي عام 1875 ساهمت رحلة له إلى ايطاليا في فتح انجازات الماضي أمامه متمثّلة في أعمال ميكيل انجيلو ودوناتيللو. الذكور البطوليون والأنبياء الخطرون والشاعرات الغامضات والخاطئون المعذّبون والمرعوبون المتوجّهون إلى الجحيم ظلّوا هاجسا يؤرّق خيال رودان بقيّة حياته. وقد ألهب هو فنّ النحت الذي كان يقارب الموت في نهاية القرن التاسع عشر ووفّر مصدر إلهام لفنّاني القرن العشرين.
في رحلته إلى لندن عام 1882، اكتشف رودان أعمال معاصريه البريطانيين ومن كانوا يُسمّون بالرسّامين ما قبل الرافائيليين. وكان هؤلاء قد رسموا مناظر من الكوميديا الإلهية متأثّرين في ذلك بوليام بليك وغيره من رسّامي تلك الحقبة.
ويقال انه عندما نحت "المفكّر" كان في ذهنه دانتي أمام بوّابات الجحيم وهو يتأمّل قصيدته العظيمة. غير أن تصوير دانتي كرجل عارٍ بدا أمرا سخيفا في نظر الناس في ذلك العصر.
وتساءل الكثيرون وقتها عن السبب في أن رودان صوّر المفكّر بتلك الهيئة. وهناك نظرية تقول انه أراده شخصا بطوليّا على منوال شخوص ميكيل انجيلو بحيث يجسّد التفكير والجمال معا.
كانت الكوميديا الإلهية تُعتبر اكبر مزاوجة بين الشعر الأوربّي والفلسفة. ولم تكن تنافسها في الشهرة سوى إلياذة هوميروس. ومن المعروف أن رودان كان مفتونا على وجه الخصوص برحلة دانتي إلى الجحيم. وقد أصبح تصوير شخصيات ذلك الجزء من القصيدة الملحمية همّه الأول. ويبدو أن ملحمة دانتي ورسومات بليك ومثال ميكيل انجيلو كانت المزيج الذي أشعل موهبة رودان طوال الأربعة عقود التالية.
رودان نفسه كتب في ما بعد يقول: "المفكّر" له قصّة، فمنذ زمن طويل كنت أفكّر في بوّابات الجحيم وأتخيّل دانتي جالسا على صخرة وهو يُعمل عقله في بناء قصيدته. لكن خطر لي أن تصوير دانتي الزاهد الهزيل معزولا عن كلّ شيء سيكون بلا معنى. وفكّرت في شخص آخر عارٍ يجلس على الصخرة ويضع كفّه تحت ذقنه ويحلم. في الواقع هو ليس حالما بل هو مبدع وخالق".
"مفكّر" رودان كان له صدى في التطلّعات العظيمة للقرن التاسع عشر، عصر ماركس وداروين وفاغنر. لكن في معادلته عن المفكّر الشاعر الخالق، كان رودان بمعنى ما سابقا لعصره.
الشعبية الكبيرة لـ "المفكّر" تُعزى إلى الشعور الذي يجسّده، أي الرجل المُسهَد المتجمّد الحركة لاستغراقه في التفكير. وحسب رودان فإن المفكّر لا يفكّر بعقله ولا بحاجبيه المقطبين ولا بشفتيه المطبقتين، وإنّما بكلّ عضلة في ذراعه وظهره وساقه.
وقد أنجز رودان عشر نسخ من التمثال. وعند وفاته عام 1917 كان حقّ استنساخه قد مُنح للشعب الفرنسيّ. ومنذ ذلك الوقت ازداد عدد تماثيل المفكّر إلى حوالي عشرين تمثالا. وبعض النسخ منه تنتشر اليوم في ملبورن وجنيف وواشنطن وغيرها.
والمعروف انه لا توجد حتى اليوم أيّة سيرة وافية عن حياة رودان. والسبب هو انه يستحيل الوصول إلى الأرشيف الضخم الذي يضمّه متحفه. كما انه ليس من المتيّسر الحصول على معلومات حتى عن مسائل أساسية، مثل مجموعته من التحف القديمة، وهو المعروف بشغفه بشراء قطع الفنّ الكلاسيكي.
لكن يُعرف انه ولد عام 1840، وكان معاصرا لمونيه ورينوار. وقد شارك مع الأوّل في معارض وجَمَع أعمالهما التي كان يضعها في مكتبه. كما كان من أوائل من اعترفوا بموهبة فان غوخ الذي اشترى له ثلاث لوحات. وكان شارل بودلير من اقرب أصدقاء رودان. كما كان يستمتع بالموسيقى، وعُرف عنه خاصّة حبّه لفنون الشرق الأدنى وعشقه لأوبرا غلوك وإعجابه بالرسّام إل غريكو.
وعندما ازدادت شعبيّته اجتذب المزيد من الشخصيات الأدبية والفنّية مثل الشاعر الألماني ماريا ريلكا والكاتب الأمريكي اوسكار وايلد. وقد صاحبه ريلكا سنتين وأنجز له أعمالا إدارية.
قبيل وفاته، عقد رودان اتفاقا مع الحكومة الفرنسية بأن يترك جميع منحوتاته ورسوماته وصوره للدولة، شرط أن يتحوّل فندق بيرون الذي كان يتردّد عليه ويعمل فيه إلى متحف يحمل اسمه ويؤوي أعماله.
ومن هنا ولد متحف رودان الذي يضمّ اليوم أكثر من ستّة آلاف قطعة نحتية وأكثر من سبعة آلاف عملٍ على الورق. كما يضمّ المتحف لوحات لمونيه وفان غوخ كان قد اشتراها لتكون شاهدا على انه كان على وئام مع الانطباعيين ومن أتى بعدهم.
لم يكن رودان يحبّذ فكرة الزواج، بل كان يعتقد أن العيش مع نساء يمكن أن يكون فخّاً. وقد قال ذات مرّة إن الرجال كثيرا ما يضحّون بأنفسهم من اجل نساء يمكن أن يكنّ سببا في المعاناة والشقاء. كان يرى أن المرأة يمكن أن تسيطر عليه وأن تعيق فنّه.
لكن هذا لم يمنعه من المغامرة، وإحدى أشهر تجاربه النسائية كانت مع كميل كلوديل التي كانت هي أيضا نحّاتة معروفة. وقد حملت له بولدين، لكن قصّتها انتهت نهاية مأساوية، إذ استقرّ بها المطاف في مشفى للأمراض العقلية. وإحدى طالباته، وهي الايرلندية نوالا اودونيل، قتلت نفسها بسبب لا مبالاته بها.
وفي عام 1917 تزوّج رودان من روز بيوريه، المرأة التي كان يعرفها منذ ثلاثة وخمسين عاما. لكنّها توفّيت بعد الزواج بأسبوعين. وفي نفس تلك السنة توفّي رودان نفسه بعد إصابته بالإنفلونزا، وكان في السابعة والسبعين من عمره. وقبيل وفاته أوصى بأن توضع نسخة مصغّرة من "المفكّر" على قبره كشاهد.
في زمانه، كان رودان يقارن بميكيل انجيلو، لكن خلال نصف القرن الأخير ضعفت شعبيّته مع تغيّر الأذواق والقيم الجمالية. لكن في كلّ الأحوال، ما يزال الكثيرون يعتبرونه أشهر نحّات معاصر في العالم الحديث.

Tuesday, August 16, 2005

لوحـات عالميـة – 17


القبــلة الأولــى
للفنان الفرنسي ويليـام بـوغـرو، 1873

كان الفنان ويليام بوغرو يركّز في أعماله الفنية على رسم الأشخاص. غير انه اشتهر أيضا برسم لوحات تصوّر الملائكة وحوريات البحر والمخلوقات الأسطورية.
ولوحة "القبلة الأولى" تعتبر من أعماله الجميلة التي لقيت على الدوام شهرة ورواجا كبيرَين.
اللوحة تصوّر ملاكَين صغيرين يحتضن كلّ منهما الآخر. وقد استخدم بوغرو هنا ألوانا شاحبة، خاصّة الأبيض وتدرّجاته، للتأكيد على رقّة الموضوع ولجعله يبدو ذا مسحة مقدّسة وبريئة.
القماش الأزرق الذي يجلس عليه الملاكان يحيل اهتمام الناظر تلقائيا إلى الغيمة التي تقوم بوظيفة المقعد. بينما استخدم الرسّام في أسفل اللوحة تدرّجات داكنة لإنتاج تأثير ظلّي يعطي الغيمة عمقا ونسيجا اكبر.
وقد رُسم الملاكان بهيئة عارية جزئيا لإضفاء إحساس بالبراءة والبساطة والطهر. أما لون الشعر البنّي الناعم فيبرز التباين الحاصل مع الخلفية البيضاء للغيوم بطريقة فيها تناغم وانسجام.
الفارق الوحيد بين الملاكين في اللوحة هو الأجنحة. فالولد له جناحان أبيضان بالكامل وبريش طويل. ويبدو جناحاه اقرب ما يكونان إلى جناحي الإوز. أما البنت فقد ظهر جناحاها بتدرّجات لونية أغمق قليلا وهما أشبه ما يكونان بجناحي فراشة.
أظهر ويليام بوغرو ميلا للرسم وهو ما يزال في سنّ مبكّرة. وخلال فترة دراسته في مدرسة الفنون كان تميّز أسلوبه الفني محلّ اهتمام أساتذته وزملائه.
وفي احد الأوقات ذهب إلى روما حيث درس هناك لوحات غيوتو وغيره من كبار رسّامي عصر النهضة الايطالي.
وعندما عاد إلى باريس كلّفته الدولة برسم لوحة تظهر نابليون وهو يزور ضحايا الفيضان في تاراسكون. كما عمل لبعض الوقت في تزيين أسقف وديكورات بعض الكنائس والمسارح.
في بعض لوحات بوغرو براءة واضحة. بينما تعكس بعض أعماله الأخرى مزاجا لعوبا ومتفائلا يحاكي الجانب الخفيف من الحياة.
وهو كان ميّالا لتضمين لوحاته صورا لأطفال وحوريات وملائكة. وقد يكون هذا احد أسباب شعبيّتها ورواجها وقربها من قلوب الناس.
وقد عُيّن في نهايات حياته أستاذا في كليّة الفنون الجميلة في باريس. وأثناء عمله بالتدريس استمرّ في رسم وعرض لوحاته حتى وفاته.
يُذكر أن لوحات بوغرو كانت تروق كثيرا لجامعي الأعمال الفنية من الأمريكيين والأوربيين. وبعد وفاته ظلت أعماله تستهوي قطاعات لا بأس بها من النقّاد والناس. غير أن الكثيرين بدءوا يديرون ظهورهم للرسم الكلاسيكي مع تزايد الطلب على الفنّ الذي يصوّر مظاهر الحياة الحديثة، وبخاصّة لوحات الانطباعيين.
وكان الانطباعيون يرون في أعمال بوغرو تجسيدا لكل ما كانت المدرسة الفنية الوليدة تعاديه وتعارضه، ابتداءً من المضمون السردي والتكنيك الصارم إلى الإغراق في الشعرية والتعويل كثيرا على التقاليد. وما عمّق العداء أكثر ما كان يقال وقتها عن ارتباط الفنّ الأكاديمي بالقيم والرموز البورجوازية والإقطاعية.
في هذه اللوحة، يبدو الانطباع المرسوم على وجه الملاك الأنثى مثيرا للاهتمام بشكل خاصّ. ومن الصعب معرفة نوع الانفعال المرتسم على وجهها، أو ما إذا كان تعبيرا عن الرضا أم اللامبالاة.
لكن طبقا للعلاقة بين لغة الجسد والأفكار والمشاعر الشخصية، فإن الفتاة تبدي تجاهلا تامّا للفتى الذي يهمّ بتقبيلها. يمكن افتراض هذا لأنها لا تبادله الاحتضان ونظرها مركّز إلى أسفل دون أن تبتسم وكما لو أنها تحاول إبعاد نفسها عنه.
ومع هذا فإن ما سبق يعتبر مجرّد تفسير واحد فقط لهذا العمل الفنّي الجميل الذي يحتمل أكثر من قراءة وتفسير.
كان ويليام بوغرو يرسم عالما من المثالية والكمال. كانت مناظره الواقعية تبعث نسغ الحياة في نسائه وفتياته الجميلات بطريقة كانت تسحر كثيرا هواة شراء الأعمال الفنية وعامّة الناس على السواء.
وكان حريصا على أن تبدو فلاحاته من النساء الصغيرات بأقدام وملابس نظيفة ووجوه باسمة مشرقة دون أن تظهر عليهن علامات تشي بالفقر أو الحاجة.
في أخريات حياته توفّيت زوجته تاركة له خمسة أطفال، فتزوّج للمرّة الثانية من إحدى زميلاته ممّن سبق لها أن درست على يده.
وقد ظلّ بوغرو وفيّا للأسلوب التقليدي في الرسم حتى وفاته في العام 1905 إثر نوبة قلبية عن 80 عاما.

Monday, August 15, 2005

لوحـات عالميـة – 16

شقيقتـان في ُشـرفـة
للفنان الفرنسي بييـر رينـوار، 1882

بدأ رينوار حياته في زخرفة أواني المرمر. لكنّ طموحه وطبيعته دفعاه بسرعة إلى صفوف الرسّامين الأوائل.
وكانت نقطة التحوّل الكبرى في مسيرته الفنّية عندما احدث هو ومجموعة من زملائه ثورة فنّية كبرى سُمّيت بالانطباعية.
لم يحذُ رينوار حذو الكلاسيكيين الذين عُنوا بالألوان الفاتحة والظلال المتدرّجة وصولا إلى أفق اللوحة. بل كان يرى أن الألوان المتناثرة في الخلفية لها نفس كثافة الألوان التي تظهر في الواجهة، ما يعطي اللوحة وضوحا غير عادّي.
شقيقتان في ُشرفة هي واحدة من أشهر الأعمال الفنّية التي أنجزها رينوار في العام 1881م وحاول فيها تصوير انطباع فتاتين في يوم ربيعي دافئ.
وقد رسمها في شاتو التي قضى فيها شطرا من ربيع ذلك العام وكان يعتبرها أجمل ضواحي باريس. واختار مكانا للوحة شرفة مطعم فورنيز الذي يطلّ على نهر السين. وهو نفس المكان الذي رسم فيه لوحته الأخرى "عشاء في رحلة بالقارب". هذه اللوحة هي أيضا جزء من محاولات رينوار استكشاف وتصوير نمط حياة الطبقة البورجوازية الباريسية في ذلك الوقت.
في الصورة يرسم رينوار فتاتين تجلسان في شرفة أمام منظر طبيعي. ومن الواضح أن الوقت ربيع. فالأزهار والنباتات تغطّي كلّ شيء بينما تظهر بعض انعكاساتها على مياه النهر.
الفتاة الكبرى ترتدي قبّعة حمراء وفستانا ازرق بينما تحتضن سلّة مملوءة بالفواكه. والفتاة الصغرى تضع قبّعة ذات لون ازرق داكن وترتدي فستانا ابيض مزيّنا برسومات لأزهار. وخلف الفتاتين قوارب تتحرّك على طول ضفتي النهر.
التفاصيل في اللوحة كثيرة لعلّ أهمّها كثرة النباتات والأزهار وأشجار الكروم خلف الشرفة. ثم هناك النظرات الحالمة للفتاة الكبرى التي حرص الرسّام على إضفاء نسيج ناعم على بشرتها.
الفتاتان الظاهرتان في اللوحة ليستا شقيقتين كما يوحي بذلك العنوان. كما أن هويّتهما غير معروفة تماما. لكن قيل بأن الكبرى اسمها جيان دارلو والتي أصبحت في ما بعد ممثّلة مسرح. وقيل أيضا أن صورتها في هذه اللوحة أكثر جاذبية من الصور الفوتوغرافية التي التقطت لها آنذاك.
النقّاد يجمعون على اعتبار هذه اللوحة إحدى أشهر لوحات رينوار وأكثرها شعبية واحتفاءً. وهي تبرهن على فخامة مناظر الرسّام وجمال ورقّة ألوانه.
لوحات رينوار تتميّز بحيويّتها ونزوعها نحو الطبيعة وتماسّها المباشر بالواقع وخلوّها من مشاهد العنف. فقط ضربات ناعمة بالفرشاة ولمحات شاعرية أنيقة تفيض بحبّ مبدعها الجارف للحياة وللكائنات.

Sunday, August 14, 2005

لوحـات عالميـة – 15


الصّــرخــة
للفنان النرويجي إدفـارد مونـك، 1893

الصرخة هي اشهر أعمال الفنان ادفارد مونك.
وقد اكتسبت هذه اللوحة، رغم بساطتها الظاهرية، شعبية كاسحة خاصة منذ الحرب العالمية الثانية.
ربّما يعود سبب شهرة هذه اللوحة إلى شحنة الدراما المكثفة فيها والخوف الوجودي الذي تجسّده.
في الجزء الأمامي من اللوحة نرى طريقا يحفّه سياج حديدي، وعبر الطريق نرى شخصا يرفع يديه بمحاذاة رأسه بينما تبدو عيناه محدقتين بهلع وفمه يصرخ.
وفي الخلفية يبدو شخصان يعتمران قبعتين، وخلفهما منظر طبيعي من التلال.
كتب ادفارد مونك في مذكراته الأدبية شارحا ظروف رسمه لهذه اللوحة: "كنت امشي في الطريق بصحبة صديقين، وكانت الشمس تميل نحو الغروب، عندما غمرني شعور بالكآبة. وفجأة تحولت السماء إلى احمر بلون الدم. توقفت وأسندت ظهري إلى القضبان الحديدية من فرط إحساسي بالإنهاك والتعب. واصل الصديقان مشيهما ووقفت هناك ارتجف من شدة الخوف الذي لا ادري سببه أو مصدره. وفجأة سمعت صوت صرخة عظيمة تردّد صداها طويلا عبر الطبيعة المجاورة".
عندما يتذكر مؤرخو الفن ادفارد مونك فانهم يتذكرونه بسبب هذه اللوحة بالذات، ربما لأنها لا تصوّر حادثة أو منظرا طبيعيا، وانما حالة ذهنية.
الدراما في اللوحة داخلية، مع أن الموضوع مرتبط بقوة بطبوغرافية أوسلو مدينة الفنان.
والمنظر الطبيعي المسائي يتحول إلى إيقاع تجريدي من الخطوط المتموجة، والخط الحديدي المتجه نحو الداخل يكثف الإحساس بالجو المزعج في اللوحة.
لوحة الصرخة لادفارد مونك تحولت منذ ظهورها في العام 1893 إلى موضوع لقصائد الشعراء وصرعات المصممين، رغم أن للفنان لوحات افضل منها وأقل سوداوية وتشاؤما.

موضوع ذو صلة: مونك والصرخة.. قراءة مختلفة