Thursday, January 21, 2010

لوحات عالميـة – 232

استراحة صانعات القشّ
للفنان الفرنسي كميـل بيسـارو، 1891

رغم أن كميل بيسارو عُرف باعتناقه للأفكار الفوضوية التي راجت في أوساط الأدباء والفنّانين الفرنسيين في نهاية القرن التاسع عشر، فإن لوحاته تخلو من أيّ أثر لتلك الأفكار. فأعماله مكرّسة بالكامل تقريبا لرسم مناظر الطبيعة والأشياء الساكنة.
كان بيسارو يحبّ حياة القرى والحقول وكان يرى فيها معادلا لتصوّراته عن اليوتوبيا أو المدينة الفاضلة. وكان يؤمن بأن من حقّ الأجيال القادمة أن تنعم بحياة ريفية نظيفة وخالية من آثار التصنيع والمظاهر الزاحفة للحياة المدنية.
في هذه اللوحة الجميلة يرسم بيسارو منظرا في الريف تظهر فيه ثلاث نساء وهنّ يتبادلن الحديث في احد الحقول حيث يعملن في معالجة أكوام القشّ التي يتمّ جمعها تمهيدا لتجفيفها ومن ثمّ خزنها كي تقدّم في ما بعد كعلف للماشية.
المنظر جميل وهادئ كما انه يعكس بساطة أجواء الريف. وقد استخدم الرسّام هنا فرشاة فضفاضة على غرار ما كان يفعله الانطباعيون. طبقات الطلاء فوق الأسطح السميكة ووهج الضوء والتموّجات اللونية الرائعة هي بعض السمات التي تميّز هذه اللوحة.
ظلّ بيسارو مخلصا للأفكار الثورية والفوضوية طوال حياته. ولم يكن يخفي حنقه وتمرّده على الكثير من قيم مجتمعه آنذاك. ولم يكن يتردّد في المجاهرة باحتقاره للمظاهر البورجوازية والارستقراطية ورفضه للسلطة، داعيا في الوقت نفسه إلى إعلاء قيمة الفرد ومكانته.
وقد عُرف عنه انه كان من أنصار مدرسة الفنّ للفنّ ولم تكن تروق له كثيرا فكرة أن تُضمّن الأعمال الفنية رسائل سياسية أو اجتماعية.
ورغم أفكاره المتمرّدة، فإن بيسارو كان إنسانا متفائلا بطبيعته ولطالما حلم بمستقبل يتحرّر فيه الناس من "عبودية الأفكار الرأسمالية والدينية".
كان بيسارو يفضّل دائما رسم الفلاحين والعمّال، وذلك لإظهار قيمة وشرف العمل وتعبيرا عن احترامه وتقديره لأفراد تلك الطبقة.
"استراحة صانعات القشّ" تثير إحساسا جميلا بحركة اللون وبالقوّة الغامضة للضوء في خلفية هذا المشهد الإنساني الحميم. الطبقات اللونية الشفّافة من الأزرق والأحمر والأصفر والبنفسجي لها تأثير يشبه تأثير الشعر والموسيقى، يعمقّه هذا الانصهار الأنيق بين ضوء الشمس والغبار وامتدادات الحقل والتلال البنفسجية التي تلوح من بعيد.
ومن الملاحظ أن الفنّان رسم طيّات ملابس النساء بحيث تأخذ شكل تموّجات كومة القشّ. وقد كان بيسارو يستخدم الأشخاص كعناصر لا يمكن فصلها عن حركة الهواء والرياح والغيم والضوء والظلّ في لوحاته.
من المتعذّر معرفة مزاج النساء في اللوحة. غير أن المنظر نفسه يحكي عن جانب من الحياة الإنسانية ويصوّر حالة من البساطة والعفوية التي تنعدم فيها القيود والشكليات. كما انه يثير في النفس نوعا من التأمّل الصامت عن حركة الزمن، إذ يذكّر بالأيّام الخوالي وبصور من الماضي عن طقوس الرعي والزراعة وبساطة وبراءة الحياة في الأرياف.
ولد كميل بيسارو في إحدى جزر الكاريبي لأب يهودي ينحدر من أصول برتغالية. وقد تتلمذ على يد كورو وتأثّر بواقعية كونستابل وكوربيه وتيرنر. كما كان صديقا حميما لكلّ من مونيه وسيزان ورينوار.
الجدير بالذكر أن صور القشّ والحقول كانت في بعض الأوقات من الثيمات المفضّلة في الرسم. ومن أشهر من رسموا لوحات تصوّر رجالا أو نساءً يجمعون أو يصنعون القشّ كلّ من جورج ستبس وجان فرانسوا ميليه وفان غوخ وجون سارجنت وجورج مورلاند وغيرهم.

موضوع ذو صلة: نافذة على فنّ كميل بيسارو

Sunday, January 17, 2010

لوحات عالميـة – 231

سقراط يسحب آلسيباياديز من بيت الغانيات
للفنان الفرنسي جـان باتيـست رينـولت، 1791

موضوع هذه اللوحة مستمدّ من قصّة وردت في المصادر اليونانية القديمة، وأشهرها كتاب بلوتارك بعنوان "حياة آلسيباياديز". وقد صوّر الموضوع العديد من الرسّامين وأشهرهم جان ليون جيروم وفيليكس اوفاري، بالإضافة طبعا إلى جان رينولت الذي رسم لوحة ثانية عن نفس القصّة.
كان آلسيباياديز احد أكثر الشخصيات إثارةً للجدل في اليونان القديمة. والاهمّ من هذا انه كان احد أفضل تلاميذ وأتباع سقراط. وقد عاش حياة مرفّهة في أثينا وساعده على ذلك جمال ملامحه وثراء أسرته. وعُرف عنه انه كان ذا روح حرّة ومفعما بالنشاط والحيوية. ولهذه الأسباب كان له معجبون كثر بقدر ما كان له أعداء.
كان متزوّجا من امرأة وفيّة وذات مكانة ونسب. لكنّها ضاقت ذرعا بعلاقات زوجها المتعدّدة مع الغانيات. لذا تركته واعتكفت في بيت عائلتها. غير انه لم يكترث للأمر، بل استمرّ في نفس أسلوب حياته المتهتّك والمستهتر.
وقد أصبح تلميذا عند سقراط منذ سنواته المبكّرة. ويقال أنهما كانا منجذبين إلى الفكرة اليونانية القديمة عن الحبّ بين رجل وشابّ. هذا النوع من العلاقة كان أفلاطون، مثلا، يضعه في مكانة أسمى من علاقة الحبّ التي يمكن أن تربط رجلا وامرأة.
لكن آلسيباياديز كان يحبّ النساء أيضا. وكان، مثل بقيّة رجال أثينا آنذاك، يتردّد على بيوت الهوى. في ذلك الوقت، كان الرجال يتميّزون كثيرا على النساء ولم يكن هناك أيّ قدر من المساواة بين الجنسين كما يعرفها الناس اليوم. وكانت غالبية المحظيّات يتوجّهن للطبقة الاجتماعية الرفيعة. ويمكن مقارنة مكانتهنّ بنساء الصالونات التي عرفتها أوربّا خلال القرن التاسع عشر من حيث تمتّعهن بالثقافة والجمال والذكاء والقدرة على انتزاع إعجاب الرجال. ولم يكنّ يعانين من الكثير من القيود الاجتماعية، مقارنة بنساء أثينا المتزوّجات اللاتي كنّ يعشن حياة كبت وتهميش.
وقد جرت العادة أن يتمّ تدريب هذا النوع من النساء على إجادة فنّ الحديث والتسلية الموسيقية والغناء والرقص وعزف الآلات الموسيقية. وكنّ يرافقن الأغنياء ووجهاء المجتمع، مقابل المال، لحضور الندوات وحفلات الشراب والمناسبات الاجتماعية والسياسية والفكرية.
أسبيشيا كانت أشهر هؤلاء. حيث كانت تدير بيتا للغانيات في أثينا، وكانت تعلّم النساء الشابّات فيه على فنون مجالسة الرجال وأحيانا ما هو أكثر من الأمور الحميمة، كالخطابة والجدل. كان سقراط نفسه يحترم هذه المرأة بل ويعتبرها إحدى أفضل النساء في أثينا لكثرة ما كانت تشارك في النقاشات الفلسفية والسجالات الفكرية التي كانت تدور بين أعيان المجتمع والمثقّفين.
والواقع أن من ينظر إلى هذه اللوحة لا بدّ وأن ينحّي جانبا كلّ انطباعاته المسبقة عن المعلّم الحكيم سقراط. فمن الصعب أن نتخيّله غاضبا، مثلا، بسبب زيارة قام بها أحد تلاميذه إلى ماخور. وحتّى فكرة أنه يمكن أن يثور بدوافع الغيرة تبدو فكرة غير محتملة.
في اللوحة يرسم رينولت سقراط وهو في حالة غضب بينما يسحب تلميذه النزق لإبعاده عن إغراء النساء. غير أن آلسيباياديز ما يزال متشبّثا بمحظيّته حتّى وهو يرى أستاذه مصرّا على إخراجه من المكان بالقوّة. وعلى يمين اللوحة، تبدو أسبيشيا وهي تحاول تهدئة امرأة أخرى مستلقية على السرير.
الغريب أن سقراط نفسه كان يستمتع بجلسات منتظمة في حضور الغانيات. لكنه كان ينصح دائما بالاعتدال في كلّ شيء. ولطالما اعترض على أن يصرف الإنسان جزءا كبيرا من وقته على الملذّات الحسّية. وكان يقول إن الاعتدال من شأنه أن يمنع الحالات المتطرّفة من الغضب والانفعال وما تجلبه من نتائج وخيمة.
أفكار سقراط وآراؤه كان لها تأثير كبير على الحضارة الحديثة. وفلسفته كانت احد الأسس الهامّة التي قامت عليها الفلسفة الغربية. ويشاع انه لم يكن جذّابا من حيث مظهره، لكنّه كان إنسانا ذا عزيمة قويّة وقدرة فائقة على ضبط نفسه وكبح تصرّفاته وانفعالاته.
ومع ذلك فقد استمتع بالحياة كثيرا وحقّق شعبية كبيرة في المجتمع الأثيني في زمانه. وكان جهده منصبّا على تعليم الشباب طرق التفكير الصحيح وعرْض ما يُفترض انه حقائق ومسلّمات على ميزان العقل لفحصها وتحليلها.
وقد عَرف سقراط أهميّة السياسة وكان يؤمن بالحقيقة ويركّز على تأكيد قيم العدالة والحبّ والفضيلة، وفوق ذلك أهميّة الجدل العقلاني ومعرفة الذات. كما كان يؤمن بأن الرذيلة إنما هي نتيجة للجهل وأنه لا يوجد شخص سيء بالفطرة. كانت الفضيلة عنده هي المعرفة، وكان يرى أن الذين يعرفون الصواب يتصرّفون دائما بطريقة صحيحة.
كان سقراط مدافعا قويّا عن قيم العدالة والحرّية والمساواة ورافضا بشدّة للأفكار المتزمّتة والمنغلقة، وهذا ما جعله مصدر الهام للكثيرين. وقد سحرت شخصيّته وأفكاره كثيرا من فلاسفة ومفكّري القرن التاسع عشر. ومن أشهر من تأثّروا به هيغل وكيركغارد ونيتشه الذي تحدّث عنه في كتابه "أفول الأصنام" واعتبره احد أهمّ الشخصيّات التي أثّرت في تاريخ العالم. كما لاقت فلسفته هوى عند الوجوديين وعلماء اللغة والاجتماع.
لا يُعرف على وجه التأكيد لماذا رسم رينولت هذه القصّة. لكن يقال انه كان يسقط أفكاره وقناعاته الأخلاقية الخاصّة على الأحداث التاريخية. وهو كان رسّاما اكاديميا ومعاصرا لـ دافيد. وجزء كبير من لوحاته مخصّصة لرسم أحداث وقصص تاريخية.
بالنسبة لـ آلسيباياديز، كانت مشاركته الفعّالة في الحياة العامّة مؤشّرا على ذكائه واتساع نفوذه. وفي إحدى المرّات، عُيّن - ضدّ إرادته على ما يبدو - قائدا لجيش أثينا إلى صقلّية. وأثناء تلك الحملة استدعي إلى أثينا لمواجهة تهم بالتخريب وانتهاك القانون العام. لكنّه هرب إلى سبارتا وعرض خدماته على أهلها لإلحاق الهزيمة بالأثينيين. ونتيجة لذلك، حكمت عليه أثينا بالموت غيابيا وصادرت كافّة ممتلكاته. لكنّه سرعان ما اصطدم مع قادة سبارتا، ما دفعه للهرب هذه المرّة إلى بلاد فارس. غير انه تمكّن من استرداد ثقة أثينا به، فنصّبه أهلها قائدا وحقّق لهم عددا من الانتصارات العسكرية.
وعندما اخفق في حملته في آسيا انقلبوا عليه، ما اضطرّه للفرار إلى فارس من جديد.
وفي ما بعد، أضرمت النار في بيته ذات ليلة، وأثناء محاولته النجاة بنفسه فاجأته عصابة من رماة السهام وقتلوه. ويُعتقد أن أهل سبارتا هم من ضغط على الفرس لاغتياله.