Saturday, December 05, 2015

لوحات عالميـة – 365

منظر طبيعيّ مع بورتريه للناسك جيروم
للفنان الهولندي يواكيم باتينير، 1520

كان جيل الرسّامين الهولنديين الأوائل هم الأشهر في أوربّا في زمانهم. ومن بينهم اكتسب الفنّان انطوني فان ايك بالذات مكانة أسطورية باعتباره مبتكر الرسم بالزيت. وأعمال هؤلاء كان يطلبها الملوك والأمراء والتجّار في أرجاء القارّة لجودة ألوانها وتنفيذها ولدقّتها التعبيرية الكبيرة.
وما غذّى صناعة وسوق الرسم آنذاك هو الاقتصاد النشط والمتعافي في الأراضي المنخفضة وكذلك ازدهار التجارة الدولية بشكل عام. وجزء مهمّ ممّا تزخر به المتاحف العالمية اليوم من أعمال فنّية مصدره مدينتا انتويرب وبروغيس.
وسواءّ كانت الرسومات الهولندية أشياءً للتقديس أو سجلات لوجود الإنسان في زمن ومكان معيّنين أو لزخرفة أو تزيين المساكن والمعابد، فإن ممّا لا شكّ فيه أن الأعمال المبكّرة تكشف عن هدف مشترك ألا وهو جعل الصورة المرسومة حاضرة بقوّة وجعل غير المنظور محسوسا وملاحَظا.
ومن أشهر الرسّامين الهولنديين الأوائل يواكيم باتينير الذي وصفه مواطنه البريخت ديورر بأنه كان بارعا على وجه الخصوص في رسم المناظر الطبيعية. وهناك العديد من الأعمال المنسوبة إليه، لكن لا توجد اليوم سوى خمس لوحات فقط تحمل توقيعه.
كان باتينير يرسم مناظر طبيعية ضخمة مع اهتمام غير عاديّ بالتفاصيل. وتلك اللوحات يغلب عليها الطابع الفانتازي والسوريالي، والأشخاص فيها صغار جدّا. وكثيرا ما كان يرسم الأشخاص في لوحاته رسّامون آخرون غيره، وكان هذا تقليدا شائعا ومقبولا في ذلك الوقت.
في هذه اللوحة، يرسم باتينير قصّة من التراث المسيحيّ عن ناسك يُدعى جيروم، او هيرونيموس كما يُسمّى أحيانا. كان هذا الراهب قد هاجر من بلاده في البلقان إلى بيت لحم في فلسطين مع بدايات ظهور المسيحية. وهو أوّل من وضع ترجمة للأناجيل من اللغة الآرامية إلى اللاتينية.
تقول الأسطورة إن هذا القدّيس مرّ ذات يوم من أمام حيوان كاسر قد يكون أسدا. ولاحظ أن الحيوان يعاني من عدم القدرة على المشي. وفهم أن سبب آلامه يعود إلى انغراز شوكة في أحد مخالبه. لذا قرّر على الفور أن يساعده، وأزال الشوكة ثم عالج جرحه. وتعبيرا من الأسد عن شكره وامتنانه، عرض نفسه كحارس للدير الذي كان يعيش فيه الناسك.
في الجزء الأماميّ من اللوحة نرى شيئا يشبه الكهف، بينما يجلس الناسك وقد أمسك بالأسد بطريقة حانية كي يزيل الشوكة عن مخلبه.
والقدّيس يجلس هنا في عزلته مع جمجمة وصليب. لكن الرجل ليس هو العنصر المهمّ الوحيد في المنظر، وإنّما هناك أيضا تفاصيل الطبيعة التي تحيط به من تلال خضراء وأشجار كثيفة وجبال زرقاء تغطّيها الغيوم.
الطبيعة في اللوحة لها حضور أقوى من حضور الشخصية نفسها. وتفاصيل التضاريس والأرض تعطي انطباعا عن دراما على هيئة قصّة أو حكاية في كتاب. والواقع أن ما نراه هو عبارة عن طبيعة بانورامية رائعة تحرّض الناظر على أن يتجوّل فيها ببصره ويستمتع بتفاصيلها.
إلى جانب المشهد الأساسيّ، نرى عدّة مشاهد ثانوية. فإلى اليمين إلى أسفل، هناك رجل عجوز يمشي مع صبيّ. وفوق قليلا نرى أسدا أو نمرا يهاجم فلاحا على حماره. هذا المشهد كوميديّ نوعا ما، إذ يظهر الفلاح وهو على وشك السقوط عن ظهر الحمار من شدّة الخوف.
وفي قمّة الجبل نرى الكنيسة والطرق العديدة التي تقود إليها. وإلى اليمين هناك قرية وإلى جوارها مزرعة مع بركة. وفي أعلى اللوحة نرى بحرا وميناءً وجسرا وعدّة قوارب. وهناك أيضا قلعة تبرز من أعماق الغابة، بالإضافة إلى تشكيلات صخرية غريبة. وقد ضُمّنت هذه المشاهد المختلفة في اللوحة بطريقة غريبة نوعا ما.
هذه القصّة، بالإضافة إلى رمزيّتها الأخلاقية، لها معنى مجازيّ في تقاليد الكاثوليكية. فالشوكة هي صورة عن تاج الأشواك الذي كان يرتديه المسيح وقت صلبه، وهو يمثّل الخطيئة. ومثل ما استطاع جيروم انتزاع الشوكة من مخلب الأسد، تمكّن المسيح أيضا من تخليص أرواح الناس من الخطيئة، بحسب الأدبيّات المسيحية.
باتينير وزملاؤه الرسّامون الهولنديون الأوائل منحوا بعدا جديدا للتجربة الدينية، فأصبح إطار الصورة عتبة إلى عالم سبق وصفه في الكتابة، لكن لم يسبق أبدا أن جُسّد في الرسم.
كان هناك إحساس بالتناسق والحركة وبتفاصيل الديكور المستمدّ من عصر النهضة. وكلّ هذه السمات تخلّلت الرسم الهولنديّ المبكّر. وفي نفس الوقت اظهر الرسّامون اهتماما متزايدا بالعناصر الدنيوية، أي الطبيعة والحياة الصامتة ومناشط الحياة اليومية المختلفة، وأصبحت هذه العناصر تتنافس مع العناصر الدينية في أعمالهم. وأدّى هذا إلى ظهور نوع جديد من الرسم أصبح مألوفا في القرن السابع عشر.
بعض النقّاد يعتبرون هذه اللوحة معلما مهمّا في تاريخ الرسم الأوربّي. وقد يكون الفنّان كُلّف برسمها كي تُعلّق في كنيسة في جنوب ألمانيا. وفي ما بعد ضُمّت إلى المجموعة الفنّية الخاصّة بالملك الإسباني فيليب الثاني الذي وهبها إلى قصر الاسكوريال. ثم بعد ذلك أصبحت من مقتنيات متحف برادو منذ العام 1839م.
يواكيم باتينير رسّام غير معروف كثيرا، ربّما بسبب قلّة عدد لوحاته الموجود معظمها في مجموعات فنّية خاصّة. ولهذا السبب كان من الصعب، حتى على المتخصّصين، دراسة حياته أو فنّه باعتباره كان شخصا غامضا ومثيرا للاهتمام.
لكن مؤرّخي الرسم يعتبرونه رائدا لرسم الطبيعة كنوع مستقلّ من الرسم. وهو أوّل رسّام هولنديّ كان يعتبر نفسه رسّام مناظر طبيعية. كما أنه أحد الرسّامين الذين يعود لهم الفضل في توسيع حدود وآفاق الرسم. لاحظ مثلا كيف انه رسم في الأفق البعيد جبالا مشوبة بزرقة يبدو معها المنظر الطبيعيّ ممتدّا بلا نهاية.
وكثيرا ما يقارَن باتينير بفنّانين هولنديين من أمثال هيرونيموس بوش وبيتر بريغل. البريخت ديورر كان صديقا له. وقد حضر هذا الأخير الزواج الثاني للأوّل ورسم له بورتريها للمناسبة. كما كان له صديق آخر هو الرسّام كوينتين ميتسيز الذي أصبح "أي متسيز" وصيّا على أبنائه بعد وفاته.
وفي الواقع لا يُعرف متى ولد الرسّام، لكن يُرجّح انه رأى النور حوالي العام 1482 في ما يُعرف اليوم ببلجيكا، كما عمل طوال حياته في مدينة انتويرب التي توفّي فيها عام 1524م.
في ذلك الوقت، كانت انتويرب السوق الرئيسية للفنّ في أوربّا. وكانت الأعمال المنتجة هناك كثيرة جدّا. وكان الرسّامون هم من يتحكّمون في سوق الفنّ وليست الكنيسة كما جرت العادة في بقيّة أنحاء القارّة.

Tuesday, November 24, 2015

لوحات عالميـة – 364

الملكة ماري انطوانيت وأطفالها
للفنانة الفرنسية لويـز فيجـي لـو بـران، 1787

هذه اللوحة، التي تصوّر امرأة جميلة مع أطفالها، قد توحي بعائلة سعيدة ومستريحة. لكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن الثورة كانت على وشك أن تعصف بكلّ هذا وتُعرّض للخطر كلّ ما كان بحوزة هذه المرأة وعائلتها من سلطة وثراء.
وقريبا سيزحف الناس لاقتحام قصر فرساي في باريس عنوة، ومن ثمّ سيُودَع الملك لويس السادس عشر والملكة ماري انطوانيت وأبناؤهما وأقاربهما السجن تمهيدا لمحاكمتهم ومن ثمّ إعدامهم.
بعبارة أخرى، تستطيع أن تقول أن هذا بورتريه مثاليّ لعائلة تسير نحو مصير مأساوي. ومع ذلك فالصورة نفسها تخلو من أيّ نوع من المشاعر أو الدراما أو العنف.
كان عمر الملكة ماري انطوانيت عندما رُسمت لها هذه اللوحة اثنين وثلاثين عاما. وهي هنا تظهر بصحبة أطفالها الثلاثة في غرفة الجلوس. وكان من المفترض أن تضمّ اللوحة أيضا ابنتها الرابعة الرضيعة الأميرة صوفي لولا أنها توفّيت قبل ذلك بفترة وجيزة، ما دفع الرسّامة لأن تكتفي برسم مهدها أو سريرها الأزرق بدلا منها.
الملكة ترتدي فستانا بنفسجيا نفيسا وتسند قدميها إلى أريكة، في إشارة إلى مكانتها الرفيعة. والأطفال أيضا ملابسهم مترفة، كأن الرسّامة تريد أن تلفت انتباه الناظر إلى ثروة الملكة الأمّ وأطفالها ومكانتهم الاجتماعية.
وأنت تتأمّل اللوحة، لا بدّ وأن تستنتج أن الرسّامة بذلت جهدا كبيرا وقضت وقتا طويلا في رسم التفاصيل الصغيرة الظاهرة على الأريكة والقماش والملابس والسجّاد، ما يؤكّد براعتها كرسّامة للبلاط.
ثم لاحظ أيضا كيف أنها أضفت على الشخصيّات طابعا مقدّسا باختيارها توليفا شبه هرميّ يذكّر بلوحات عصر النهضة التي تصوّر العذراء والمسيح والقدّيس يوحنّا.
الابنة الكبرى الأميرة ماري تيريز تميل باتجاه أمّها متأبّطة ذراعها، بينما يجلس الأمير الرضيع شارل في حضنها، وإلى اليمين يقف الأمير لويس جوزيف مشيرا بيده إلى السرير الفارغ لشقيقته الراحلة.
في عام 1788، عندما فتح صالون باريس أبوابه، لم تكن هذه اللوحة قد اكتملت تماما. ولأيّام ظلّ الإطار المخصّص لها فارغا. كان ذلك عشيّة ما أصبح يُسمّى بالثورة، وكان الناس يتحدّثون علانية عن مشاكل البلاد المالية وعن الإفلاس الذي كانت بوادره تلوح في الأفق.
لكن في اللوحة تبدو الملكة ماري وكأنها جاهلة أو غير مكترثة بالاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت تهزّ فرنسا آنذاك.
وفي الواقع، هناك احتمال أن يكون هذا البورتريه رُسم لأغراض الدعاية ولإصلاح سمعة الملكة المغضوب عليها وتصويرها باعتبارها أمّا رحيمة ومتعاطفة تهتمّ بأطفالها أكثر من الموضة. ورسالة اللوحة هي أننا في حضرة ملكة، هي أوّلا أمّ؛ ليس لأطفالها فحسب وإنّما لعامّة الناس أيضا.
علاقة الملكة ماري انطوانيت بأطفالها تلعب دورا مهمّا في العديد من تفاصيل قصّة حياتها. فكلّ هؤلاء الأطفال كانوا أبناءً بالتبنّي. والمحزن أنهم واجهوا مصيرا مشئوما بعد إعدام والديهم الملك والملكة. فمنهم من قُتل في ظروف غامضة في نفس تلك السنة، ومنهم من قضى في السجن أو توفّي في ما بعد لأسباب ما تزال إلى اليوم مجهولة.
المعروف أن فيجيه لوبران رسمت للملكة ماري انطوانيت حوالي ثلاثين بورتريها. وهذا البورتريه الموجود اليوم في إحدى غرف قاعة المرايا في فرساي هو آخر تلك البورتريهات الايقونية التي رسمتها الفنّانة للملكة القتيلة.
كانت ماري وقتها في ذروة شبابها وجمالها. وكانت هي والرسّامة ترتبطان بعلاقة شخصية حميمة. وفي مذكّراتها، تتحدّث الرسّامة بانبهار وحنين عن علاقتها بالملكة، وعن الحساسية والاحترام التي كانت تعاملها بهما ماري انطوانيت.
ويبدو أن الملكة والفنّانة اكتشفا أن هناك الكثير ممّا يجمعهما، فهما زوجتان غير سعيدتين، كما أنهما مادّة للكثير من الافتراءات والشائعات. ومع ذلك، كان يجمعهما عشق الموسيقى، ولوبران نفسها كانت تتمتّع بصوت غنائيّ جميل.
كانت لوبران أشهر رسّامة امرأة في القرن الثامن عشر. والدها كان هو أيضا رسّاما، وهو الذي اشرف على تعليمها. وقد بدأت عرض أعمالها وهي في السادسة عشرة من عمرها. ثم أصبحت عضوا في أكاديمية الفنّ في عمر الثالثة والعشرين.
وبعد ذلك أصبحت عضوا مهمّا في الحياة الاجتماعية للطبقة الارستقراطية الباريسية. وكان لها ابنة واحدة هي ثمرة زواجها من فنّان وناقد يُدعى بيير لوبران.
وقد أنتجت الفنّانة خلال حياتها ما يربو على ثمانمائة لوحة. وساعدتها علاقتها بـ ماري انطوانيت في العثور على زبائن من ذوي السلطة والغنى آنذاك. لكن مع اندلاع الثورة فإن علاقتها الوثيقة بالملكة أصبحت تشكّل خطرا على حياتها في باريس. لذا هربت هي وابنتها من المدينة في نفس اليوم الذي سُجنت فيه الملكة وعائلتها.
في السادس عشر من أكتوبر عام 1793، أي بعد أشهر من إعدام زوجها الملك لويس السادس عشر، اُعدمت ماري انطوانيت بالمقصلة. وكانت آخر كلماتها قبل قتلها "سامحني يا سيّدي، لم أكن اقصد ذلك". وقد قالتها للجلاد عندما تعثّرت بقدمه أثناء صعودها إلى المقصلة.
وبعد إعدامها، اُلقي بجثّتها في قبر مجهول. لكن بعد ذلك بعشرين عاما، استُخرجت رفاتها ورفات زوجها واُقيمت لهما جنازة حسب التعاليم المسيحية، ثم دُفنا في مقبرة ملوك فرنسا.
أما الرسّامة فقد ظلّت تعيش في المنفى خارج فرنسا لاثني عشر عاما، متنقّلة ما بين ايطاليا وروسيا والنمسا. وكانت تُعيل نفسها من عوائد رسمها لصور العائلات الثريّة في تلك البلدان. لكن في عام 1802 سمح لها النظام الجديد بالعودة إلى باريس استجابة لالتماس قدّمه زملاؤها الفنّانون.
غير أن مكانتها كفنّانة كانت قد تلاشت. وبسبب صلتها بـ ماري انطوانيت، دخلت لوبران عالم النسيان وأصبحت شخصية مهمَلة تقريبا في تاريخ الفنّ، رغم أنها عاشت أربعين سنة أخرى في ظلّ حكم نابليون.
ومذكّراتها توحي بأنها كانت امرأة مهتمّة بالأضواء وأخبار المجتمع أكثر من اهتمامها بالفنّ. لكن ممّا لا شكّ فيه أنها كانت تملك إصرارا قويّا على تحقيق النجاح في عملها رغم العقبات الكثيرة التي كانت تواجه عمل النساء في القرن الثامن عشر.
أما الملكة ماري انطوانيت، فعلى الرغم من مرور أكثر من مائتي عام على موتها، إلا أنها ما تزال شخصية تاريخية مهمّة ارتبطت بالأفكار المحافظة وبالكنيسة الكاثوليكية وبالثروة والموضة. كما أنها كانت وما تزال موضوعا للعديد من الأعمال الفنّية والأدبية والسينمائية.
وبعض المؤرّخين يرون أنها كانت تجسيدا للصراع الطبقيّ، وأنها كانت السبب الأساس في نشوب الثورة الفرنسية. والبعض الآخر يرون أنها ذهبت ضحيّة طموحاتها العائلية والوضع العام في فرنسا. لكن الكثيرين يعترفون بخصالها الفريدة كأمّ، وبشجاعتها وهي تواجه الموت.
وقد نُسبت إليها العبارة المشهورة "فليأكلوا الكعك" عندما قيل لها إن الناس لا يجدون ما يكفي من الخبز ليأكلوه. لكن لا يوجد دليل مؤكّد على أنها تلفّظت بتلك الجملة فعلا، وعلى الأرجح كانت تلك كذبة ذات دوافع سياسية نشرتها وروّجت لها بعض الصحف في ذلك الوقت.

Tuesday, November 03, 2015

لوحات عالميـة – 363

ساتير يبكي حزنا على حوريّة
للفنان الايطالي بييرو دي كوزيمو، 1495

أحيانا نعرف طبيعة وموضوع لوحة ما عندما تكون مستندة إلى عمل أدبيّ؛ مسرحية أو رواية أو قصيدة، أو إلى واقعة تاريخية. لكن هذه اللوحة لا تدخل ضمن هذا التوصيف، بل إن بعض مؤرّخي الفنّ يعتبرونها واحدة من أكثر اللوحات غموضا في تاريخ الرسم الكلاسيكيّ الغربيّ.
حتى الفنّان الذي رسمها لا يُعرف عنه وعن حياته سوى النزر اليسير. ولوحاته الباقية حتى اليوم قليلة جدّا، كما أنها لا تحمل توقيعه ولا أيّ تاريخ.
في اللوحة، يرسم بييرو دي كوزيمو حورية بحر ميّتة على ارض معشبة وعلى يديها ومعصمها وعنقها آثار جروح، بينما ينحني فوق جثمانها مخلوق نصف إنسان "أو ساتير: وهو إله من آلهة الغابات عند الإغريق له ذيل وأذُنا وقائمتا فَرَس" تبدو على ملامحه علامات الحزن والتأثّر، وعند قدميها يقف كلب صيد متأثّرا بالمشهد.
يقال أن اللوحة ترجمة صورية لحكاية أوردها اوفيد في كتابه "التحوّلات" عندما تحدّث عن موت الأميرة بروكريس ابنة ملك أثينا التي قُتلت عن طريق الخطأ على يد زوجها الأمير سيفالوس أثناء رحلة لصيد الغزلان. ويبدو أن تلك الحادثة المشئومة وقعت ولم يكن قد مرّ على زواج الاثنين سوى بضعة أشهر.
لكن الغريب أن اللوحة تخلو من شخص سيفالوس، كما أن لا اثر فيها للرمح الذي يُفترض انه قتلها به. والملاحظ أن قصّة اوفيد هذه ظهرت مرّة أخرى في نهاية القرن الخامس عشر، أي زمن رسم اللوحة، في مسرحية للكاتب الايطالي كوريجيو الذي أضاف إليها أفكارا مسيحية.
هذه اللوحة تُعتبر من انجح وأكثر أعمال دي كوزيمو شعبية. وهي طويلة جدّا من حيث الحجم. وهناك احتمال أنها استُخدمت كخلفية لأريكة أو خزانة في قصر بفلورنسا أو في غرفة عروس من نساء الطبقة الرفيعة. وما يزال بالإمكان رؤية آثار بصمات أصابع الرسّام في الجزء العلويّ منها.
الدراما في اللوحة تحدث على ارض منخفضة عند مصبّ نهر. في الخلفية، الحياة مستمرّة، وهناك سفن مبحرة ونوارس وبجع وكلاب صيد. التدرّج في استخدام ألوان خفيفة وناعمة في الخلفية كانت طريقة ابتدعها دافنشي. والكلب في اللوحة ليس عنصرا مكمّلا أو مجرّد رفيق صيد بل صوّره الرسّام كشريك للإنسان في الحداد والحزن، وهذه تُعتبر فكرة ثورية وغريبة على فنّ عصر النهضة.
دي كوزيمو كان بارعا في رسم الحيوانات، وقد رسم الكلب هنا بطريقة تشي بنبل هذا الحيوان وإخلاصه وصدق مشاعره. وحسب اوفيد، كان الملك مينوس والد بروكريس هو من أهدى الكلب إلى عريسها.
المصدر الوحيد لأيّ معلومات متوفّرة عن هذا الرسّام هو كتاب "حياة الفنّانين" للمؤرّخ الايطاليّ جورجيو فاساري. وهذا الأخير لم يكن بالتأكيد أنزه المؤرّخين، لكن يمكن أن يكون في بعض ما ذكره شيء من الحقيقة. وهو في كلامه عن دي كوزيمو يرسم صورة لإنسان غريب الأطوار ودائم السخرية من العالم. وقد يكون هذا هو السبب في أن السورياليين انجذبوا إليه وأحبّوا أعماله.
فاساري يصف دي كوزيمو بأنه كان شخصا شاذّ الطباع، بوهيميّا وكارها للمجتمع. وهو يقدّمه كنموذج لنوعية الحياة التي يجب على كلّ فنّان أن يتجنّبها. كان الرسّام مفتونا بالحيوانات التي تظهر في لوحاته كثيرا. كما كان مغرما بالعزلة، وكثيرا ما كان في أوقات فراغه ينسج الأحلام ويبني قصورا في الهواء.
كان دي كوزيمو يعيش كحيوان برّي أكثر منه إنسانا. وفي كلّ أعماله، هناك روح تختلف عن أعمال غيره وبراعة في استكشاف الطبيعة وتوظيف ذلك من اجل متعته الخاصّة. ولطالما تمنّى الرسّام أن يموت في الهواء الطلق وحوله أناس كثيرون يؤازرونه بالكلمات الطيّبة وكاهن يدعو له قبل أن يذهب برفقة الملائكة إلى الجنّة. كان يردّد مثل هذه الأحاديث والأفكار كثيرا بالقرب من نهايات حياته إلى أن وُجد ميّتا ذات يوم أسفل دَرَج منزله.
بعض مؤرّخي الفنّ اليوم يستبعدون أن تكون هذه اللوحة تصويرا لحادثة القتل التي كتب عنها اوفيد، بل يرجّحون أن تكون عن جريمة قتل متعمّدة. ودليلهم في ذلك أن الجرح الناتج عن نفاذ رمح في جسد إنسان لا يتوافق مع الجروح الظاهرة على جسد المرأة في اللوحة.
وما يسوقه هؤلاء من حجج هو دليل آخر على أن المعرفة العلمية يمكن أن توفّر منظورا جديدا في فهم اللوحات الكلاسيكية. مثلا، الجروح والتشوّهات التي لحقت بيدي المرأة تشي بأنها كانت تحاول أن تمنع مهاجما كان يتقدّم نحوها، وقد جرحها بطريقة عنيفة وربّما كان يحمل سكّينا أو سيفا. وبالتأكيد لا يمكن لرمح أن يخلّف مثل هذه الجروح.
وهناك أيضا يد المرأة اليسرى المنثنية للخلف؛ هذه الوضعية تدلّ على أنها تلقّت ضربة خطيرة ومميتة على العنق. ومثل هذه الضربة، حسب الأطبّاء، تتسبّب عادة في تلف الأعصاب التي تجعل معصم اليد ينثني والأصابع تتيبّس. ويخلص هؤلاء إلى أن هذه صورة لامرأة رُضّ عنقها بعد أن حاولت بيأس أن تدافع عن نفسها في وجه قاتل يُشهر آلة حادّة.
وهناك رواية أخرى تقول أن دي كوزيمو كان يحاول فعلا أن يرسم موت بروكريس. وما حدث هو انه ذهب إلى مستودع للجثث وطلب أن يُسمح له برسم جثّة امرأة شابّة قُتلت بسكين. وعندما سُمح له، بدأ برسم ما رآه على القماش. وتصادف أن لا يتوافق ما رسمه مع فهمنا اليوم لما يمكن أن يحدث لامرأة تعرّضت لضربة من رمح.
أشهر لوحات دي كوزيمو موضوعاتها أسطورية وتمتلئ بصور الجان والمخلوقات الهجينة والأقوام البدائيين. ويقال إن الرسّام عندما توفّي أستاذه، ويُدعى روسيللي، استولى عليه الحزن الشديد فأغلق على نفسه باب منزله ولم يسمح لأحد بزيارته وأهمل تنظيف غرفته وتشذيب حديقته. ولهذا السبب رأى البعض في اللوحة ما يمكن أن يكون "بيان نعي أو حِداد" من الرسّام على معلّمه.
الكلاب وطيور البحر والسفن والطريق المتعرّج عناصر قد تتضمّن رمزية تتعلّق بالموت أو بمراحل الحياة. وقد تشير أيضا إلى رحلة الحياة المحفوفة بالمخاطر أو إلى النهاية الحتمية لكلّ شيء.
يذكر فاساري أن دي كوزيمو كاد يُجنّ لوفاة معلّمه. ويبدو انه لم يُشفَ من ذلك الجنون أبدا. كان روسيللي بالنسبة له معلّما محبّا وأبا عطوفا. والكلب قد يكون رمزا لرفقتهما ولإخلاص الرسّام ووفائه الأبديّ لذكرى سيّده.
أمّا الساتير أو إله الغابات فربّما يعكس انجذاب الرسّام للحياة الفطرية والسلوك الغريزيّ. وقد يكون هذا المخلوق هو دي كوزيمو نفسه وهو يبكي الجمال المخبوء في معلّمه الراحل محاولا أن يبعثه إلى الحياة من جديد من خلال فنّه.

Tuesday, September 29, 2015

لوحات عالميـة – 362

جندي وفتاة ضاحكة
للفنان الهولندي يوهـان فيـرميـر، 1657

في الرسم الهولنديّ من القرن السابع عشر، كثيرا ما نرى منظرا لجنديّ وامرأة وهما يجلسان حول طاولة ويزجيان وقتهما في الحديث والتسلية. ويبدو أن هذه كانت فكرة رائجة في الرسم من ذلك العصر.
وفيرمير أيضا رسم نفس الفكرة في هذه اللوحة التي أراد لها أن تكون بنفس الوقت دراسة للفراغ المملوء بالضوء.
ويُرجّح أنه أخذ الفكرة من مواطنه الرسّام بيتر دي هوك الذي كان قد رسم مناظر عدّة لجنود ونساء يجلسون حول طاولات ويتبادلون الحديث.
وكان دي هوك قد رسم مثل هذه اللوحة قبل هذا الوقت بعشر سنوات. لكنه هو أيضا اقتبس الفكرة من رسّامي مدينة هارلم. وكان رسم مثل هؤلاء الجنود أو الفرسان تقليدا شائعا في ذلك الوقت، مثل ما سبقت الإشارة.
غير أن مفهوم فيرمير للفكرة مختلف عن دي هوك كثيرا. فهو في لوحته هذه يجعل المتلقّي مراقبا غير مرئيّ يحاول استراق نظرة من وراء الباب لمعرفة ما يجري في الداخل.
لكن، أوّلا، ما الذي يحدث في اللوحة، بل هل هناك أصلا ما يحدث؟
في البداية، ستلفت انتباهك الصورة الصغيرة، وبعدها سرعان ما ستنتبه إلى الدراما التي تكشف عنها الصورة الأكبر.
يرسم فيرمير جنديّا يجلس إلى طاولة ويتبادل الحديث مع امرأة قد تكون زوجته أو خطيبته. والاثنان يبدوان منشغلين كلّيا ببعضهما البعض.
الصورة الظلّية للرجل تعطي اللوحة إحساسا بالعمق وتُبرز تأثيرات الضوء على المرأة وعلى أثاث الغرفة. والضوء الذي يغمر زاوية الغرفة، حيث يجلس الاثنان، تعمّقه الصورة الظلّية للرجل.
قبّعة الرجل السوداء الكبيرة وسترته الحمراء تشكّلان تباينا مع الخلفية الخفيفة ومع غطاء المائدة الأخضر المشوب بصُفرة.
ومن الواضح أن فيرمير تعمّد رسم الرجل بهذه الطريقة كي يتيح للناظر إلقاء نظرة من فوق كتفه إلى الداخل. وزاوية الرؤية هذه تُضفي طابعا غير رسميّ على المنظر.
معمار الغرفة شُيّد طبقا لقوانين المنظور الخطّي. والمنظور مصمّم للتأكيد على العلاقة القويّة بين الشخصين. كما أن التعامد المتراجع لإطار النافذة يوجّه الناظر إلى العمق.
المرأة الشابّة يغطّيها الضوء الذي يتسرّب عبر النافذة نصف المفتوحة إلى اليسار. ووجهها المحاط بمنديل أبيض يعكس إحساسا بالبهجة. إنها تمسك بكأس النبيذ وهي تبتسم، بينما تحدّق بسعادة في عيني الرجل الذي يجلس أمامها مُعطياً ظهره للناظر.
فيرمير هنا يصوّر لحظات من المرح والتلقائية والحميمية يتحوّل فيها الرجل والمرأة إلى أداتين تخلقان إحساسا رائعا بالضوء والفراغ والمنظور.
كما أنه يوظّف ضوء الشمس كي يُظهر تعبيرات وجه المرأة ويخلق بقعا متوهّجة على الأشرطة الصفراء لأكمام فستانها.
الرجل يجلس في وضع دائري، لذا من الصعب أن نتبيّن ملامحه جيّدا. ووضعه يثير إحساسا بعدم اليقين عن حقيقة مشاعره. ثم إنه، بخلاف المرأة، لا يقع في منطقة الضوء. ومع ذلك، نفترض أنه يقضي وقتا ممتعا بدليل وجه المرأة المبتهج. كما أن تعبيراتها ولغة جسدها توحي بأن حضور الرجل أمر مرحّب به لديها.
من اللافت أن المرأة ترتدي ملابس يغلب عليها اللون الأصفر. وهذا كان لون الملابس المفضّل عند نساء هولندا في ذلك الوقت. أمّا اللباس الأحمر الذي يرتديه الرجل فقد كان "يونيفورم" الجيش الهولنديّ في القرن السابع عشر.
وكما هو الحال مع معظم أعمال فيرمير، لا يُعرف اسم هذه المرأة ولا هويّتها. لكن بعض النقّاد زعموا أنها قد تكون زوجته كاثرينا بولينز. لكن ليس هناك ما يؤكّد هذه الفرضيّة.
هذه اللوحة تُعدّ واحدة من أكثر لوحات فيرمير وهجا ولمعانا. وفي الواقع فإن قدرا كبيرا من سحرها يكمن في لمعانها وألوانها الجميلة وفي دقّة تفاصيلها.
وقد استخدم الرسّام فيها اللونين الأصفر والأحمر وظلالهما وتدرّجاتهما. بينما رسم ألوان الخريطة على الجدار الخلفيّ من خياله، واستخدم لها ألوانا بيضاء وصفراء وفضّية كي تتناغم مع خطّة الألوان في اللوحة.
وبالمناسبة، هذه أوّل لوحة لـ فيرمير تظهر فيها خريطة. كانت الخرائط شكلا رائجا من أشكال الديكور في زمن الرسّام. وخريطة هولندا التي تظهر في اللوحة معلّقة على الحائط الخلفيّ نُشرت لأوّل مرّة عام 1622م. ونفس هذه الخريطة ستظهر من الآن فصاعدا في لوحات أخرى لـ فيرمير.
ويقال إن من صمّم الخريطة بالأساس هو بالتازار فلوريس الذي كان رسّام خرائط هولنديّا مشهورا آنذاك. وهناك نسخة واحدة منها ما تزال موجودة إلى اليوم. وهي تؤكّد دقّة رسم فيرمير لها في لوحاته.
ومن الأشياء الأخرى المهمّة التي تميّز هذه اللوحة هو أنها ذات تاريخ طويل. فقد سُجّلت في قوائم بيع الأعمال الفنّية في امستردام حوالي عام 1698. ثمّ ظهرت في مزاد بلندن بعد حوالي مائتي عام على أنها لـ دي هوك.
وبعد ذلك ظهرت في احد أسواق باريس. ثمّ ابتاعها ثلاثة أشخاص في تواريخ متفرّقة، قبل أن تستقرّ أخيرا في مجموعة فريك في نيويورك التي اشترتها قبل أكثر من مائة عام. وقد ابتاعها مالك المجموعة، هي ولوحة أخرى لـ فيرمير، بمبلغ لا يتجاوز مائة وعشرة آلاف دولار.
وهناك نسختان أصليّتان من اللوحة، إحداهما في متحف دريسدن بألمانيا، والثانية هي هذه الموجودة في مجموعة فريك. واللوحتان مختلفتان في الحجم، حيث لوحة دريسدن اكبر حجما بكثير.
وقد أظهرت صور الأشعّة أن فيرمير كان قد رسم المرأة بقبّعة ضخمة تغطّي جانبا من وجهها، لكنه قرّر أن يتخلّى عن الفكرة كي يدفع الناظر إلى التركيز على تعبيرات وجهها.
كان من عادة فيرمير أن يضمّن لوحاته بعض المفاتيح والأسرار. وهو في لوحاته جميعا يحاول استكشاف قدرة الضوء على التلميح والإيحاء بالمعنى عوضاً عن الإشارة إليه مباشرة. وما يجعلنا نحبّ أعماله إلى اليوم هو ندرتها، بالإضافة إلى إحساسه الرائع بالضوء واستخدامه الفريد للألوان، وهي سمات تُناسب ذوق المتلقّي المعاصر.

Monday, September 21, 2015

لوحات عالميـة – 361

رفيقـتـا السفــر
للفنان البريطاني اوغستوس ليوبولد ايغ، 1862

للوهلة الأولى، قد تظنّ أن هذه الصورة لامرأة في مرآة عاكسة. لكن بعد تدقيق بسيط، ستكتشف أن هناك فرقا واضحا وأنها لامرأتين، واحدة "إلى اليسار" تجلس في وضع استلقاء وعيناها مغمضتان وإلى جانبها سلّة فواكه، والثانية تجلس وتقرأ كتابا وإلى جوارها باقة ورد.
وليس هناك أيّ تفاعل بين المرأتين، فهما لا تنظران إلى بعضهما البعض، كما لا يشدّ أيّا منهما المنظر الطبيعيّ خارج عربة القطار.
هذه اللوحة مشهورة، وشهرتها تتجاوز تلك التي للرسّام. وفيها من الخصائص ما ظلّ يغري رسّامي الكاريكاتير بتقليدها وتعديلها وتحويرها.
وفي الواقع، ثمّة شيء ما يجعلها تبدو مألوفة، حتى وإن لم تكن كذلك. وبعضنا قد يراها لأوّل مرّة، ومع ذلك يظنّ انه سبق وأن رآها من قبل. والسبب ليس غامضا ولا علاقة له بطبيعة عقل الإنسان، بل لأن الصورة تذكّرنا إلى حدّ ما بالقصص الخيالية.
لكن، أوّلا، ما الذي نراه في اللوحة؟
الأحداث هنا تدور داخل مقصورة قطار، مثلما هي الحال في بعض الروايات المشوّقة والمشهورة. والرسّام يصوّر لنا مشهدا من الحياة الحديثة، نرى فيه امرأتين من العصر الفيكتوري بملابس فضفاضة، وهما على متن قطار متّجه من انجلترا إلى فرنسا.
ملابس المرأتين متطابقة تماما تقريبا، وهما محشورتان معا في نفس المكان. إحداهما تقرأ كتابا والأخرى نائمة. مقعداهما متواجهان ومظهرهما الباذخ يوحي بالغنى واليسار.
صورتا المرأتين المتعاكستان فيهما صدى للمعمار المتناسق لعربة القطار نفسها التي يستقلانها. وخارج النافذة نرى جزءا من ساحل البحر. لكن في الداخل؛ في داخل العربة، تبدو المساحة ضيّقة جدّا.
هناك أيضا تماثل في طريقة جلوس المرأتين، كما أنهما ترتديان نفس الفستان ذي الألوان الرمادية وتضع كلّ منهما القبّعة في حضنها.
الرسّام اوغستوس ليوبولد ايغ كان جزءا من دائرة أدبيّة وفنّية كانت تضمّ تشارلز ديكنز وآخرين. وقد ولد في لندن عام 1816 لأب سويسريّ الأصل. وفي عام 1834، درس الرسم في أكاديمية ساس في لندن والتي كانت توفّر تدريبا في الرسم للراغبين في الانتظام في الأكاديمية الملكية.
ومنذ بداياته، كان معجبا بالرسّامين ما قبل الرافائيليين. ثمّ شكّل مع آخرين، من بينهم ريتشارد داد ووليام فريت، تجمعّا فنّيا أسموه "العصبة". كان ذلك التجمّع يجاهر بعدائه للفنّ الأكاديمي الجافّ وتفضيله للرسم البسيط للحياة اليومية. وكان أعضاؤه متأثّرين بالرسّام وليام هوغارث والرسّام الاسكتلندي ديفيد ويلكي.
من التفاصيل اللافتة في اللوحة أنه في المقصورة لا يوجد احد سوى المرأتين، وهذه إشارة إلى انه كان يُفصل بين الرجال والنساء في تلك الأيّام في القطارات. وعبر النافذة يمكن رؤية شواطئ منتجع مينتون الصحّي الواقع بالقرب من مونتي كارلو في الريفيرا الفرنسية والذي كان مشهورا في العصر الفيكتوري.
تصميم اللوحة الذي لا يخلو من تناسق وجاذبية جعلها غنيّة بالإمكانات والدلالات المجازية. و ايغ نفسه كان ميّالا لتضمين لوحاته رسائل دينية وأخلاقية. ولهذا السبب فسّر بعض النقّاد اللوحة اعتمادا على الدلالات الجنسية، فاعتبروا أن الأزهار إلى جوار الفتاة إلى اليمين هي رمز للعذرية والفضيلة، بينما الفاكهة إلى جوار المرأة إلى اليسار تتضمّن إشارة إلى أنها فقدت عذريتها وأن براءتها حلّ مكانها نضجها وانغماسها الجنسيّ.
أيضا ومن وجهة نظر هؤلاء، فالمرأة إلى اليسار قفّازاها مخلوعان، في إشارة إلى أنها أكثر انكشافا، كما أن قبّعتها مُزاحة إلى اليمين قليلا وليست في حضنها كالمرأة الأخرى، في إشارة إلى أنها اقلّ حذرا أو احتراسا. ولكي تكتمل رمزية الصورة، لاحظ وضع الستائر المسدلة جزئيّا والمقابلة للمرأة إلى اليمين، في حين تُركت النافذة الأخرى مشرعة بلا ستائر.
موقف الفيكتوريين من العلاقة خارج الزواج كان صارما، وهذا واضح في الأدب والسياسة والقوانين والفنّ من ذلك العصر. وعقاب النساء على انحرافهنّ كان اشدّ من عقاب الرجال. ويبدو أن لا خلاص لمن ارتكب هذه الخطيئة، فالسقوط من الفضيلة ومن الأخلاق نهائيّ ولا رجعة عنه.
عنوان اللوحة أيضا لا يخلو من مفارقة، فعلى الرغم من كون المرأتين رفيقتي سفر، إلا أنهما لا تتفاعلان أو تتحدّثان مع بعضهما البعض، وكلّ واحدة منشغلة بنفسها وغير مبالية بالعناصر الخارجية.
كان اوغستوس ايغ حريصا على مزج التقاليد الاجتماعية بالقيم الأخلاقية، تماما مثل ما كان يفعل صديقه الروائيّ ديكنز. وقد أصبح الاثنان صديقين حميمين وأسّسا رابطة الأدب والفنّ وسافرا معا إلى بعض البلدان منها سويسرا وإيطاليا.
طوال حياته لم تكن صحّة ايغ على ما يُرام. وفي نهايات عمره حاول العيش في بلدان مناخاتها ادفأ من انجلترا مثل بلدان البحر المتوسط.
وقد توفّي عام 1863 بعد نوبة ربو وعمره لا يتجاوز السادسة والأربعين. وفي نعيه وصفه صديقه ديكنز بأنه كان مرحا وطيّبا ومحبوبا وصاحب ضمير حيّ ومزاج عذب.
وبعض أشهر لوحاته موجودة اليوم في متحف تيت غاليري بلندن.

Saturday, August 29, 2015

لوحات عالميـة – 360

غرفة معيشة في الريف
للفنان الفرنسي بيـير بـونـار، 1913

يُعتبر بيير بونار واحدا من أعظم الملوّنين في الرسم الحديث. وقد تميّز بمناظره المنزلية الحميمة والمضاءة بنور الشمس.
ومواضيع لوحاته بسيطة. لكن طريقته في تصوير هذه الأفكار المألوفة، مثل طاولة محمّلة بالفاكهة أو طبيعة تغسلها الشمس، تُظهر انه كان احد ابرع الرسّامين الكبار في عصره.
ولوحات بونار توصل إحساسا بأماكن ممنوعة. تتمعّن في تفاصيل بعضها فيُخيّل إليك أنك تمشي وسط أماكن خاصّة وحميمية.
والعلاقة بين الأشياء والأشخاص في صوره تبدو متوتّرة وغير مريحة، ربّما بسبب ميله للتلاعب بقواعد المنظور والنسب.
وهو يعبّر عن تجربته الفنّية من خلال اللون. واللون في لوحاته، لا المضمون الوصفيّ، هو الموضوع وهو الوسيلة التي ندخل من خلالها إلى اللوحة.
كان بونار صاحب مزاج هادئ، هذا ما يقوله عنه معارفه والذين أرّخوا لحياته. كما كان مستقلا ومتحرّرا من ضغوط وتوتّرات الظروف التي عاش فيها.
في العام 1912، تخلّى الرسّام عن بيته القديم في النورماندي واختار أن ينتقل إلى الجنوب. وهناك، في احدى البلدات الريفية الصغيرة التي سحره ضوئها والخصائص المتموّجة لطبيعتها النهرية، اشترى منزلا أسماه "القافلة".
في هذه اللوحة، يرسم بونار غرفة الطعام في المنزل مع القطّة وهي تلعب على الكرسي. كما يرسم زوجته مارثا التي تقف عند طرف النافذة.
الطبقات الخفيفة من الأصفر والبنفسجيّ في المنظر تكشف عن سمة اساسية وعنصر مهمّ في أسلوب بونار الفنّي، ألا وهو اكتشافه لمنطقة جنوب فرنسا وضوئها المختلف جدّا.
وقد عاش في ذلك المنزل عشرين عاما برفقة مارثا، ثم لوحده بعد وفاتها عام 1942 وإلى أن توفّي بعد ذلك بخمس سنوات.
الاسم الذي اختاره لبيته، أي القافلة، بالإضافة إلى هذه الصورة، يتضمّنان السمات المتغيّرة والسريعة الزوال التي يضفيها ضوء الشمس على عالم الطبيعة عندما ينعكس عليها.
وقد رسم بونار الشرفات والحديقة وكلّ غرفة من غرف البيت، بالإضافة إلى مارثا التي رسمها من كلّ زاوية تقريبا. منظر وضوء البيت كان يفتنه. كانت ألوانه بمنتهى النشاط والحيوية، خاصّة مع اشتداد وهج شمس منتصف النهار.
كان بونار ينزع نحو استثارة الإحساس بالفراغ، وليس التفاصيل التي يرسمها. وهو هنا في هذه اللوحة مهتمّ باستكشاف تنوّع الأشياء وتفاعلها مع مجال الصورة. وواضح أيضا أنه يركّز على الخصائص التعبيرية للألوان الساطعة وضربات الفرشاة الفضفاضة.
كانت عينا هذا الرسّام مدرّبتين، خاصّة، على الإحساس بالجمال، ليس من خلال الإدراك المباشر للموضوع، وإنّما من خلال الجوّ الذي يحتوي كلّ شيء، من شخص إنسان مع حديقة ومنظر، إلى لمعان ديكور بسيط ولكن مرتّب بعناية مع كراسي وطاولات.
وكان ينقل إلى القماش نمطا من الشكل واللون الذي يسمو بالمنظر وبتفاصيله من الهويّة المادّية إلى مجال الشعر الغنائي. وكان يجمع من تفاعل الضوء واللون عناصر إحساس جديد ومتطوّر بجمال الأشياء المحيطة.
ومثل سيزان، كان بونار مفتونا بحيل المنظور. في غرفة الطعام هذه، وظّف مستويات عديدة من المنظور. كما نوّع في الألوان، من الدافئة إلى الباردة.
لوحته هذه يمكن اعتبارها تجسيدا لسمات أسلوبه الشخصيّ الذي عُرف به ولفت انتباه أهمّ النقّاد في باريس. لاحظ مثلا كيف أن الامتداد الطبيعي في اللوحة هو صورة كاملة بحدّ ذاته، رغم انه لا يشغل سوى اقلّ من نصف مساحتها.
ولاحظ أيضا المناطق الواسعة التي خصّصها للأسطح غير المزخرفة للباب والطاولة، عاكسةً بهدوء الحرارة والضوء من الخارج.
كان بونار بطبيعته منجذبا إلى موتيفات محدّدة مثل النافذة والمرآة. وبعض المرايا في لوحاته تعكس خلفيّة وجانبي الغرفة. وألوانه الساطعة متجانبة، تماما كما في الموزاييك.
وهناك من يرى أن مصادر إلهام هذا الفنّان لم تكن ثورية حقّا، مع أنه لم يكن يعيد إنتاج الواقع حرفيّا، بل يبنيه ويبتكره من جديد في محترفه.
كان بونار يمزج بين أساليب فنّية مختلفة، ما مكّنه من انتاج أعمال ذات حرفية عالية وألوان رائعة. وقد استعار عدّة أشياء من الانطباعيين والوحوشيين، وتأثّر بماتيس.
كما أن في لوحاته شيئا من حدّة ديغا ولمعان وشاعرية روثكو. وأيضا يمكن ملاحظة آثار الحفر اليابانية الواضحة في رسوماته، تماما كما كان لها تأثيرها على جماعة "الأنبياء" التي كان منتسبا إليها.
ولد بيير بونار في أكتوبر من عام 1867. ومنذ صغره، كان يرسم الغرف التي يسكن فيها وجدران الحدائق. وغالبا ما كان يرسم من ذاكرته بمساعدة الاسكتشات والألوان المائية.
درس الرسّام في شبابه الأدب الكلاسيكي ثمّ القانون بناءً على نصيحة والده. وفي ما بعد عمل في وظيفة حكومية مؤقّتة. وكان في الوقت نفسه يحضر دروسا في الرسم بكلّية الفنون الجميلة. وكان من زملائه الذين عاصروه رسّامون مشهورون مثل موريس دونيه وفيليكس فالوتون وإدوار فويار وغيرهم.

Thursday, August 06, 2015

لوحات عالميـة – 359

سيّدتان من فينيسيا
للفنّان الايطالي فيتوري كارباتشيو، 1490

مثلما تخصّص إدوار كورتيز في رسم مظاهر الحياة في باريس في منتصف القرن الماضي، كان فيتوريو كارباتشيو متخصّصا في رسم فينيسيا وتصوير منازلها وميادينها وقنواتها المائية ووجوه الناس فيها.
وأنت تتأمّل مناظره لا بدّ وأن تلاحظ في لوحاته هذا الحبّ الجارف لعالم الماء وحالة البهجة التي يصوّر بها حياة هذه المدينة العائمة.
كانت فينيسيا زمن الرسّام مدينة متطوّرة جدّا ومركزا للتجارة والفنون. ومن الواضح أن نظرته إلى حياة المدينة المليئة بالتجاوزات والصخب كانت متسامحة إلى حدّ كبير. وبمعنى ما، يمكن اعتبار أعماله بمثابة بورتريه لعالم فينيسيا المتنوّع والفريد من نوعه.
في هذه اللوحة يرسم كارباتشيو امرأتين تجلسان بسكون في شرفة قصر وترتديان ملابس جميلة وقلادتين من الجواهر.
صورتا المرأة تكادان تكونان متطابقتين، من حيث شكل وطريقة وضع الملابس أو قصّة الشعر.
وإلى اليسار هناك طفل يلهو بين الأعمدة الرخامية، وطائر كبير وبضع حمامات، بالإضافة إلى كلبين أحدهما تداعبه إحدى المرأتين والآخر، الذي لا يظهر سوى رأسه في اللوحة، يمضغ طرف عصا بينما يثبّت احد قائميه فوق رسالة.
مؤرّخو الفنّ مختلفون في تفسير معنى هذه اللوحة. وهناك عدّة تفسيرات متباينة، وكلّ يقرأ المنظر من خلال دلالات الأشياء والتفاصيل. والحقيقة انه وعلى مدار قرون نُسجت حول هاتين المرأتين الحزينتين سمعة سيّئة. بعض المؤرّخين ذهبوا إلى أنهما من نساء الليل بسبب وجود منديل ابيض ولؤلؤ وحمام، وهي أشياء ترمز إلى العفّة.
والبعض الآخر قالوا أنهما لم تكونا فتاتي ليل، بل زوجتين تشعران بالملل وترتاحان في هذا المكان وتتواصلان بالكلام وتستمتعان بشمس النهار. بينما أشار آخرون إلى أن المرأتين من نساء القصر، وهي طبقة اجتماعية كانت معروفة خلال عصر النهضة الايطالي وكان يُحتفى بأفرادها آنذاك من خلال الرسم.
وهناك من لا يستبعد أن تكون اللوحة احتفالا بمناسبة زواج، والدليل على ذلك وجود الطاووس. فمنذ القدم كانت أنثى الطاووس رمزا للزواج السعيد، بينما الكلب كان وما يزال رمزا للإخلاص الزوجيّ.
لكن في أربعينات القرن الماضي، ظهر تفسير جديد للوحة عندما اكتُشف أنها ليست سوى جزء من لوحة اكبر، وكانت في الأصل عبارة عن جزأين كانا يشكّلان معا بابا قابلا للطيّ بأحد البيوت أو القصور. والجزء المفقود من اللوحة، والموجود اليوم في احد متاحف لوس انجيليس، يصوّر رجالا يصطادون في بحيرة.
الآثار الموجودة على اللوحتين توحي بأن إحداهما تصوّر طبيعة عالم الرجال أي الصيد، بينما الأخرى تصوّر عالم النساء في الحدائق وفي شرفات القصور.
في ذلك الوقت، كانت حسّية النساء صفة مرغوبة في زوجات فينيسيا الارستقراطيات. وهناك من يقول انه لو صحّ الافتراض بأن هذا هو عالم نساء فينيسيا النبيلات، فلا شكّ انه عالم ثريّ ومملّ في آن. إذ ليس هناك ما يفعلنه على ما يبدو سوى انتظار عودة رجالهن الذين يعملون في البحر.
في زمن الناقد والشاعر الانجليزي المشهور جون راسكن، أي في القرن التاسع عشر، كانت هذه اللوحة مشهورة جدّا بسبب العنوان الذي أعطاه لها ، أي "محظيّتا القصر". وكان راسكن يعتبرها إحدى أفضل اللوحات في العالم بسبب موسيقاها البصرية وأنماط الأشكال والألوان فيها.
الرسّام فيتوري كارباتشيو كان ممّن أتقنوا استخدام الألوان الزيتية في فينيسيا في القرن السادس عشر. وكان له تأثيره الواضح على كلّ من تيشيان وفيرونيزي.
ويُعتقد أنه ولد عام 1460 لأب يعمل في تجارة الجلود. كما يقال أنه تدرّب في استديو عائلة بيلليني. وقد تدنّت شعبية كارباتشيو قبل عشر سنوات من وفاته عندما وصل إلى فينيسيا رسّام شابّ جاء ليتعلّم على يد الأخوين بيلليني.
ولم يكن ذلك الرسّام سوى تيشيان. وانتهى الأمر بكارباتشيو أن اضطرّ للذهاب إلى الأقاليم البعيدة، حيث كان أسلوبه ما يزال يجتذب بعض المشترين والمعجبين.
وبعد موته نسيه الناس تماما تقريبا. لكن هذه الأيّام يُنظر إليه كرسّام فينيسي من القرن الخامس عشر لم يكن ينافسه في زمانه سوى جيوفاني بيلليني.

Tuesday, June 09, 2015

لوحات عالميـة – 358

موسيقى في حدائق تويلاري
للفنان الفـرنسـي إدوار مـانـيــه، 1862

ذات مرّة، وصف الشاعر والأديب اميل زولا صديقه إدوار مانيه بأنه رسّام تحليلي، وبأنه لم يُظهر مهاراته التحليلية بشكل أكثر إدهاشا كما عرضها في هذه اللوحة.
كان زولا يؤمن بأن رسم الحياة الحديثة يُعتبر شيئا بطوليا وأنها تستحقّ أن تُرسم، تماما كما كان يحدث في العالم الكلاسيكي القديم. وكان من عادة الاثنين أن يلتقيا يوميا في حدائق تويلاري.
وقد عرض مانيه لوحته هذه لأوّل مرّة في غاليري مارتينيه. وكان الترحاب الذي قوبلت به محفّزا لظهور لوحتيه التاليتين المشهورتين غداء على العشب عام 1863، وأوليمبيا بعد ذلك بعامين.
بالنسبة للمتلقّي الحديث، من الصعب أن نرى تفسيرا مقنعا للضجيج الذي أحاط بهذا العمل. فاللوحة هي عبارة عن بورتريه جماعي يصوّر حشدا من عشّاق الموسيقى في إحدى حدائق باريس القريبة من اللوفر.
وبالنسبة للبعض، قد تبدو اللوحة وكأنها موضة قديمة. فهي تستذكر يوما جميلا في احد المتنزّهات، حيث كانت تقام الحفلات الموسيقية مرّتين في الأسبوع وتجتذب النخبة الحديثة في الإمبراطورية الفرنسية الثانية.
وقبل هذه اللوحة بوقت قصير، رسم مانيه صورة يقلّد فيها لوحة تُعزى إلى الرسّام الاسباني دييغو فيلاسكيز عنوانها حشد من السادة يصوّر فيها اجتماعا لفنّانين إسبان من القرن السابع عشر.
اللوحتان متشابهتان إلى حدّ غريب. ومانيه هنا يحيط نفسه، هو أيضا، بأعظم شخصيات المشهد الفنّي في زمانه، ومن بينهم المؤلّف الموسيقيّ اوفنباخ الذي يجلس إلى اليمين بقبّعة وشاربين ونظّارات، والروائيّ والناقد شامفلوري الذي يجلس إلى اليسار. وهناك أيضا الرسّام جورج بازيل الواقف إلى يمين الوسط متحدّثا إلى امرأة ومرتديا قبّعة سوداء مستديرة.
ومثل فيلاسكيز أيضا، رسم مانيه نفسه في أقصى الجزء الأيسر من اللوحة خلف الرجل الممسك بعصا. ومعنى هذا انه يقارن نفسه بفيلاسكيز الذي رسم نفسه في لوحته المشهورة وصيفات الشرف التي يقال أنها تصوّر العلاقة بين المتلقّي والمنظر الذي يراه. وبوضع مانيه نفسه في هذا الجزء البعيد من اللوحة، فإنه أراد أن يعرّف بنفسه وأن يؤكّد بأنه موجود ضمن هذا الجمع، ولكنه في نفس الوقت مُزاح عنه.
وكما في لوحة فيلاسكيز التي يجلس فيها المتلقّي مكان الملك والملكة، هنا أيضا يحتلّ المتلقّي فراغا متخيّلا في نفس المكان الذي يتعيّن أن يظهر فيه الموسيقيّون والعازفون. مفردة "الموسيقى" في عنوان اللوحة قد يكون المقصود بها المتلقّي نفسه، وهذا ولا شكّ ينطوي على نوع من الخداع الجميل الذي كان فيلاسكيز نفسه يفتخر به.
عناصر هذه اللوحة رُتّبت بعناية لتعكس الأوضاع الجندرية وقتها. فالنساء صامتات ولامباليات. كما أنهنّ يظهرن وهنّ جالسات، بينما الرجال متحرّكون ونشطون، وهم في وضع وقوف.
الكراسي المعدنية المذهّبة في المقدّمة تساعد على تكريس هذا الوضع. وهي توفّر خلطة ألوان تتكرّر في الأشكال الأنثوية للتوليف، أي ألوان القبّعات والفساتين. والرجال غالبا يرتدون الأسود الذي يتماهى مع الخطوط العمودية المظلمة التي تخلقها الأشجار.
ملء فراغ اللوحة بالرجال والنساء لم يكن شيئا ثوريّا أو مستحدثا في رسم القرن التاسع عشر. لكن اللوحة تتضمّن بعض الأشكال المبتكرة، مثل تقليص حجم السماء واختزالها في مثلّث صغير من اللون الأزرق، وكذلك طريقة تعامل الرسّام مع الطلاء.
لا يجب أيضا أن ننسى أن هذه اللوحة هي عن الحداثة في المدن الكبيرة. ومن ثم فإن لها ارتباطا وثيقا بشخصية أخرى مهمّة في المشهد الثقافي الباريسي في ذلك الوقت، وهو شارل بودلير.
كان بودلير يرى أن رسّام الحياة الحديثة يجب أن يُمسك، من خلال عدد قليل من ضربات الفرشاة، بتعبيرات وحركات الأفراد بما يشبه الاختزال البصري الذي تُبسّط فيه الأشكال بتحويلها إلى ما يشبه الكاريكاتير. وهذا ينطبق على الفرشاة الفضفاضة والتلقائية التي استخدمها مانيه هنا.
بودلير أيضا كان يعتبر أن الرسم، وليس الأدب، هو الوسيط المثاليّ للتعبير عن الحداثة، وأن الناس بمعاطفهم وملابسهم هم شجعان على طريقتهم ولا يختلفون في شيء عن مصارعي العصر الروماني.
كما كان يرى أن الحياة اليومية الحديثة يجب أن تكون موضوعا مفضّلا للرسّام، وأن التجربة البصرية للمدينة وطبيعة مناظرها هي التي تعبّر عن جوهرها، وأن حشود الناس جزء لا يتجزّأ من هذا الجوهر. وفي نهاية الأمر، فإن الناس هم من يصنعون المدينة ويقرّرون طبيعة ووتيرة أو سرعة الحياة فيها.
لم يكن بودلير مجرّد شاعر وأديب، بل كان أيضا ناقدا أدبيا وفنّيا. وكان معروفا بنثره وشعره المتفرّد الذي أثّر في الكثيرين ممن أتوا بعده. في ديوانه الأشهر "أزهار الشرّ"، يتحدّث عن الطبيعة المتغيّرة للجمال في مجتمع باريس القرن التاسع عشر. كانت باريس وقتها أكثر مدن العالم نموّا واتّساعا وزيادة في عدد السكّان.
المعروف أن بودلير كان أوّل من صاغ مصطلح "الحداثة"، الذي يصف تجربة الحياة في المدن الكبيرة ومسئولية الفنّ والأدب في الإمساك بتلك الظاهرة وتجسيدها.

Wednesday, May 27, 2015

لوحات عالميـة – 357

الهروب من النقد
للفنان الاسباني بير بوريل ديل كاسو، 1874

تُعتبر هذه اللوحة مثالا جيّدا على فنّ الترومبليه، وهو عبارة عن توظيف صور واقعية لخلق نوع من الخداع البصريّ تظهر فيها الأشياء في مجال ثلاثيّ الأبعاد بدلا من بعدين فقط، وذلك من اجل إضافة محور آخر للرؤية غير موجود.
هذا النوع من الخداع البصري يضفي غبَشا على الحدّ ما بين الفراغ الواقعي والخيالي. والرسّام هنا يحاول أن يخدع أعيننا بخلق نوع من الإيهام البصريّ المقنّع من خلال تحويله الموادّ الجامدة، كالخشب والرخام والطلاء، إلى وسيلة لتعزيز فهمه للعالم.
هنا نرى صبيّاً بملابس رثّة وهو يخطو خارج إطار اللوحة التي هو جزء منها في محاولة يائسة للهرب. وجهه تبدو عليه آثار الخوف أو الصدمة. وضعية اليدين والقدمين والرأس خارج الإطار المرسوم، وكذلك الظلال الهابطة عليها هي التي تخلق وهما بأن الشخص يتسلّق خارج اللوحة.
الألوان في الصورة يغلب عليها الأصفر. والضوء يأتي من جهة اليسار لجذب العين إلى وجه الشخص.
في الواقع لا يُعرف معنى اللوحة ولا القصد من رسمها. لكن عنوانها ربّما يوحي بالنضال والجهد الذي يبذله الرسّامون الشباب عندما يتعرّضون للنقد الشديد على يد من يسمّون أنفسهم بنقّاد الفنّ الضليعين.
في زمن الرسّام، كان نقّاد الفنّ المحافظ يفضّلون رؤية لوحات مليئة بصور الأبطال وترويج القيم الأخلاقية، متجاهلين حيوية ونشاط العالم الواقعي.
فنّ الترومبليه نفسه قديم جدّا. ذات مرّة كتب أفلاطون يقول: كلّ شيء يخدع .. يفتن بنفس الوقت". وفي عالم الفنون فإن هذه الفكرة واضحة وتشرح نفسها بنفسها. وهناك أمثلة مبكّرة عن الترومبليه يمكن أن نجدها في الفنّ الروماني واليوناني القديم، مثل جداريات بومبي المشهورة التي تصوّر مناظر عن طبيعة متخيّلة.
ويمكن القول أيضا بأن الترومبليه لعبة يمارسها الرسّام مع المتلقّي لإثارة أسئلة حول طبيعة الرسم والإدراك وحول منظورنا عن الأشياء، من قبيل أين تنتهي اللوحة وأين يبدأ العالم الحقيقي؟ والغاية هي أن نتعلّم كيف نرى الأشياء بمنظور جديد وأن نقبل ونتعايش مع فكرة أن ما نستقبله محدود بمساحة الصورة أو نطاقها البصريّ.
في القرن التاسع عشر اعتمد رسّامو الطبيعة الانجليز هذا النوع من الإيهام عندما استخدموا ألوانا وأشكالا ومنظورا غير واقعي لكي يبرهنوا على ذكائهم وبراعتهم وليخلقوا نوعا من التأثير على ذهن وإدراك المتلقّي.
ورسّامو الطبيعة الهولنديون من القرن السابع عشر وظّفوا، هم أيضا، هذا النوع من الخداع أو الوهم في أعمال الطبيعة الصامتة. كانوا يرسمون ثمار الفواكه في أطباق من الفضّة، بحيث تتداخل الأطباق مع المائدة الموضوعة فوقها، معطية إحساسا بالعمق وكما لو أن اللوحة ثلاثية الأبعاد.
غير أن بعض مؤرّخي الفنّ يُعيدون فكرة الإيهام الفنّي إلى زمن أقدم، وبالتحديد إلى القرن الخامس قبل الميلاد. فالمؤرّخ الروماني بليني "أو بلينيوس" الأكبر في كتابه "التاريخ الطبيعي" كتب عن أسطورة تحكي عن مسابقة فنّية بين أعظم رسّامين إغريقيين في ذلك الوقت، وهما باراسيوس وزيوكسيس.
وكلاهما كان يرسم على ألواح الخشب وعلى الجدران. كما كان كلّ منهما يعتقد انه الرسّام الأعظم. ولذا قرّرا أن يسوّيا الأمر ويحتكما للجمهور في مسابقة للرسم يتقرّر في نهايتها أيّ منهما يستحقّ اللقب. وقد اختار كلّ منهما جانبا من جدار كي يرسم عليه بحيث لا يرى احدهما الآخر. واختارا عددا من الأشخاص كي يكونوا محكّمين.
كان كلّ من باراسيوس وزيوكسيس بارعا في الترومبليه. وقد أنجز كلّ واحد منهما عمله ثمّ غطّاه بستارة.
وعندما عرض زيوكسيس جداريّته، تبيّن انه رسم آنيّة بسيطة فيها فاكهة منوّعة. كان ما أنجزه عبارة عن طبيعة صامتة رسمها بشكل جميل. كما جعل الشمس تسطع على السطح الأخضر الشاحب لثمار الكمثرى بحيث تبدو رطبة وصلبة في آن. أمّا الرمّان فقد رسمه بطريقة رائعة، لدرجة أن المحكّمين والمتفرّجين كان باستطاعتهم أن يتذوّقوا ثماره تقريبا.
ذُهل الناس من براعة زيوكسيس وتمكّنه. وبينما كانوا يقفون أمام لوحته، ظهر طائر كان قد حطّ على الجدار إلى فوق وطار نزولا إلى حيث إناء الفاكهة المرسوم، ممنّيا نفسه بالتقاط بعض حبّات العنب والطيران بها بعيدا. غير أن رأس الطائر ارتطم بالجدار وسقط على الأرض ميّتا ضحية الوهم.
كان عمل زيوكسيس في غاية الواقعية. وكان متأكّدا من انه سيفوز باللقب بصرف النظر عما سيفعله منافسه.
ثم انتقل المحكّمون إلى الجهة الأخرى من الجدار المخفيّ ليروا ماذا رسم عليه باراسيوس. وطلبوا منه أن يزيل الستارة، فقال إن ذلك غير ممكن. ودُهش الحضور من كلامه. لكنه استدار ناحيتهم قائلا إن الستارة هي اللوحة التي رسمها!
وعلى الرغم من أن لوحة زيوكسيس خدعت الطائر بواقعيّتها الشديدة، إلا أن ستارة باراسيوس كانت واقعية جدّا لدرجة أنها خدعت أو أوهمت زيوكسيس والحكّام والجمهور معا. وانتهت المسابقة بإعلان فوز باراسيوس بلقب الرسّام الأعظم.
بير بوريل ديل كاسو رسّام غير معروف نسبيّا. لكنّه من مواليد إقليم كاتالونيا الاسباني. وقد عاش في الفترة من عام 1835 إلى 1910م. كان أبوه يعمل في النجارة وقد تعلّم منه الابن طريقة التعامل مع الخشب.
ثم ذهب إلى برشلونة ليتلقّى تدريبا في مدرسة الفنون هناك. وقد نأى بنفسه عن الرومانسية التي كانت تهيمن على التعليم في المدارس آنذاك كما رفض الأشكال المثالية. وكان الطلبة وقتها يُشجَّعون على رسم مناظر الهواء الطلق والحياة اليومية.
رسم بوريل مناظر دينية أكثرها موجود اليوم في متحف برشلونة. وفي ما بعد انشأ أكاديميّته الخاصّة للرسم، وكان يقدّم للتلاميذ فيها تدريبا ودروسا في الرسم الواقعي. كما كان يشجّعهم على أن يتركوا قاعات الدراسة ويرسموا في الهواء الطلق.

Wednesday, May 06, 2015

لوحات عالميـة – 356

لايَقِيـن الشـاعـر
للفنان اليوناني جيـورجيـو دي كيـريكــو، 1913

في هذه اللوحة يرسم الفنّان مكانا معتما يقوم على احد جانبيه عدد من القناطر المظلمة والمنذرة بالخطر. وفي مقدّمة المنظر نرى ما يشبه ساحة يقف في مقدّمتها تمثال كلاسيكيّ بلا رأس ولا ذراعين أو ساقين، وإلى جواره فرع موز ضخم وناضج. وفي البعيد، في خلفية المنظر، نلمح شراع سفينة وقطارا مسرعا على وشك أن يخرج من اللوحة نافثاً دخانه الكثيف.
ليس من الواضح لماذا رسم دي كيريكو هذا المنظر الغامض والغريب، الذي يسخر فيه من نظريات المنظور والأسطح. كما أن لا أحد يعرف على وجه التأكيد العلاقة بين شراع السفينة والقطار المسرع ولا الرابط بين التمثال الكلاسيكي وثمار الموز.
بداية، يبدو التمثال في اللوحة ساكنا وغير قادر على الحركة أو التفاعل. كما انه بلا رأس ولا أطراف أو حواسّ. أي انه لا يستطيع أن يلمس أو يشعر أو يأكل أو يرى. ورغم حقيقة أن التمثال فقد رأسه، إلا انه يبدو كما لو انه ليس مصنوعا من حجر، بل من لحم ودم بفضل حركته الدائرية.
في العالم الطبيعي، يُعتبر الموز والتمثال شكلين متعارضين غالبا. التمثال صنعه بشر، وهو يقاوم التلف. أما الموز فنبات عضويّ، وهو عرضة للتحلّل والموت السريع. ومع ذلك فحتى التمثال يمكن أن يتعرّض للبلى والتحلّل بفعل عوامل الزمن.
هذه اللوحة تنتمي إلى المرحلة الميتافيزيقية عند الرسّام، أي عندما كان متأثّرا بفلسفة شوبنهاور ونيتشه. كان شوبنهاور يعتقد أن الفنّ متى ما قُدّم بطريقة معيّنة يمكن أن يكشف للمتلقّي أن العالم الذي نعيش فيه لا نرى منه سوى أشكال وتمظهرات.
ومن خلال جمعه أشياء لا رابط أو علاقة بينها، يحاول الرسّام أن يفعل هذا. ووضع هذه الأشياء في اللوحة يبدو غير منطقي. والناظر يشعر أن وضعها هكذا يدلّ على أنها موضوعة في مكان ما خارج الزمن. وربّما أراد الرسّام أن يشير إلى حقيقة أننا نفهم شيئا ما من خلال فهم علاقته بغيره من الأشياء في الزمان والمكان.
وهناك من يعتقد أن دي كيريكو ربّما استوحى موضوع اللوحة من قصيدة للشاعر الانجليزي ييتس تحدّث فيها عن شعره وقارنه بشيء ما ميّت وأن له خاصّية ليست بشرية. وكان الشاعر يشير إلى الإحساس بالفنّ الذي يوجد مستقلا عنّا وخارج مشاعرنا وأفكارنا اليومية.
والقناطر بُنية كلاسيكية لا يوجد خلفها سوى السواد والعتمة والحدّ الباهت الذي تصبح عنده الكلمات قصيدة وضربات الفرشاة لوحة.
والشاعر عندما يحسّ بشيء ما يجهد كي يجد الكلمات المناسبة للتعبير عنه. لكنه لا يعرف الكلمات التي يريدها إلى أن يجدها. وهو لا يستطيع أن يعرف كنه هذا الجنين الذي يتشكّل في داخله ما لم يتحوّل إلى كلمات مرتّبة بنظام صحيح. وعندما يجد الشاعر الكلمات المعبّرة فإن الشيء الذي ظلّ يبحث له عن كلمات يكون قد اختفى وحلّت مكانه قصيدة.
وفي الواقع لا يوجد في لوحة أخرى مثل هذا العدد الكبير من الموز. كما لا يوجد موز مشحون بمثل هذا الغموض وموضوع إلى جوار تمثال مكسور لأفرودايت في ميدان فارغ ذات نهار مشمس.
ولكي يُضفي جوّا إضافيّا من التعب والغموض على المنظر، رسم الفنّان سفينة راسية وقطارا ينفث دخانا ولا يعرف احد إلى أين هو متّجه، بالإضافة إلى تلك الموزات الفاسدة.
دي كيريكو عندما رسم اللوحة، كان يحاول استنباط مبادئ لما كان يسمّيه بالفنّ الميتافيزيقي. وكان يريد، ليس إعادة إنتاج الواقع الخارجي، وإنما أن يستثير الأحاسيس الغريبة، أي لحظات الكشف والتجلّي التي كان يمرّ بها في الحياة العادية.
وغالبا ما كانت كشوفاته تلك تأتيه على هيئة حزن ومشاعر متوتّرة عندما كان يتجوّل وحيدا في بعض الأماكن. وقد أحسّ لأوّل مرّة بمثل ذلك الشعور بالكآبة والحزن عندما كان يتمشّى في ردهات قصر فرساي الفرنسي. كان يتأمّل الفلسفة العدمية لنيتشه عندما أحسّ برجفة باردة وبمتعة العزلة التي تفضي إلى التجلّي.
وحدثت معه نفس هذه التجربة في فلورنسا وروما عندما حرّك مشاعره مرأى قناطر قديمة وظلال على الجدران الباردة و"موسيقى غريبة بلون أزرق داكن يشبه ظهيرة على شاطئ البحر"، على حدّ وصفه.
كان دي كيريكو يحبّ القناطر الرومانية، أوّلا لبساطة أشكالها الهندسية والغموض الذي تختزنه، وثانيا لأنها برأيه ترمز لقيم خالدة ويمكن أن تكون دليلا على وجود قوانين خفيّة.
والحضور المتكرّر للتماثيل الكلاسيكية في لوحاته يوحي باهتمامه بتاريخ العالم القديم. لكنه عُرف أيضا بحبّه لمدينة تورين الايطالية. كان يزور هذه المدينة من وقت لآخر ويتأمّل قناطرها وتماثيلها الكثيرة التي تعود للعصور الكلاسيكية.
ولو أمعنت النظر في لوحاته، لوجدت أن معظمها لا يخلو من عنصر من العناصر التي جمعها في هذه اللوحة، كالساحة المقفرة، أو التمثال المكسور الذي كان مكتملا وبهيّا ذات يوم، أو الضوء الحادّ الساطع لظهيرة أحد الأيّام، أي الوقت الذي يكون فيه كلّ شيء ساكنا ولا يحدث فيه شيء عادة.
كان دي كيريكو يرى في الأماكن المعمارية صورا ونماذج للواقع المعادي والعنيد، بينما القطار الصغير العبثى والسفينة المتأهّبة للرحيل قد يكونان رمزا لحاجة الإنسان إلى أهداف وطموحات. أما التمثال المكسور فقد يكون تذكيرا بالصروح التي أقامها الإنسان ليتغلّب على إحساسه بعدم أهميّته أو ضآلته في هذا العالم.
وفي بعض الأحيان، ظهرت محاولات لربط رمزية اللوحات بهواجس الرسّام المفترضة، وكما لو أن كلّ لوحة رسمها لها قصّة في مفكّرة أحلامه ينبغي فكّ شفرتها وتفسيرها من قبل طبيب نفسيّ.
مثلا قيل إن السفينة هي رمز لطفولته في اليونان، أي للشاطئ الذي أبحر منه البطل الأسطوري جيسون بحثا عن الفروة الذهبية. أمّا القطار المتحرّك بعيدا وجدار الطوب البنّي فيمثّلان والد الرسّام الذي كان يعمل مهندسا بإحدى سكك الحديد ولم تكن علاقة الاثنين على ما يرام. أمّا التمثال المشوّه لامرأة عارية فقد يكون بورتريها انتقاميّا من والدته المستبدّة.
وهناك من ذهب إلى أن الرسّام حوّل في لا وعيه والده ووالدته إلى أشياء صالحة للأكل كي يدمّرهما بأكثر الطرق إمتاعا بالنسبة له.
وبعض الفرويديين رأوا أن الموز قد يكون رمزا لإحباطات الفنّان الجنسية. وعند محلّلين آخرين، فإن الميدان والقناطر الفارغة تعبّر عن إحساس الرسّام بالخواء.
ولد جورجيو دي كيريكو في اليونان لأبوين ايطاليين عام 1888م. وقضى طفولته وتلقّى أوّل دروس له في الرسم في أثينا عام 1900. وبعد ستّ سنوات انتقلت العائلة إلى ميونيخ بألمانيا حيث انتظم في أكاديميّتها للفنون الجميلة وتعرّف إلى أعمال الرسّام السويسري ارنولد باكلين وكتابات نيتشه.
وفي يوليو من عام 1911 وصل دي كيريكو إلى باريس قادما من ايطاليا واجتذب اهتمام النقّاد عندما عرض لوحاته فيها.
الشاعر والكاتب الفرنسي غيوم ابولينير أصبح أقوى داعم له. وقد وصف أعماله بأنها طبيعة ميتافيزيقية. كان الاثنان قريبين من بعضهما، ويقال أن الشاعر هو الذي اختار أسماء بعض لوحات الرسّام من تلك الفترة. بل إن مفردة "الشاعر" ترد في عنوان أكثر من لوحة، مثل "حلم شاعر" و"رحيل الشاعر"، بالإضافة إلى اسم هذه اللوحة.
بعض الشعراء راقت لهم لوحة دي كيريكو هذه. ومن هؤلاء شاعرة تُدعى ويندي كوب كتبت قصيدة هي عبارة عن تحيّة ساخرة إلى هذه اللوحة تقول فيها: أنا شاعرة مغرمة بالموز. وأنا موزة مغرمة جدّا بشاعر".