Sunday, December 27, 2009

لوحات عالميـة – 229

بورتريه شخصي مع تمثال نصفي لـ مينيرفا
للفنانة السويسرية أنجيـليكـا كوفمــان، 1780

فنّانون كثر كانوا مشهورين جدّا في زمانهم ثم نسيهم التاريخ لفترة طويلة. وفجأة ولسبب ما، يتذكّرهم الناس مرّة أخرى وتسلّط الأضواء على حياتهم وفنّهم من جديد.
ومن بين هؤلاء الرسّامة انجيليكا كوفمان التي احتفلت الأوساط الفنّية مؤخّرا بمرور مائتي عام على وفاتها.
كانت كوفمان تتمتّع بشهرة عظيمة في عصرها. بل لقد قيل إنها كانت أشهر فنّانة في روما وكان صالونها ملتقى لأبرز الأدباء والمثقّفين في ذلك الزمان. كما ربطتها علاقة صداقة خاصّة مع الفيلسوف والشاعر الألماني غوته الذي كثيرا ما امتدح ثقافتها ومواهبها الكثيرة. وقد ردّت على ثنائه عليها بأن رسمت له بورتريها عندما كان عمره 38 عاما.
كانت كوفمان رسّامة الملوك والملكات في أوربّا وكانت ترتبط بعلاقة وثيقة مع معظم الأسر الملكية الأوربية. وأينما حلّت كانت تجد الترحاب والحفاوة بسبب موهبتها وجمالها، وأيضا بسبب تلك الهالة من القداسة والبراءة التي كانت تحيط بشخصيّتها.
كانت تلقّب بالآنسة انجيل أو مِس انجيل. وقد قيل إن ملامحها تعطي انطباعا عن امرأة لا تنتمي إلى هذا العالم. وكانت تلك الشهادة بالنسبة لها سلعة غالية ولا تقدّر بثمن. وبسبب حضورها الكبير وجاذبيتها الطاغية كان البعض يلقبّها بربّة الإلهام العاشرة لروما.
في هذا البورتريه الذي رسمته الفنّانة لنفسها تبدو هادئة وواثقة من نفسها. مظهرها العام يشبه مظهر سيّدة مجتمع مثقّفة وعصرية. وهي تنظر إلى المتلقّي بينما تمسك كرّاس الرسم بيد وباليد الأخرى قلما من الشمع. وإلى يمينها تمثال نصفي لـ مينيرفا الإلهة الأسطورية المناط بها رعاية الفنّانين وأرباب الحِرَف. وثمّة احتمال بأن الرسّامة أرادت من خلال التمثال أن تؤكّد أوّلا على أنها فنانة ولكي تعلن عن تعاطفها وانحيازها للرسم الكلاسيكي.
المعروف أن مينيرفا خاضت حربا مع نيبتون للسيطرة على أثينا. وقد كسبت الحرب في النهاية رغم كونها إلهة أنثى. وفي هذا - ربّما - تلميح إلى حتمية نجاح النساء في الفنّ وتبوّئهن مكانة شبيهة بتلك التي للرجال.
في البورتريه أيضا تظهر الرسّامة مرتدية فستانا بلونين بنّي وأبيض زُينّت أطرافه بالفراء.
شكل القماش والسوار الفضّي والبشرة الشفّافة وقلم الألوان واليدين اللتين تمسكان به والألوان المتناغمة، كلّ هذه العناصر مرسومة بدقّة ونعومة. النظرات ذكيّة والابتسامة خفيفة، والانطباع العامّ الذي تثيره اللوحة هو أننا إزاء امرأة تكشف الطريقة التي تقدّم بها نفسها مع أدوات حرفتها عن قدر وافر من الثقة والإصرار والعزيمة.
تلقت كوفمان تدريبا في الرسم على يد والدها الذي كان يعمل بتزيين الكنائس وزخرفتها. وقد أتقنت الرسم وهي في سنّ العاشرة وسافرت مع أبيها إلى عدّة دول أوربية حيث دأبت على استنساخ العديد من لوحات كبار رسّامي عصر النهضة.
وقد عاشت الرسّامة في لندن ستّة عشر عاما وكانت احد مؤسّسي الأكاديمية الملكية، كما كانت المرأة الوحيدة التي تُختار لعضوية كل من الرويال أكاديمي في لندن وأكاديمية روما للفنون.
كانت انجيليكا كوفمان بالإضافة إلى اشتغالها بالرسم امرأة مثقفة. كانت تقرأ بنهم وتعزف الموسيقى وتتقن العديد من اللغات، الأمر الذي قرّبها كثيرا من مجتمع الأدباء والكتّاب في أكثر من بلد أوربّي.
وقد رسمت شعراء وروائيين ومسرحيين بالإضافة إلى لوحاتها الأخرى التي اختارت لها مواضيع تاريخية وأسطورية. وقد الفت عنها كتب عديدة أشهرها كتاب مِس انجيل الذي تناول حياتها وفنّها ودورها في تشكيل الثقافة البصرية الأوربّية.
وقد رسمت الفنانة لنفسها أكثر من بورتريه، وكانت تحاول من خلال رسم نفسها إضفاء طابع درامي على شخصيّتها. وقد أعطت ملامحها لبعض الشخصّيات النسائية التي رسمتها مثل هيلين أميرة طروادة و سافو الشاعرة اليونانية المشهورة.
ويقال إن حياتها المثيرة والمتعدّدة الألوان تصلح موضوعا لأكثر من رواية بسبب قصص الحبّ الكثيرة التي عاشتها، وأشهرها قصّة زواجها من رجل زعم انه "كونت" ثم تبيّن انه كان مجرّد شخص محتال.
وعندما توفّيت في روما عام 1807 نُظّمت لها جنازة قيل إنها أضخم جنازة شهدتها ايطاليا منذ وفاة رافائيل.
ولوحاتها تتوزّع اليوم على عدد من المتاحف الكبيرة في أوربّا مثل الارميتاج والناشيونال غاليري ومتحف ميونيخ للفنون.

Saturday, December 19, 2009

لوحات عالميـة – 228

بورتـريه بياتـريتـشا تشيـنشـي
للفنان الايطالي غـويـدو رينـي، 1662

يقال إن هذه اللوحة هي أكثر اللوحات حزنا في تاريخ الرسم. وهي تصوّر الفتاة الايطالية بياتريتشا تشينشي التي كانت طرفا في قضية مأساوية حدثت في ايطاليا في نهاية القرن السادس عشر.
كانت بياتريتشا تنتمي إلى عائلة ارستقراطية مشهورة. كان والدها الكونت فرانشيسكو تشينشي احد نبلاء روما من أصحاب الحظوة والنفوذ. وقد عرف الرجل بعدوانيته ومزاجه العنيف وتهتّكه الأخلاقي.
ونالت عائلته القسط الأكبر من تسلّطه وسوء خلقه. كان يسيء معاملة زوجته وأبنائه. بل لقد وصل به الحال إلى انتهاك براءة بياتريتشا ابنته الصغرى من زواج سابق. وقد سجن مرارا، لكنْ لأنه نبيل فقد كان يخلى سبيله المرّة تلو الأخرى بسبب نفوذه وعلاقاته الواسعة.
زوجته الثانية، واسمها لوكريتسيا، كانت تعرف الطبيعة المتوحّشة للرجل. وكانت تشفق على الفتاة كثيرا وتعاملها كابنتها بعد موت والدتها. لكن هذا لم يؤدّ إلا إلى اشتداد غضب الزوج عليهما ومعاملتهما بقسوة اكبر.
وفي احد الأيّام قرر الكونت إبعاد زوجته وولديه وابنته إلى قلعة قديمة ومنعزلة كانت تملكها العائلة في ريف روما. وبعد انتقال الأربعة إلى القلعة وضعت بياتريتشا في غرفة مظلمة وحيل بينها وبين الاتصال بأحد. وأثناء مكوث فرانشيسكو في القلعة قرّرت الزوجة والابن الأكبر التخلّص منه فقاما بمساعدة بعض الخدم الذين كان يسيء معاملتهم بربطه ثم ضربه بمطرقة حتى الموت. وبعد ذلك ألقوا بجثّته من أعلى القلعة كي يبدو الأمر وكأنه حادث عرضي. وقد قُبض على الأربعة بعد ذلك وحُكم عليهم جميعا بالموت وبمصادرة جميع ممتلكاتهم. ولم يستثن حكم الإعدام حتى بياتريتشا التي كانت مسجونة في غرفتها ولم تكن على علم بما حدث.
وفي المائتي سنة الأخيرة كانت القصّة المأساوية لـ بياتريتشا تشينشي موضوعا لسلسلة من الأعمال الأدبية والفنية والموسيقية والسينمائية. كما استلهمها كل من البرتو مورافيا وستندال والكسندر دوما في بعض أعمالهم.
احد أبطال هذه المأساة كان البابا كليمنت الثامن الذي اشتهر بصلفه وقسوته وجشعه. وقد أمر بإخضاع الأربعة قبل قتلهم إلى شتّى أنواع التعذيب مما لم تعرف بشاعته حتى محاكم التفتيش. وأوصى خاصّة بمضاعفة تعذيب الصغيرة بياتريتشا لأنها أصرّت على براءتها ووصفت الحكم بالظالم.
كان الناس يعرفون خلفيات الجريمة وكانت مشاعرهم تغلي احتجاجا على قسوة الحكم كما اظهروا قدرا كبيرا من التعاطف مع المدانين. وقد أدّت احتجاجات الناس إلى تأجيل تنفيذ الحكم لعدّة أيّام لكن البابا رفض إظهار أيّ قدر من الرحمة تجاه الأربعة.
وسرت في بعض الأوساط همهمات ضدّ البابا والقضاة الذين كانوا عازمين على قتل العائلة بأكملها ومصادرة ممتلكاتها الضخمة.
وقد تبرّع بعض المحامين المشهورين للدفاع عن بياتريتشا وعائلتها لكنّ البابا كان هو الخصم والحكم في الوقت نفسه. ولم يسمح في البداية بأيّ دفاع، لكنه رضخ مُكْرهاً بعد تدخّل بعض العائلات النبيلة والمتنفّذة.
كان الرسّام غويدو ريني معاصرا لتلك الأحداث. وقد رأى بياتريتشا قبل يوم من إعدامها عندما ذهب إلى زنزانتها بصحبة محاميها. وعندما أبدى رغبته في رسمها تمنّعت في البداية غير أنها وافقت على طلبه في نهاية الأمر.
في اللوحة تبدو الفتاة وهي ترتدي غطاء رأس ابيض يكشف عن بعض خصلات شعرها الأحمر. الملامح بريئة تناسب عمرها الذي لم يكن يتجاوز السابعة عشرة. والهدوء المرتسم على وجهها يخفي ألمها والمعاناة التي مرّت بها والعنف الذي مورس ضدّها.
في صباح اليوم التالي كان على المحكومين أن يعبروا جسرا قديما تقع عند نهايته الساحة المخصّصة للإعدام بينما كانت أجراس الكنائس تدقّ والطبول تقرع. كان يوما حزينا في حياة أهالي روما، عدا البابا ووكلاءه.
بدأ الجلاد بقطع رأس لوكريتسيا، ثم تحوّل إلى الأخ الأكبر فضرب رأسه بالفأس ثم قطّعت أطرافه كي تعرض على الناس، إنفاذا لتعليمات البابا. بياتريتشا التي كانت تنتظر دورها كانت ترتدي ملابس بيضاء وكان وجهها شاحبا ويقال إنها كانت تبدو مثل ملاك. كانت تتوجّه بنظراتها إلى السماء وهي تتمتم: يا الله، انك تعلم أنني أموت بريئة" قبل أن يعاجلها الجلاد بضربة بالفأس ثم يلتقط رأسها ويلوّح به باتجاه الجماهير التي كانت تصرخ رعبا وهلعا.
الوحيد الذي نجا من هذه الحفلة الدموية كان الابن الأصغر برناردينو. فقد خُفّف عنه الحكم، غير انه ألزم بأن يشهد قتل أقاربه واحدا واحدا ثم اُعيد إلى السجن ليقضي فيه عدّة سنوات قبل أن ينفى إلى توسكاني التي ظلّ فيها إلى أن توفّي.
في ما بعد بيعت ممتلكات العائلة المصادرة إلى بعض أقارب البابا بينما تكفّل الكرادلة بشراء الباقي بأثمان بخسة.
مأساة الفتاة وعائلتها أسهمت في انتشار هذه اللوحة على نطاق واسع وقد استنسخت ملايين المرّات وظهرت في الكثير من الكتب والروايات. كما أثارت مخيّلة الشاعر الانجليزي شيللي الذي رآها في احد قصور روما الأثرية فاستوقفته طويلا وألهمته كتابة إحدى قصائده المشهورة.
بعد مرور سنوات على قتل بياتريتشا تحوّل قبرها إلى مزار يقصده الناس الذين أصبحوا ينظرون إليها كقدّيسة، ما دفع الرهبان إلى إزالة الشاهد وتدمير النقوش المحفورة على القبر لمحو كل اثر لصاحبته.
وبعد أشهر من المجزرة التي ارتكبت بحقّ عائلة تشينشي رسم غويدو ريني لوحة يصوّر فيها احد الملائكة وهو يصارع الشيطان ويغلبه. وقد فهم الناس مغزى اللوحة عندما استعار الفنان ملامح وجه بياتريتشا ليعطيها للملاك، بينما أعطى الشيطان ملامح وجه البابا كليمنت الثامن.
وطبقا لبعض الروايات، فإن احد الجلادَين اللذين نفّذا عملية الإعدام مات بعد ذلك بثلاثة عشر يوما تحت تأثير الكوابيس المزعجة والإحساس الشديد بالذنب. بينما تعرّض الثاني لطعنات سكّين حتى الموت على يد شخص مجهول في احد شوارع روما وذلك بعد شهر من حادثة الإعدام.
بعد سنوات رسم الفنان اكيلي ليونارديني لوحة يصوّر فيها غويدو وهو يرسم بياتريتشا في غرفتها بالسجن.
وفي ما بعد، أصبحت بياتريتشا تشينشي رمزا للمقاومة ضد انحلال الارستقراطية وطغيان رجال الدين.
وقد راجت بعد ذلك أسطورة تقول إن بياتريتشا كانت تظهر فوق الجسر كلّ سنة في الليلة التي سبقت إعدامها وهي تحمل في يدها رأسها المقطوع.

Tuesday, December 08, 2009

لوحات عالميـة – 227

الغـُـــراب
للفنان الفرنسي كـلـود مـونيـه، 1868

كان من عادة مونيه أن يقضي شهور الشتاء في الريف، حيث كان يزاول المشي في الحقول القريبة من منزله ويراقب تساقط الثلج ويرسم أثره على الطبيعة.
في هذه اللوحة يرسم الفنّان مزرعة صغيرة في إحدى قرى النورماندي، وقد غطّى الثلج أشجارها ونباتاتها والبيوت الواقعة خلفها.
وكعادة الانطباعيين، اختار مونيه أن يركّز اهتمامه على تصوير العلاقة بين ضوء الشمس والألوان والظلال في الطبيعة الثلجية.
في مثل هذا النوع من الطقس المتطرّف، يندر أن تشرق الشمس التي تكون عادة متوارية خلف طبقات الغيم. لكن في هذا المنظر، هناك شمس خفيفة، وتأثير الضوء في هذه الحالة وعلاقته باللون والظل مما يثير فضول الفنان ويحفزه لتصوير التفاعل ما بين هذه العناصر وأيضا اكتشاف المزيد من الإمكانيات الجمالية والانفعالية المرتبطة بالظروف المناخية الباردة.
في الظلّ يبدو لون الثلج ازرق شاحبا. وفي المساحات المفتوحة يأخذ لونا ابيض داكنا. بينما تتوزّع على بقية اللوحة درجات خفيفة من الأسود والرمادي والأرجواني والأبيض.
كما يبدو الثلج ذا لمسة أكثر نعومة في الأجزاء التي يغطّيها الظلّ. في حين تتفاوت الأسطح هي الأخرى في مستوى صلابتها و نعومتها بحسب توزيعات الضوء والظلّ فيها.
من اللافت أيضا في اللوحة أن الرسّام استخدم ضربات فرشاة سريعة ومتكسّرة، ما يعطي الانطباع بأن اللوحة لم تكتمل. وهو ما كان يأخذه الناس على رسوم الانطباعيين بشكل عام.
هذا العامل، بالإضافة إلى ما قيل عن شحوب ألوان اللوحة وعدم وفائها بالمعايير الفنية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، هو الذي دفع صالون باريس إلى رفض عرض اللوحة بعد فترة قصيرة من رسمها.
اسم اللوحة يبدو غريبا بعض الشيء، وقد استمدّه الرسّام من الطائر الذي يجلس على البوّابة الخشبية الصغيرة للمزرعة. وهو من فصيلة الغربان ويسمّى بالعربية العقعق أو الغراب الأبقع بسبب سواد لونه الذي تخالطه بقع من البياض في جناحيه وبطنه.
وهذا النوع من الغربان يعيش عادة في المناطق الريفية والزراعية بالقرب من المياه والغابات والمزارع. وهو معروف بقدرته العالية على التكيّف مع مختلف ظروف المناخ. وتعيش أعداد كثيرة منه في أوربّا وأمريكا الشمالية والوسطى وسيبيريا وفي بعض مناطق آسيا.
يعود الفضل لـ مونيه في تأسيس المدرسة الانطباعية في الرسم بالتعاون مع عدد من أصدقائه من الرسّامين أمثال رينوار وسيسلي ومانيه وبيسارو وغيرهم.
وبالإضافة إلى ميله للابتكار والتجديد، عُرف عن مونيه أيضا جدّيته وحرصه على تجويد أعماله. فكان يرسم اللوحة مرّات ومرّات ويجري عليها الكثير من التعديل والتحوير إلى أن تأخذ شكلها النهائي، قبل أن ينقلها إلى رقعة الرسم.
ورغم أن بعض الناس في زمانه لم يكونوا ينظرون إلى أعماله كلوحات كاملة وإنما مجرّد انطباعات، فقد اكتسبت لوحاته مع مرور الزمن كثيرا من أهمّيتها وتميّزها ووجدت إقبالا كبيرا من أصحاب المجموعات الفنية الخاصة الذين كانوا يحرصون على شرائها واقتنائها.
وقد بيعت بعض لوحاته في مناسبات مختلفة بعشرات الملايين من الدولارات، بينما يستقرّ الجزء الأكبر منها في أشهر المتاحف الفرنسية والعالمية.
جمال لوحات مونيه بثراء ألوانها ولمعان أضوائها وما تعكسه من حبّ للطبيعة واحتفاء بالحياة دفعت بعض النقاد إلى تشبيهها بموسيقى شوبان وديبوسيه التي تمتلئ هي الأخرى بالتدرّجات الصوتية وبالانفعالات والمشاعر الجيّاشة.
في السنوات الأخيرة من حياته، عانى مونيه من ضعف بصره، الأمر الذي أدّى إلى الحدّ من قدرته على التمييز بين الألوان، فتغيّر المزاج المتفائل الذي كان يغلب على لوحاته وغابت عنها تلك الألوان الساطعة والمبهجة واستحالت في النهاية إلى مناظر مشوّشة تكثر فيها الألوان الداكنة والثقيلة كالبنّي والأحمر.
ولوحته الصفصاف الباكي التي رسمها قبيل وفاته رأى فيها الكثيرون انعكاسا لإحساس الرسّام بالحزن والوحدة واقتراب الأجل بعد رحيل زوجته وفقدان بصره وتدهور صحّته.
وقد توفي مونيه في الخامس من ديسمبر 1926 عن ستّة وثمانين عاما.

موضوع ذو صلة: لغة الطيور

Wednesday, December 02, 2009

لوحات عالميـة – 226

آريادني النائمة على جزيرة ناكسوس
للفنان الأمريكي جـون فانـدرليـن، 1812

كانت شخصيّة آريادني، وما تزال، موضوعا مفضّلا في الشعر والموسيقى والرسم. وكثيرا ما يقترن اسمها بقصّة المتاهة "لابيرينث" المشهورة في الأساطير الإغريقية.
وأوّل من جاء على ذكرها هوميروس في الاوديسّا. تقول الأسطورة أن آريادني كانت ابنة لـ ماينوس ملك كريت.
كانت المرأة مشهورة بجمالها وبأدبها وذكائها. وقد وعدت البطل الأثيني ثيسيوس بأن تتزوّجه مقابل أن ينقذ حياة أهالي كريت الذين احتُجزوا في المتاهة. وبعد أن نجح ثيسيوس في مهمّته جمع بحّارته واصطحب معه آريادني إلى أثينا حيث كان من المفترض أن يتزوّجها.
وفي طريق العودة، نزلوا في جزيرة ناكسوس للراحة وللتزوّد بالغذاء. غير أن ثيسيوس ورجاله غادروا الجزيرة بينما كانت آريادني نائمة.
جون فاندرلين يصوّر في هذه اللوحة آريادني وهي نائمة بينما يظهر ثيسيوس وجنده، إلى اليمين، وهم يستعدّون لمغادرة الجزيرة سرّاً.
براعة الرسّام واضحة في تمثيل الجسد العاري وفي تناغم الألوان وفي استخدام خلفية مظلمة لتركيز اهتمام الناظر على الموضوع الأساسي للوحة.
كما أن هيئة المرأة في اللوحة تذكّر بالأعمال العظيمة التي ظهرت في عصر النهضة، خصوصا لوحات كلّ من جورجيوني وتيشيان.
وجانب من أهمّية هذه اللوحة يتمثّل في أن لها دلالات سياسية تحدّث عنها النقّاد في ذلك الوقت. إذ رأى بعضهم أنها تتحدّث عن العلاقة بين سكّان أمريكا الأصليين من الهنود الحمر من جهة، والمهاجرين الانغلوساكسون من جهة أخرى.
كما رأوا أن اللون الأحمر يرمز إلى الهنود الحمر والأبيض للأوربّيين.
وقيل أيضا إن وضع الرداء الأبيض فوق الأحمر لم يكن تصرّفا بريئا أو محض صدفة بل يحمل دلالة عنصرية تعبّر عن حقيقة ما حدث في أمريكا عند نشأتها.
هذا التفسير اكسب اللوحة أهمّية وتقديرا إضافيين.
وهناك من قارن أسطورة آريادني الكريتية بأسطورة الفتاة الهندية بوكاهونتاس.
حيث يتخلّى الرجلان العاشقان في كلا القصّتين عن المرأتين بعد أن أنقذاهما من الموت.
والمرأة الهندية تتخلّى عن قومها لتذهب مع رجل أبيض. والمرأة اليونانية تترك هي أيضا أرضها من اجل رجل غريب إلى أن ينتهي بها المطاف فوق جزيرة نائية ومهجورة. أي أن آريادني، في هذه الحالة، غريبة مثل الأوربيين الذين جاءوا إلى أمريكا.
قراءة الأسطورة بهذا الشكل تكشف عن أوجه شبه مزعجة ذكّرت الأمريكيين بجزء من تاريخهم. ومع ذلك، تظلّ هذه اللوحة تحفة فنية بصرف النظر عن حقيقة مّا إذا كان للرسّام أجندة سياسية ما من عدمه.
فكرة المرأة العارية في الرسم فكرة قديمة تعود إلى بدايات القرن السابع عشر.
فقد وجد الرسّامون دائما في الشكل العاري وسيلة للتعبير الإبداعي. كما أن العُري يرتبط بنقاء الإنسان ويجسّد مفاهيم معيّنة مثل الحقيقة والتناسق والكمال.
روبنز، مثلا، كان ينظر إلى العُري كوسيلة لتكثيف جانب السرد الدرامي في اللوحة. وقد رسم نساءً عاريات بأجساد معطاءة ولحم مشعّ مع قدر محسوب من الايروتيكية.
وكلّ الرسّامين الذين صوّروا أشكالا عارية في لوحاتهم كانوا يستقون نماذجهم من ملامح النساء اللاتي يظهرن في التماثيل الرومانية واليونانية القديمة، ومن الأساطير، وأحيانا من طبيعة الحياة المتخيّلة في بلاد الشرق.
وفي القرنين التاسع عشر والعشرين ازدادت جاذبية رسم الجسد العاري وأصبح ذلك من علامات مهارة الرسّام وتميّزه. لكن، شيئا فشيئا، اختفت ملامح فينوس القديمة ذات الجمال المثالي وحلّت مكانها صور لنساء عاريات من الوسط الخاصّ بالفناّن.
ومن أشهر رسّامي هذا النوع من الصور بيكاسو ومانيه ورينوار وكوربيه، بالإضافة إلى ديغا الذي اشتهر بسلسلة لوحاته التي تظهر فيها نساء يغتسلن أو يتحمّمن.
ولد جون فاندرلين في نيويورك لأسرة هولندية مهاجرة. وتعلّم الرسم في أمريكا ثم ذهب إلى فرنسا وايطاليا وانجلترا حيث مكث هناك لسنوات تعلّم خلالها أساليب الرسم الرومانسي والنيوكلاسيكي.
وكان أوّل رسّام أمريكي يعرض لوحاته في صالون باريس.
وقد رسم هذه اللوحة في باريس واستغرق رسمها خمس سنوات.
وعندما عاد بها ليعرضها في أمريكا ثار حولها جدل كبير وطالب كثيرون بإزالتها. في ذلك الوقت لم يكن الأمريكيون قد تقبّلوا بعد فكرة أن تظهر امرأة عارية في عمل فنّي.
تقول نهاية الأسطورة: بعد أن استيقظت آريادني من نومها أحسّت بالصدمة والأسى لتخلّي ثيسيوس عنها. لكن ظهر لها فجأة "باخوس" إله الخمر الذي أنقذها وتزوّجها في ما بعد.
رسم آريادني فنّانون كثُر من بينهم جون ووترهاوس وتيشيان وجورج واتس. كما أصبحت قصّتها موضوعا للعديد من الأعمال الموسيقية كتلك التي ألّفها كلاوديو مونتيفيردي وريتشارد شتراوس وكارل اورف وغيرهم.

موضوع ذو صلة: نساء الأوديسّا

Tuesday, November 24, 2009

لوحات عالميـة – 225

الأميرة فالانتينا تبكي موت زوجها دوق اورليون
للفنان الفرنسي فلوري فرانسـوا ريشـار، 1802

يقال أحيانا أن الأعمال الفنية التي تتناول حالة إنسانية أو تتضمّن عنصرا له علاقة بالتاريخ أو الهويّة الوطنية هي التي يُكتب لها البقاء أكثر من غيرها.
وهذه اللوحة تشتمل علىّ كل هذه العناصر الثلاثة معا.
فهي من ناحية تصوّر حالة إنسانية خاصّة. كما أن لموضوعها علاقة بحدث سياسي وتاريخيّ مهمّ.
الأمر الآخر هو أن اللوحة نفسها جميلة وتروق للعين برغم موضوعها الحزين. كما أنها رُسمت بطريقة تنمّ عن براعة الرسّام ومهارته الفنّية العالية.
واللوحة تصور الأميرة فالانتينا فيسكونتي وهي تبكي زوجها دوق اورليون الذي قُتل على يد ابن عمه دوق بيرغندي في ذروة صراع الرجلين على السلطة في فرنسا مطلع القرن الخامس عشر.
في تلك الفترة كانت فرنسا تعيش أجواء اضطراب وتوتّر سياسي خطير نتيجة الصراع الطاحن على السلطة. فالملك شارل السادس مريض وعلى حافة الجنون نتيجة إصابته بالشيزوفرينيا. والقصر يعجّ بأخبار المؤامرات والدسائس والشائعات بين الخصمين الرئيسيين الطامحين في ملء الفراغ الذي تركه غياب الملك.
غير أن اخطر تلك الشائعات هو ما قيل عن وجود علاقة غرامية بين الملكة وزوج فالانتينا الذي هو بنفس الوقت شقيق الملك. وأيضا ما أشيع عن وجود علاقة غامضة بين فالانتينا نفسها والملك المريض.
وقد جلبت هذه الأخبار غضب الملكة فامتلأ قلبها غيظا وحنقا على الأميرة، وبلغ حقدها ذروته عندما أمرت بطردها نهائيا من القصر ونفيها عن باريس.
هذه اللوحة تكشف عن حالة من حالات الضعف الإنساني وتصوّر الحزن بأجلى صورة. لكنها أيضا تعكس معاني الوفاء والإخلاص والعاطفة الصادقة والقويّة.
وقد اختار الرسّام أن يستحضر في هذا العمل بعض العناصر التي تذكّر بالعصور الوسطى مثل الديكور المستوحى من العمارة القوطية والنافذة ذات الزجاج المعشّق والأنيق. ونفس هذه النوعية من الزجاج تظهر أيضا في الجزء الذي يعلو الستارة حيث النوافذ الثلاث الدائرية الشكل والتي يظهر في الوسطى منها رسم لأفعى خضراء، في إشارة إلى شعار عائلة فيسكونتي الايطالية التي تنتسب إليها المرأة.
كانت نار العداوة على أشدّها بين زوج الأميرة وخصمه الطامع، هو الآخر، في الحكم. وأجّجت الملكة وأنصارها الصراع بين الرجلين بإصدارها مرسوما تعهد فيه إلى دوق بيرغندي بولاية العهد وبتعيينه وصيّا على أبناء الملك العاجز والموشك على الجنون.
غير أن غريمه، أي زوج فالانتينا، لم يستسلم للأمر بل سعى إلى تخريب مهمّة خصمه ونقل النزاع إلى الشارع.
وخوفا من نشوب حرب أهلية، تدخل عمّهما لفضّ الخلاف بينهما وانصاعا أخيرا لمشيئته بموافقتهما على وثيقة الصلح التي اقترحها.
لكن بعد الاتفاق ببضعة أيام، اغتيل دوق اورليون، أي زوج فالانتينا، على أيدي أشخاص مجهولين فاجئوه في احد شوارع باريس وهو يهمّ بامتطاء حصانه فقاموا ببتر ذراعيه بالسيوف لشلّ حركته ثم تركوه ينزف حتى الموت. وتبيّن بعد ذلك أن خصمه اللدود ومنافسه على الحكم هو من دبّر ذلك الهجوم كي يخلو له الجوّ وينعم لوحده بمنصب لا ينافسه فيه منافس.
وقد فجّرت عملية الاغتيال تلك حربا أهلية مدمّرة دامت سبعين عاما وأدّت إلى تقسيم فرنسا إلى معسكرين.
فرانسوا ريشار رسم هذه اللوحة بعد مضيّ أربعمائة عام على تلك الأحداث.
وقد واتته فكرتها عندما رأى ضريح فالانتينا ذات يوم في احد مقابر باريس. وأدهشه بشكل خاصّ العبارة المنقوشة على شاهد القبر والتي تقول: لم يبقَ لي شيء. وأنا نفسي لا شيء!"
كان الرسّام يدرك جيّدا مغزى تلك العبارة المنسوبة للمرأة والتي تعكس يأسها وحزنها الدفين على فقد زوجها وأسفها على الماضي الذي ضاع وانقضى.
كانت فالانتينا ابنة لدوق ميلانو الذي كانت عائلته تمتّ بصلة قربى ونسََب للعائلة الملكية الفرنسية. وقد عاشت مع زوجها الدوق ثمانية عشر عاما كانت خلالها مثالا للزوجة المحبّة والوفيّة. وعندما مات، كان حزنها عليه عظيما وظلّت تبكيه عاما كاملا إلى أن توفّيت وهي لا تتجاوز الثامنة والثلاثين من عمرها.
ليس في هذه اللوحة شيء سوى الحزن والشعور العميق بالفقد والخسارة. حتى الكلب الواقف إلى جوار المرأة توحي هيئته بأنه هو أيضا يشارك سيّدته في حزنها ويشاطرها مصيبتها.
لم يكن فرانسوا ريشار رسّاما فقط، بل مارس الكتابة الأدبية والنقد. وعمل أستاذا في معهد الفنون الجميلة. كما عُرف عنه اهتمامه باكتشاف الطبيعة والآثار. ويصنّف على أنه رائد ما سُمّي بأسلوب التروبادور في الرسم، وهو مصطلح مستمدّ من ظاهرة الشعراء المتجوّلين الذين راجت أشعارهم في العصور الوسطى.
وأتباع هذه المدرسة من الرسم كانوا يُعنون برسم "قصائد مصوّرة" يستلهمون مواضيعها من صور الماضي الغابر ومن الأحداث التاريخية والشواهد الأثرية القديمة.
عندما عرض ريشار هذه اللوحة لأوّل مرّة في صالون باريس، حققت نجاحا كبيرا وقوبلت بالكثير من الثناء والاستحسان. وقد أعجب بها الفنّان جاك لوي دافيد وامتدح مهارة الرسّام في توظيف الألوان الساطعة وفي تمثيل الضوء والظلّ.
كان فرانسوا ريشار الرسّام المفضل للإمبراطورة جوزيفين. وقد اشترت منه هذه اللوحة بعد ثلاث سنوات من إتمامها. ثم انتقلت اللوحة بعد ذلك إلى ملكية عدد من أفراد العائلات الملكية الأوربية. وفي بدايات القرن الماضي ابتاعها متحف بوشكين الروسي وظلّت فيه لسنوات قبل أن تستقرّ أخيرا في متحف الارميتاج في سانت بيترسبيرغ.

Sunday, November 22, 2009

لوحات عالميـة – 224

الـبـحــر
للفنان الهولندي يـان تــوروب، 1887

اهتم الرسّامون منذ القدم بتصوير البحر في حالاته الكثيرة وأطواره المختلفة.
في بعض اللوحات يظهر البحر هادئا ومسالما. وفي بعضها الآخر صاخبا مزمجرا. بعض الفنّانين رسموا البحر كمصدر للوفرة واستمرارية الحياة. والبعض الآخر رسموه كمكمن للأخطار والعواصف القويّة والمدمّرة.
في لوحات ايفازفيسكي، مثلا، تكثر صور البحار الهائجة والسفن الغارقة أو الموشكة على الغرق والبحارّة أو الصيّادين الذين يصارعون الأمواج في محاولة يائسة للتمسّك بالحياة.
قوّة البحر المدمّرة وخطره على الإنسان يظهر جليّا أيضا في لوحات كل من تيرنر وجيريكو.
هذه اللوحة مختلفة بعض الشيء. وقد أرادها الرسّام أن تكون دراسة بصرية عن البحر وعن علاقة اللون بالضوء.
في المشهد لا نرى شيئا سوى الماء والأفق والغيم. لا بشر ولا قوارب ولا طيور يمكن أن تبعد انتباه الناظر عن الموضوع الأساس. فقط موجات ملتفّة تلمع متوهّجة مثل حبّات البلّلور تحت سماء زرقاء تتخلّلها بعض الغيوم.
الألوان ناعمة تجذب العين إذ تتحوّل من خلال طبقات الطلاء السميكة إلى ظلال متدرّجة من الأخضر والأزرق واللازوردي والبنّي والأصفر.
ومن الواضح أن الألوان ممزوجة برقّة وتلقائية، ما يضفي على اللوحة قوّة تعبيرية واضحة.
رسْم المناظر البحرية كان دائما يتطلّب مهارة خاصّة، حيث يتعيّن على الرسّام أن يكون ملمّا بطبيعة التضاريس الساحلية وبتأثير حالات الطقس على درجة عمق الماء ولونه في أوقات مختلفة من النهار.
كان يان توروب، مثل غيره من الانطباعيين، مهتمّا بتصوير الحياة اليومية وأنشطة الناس المختلفة.
وقد رسم هذه اللوحة في مكان ما على الشاطئ الهولندي. وله لوحات أخرى تصوّر البحر مع مناظر لبشر وسُفن.
في ذلك الوقت كان الفنّانون الهولنديون مفتونين برسم لوحات تصوّر غضب البحر وطاقته التدميرية الهائلة.
ولم يكن هذا مستغربا في بلد ظلّ دائما عرضة لأخطار الفيضانات والعواصف البحرية.
لكن في أماكن أخرى من أوربّا، كانت الصورة مختلفة. فقد ظهرت آنذاك روايات أدبية تصوّر حياة سكان السواحل والمناطق البحرية بمظهر من البساطة والفضيلة، مقابل حياة المدن التي كانت مرادفة للتهتّك والانحلال الأخلاقي.
وانعكس هذا التصوّر على أعمال العديد من الرسّامين الذين صوّروا البحر كمصدر واهب للحياة وصديق للإنسان الذي يستمدّ منه أسباب رزقه ويتعايش معه بسلام.
وتكرّست هذه الفكرة المسالمة عن البحر أكثر مع ظهور الشعراء الرومانسيين الذين مجّدوا البحر في قصائدهم واعتبروه رمزا للانبعاث والتجدّد وقوّة تقود إلى الوعي بالذات والإحساس بالحرّية.
ولد يان توروب في جزيرة جاوا الاندونيسية التي كانت في ذلك الحين مستعمرة هولندية. وانتقل في ما بعد إلى هولندا حيث درس الرسم في امستردام وديلفت ولاهاي.
كما ذهب بعد ذلك إلى بلجيكا حيث درس الرسم في أكاديميّتها وجرّب هناك الأساليب الواقعية والانطباعية.
وفي احد الأوقات ذهب إلى باريس حيث التقى فيها الرسّام الأمريكي جيمس ويسلر. كما عاش في انجلترا فترة قبل أن يعود إلى هولندا.
وقد كان لأسلوبه تأثير على الكثير من معاصريه، ومن بينهم الرسّام النمساوي غوستاف كليمت.
ويقال أن توروب هو الذي ادخل الرمزية والانطباعية إلى هولندا. كما انه نظّم أوّل معرض هولندي لـ فان غوخ في نهايات القرن قبل الماضي.
وقد قضى الرسّام السنوات الأخيرة من حياته على كرسيّ متحّرك بعد إصابته بالشلل. وأصبح بعد ذلك يميل إلى رسم المناظر الدينية.
الجدير بالذكر أن لـ توروب ابنة تدعى تشارلي كان قد أنجبها من زوجته الانجليزية. وقد كانت الابنة رسّامة معروفة، هي الأخرى، وذاع اسمها كثيرا في ثلاثينات القرن العشرين واشتهرت برسوماتها التعبيرية.

موضوع ذو صلة: أسرار الماء

Thursday, November 19, 2009

لوحات عالميـة – 223

بورتـريـه شخصـي
للفنّانة الايطالية سوفـونيـزبا ويسـولا، 1556

قد يكون هذا الاسم غريبا وغير مألوف كثيرا. غير أن صاحبته كانت احد الأسماء الفنّية الكبيرة التي اشتهرت خلال عصر النهضة الايطالي.
عاشت سوفونيزبا ويسولا في زمن ميكيل انجيلو وأنتوني فان دايك. ويقال إن الاثنين امتدحا موهبتها وشجّعاها. وكبادرة إعجاب وتكريم، رسم لها الأخير بورتريها.
وقد كان على الرسّامة أن توفّق بين ميولها الفنية وحقيقة أنها تنحدر من عائلة ارستقراطية مشهورة. وعلى الرغم من أن الأسر الارستقراطية كانت تعارض اشتغال أبنائها وبناتها بالرسم باعتباره مهنة دونية، فقد ساعدها والدها وشجّعها على إثبات نفسها عندما عهد بها إلى الرسّام برناردينو كامبي الذي صقل موهبتها وعلّمها أصول وأساليب رسم البورتريه.
في تلك الأثناء، كانت سوفونيزبا قد برعت كثيرا في رسم لوحات لطبيعة ذات جمال نادر. لكنها في ما بعد فضّلت أن تقصر جهدها على رسم البورتريه. وبسبب خلفيّتها الاجتماعية ومكانة عائلتها، كانت تُمنع من بيع أعمالها.
وبشكل عام، كانت رسوماتها صدى للأفكار الإنسانية التي كانت رائجة في عصر النهضة والتي كانت تنادي بتعليم النساء ومساواتهن بالرجال.
هذا البورتريه يُعتبر واحدا من سلسلة من الصور التي رسمتها الفنانة لنفسها في مراحل مختلفة من حياتها.
وكما هو الحال مع بقيّة بورتريهاتها الأخرى، فقد حرصت سوفونيزبا على أن تصوّر نفسها بهيئة رصينة وجادّة ومحتشمة.
وتبدو في اللوحة وهي تحمل الفرشاة وأمامها رقعة الرسم بينما تنظر إلى المتلقّي بعينيين كبيرتين تنطقان بالوقار والثقة.
هيئة الرسّامة تخلو من أيّ ملمح يدلّ على طبقتها. ومن الواضح أنها حريصة على أن لا ترتدي ملابس قد تترك انطباعا بالتباهي أو الكبرياء والتفاخر. كما أنها لا تضع أيّ نوع من الحليّ أو المجوهرات.
ومن اللافت أيضا في اللوحة أن الرسّامة اختارت معطفا اسود بياقة بيضاء. هذا النوع من اللباس البسيط والأنيق هو نفسه الذي يتكرّر في جميع لوحاتها الشخصية التي تظهر فيها إمّا ممسكة بكتاب أو وهي تعزف الموسيقى، للتأكيد على أصلها النبيل وانتمائها للنخبة المثقفة والمتعلمة.
كان النبلاء آنذاك يهتمّون بتعليم نسائهم الآداب الكلاسيكية والفلسفة والتاريخ والعلوم. وقد اهتمت سوفونيزبا ويسولا هي الأخرى بتثقيف نفسها والنهل من مختلف العلوم والمعارف. وهذا أدّى إلى ازدياد حظوظها عند كبار كتّاب وشعراء ايطاليا في ذلك الوقت الذين امتدحوا ذكاءها وأثنوا على مواهبها المتعدّدة.
وقد ترافق هذا مع اتساع شهرتها كرسّامة ورواج أعمالها التي كان أفراد العائلات الملكية والارستقراطية يحرصون على شرائها واقتنائها.
وفي احد الأوقات دعاها الملك الاسباني فيليب الثاني لزيارة اسبانيا حيث عيّنها رسامة للبلاط ومرافقة للملكة. وأثناء خدمتها في بلاط الملك، كانت سوفونيزبا حريصة على تأكيد استقلاليتها وإظهار رصانتها ونضجها.
والغريب أنها لم تتزوّج إلا بعد تخطّيها سن الأربعين. وقد تكفّل الملك الاسباني بدفع تكاليف مهرها وزواجها.
خلال القرن السادس عشر كانت البورتريهات التي يرسمها نساء لأنفسهن تؤكّد على الفكرة المثالية التي تقرن جمال الأنثى بالفنّ. وكانت الفنانات من النساء يستخدمن البورتريه كوسيلة للإعلان عن موهبتهن الفنية ولإثبات أنهنّ لسن بأقلّ رزانة وتمسّكا بالفضيلة من نظرائهن من الرسّامين الرجال.
في أواخر حياتها، رسمت سوفونيزبا ويسولا لنفسها بورتريها تظهر فيه بهيئة سيّدة عجوز. وفي ما بعد، ضعف بصرها فتوقّفت عن الرسم وتفرّغت لدعم وتشجيع الفنّانين الشباب. واستمرّت كذلك حتى وفاتها بمدينة باليرمو في سنّ الثالثة والتسعين.
وقد أغرت شهرتها والنجاح الكبير الذي أصابته العديد من النساء باقتفاء أثرها وأصبح بعضهنّ رسّامات مشهورات مثل لافينيا فونتانا وارتيميزيا جينتيليسكي.

Sunday, November 15, 2009

لوحات عالميـة – 222

حيـاة ساكنـة، سلـّة فواكـه
للفنان الهولندي بالتـاسـار فانـدر آسـت، 1622

لا بدّ وأنّ معظمنا رأى ذات مرّة لوحة من تلك اللوحات التي تظهر فيها صور لفاكهة وزهور وأباريق رُتّبت بطريقة أنيقة ومزخرفة.
هذا النوع من الرسم يُسمّى الحياة الصامتة أو الساكنة. ومن الواضح أن مرأى هذه اللوحات يسرّ العين ويبهج القلب، لأنها تذكّرنا بالطبيعة وبالتنوّع الذي خلقه الله فيها. ولعلّ هذا هو سبب افتتان الناس بها وباقتنائها لتزيين البيوت وأحيانا أماكن العمل.
ومنذ القرن السابع عشر عُني الفنانون الأوربّيون برسم مناظر الحياة الساكنة. فقد كانت من ناحية تظهر براعة الرسّام في الرسم. وكانت أيضا تمنحه حرّية ومرونة اكبر في التوليف لا توفّره لوحات الطبيعة المفتوحة أو البورتريه.
لكن مشاهد الحياة الصامتة أقدم من هذا التاريخ بكثير. فقد كانت مثل هذه اللوحات تزيّن قبور قدماء المصريين الذين كانوا يدفنونها مع الميّت اعتقادا منهم أن الأشياء التي تصوّرها ستصبح حقيقة وسيكون بإمكان المتوفى أن يستخدمها في الحياة الأخرى.
وعبر العصور المتعاقبة وصولا إلى مستهلّ القرن السابع عشر، تطوّرت هذه اللوحات إلى أن أخذت شكلها الحالي على أيدي الرسّامين الهولنديين الذين ادخلوا عليها عناصر جمالية جديدة ومعاصرة.
وكان بالتاسار فاندر آست من أوّل وأشهر الرسّامين الذين تخصّصوا في رسم هذه اللوحات هو وأخوه غير الشقيق امبروزيو بوسهارت.
ولوحاته تتضمّن العديد من العناصر المألوفة التي تظهر عادة في هذا النوع من الرسم، مثل الأزهار والثمار الناضجة والأباريق والكتب والآلات الموسيقية والسلال والأواني المنزلية والحشرات الزاحفة والطائرة والصَدَف والحجارة والكؤوس والمجوهرات وغيرها. أي تلك الأشياء الموجودة في الطبيعة أو التي من صنع الإنسان.
وعادة ما تكون هذه الأشياء مصفوفة على مائدة ومرتّبة بشكل منسّق وجميل.
ولد بالتاسار لأسرة موسرة عُرف عنها اشتغالها بتجارة القطن. وهو احد ثلاثة أشقاء تخصّصوا جميعا في رسم الحياة الساكنة.
وقد عُرف بالتاسار بغزارة إنتاجه إذ تربو لوحاته المعروفة على المائة وخمسين لوحة. وكان من عادته أن يوقّع لوحاته ويوثّق تواريخها.
وقد رسم لوحات عديدة اختار أن تكون دليلا مصوّرا يستعين به تلاميذه على معرفة أساليب تصوير الحياة الصامتة وترتيبها وتلوينها.
ومعظم أعماله موجودة الآن في المتاحف الهولندية وفي بعض المجموعات الفنية الخاصّة.
في هذه اللوحة رسم بالتاسار مائدة مغطّاة بالقماش الأبيض والبنّي وقد وُضُع فوقها صحن وسلّة من السعف وإناء اسود. وفي الصحن والسلّة وعلى أطراف المائدة تناثرت حبّات خوخ وسفرجل ومشمش وعنب أحمر وأسود تعلوها أوراق عنب جافّة.
ومن اللافت أن الفنّان رتّب هذه الأشياء ووضعها معا بهذه الطريقة البسيطة والأنيقة ليعطيها رونقا وبهاءً خاصّا. وهذا ما يجعل النظر إلى هذه اللوحة مصدر متعة خاصة.
اليوم تطوّر رسم مناظر الحياة الساكنة كثيرا عن السابق، حيث أصبحت تُرسم بثلاثة أبعاد وبوسائط أكثر. وعادة ما تُوظف فيها التقنيات الحديثة من تصوير وغرافيكس ونحت وموازييك وأصوات وصُوَر.
كما أن هناك الآن مصوّرين فوتوغرافيين قصروا مجال اهتمامهم على تصوير الحياة الصامتة. ومن أشهر هؤلاء المصوّران الفرنسي بيتر ليبمان والنمساوي بيلا بورسودي.
ومن بين أشهر الرسّامين الذين برعوا في رسم مناظر الحياة الصامتة كلّ من رمبراندت وروبنز وبيكاسو وفان غوخ.
وهناك أيضا سيزان الذي رسم أغلى لوحة حياة صامتة في تاريخ الفنّ بعنوان ستارة وإبريق ماء وفاكهة. وقد بيعت هذه اللوحة منذ سنوات بأكثر من 60 مليون دولار أمريكي.

Friday, November 13, 2009

لوحات عالميـة – 221

نهــر الضــوء
للفنان الأمريكي فريدريـك إدوين تشيـرش، 1877

اهتم الرسّامون منذ القدم برسم الطبيعة وتصوير عناصرها المختلفة. وكان هذا النوع من الرسم، وما يزال، يحظى بالشعبية والقبول من الناس.
ومع ذلك كان هناك دائما من يعتقد أن رسم الطبيعة يعتبر اقلّ قيمة من الناحية المهارية والإبداعية من رسم البورتريه أو الأشخاص مثلا. مع أن رسم المناظر الطبيعية يتطلّب من الفنان أن يكون عارفا وملمّا باستخدام الألوان وقواعد المنظور ونسَب الضوء والظلّ.
وحتى منتصف القرن السادس عشر لم تكن هناك لوحات تصوّر طبيعة نقيّة بالكامل. كانت الطبيعة توظّف فقط كخلفية لمنظر يصوّر نشاطا إنسانيا ويتضمّن عادة رموزا أو رسائل دينية أو اجتماعية أو تاريخية.
في ما بعد تغيّرت الحال، وظهرت أعمال فنّية كثيرة مكرّسة بالكامل لتصوير جمال الطبيعة وإعطائها أبعادا ومضامين روحية وشعرية وفلسفية.
ومن أشهر من رسموا الطبيعة الفنّان فريدريك تشيرش الذي يُعدّ احد أشهر رسّامي الطبيعة الأمريكيين. كان تشيرش عضوا في مدرسة نهر هدسون التي كانت تُعنى برسم الطبيعة الأمريكية. كما كان احد مؤسّسي متحف المتروبوليتان في نيويورك في العام 1869م.
وقد تتلمذ على يد توماس كول الذي كان يرى ضرورة أن تتضمّن لوحات الطبيعة معاني رمزية وروحية.
كانت لوحات رسّامي مدرسة نهر هدسون عن الطبيعة تتسم بواقعيّتها الفائقة وبإيلائها اهتماما خاصّا بالأجزاء والتفاصيل الصغيرة.
وكان من عادة أولئك الرسّامين أن يسافروا إلى أماكن نائية ومجهولة كي يرسموا مظاهر الطبيعة فيها، وعلى الأخصّ أحوال المناخ وتشكيلات الغيوم ومشاهد غروب الشمس وشروقها.
كما كانوا يركّزون على الطبيعة كمكان يتعايش فيه الإنسان والنبات والحيوان جنبا إلى جنب بسلام.
هذه اللوحة تصوّر منظرا بانوراميا ينطق بسحر الطبيعة وجلالها في صبيحة يوم غائم في إحدى غابات المطر الاستوائية.
في المشهد نرى نهرا يشبه المرآة تحيط به من الجانبين غابة تغرق في الضباب.
ولأول وهلة قد يظنّ الناظر أن ما يراه هنا صورة فوتوغرافية بالنظر إلى شدّة واقعية اللوحة.
ويبدو واضحا أن الفنان اهتمّ بأدقّ وأصغر التفاصيل وهو يرسم. واللوحة تذكّر، على نحو خاص، بالطبيعة البكر وبالبهاء والفخامة التي تتميّز بها الحياة في المناطق الريفية وفي الغابات.
لوحات تشيرش مشبعة بالضوء وممتلئة بالتفاصيل الصغيرة. وتكثر فيها صور الشواطئ الضبابية وقمم الجبال العالية والغابات العذراء وشلالات المياه العظيمة.
كما تتميّز مناظره بكثافتها الشاعرية وبمعانيها الروحية العميقة. وقد وجد بعضها طريقه إلى الروايات والأدب الأمريكي الذي يتناول مكانة الطبيعة في التجربة الأمريكية.
وقد تأثر في لوحاته بأفكار المنظّر الانجليزي جون راسكين والمستكشف وعالم الطبيعة الألماني الكسندر همبولدت وبكتابات المفكر الأمريكي رالف ايمرسون.
ممّا يلفت الانتباه انه ليس هناك في هذا المنظر سوى الطبيعة وحدها. إذ لا وجود للبشر، باستثناء رجل تلوح صورته من بعيد وهو يجذّف بقاربه الصغير عند مدخل الغابة.
وبوسع المرء وهو يتأمّل هذا المنظر أن يتخيّل صمت وهدوء المكان الذي لا يقطعه، ربّما، سوى صوت انسياب الماء بنعومة وأصوات الطيور والعصافير التي يظهر بعضها على أغصان الشجر وفوق صفحة مياه النهر.
استوحى تشيرش أجواء مناظره من تجاربه الشخصية ومن أسفاره إلى أمريكا اللاتينية التي ذهب إليها ليرسم أنهارها وجبالها وغاباتها. وقد حقّقت بعض لوحاته أعلى المبيعات ليصبح أغلى رسّام أمريكي في زمانه. وكانت أعماله تجتذب الآلاف من الناس الذين كانوا يأتون من شتّى الأماكن لرؤيتها.
كما أكسبته لوحاته عن طبيعة أمريكا الجنوبية شهرة مدويّة واعتبره النقاد آنذاك أعظم رسّام طبيعة أمريكي بعد أستاذه كول.
وقد تمكّن في لوحاته اللاتينية من الإمساك بجوهر مناظر الغابات الاستوائية الممطرة كما تجسّده هذه اللوحة ولوحتاه الأخريان المشهورتان قلب الأنديز وغسَق في البرّية.
اللوحات التي رسمها تشيرش وزملاؤه للطبيعة الأمريكية البدائية لعبت دورا مهمّا في تاريخ الرسم الأمريكي وفي المخيّلة والوعي الثقافي للأمريكيين. كما شجّعت على استيطان مناطق الغرب وزرعت في الناس الإحساس بحبّ الطبيعة والاستمتاع بها وحمايتها.
غير أن ازدياد مظاهر الحياة الصناعية في القرن التاسع عشر كان له تأثير معاكس. إذ أدّى زحف التكنولوجيا إلى إتلاف الكثير من مظاهر البيئة الطبيعية، ما دعا الكثيرين وقتها إلى تأسيس حركات تدعو إلى تقليل الأضرار الناتجة عن زحف النمو الصناعي من خلال العمل على إعادة التوازن ما بين الإنسان والطبيعة.

Wednesday, November 11, 2009

لوحات عالميـة – 220

المِــزلاج
للفنان الفرنسي جان اونوريه فراغونار، 1778

الفنّ الجميل يثير الجدل ويطرح الكثير من الأسئلة ولا يكتفي بإجابات بسيطة أو جاهزة.
وعلى نحو ما، يمكن اعتبار هذه اللوحة تطبيقا للفكرة القائلة إن الفنّ الجيّد يخلق دائما واقعه الخاص.
تنظر إلى هذه اللوحة وتتأمّلها مرارا لتكتشف أن الرسّام يدعوك للدخول في لعبة بصرية مراوغة لا تعرف أين تبدأ ولا كيف تنتهي.
"المزلاج" تعتبر إحدى أشهر اللوحات التي ظهرت في القرن الثامن عشر وهي موجودة اليوم ضمن الجناح الخاص باللوحات الفرنسية في متحف اللوفر.
وقد رسمها فنّان قيل انه، لبراعته، كان يرسم البورتريه في اقلّ من ساعتين. وقد ارتبط اسم فراغونار بالطبقة الملكية والارستقراطية وبالعديد من الرجال والنساء من ذوي الجاه والغنى في عصره.
هذه اللوحة رُسمت بتكليف من احد النبلاء. لكن لم يكن مقدّرا للزبون أن يرى اللوحة في حياته، إذ توفي قبل أن تُنجز.
وفي ما بعد، ظهرت اللوحة على أغلفة بعض الروايات العاطفية كان آخرها رواية فرنسية مشهورة تُرجمت إلى لغات عديدة بعنوان "علاقات خطرة".
المكان الذي تصوّره اللوحة غرفة نوم. وقد قسّم الفنان الغرفة قُطريا إلى جزأين. الجزء الأيمن، أي حيث يقف الرجل والمرأة، وهو مضاء بالكامل. والجزء الأيسر، حيث السرير وملحقاته، يقع في الظلمة.
في الجزء الأيمن نرى رجلا يحتضن امرأة بينما يحاول غلق مزلاج باب الغرفة. المرأة تبدو منهكة ويائسة وهي ترفع نفسها بتثاقل من على السرير.
في الجزء الأيسر من الغرفة تبدو محتويات السرير من وسائد وستائر وفرش وهي على حال من الفوضى وانعدام النظام.
المشهد مليء بالإشارات والاستعارات والرموز التي تفتح على أكثر من احتمال وتدفع بالمتلقي لأن يكوّن تصوّره الخاص حول طبيعة ما يراه أمامه.
لكن يمكن القول إن هناك احتمالين رئيسيين قد يفسّران ما يحدث في اللوحة.
الاحتمال الأول أن اللوحة تحكي عن حادثة اغتصاب أو مقدّمة لعملية اغتصاب. من الواضح أن الشاب يحاول أن يقفل الباب. لكن المرأة تقاومه وتحاول منعه من ذلك. هو يعرف أن نجاحه في إغلاق القفل سيسهّل له مهمّة ارتكاب جريمته. والقفل في هذه الحالة هو رمز لمقاومة المرأة وتمنّعها.
الشابّ يبدو مضطربا والمرأة في حالة قريبة من الانهيار. انفعالاتها وحركاتها تعطي انطباعا بأنها غير راغبة في الإذعان لنوايا الشاب، لذا تدفعه عنها بعيدا.
وضعية وقوف الشابّ تشير إلى أن انتصاره في المعركة يبدو وشيكا وأن استسلام الضحية أمر حتمي. والجدار نفسه يقوم بمهمّة الحاجز الذي يمنع المرأة من الهرب.
الاحتمال الثاني هو أننا أمام صورة مجازية عن الرغبة. طبعا هذا على افتراض أن المرأة راضية ومستسلمة للشاب بإرادتها. وبناءً عليه، يمكن فهم محاولة إقفال الباب على أنها تهدف إلى تأمين حالة من السرّية والخصوصية التي يتطلّبها الموقف.
الرموز في الجزء الأيسر غريبة وموحية. طيّات القماش فوق السرير، النسيج الغامض للقماش، شكل الستائر المجسّمة والكثيفة التي تشبه مصيدة، الوسائد ذات الشكل الغريب، الزهور المرمية على الأرض.. إلى آخره.
هناك أيضا طغيان اللون الأحمر، لون العاطفة والغريزة. والتفّاحة الموضوعة على الطاولة والتي قد تكون رمزا لفاكهة آدم وحوّاء والمرتبطة دائما بالغواية والخطيئة. والسرير نفسه الذي يبدو مثل وحش يكشّر عن أنيابه. والزاوية اليسرى من السرير التي تشبه ركبة إنسان.
الاستخدام الدراماتيكي للضوء في اللوحة يلفت الانتباه. الجانب الأيمن يغمره الضوء الأصفر الفاقع.
الفرشاة في هذه البقعة مشتعلة، مهتزّة ومتوتّرة. والوهج الحارق للأصفر والحرارة المزعجة عنصران إضافيان يعمّقان الإحساس بذروة الصراع أو الالتحام بين الشخصين.
ومع ذلك يظلّ الجزء الأيسر، بما يختزنه من تلميحات ورموز وتهويمات ايروتيكية، هو المهمّ في هذا المشهد لأنه يحكي كلّ شيء وفيه تكمن الرغبات المخبوءة للاثنين.
اللوحة تثير انفعالات متباينة ومعاني متضاربة وتطرح تساؤلات بأكثر ممّا تقدّم إجابات.
هل ما نراه هنا قوس للرغبة أم مسرح لجريمة على وشك أن تتم؟
هل هذه جريمة اغتصاب؟ شروع في القتل؟
هل تنطوي اللوحة على معان شريرة ومظلمة؟ أم أنها مجرّد تصوير لقوّة الحبّ والرغبة؟
هل هذه غرفة الرجل أم المرأة؟
هل يمكن أن يكون الرجل قد احضر الزهور فرفضتها المرأة وصدّته، ما تسبّب في إغضابه وإخراجه عن طوره؟
ثم لماذا إغلاق الباب إذا كانت الغرفة التي تدبّ فيها الفوضى توحي بأن ما حصل قد حصل وانتهى الأمر؟
من حيث الشكل تبدو اللوحة متألقة وجذّابة بألوانها المذابة والدافئة وبالإحساس الناعم الذي يبعثه ملمس الحرير والمخمل الرقيق والمترف.
لوحات فراغونار في معظمها لعوبة، حميمة، مرحة وسهلة الهضم. لذا ليس مستغربا أن يقال انه مات بينما كان يتسلّى بأكل الآيس كريم في احد مشاويره عبر حدائق الشانزيليزيه.
وقدّر له قبل ذلك أن ينجو من مقصلة الثورة الفرنسية، وإن كان دفع ثمن نجاته تلك بتهميشه وكفّ يده عن الرسم.
وقد كانت أعماله تجسيدا لفنّ عصر الروكوكو في فرنسا القرن الثامن عشر. وعُرف عنه براعته في رسم مشاهد الحبّ والمناظر الليلية التي تؤشّر إلى مهارته في تطويع الألوان والتلاعب بنسَب الضوء والظلّ لإضفاء طاقة تعبيرية إضافية على لوحاته.
ولا يكاد يخلو أيّ من أعمال الرسّام من مضامين فلسفية أو أدبية أو اجتماعية أو سياسية أو جمالية.

Monday, November 09, 2009

لوحات عالميـة - 219

العـاصفــة
للفنان الإيطالي جـورجيـونـي، 1505

هناك شبه إجماع بين مؤرّخي الفنّ على اعتبار هذه اللوحة الأكثر غموضا والأكثر إثارة للنقاش والجدل في جميع الأوقات.
وقد ألّف عنها العديد من الكتب والدراسات التي حاول بعضها فكّ رموزها الخفيّة. كما تباينت القراءات والتفسيرات الكثيرة التي تناولتها.
اللورد بايرون الذي عُرف عنه ازدراؤه للرسم، كانت هذه لوحته المفضّلة وقد خصّص إحدى قصائده للتغنّي بالجمال الفاتن للمرأة في اللوحة.
وبرغم غموض اللوحة واستعصائها على أيّ تفسير، فإنه يمكن القول إنها عبارة عن رحلة شاعرية في عالم الطبيعة المثالية واستذكار للمناظر الرعوية التي ارتبطت بروما وباليونان القديمة.
تفاصيل اللوحة تشبه الحلم. وأهميّتها الحقيقية تكمن في المزاج الذي تصوّره. ولعلّ هذا يفسّر افتتان الكثير من الشعراء والأدباء والفلاسفة بها.
"العاصفة" تصوّر طبيعة قديمة يجري في وسطها جدول ماء صغير. وعلى حافّة الجدول، إلى اليسار، يقف رجل يرتدي ملابس رسمية ويمسك بيده رمحا طويلا. بينما تجلس على الجهة المقابلة امرأة ترضع طفلا.
الرجل يبدو بهيئة تشبه هيئة الجنود. وقفته بطولية وواثقة، بينما ينظر باتجاه المرأة وطفلها.
المرأة تبدو عارية جزئيا. ملامحها هادئة ونظراتها وقورة. وعلى العكس من الرجل الذي تحجب الظلمة جانبا من وجهه، فإن وجه المرأة واضح المعالم بسبب تأثير الضوء في ذلك الجزء من اللوحة. غير أنها لا تنظر إلى الرجل وإنما إلى المتلقي أو الناظر. وأسفل منها، على طرف الجدول، تظهر أغصان شجرة صغيرة يبدو أن وظيفتها حجب جزء من جسد المرأة.
وفوق، في السماء، تلوح غيوم ثقيلة سوداء ينبثق من خلالها وميض برق، ما يعطي انطباعا بأن الطقس مضطرب وعاصف.
منظر السماء يوحي بالعاصفة المقتربة التي قد تكون نذير شؤم. لكن من الواضح أن الرجل والمرأة لا يعلمان شيئا عن العاصفة الوشيكة أو أنهما لا يباليان بها برغم التوتّر الذي توحي به خيوط البرق التي تلتمع في السماء فوقهما.
الطبيعة في اللوحة تذكّرنا بمناظر دافنشي. الألوان غنيّة ودافئة تعمّق الإحساس بشاعرية وحميمية المنظر.
كثرة الرموز في هذه اللوحة تفتح الباب أمام تفسيرات شتّى.
أحدها يقول إنها تتحدّث عن الثنائيات، الرجل والمرأة، المدينة والقرية، والأرض والسماء. إلى آخره.
البرق، برأي بعض النقاد، هو إشارة إلى قوّة الخالق. والرجل والمرأة هما نسخة عصرية من آدم وحوّاء بعد طردهما من الجنّة. والرضيع قد يكون طفلهما الأوّل قابيل.
وثمّة رأي يقول إن اللوحة يمكن أن تكون معادلا شعريا للعلاقة بين الإنسان والطبيعة. بينما يشير رأي آخر إلى أنها تتضمّن استعارات عن العناصر الأربعة والتناغم والخطيئة والخلاص والتزاوج بين السماء والأرض.
وهناك من قرأ هذا العمل استنادا إلى سياقات أسطورية ودينية متعدّدة.
غير أن احد أكثر التفسيرات إثارة للاهتمام ما نُسب إلى مؤرّخ ايطالي عندما قال إن موضوع اللوحة هو الطبيعة. والمرأة والرجل والطفل هم مجرّد عناصر. لكنهم ليسوا العناصر الأكثر أهمية في الطبيعة".
ورغم غموض اللوحة فإن كلّ شيء فيها واقعي وطبيعي. ويمكن القول إنها نموذجية في كلّ شيء. وهي في أبعادها وتوليفها ونسَبِها قريبة جدّا من الكمال.
وفي بعض الأوقات راجت نظرية تربط بين موضوع اللوحة وأشعار فرجيل. فقد كانت قصائد هذا الشاعر تُقرأ على نطاق واسع في فينيسيا زمن جورجيوني. وتتحدّث إحدى تلك القصائد عن شاعر راعٍ رأى في المنام امرأة عذراء تحمل بطفل. وقد رأى البعض في تلك القصيدة نبوءة وثنية عن مجيء المسيح.
ويقال إن "العاصفة" هي أوّل لوحة عن الطبيعة في تاريخ الرسم الغربي. كما أن اللوحة هي الوحيدة التي يجمع المؤرّخون على أن جورجيوني رسمها بالكامل.
وقد رسمها بناءً على تكليف من احد كبار مثقفي فينيسيا في حينه. ويظهر أن الفنان رسمها بهذه الطريقة كي يختبر ذكاء زبونه وقدرته على حلّ الإلغاز والغموض اللذين أودعهما فيها.
في ما بعد، أتى رسّامون كثر مشوا على خطى جورجيوني واستفادوا من شغفه بالإبهام والغموض ووظفوا ذلك في أعمالهم. ومن أشهر هؤلاء الفرنسي نيكولا بوسان.
جورجيوني صُنّف دائما على انه أكثر الرسّامين غموضا في تاريخ الفنّ. إذ لا يُعرف عنه الشيء الكثير باستثناء انه مات في سنّ مبكّرة وعمره لا يتجاوز الرابعة والثلاثين.
وكان احد روّاد رسم المناظر الطبيعية المستوحاة من الماضي والتي تصوّر الرعاة والقطعان وهي تسرح في الحقول.
ويغلب على لوحاته الطابع الرومانسي. وقد تكرّس هذا الطابع في شخصيّته هو عندما أحبّ امرأة كانت مصابة بالطاعون. ومع ذلك اختار أن يظلّ إلى جانبها وأن يموتا معا في النهاية.
"العاصفة" قد تعني أيّ شيء: نبوءة، حلم يقظة، فانتازيا أو رؤيا داخلية.
وقد لا تعني شيئا على الإطلاق.
لكنها تظلّ "قصيدة" جورجيوني الأشهر برغم غموضها الممتع والمحيّر.

موضوع ذو صلة: عاصفة جورجيوني.. قراءة مختلفة

Saturday, November 07, 2009

لوحات عالميـة - 218

جـامـع الكُـتُـب
للفنّان الإيطالي جوزيـبي أرشيمبـولــدو، 1566

كان ارشيمبولدو أحد أكثر رسّامي عصر النهضة أصالة وابتكارا. بل يقال انه أوّل من ابتدع الرسم التكعيبي. حدث هذا قبل أكثر من ثلاثة قرون من ظهور بيكاسو والحركة التكعيبية.
وقد أحبّه السورياليون وأعجبوا بصوره الفانتازية وأشكاله الهندسية وبمهارته الفائقة في التوليف. بينما رأى فيه آخرون فنانا رمزيا يمكن اعتبار أعماله امتدادا للأفكار الإنسانية التي راجت في نهايات عصر النهضة الايطالي.
اشتهر ارشيمبولدو ببورتريهاته عن الفصول الأربعة التي صوّر كلا منها على هيئة إنسان تتشكّل ملامحه من الفواكه والخضار التي تقترن بكلّ فصل من فصول السنة.
غير أن أشهر لوحاته وأكثرها شعبية هو هذا البورتريه الذي رسمه لمؤرّخ وطبيب نمساوي اسمه وولفغانغ لاتزيوس.
كان لاتزيوس عالما مشهورا وقد عُرف بقربه من بلاط عائلة هابسبيرغ. ويقال انه بلغ من حبّ هذا الرجل للكتب انه كان يستطيع الحصول على أيّ كتاب أو وثيقة أو مخطوط يريده بأيّ ثمن وبأيّ طريقة.
وبورتريه ارشيمبولدو عن لاتزيوس هو الوحيد من بين بورتريهاته الذي يخلو من عناصر الطبيعة.
والبورتريه عبارة عن كومة من الكتب رُتّبت بطريقة معيّنة بحيث تؤلّف في النهاية شكل وملامح إنسان. فالقبّعة مرسومة على شكل كتاب مفتوح، والرأس عبارة عن مجموعة من الكتب الموضوعة فوق بعضها أفقيا. والأنف هو الآخر يأخذ هيئة كتاب واللحية رُسمت على شكل مكنسة الريش التي تُستخدم عادة في نفض الغبار عن الكتب. والذراع تحوّل إلى كتاب كبير ابيض والأصابع إلى علامات للكتاب.
رسم ارشيمبولدو البورتريه أثناء عمله كرسّام في بلاط الإمبراطور ماكسيميليان الثاني.
وقد أعجب الإمبراطور كثيرا بهذه الصورة وعلّقها في قصره. ثم استعارها منه ابنه رودولف الذي قام بعرضها، مع غيرها من أعمال الرسّام، في قصرهم في براغ. وفي ما بعد انتقلت اللوحة إلى ملكية أبنائهم وأحفادهم.
وهناك من ينظر إلى اللوحة باعتبارها رسما كاريكاتيريا يسخر من المثقفين وجامعي الكتب الذين يسرفون في شراء واقتناء الكتب، ليس لقراءتها، وإنما من اجل المباهاة والتفاخر.
لكن ربّما كان الرسّام يلمّح من خلال الصورة إلى الازدهار الكبير الذي شهده عصر النهضة في مجال تأليف ونشر الكتب.
في ذلك الوقت أصبح أمناء المكتبات هم التجسيد الحقيقي للحكمة والمعرفة الإنسانية بعد أن كان القدّيسون ورجال الدين يختصّون أنفسهم بصفة العالم المثالي.
كان ارشيمبولدو رسّاما سابقا لعصره. وسلسلة لوحاته ذات الشعبية الكبيرة عن الفصول والعناصر التي يأخذ كلّ منها شكل إنسان من الفواكه والثمار كانت ابتكارا لم يسبقه إليه احد.
وثمّة احتمال بأنه أراد من وراء تلك اللوحات أن تكون رمزا لتوحّد الإنسان مع الطبيعة أو محاولة من الرسّام لأنسنة الطبيعة أو ربّما تطبيع الإنسان.
وهناك لوحة مشهورة أخرى لـ ارشيمبولدو اسمها المحامي، أو الافوكاتو بالايطالية، يظهر فيها شخص بفم سمكة وبوجه تتشكّل ملامحه من اسماك ودواجن ميّتة، بينما تتمدّد على أعلى وأسفل صدره الوثائق والكتب القانونية.
بعض النقاد يشيرون إلى أن ارشيمبولدو قد يكون استلهم أسلوبه المبتكر في الرسم من أشكال الأطعمة التي كانت معروفة في أواخر عصر النهضة. فقد كانت قصور النبلاء تزخر بأنواع الأطعمة والمأكولات والفواكه التي يتمّ ترتيبها، وأحيانا نحتها، كي تحاكي قصص الأساطير القديمة.
ويُحتمل أن تكون لوحاته امتدادا لأحد التقاليد التي سادت في ذلك العصر. إذ كان أرباب المهن يحيطون أنفسهم بأشياء وعناصر تدلّ على طبيعة مهنهم أو حرفهم التي يبرعون فيها.
في العام 1648 تعرّضت الكثير من لوحات ارشيمبولدو للدمار إثر غزو الجيش السويدي لـ براغ. لكن هذه اللوحة نجت من التلف عندما استولى عليها السويديون كغنيمة حرب.
وما تزال موجودة إلى اليوم في المتحف الوطني بـ استوكهولم.

Sunday, October 25, 2009

لوحات عالميـة - 217

بورتريـه الفـارس الضـاحـك
للفنان الهولندي فـرانـز هـولــس، 1624

لا تستطيع وأنت تتمعّن في تفاصيل هذه اللوحة إلا أن تُعجب بها وبالأسلوب العفوي والتلقائي الذي رُسمت به.
إنها تشبه كثيرا لقطة بالكاميرا لموقف أو حالة إنسانية تمّ الإمساك بها في منتصفها.
العفوية والتلقائية هما أهمّ ملمحين يجعلان من هذه اللوحة تحفة فنية متميّزة.
ثم هناك الابتسامة الغامضة المرتسمة على وجه الفارس. وهي ابتسامة يُخيّل للناظر أنها تحمل كثيرا من معاني الازدراء والفوقية.
هذا الرجل الظاهر في الصورة هو احد نبلاء مدينة هارلم الهولندية خلال القرن التاسع عشر. غير أن احدا لا يعرف اسمه ولا هويّته على وجه التحديد.
ومن الواضح انه قصد استوديو الرسّام ذات يوم كي يرسمه بعد أن حضّر نفسه جيّدا وارتدى للمناسبة أغلى الثياب وأفخمها.
الملاحظة الأولى التي لا بدّ وأن تستوقف الناظر إلى اللوحة تتعلق بالعنوان. إذ أن عنوانها لا ينطبق على مضمونها.
فالفارس هنا لا يضحك بل يتبسّم. وابتسامته من ذلك النوع الذي لا يقاوم.
يقال بالمناسبة إنها إحدى أشهر الابتسامات في تاريخ الرسم. رغم أنها، ظاهريا، مستفزّة ولا تبعث على الارتياح.
هل ابتسامة الرجل دليل ثقة مفرطة بالنفس؟ هل يسخر من الناظر أم من الرسّام؟ أم تراه يبتسم لنكتة سمعها في الاستديو؟ الغريب أنك تحسّ بأنه يتابعك بعينيه من أيّ زاوية نظرت إليه.
الملاحظة الثانية تتمثل في العبارة التي كتبها الرسّام باللاتينية في أعلى يمين اللوحة والتي يشير فيها إلى أنه رسمها عام 1624 عندما كان عمر الرجل، أي الفارس، 26 عاما.
ومع ذلك فإن ملامح الشخص وهيئته توحيان بأنه اكبر سنّا مما تقوله اللوحة. لكن هذا يبقى تفصيلا هامشيا.
الفارس يواجه الناظر بشاربين معقوفين لأعلى وبلحية صغيرة وقبّعة سوداء عريضة.
الأنف يلمع والوجنتان متورّدتان بينما تنسدل ملابسه المخملية القشيبة على كامل جسمه.
التطريز والزينة والألوان الباذخة للملابس الفخمة، كلّها عناصر تشير إلى مدى البراعة والإحكام المبذولين في رسم هذه اللوحة.
ضربات الفرشاة السريعة والطويلة تعطي انطباعا بأن اللوحة قد تكون رُسمت بسرعة وعلى عجل. ومع ذلك يبدو الفارس وكأنه عاد إلى الحياة من جديد بسبب التوليف التلقائي والمفعم بالحياة الذي وظّفه الرسّام.
في العام 1465 اشترى هذه اللوحة الثريّ البريطاني السير ريتشارد والاس. كان اسمها في ذلك الوقت "بورتريه رجل شابّ".
لكن في ما بعد، وتمشّيا مع تقاليد العصر الفيكتوري الذي كان يميل إلى استخدام الغريبة والمبتكرة، أطلق عليها لوحة "الفارس الضاحك".
وقد استخدمت إحدى شركات صناعة المشروبات الروحية هذه اللوحة في الترويج لمنتجاتها. ويظهر الفارس في احد إعلانات الشركة وهو يشرب كأسا من النبيذ.
في مرحلة لاحقة، كتبت الروائية البريطانية من أصل هنغاري إيما اورتسي رواية تستمدّ أحداثها المتخيّلة من شخصية الفارس وتجري فصولها في هارلم الهولندية.
الخط الدرامي لـ رواية اورتسي يتمحور حول هويّة الفارس الضاحك وظروف نشأته والسلالة التي ينحدر منها.
فرانز هولس كان أشهر رسّامي البورتريه خلال العصر الذهبي للرسم الهولندي. وكان متخصّصا في رسم صور الحكّام والنبلاء والوزراء.
ومن الواضح أن الرسّامين الواقعيين يحبّون أعماله لتلقائيتها وبساطتها. والحداثيون أيضا يستهويهم أسلوبه كثيرا. وقد تأثر به كل من جيمس ويسلر وفان غوخ. وفي لوحات هولس، ومنها هذه اللوحة، صدى لضربات الفرشاة العريضة لـ مانيه ورفاقه من أتباع المدرسة الانطباعية.
"الفارس الضاحك" يعتبرها النقاد احد أشهر البورتريهات في تاريخ الفنّ. ويمكن القول أن شهرتها تُعزى في المقام الأول للمهارة المنقطعة النظير التي رسم بها الفنّان لباس الرجل.
ونظرا لشعبية الصورة ورواجها الكبير، أصبحت مادّة للكثير من التعديلات والتحويرات الكاريكاتيرية الساخرة والطريفة.
وما تزال إلى اليوم من ضمن مقتنيات مجموعة والاس الفنية في لندن.

Thursday, October 22, 2009

لوحات عالميـة – 216

خيـول عربيـة تتعـارك في إسطبـل
للفنان الفرنسي أوجيـن ديـلاكـــروا، 1860

كان ديلاكروا منذ بداية اشتغاله بالرسم مفتونا بجموح ووحشية الحيوانات. ولطالما أثارت اهتمامه، بشكل خاصّ، الخيول وصراعاتها الدامية فيما بينها. وهو أمر رآه رأي العين أثناء زيارته لشمال أفريقيا.
وقد رسم العديد من اللوحات من وحي إقامته في المغرب صوّر فيها مظاهر من صراع الحيوانات بين بعضها البعض وصراعها مع الإنسان.
وضمن هذا السياق، تندرج لوحاته "أسد يهاجم حصانا" و"صيد الأسود" و"عرب يتقاتلون في الجبال".
وقد ألهمت رسوماته عن الحيوانات، والخيل خاصّة، عددا من الرسّامين مثل الفنان الانجليزي جورج ستبس الذي رسم الخيل في عدد من لوحاته، أشهرها "الجواد ويسل جاكيت" و"أسد يهاجم حصانا".
في هذه اللوحة الجميلة، يصوّر ديلاكروا منظرا لجوادين عربيين يتقاتلان بضراوة داخل إسطبل، بينما يحاول حرّاس الإسطبل التدخّل لوقف عراكهما.
اللافت للاهتمام في هذه اللوحة براعة ديلاكروا في تصوير آنية وحركية الصراع بين الحيوانين الهائجين. الحركة الدائرية والإيقاع الراقص للحيوانين توحيان بالصراع الذي يبدو بلا نهاية، وهي الفكرة التي تقوم عليها لوحات عديدة لـ ديلاكروا لا يمكن فصل الشكل فيها عن المضمون.
التباينات القويّة للضوء والظلّ في هذه اللوحة وبراعة الرسّام في استخدام الألوان الصاخبة يعتبران عنصرين إضافيين يعمّقان الإحساس بشراسة وعنف الصراع بين الحيوانين.
رأى ديلاكروا هذا المشهد في مدينة طنجة المغربية عندما كان، هو والقنصل الانجليزي، في ضيافة الباشا حاكم المدينة.
كان الرسّام قد ذهب إلى هناك ضمن بعثة ديبلوماسية إلى سلطان المغرب. وكانت تلك الرحلة تشكّل بداية اهتمامه بالرسم الاستشراقي الذي أصبح هو احد رموزه الكبيرة والمهمّة.
كان ديلاكروا منجذبا إلى مراقبة الحيوانات البرّية كالنمور والأسود والفهود. وقبل ذهابه إلى المغرب، كان يتردّد على حديقة حيوانات باريس كي يراقب ويرسم الحيوانات فيها.
غير أن حبّه الأكبر كان للخيول. كان الحصان عنده يجسّد بحث الفنان الدائم عن المجد والصعود إلى الشهرة. ولم يشبع حبّه للخيول إلا بعد زيارته للمغرب. وبعد تجربته المغربية أصبحت الخيول ملمحا ثابتا في عدد غير قليل من اللوحات التي رسمها في ما بعد.
وقد شرح ديلاكروا ذات مرّة مغزى افتتانه برسم مشاهد العراك بين الحيوانات بقوله: الإنسان نفسه مخلوق همجي. والبشر في واقع الأمر ليسوا أكثر من نمور وذئاب مدفوعة برغبتها الكامنة في تدمير بعضها البعض".
وزمن ديلاكروا تبنّى بعض النقاد رأيا طريفا يقول بوجود أوجه شبه بين ملامح وجه الرسّام والأسود التي كان مغرما برسمها.
فقد كانت عيناه تشعّان ببريق أخّاذ كما كانت عظام وجهه ناتئة. ويبدو، برأيهم، أن ديلاكروا خلع على ملامحه جمالا غير مروّض وغريبا عندما أعارها للأسود في لوحاته.
كان بودلير من اشدّ المعجبين بلوحات ديلاكروا. وقد وصف لوحته صيد الأسود بقوله إن فيها تفجّرا للألوان يثير الإعجاب. كما أن الحيوانات في اللوحة تزأر وتزمجر. وإذا كانت هناك لوحة تمزج بين الوحشية والتعبيرية بأجلى صورهما، فإنها ولا شكّ هذه اللوحة".
وعلى العكس من كثير من معاصريه الذين كانوا مهتمّين بأفكار اليونان وروما القديمة وتصويرها في أعمالهم، فضّل ديلاكروا أن يرحل إلى بلاد الشرق حيث انجذب إلى شعوبه وصوّر تقاليدهم وأزياءهم في أعماله.
كان ديلاكروا يعتقد أن شمال أفريقيا بتراثها الغنيّ وتقاليدها العريقة هي المعادل البصري للثقافة الكلاسيكية لشعوب اليونان وروما القديمة.
وتتميّز لوحات ديلاكروا بتنوّع أفكارها ومواضيعها. بعضها يتناول ملاحم وأساطير قديمة. وبعضها الآخر يصوّر المعارك بين الأتراك واليونانيين. والبعض الثالث استوحاه من أعمال أدبية مثل أشعار شكسبير وغوته وبايرون وسواهم.
في خطيبة ابيدوس، مثلا، يصوّر ديلاكروا حكاية ذكرها بايرون في إحدى مسرحياته الشعرية عن باشا شرقي يجبر ابنته على الزواج من صديقه المسنّ. لكن الفتاة المكرهة على الزواج من شخص لا تحبّه تضطرّ إلى الهرب مع ابن عمّها الذي لا تلبث أن تقع في حبّه ثم تتزوّجه. غير أن الباشا الأبّ وجنده يعثرون على مخبئهما فيقتلون الشابّ، وتموت الفتاة في ما بعد بسبب حزنها عليه.
وفي موت ساردانابالوس، يصوّر ديلاكروا دراما شعرية مقتبسة عن مسرحية لنفس الشاعر تحكي قصّة ملك آشوري قديم يقع تحت حصار فرضه عليه أعداؤه. وفي النهاية يفضّل الملك الانتحار على الاستسلام. غير انه قبل موته يأمر حرّاسه بقتل جميع خدمه ومحظياته وحيواناته لكي يموتوا ويُدفنوا معه.
كان غرام ديلاكروا الأول الرسم والأدب الرومانتيكي. وتدلّ مذكّراته ودراساته ومقالاته التي تتناول المسائل الجمالية على ثراء أفكاره وعمق ثقافته.
وقد دفعه إعجابه بلوحات الرسّام الانجليزي جون كونستابل إلى زيارة انجلترا حيث تجوّل في متاحفها ومسارحها واطلع على جوانب من ثقافة الانجليز، ما ترك في نفسه أثرا لا يُمحى.

موضوع ذو صلة: ديلاكروا ومصرع كليوباترا

Sunday, October 18, 2009

لوحات عالميـة – 215

روبنـز وإيـزابيـلا بـرانـدت
للفنان الهولندي بيتـر بـول روبنــز، 1609

يُوصف روبنز بأنه أمير الرسّامين ورسّام الأمراء، بالنظر إلى انه رسم الكثير من أفراد العائلات الملكية الأوربية.
ولوحاته تتميّز بثرائها اللوني وبسحرها الذي لا يُقاوَم. ويقال بأنه كان أفضل من يرسم بالألوان الزيتية.
وبعكس كبار الرسّامين الآخرين مثل فان غوخ ورمبراندت، فإن روبنز حقّق الكثير من التقدير والثراء أثناء حياته.
وكان من عادته أن يستعين برسّامين كثر في محترفه لمواكبة طلبات الرسم الكثيرة التي كان يتلقاها والتي لم يكن يستطيع رفضها.
كان يرسم اسكتشات أولية للوحاته ثم يعهد بها إلى مساعديه لإتمام بقيّة التفاصيل.
لكنّ روبنز اختار أن يرسم هو بنفسه هذه اللوحة بالكامل.
قد يكون السبب أن موضوع اللوحة شخصيّ وحميم. إذ تصوّره هو وزوجته ايزابيلا براندت التي اقترن بها عقب عودته من رحلته إلى ايطاليا.
كان روبنز آنذاك في الثانية والثلاثين من عمره بينما كان عمر ايزابيلا ثمانية عشر عاما.
ويرجّح انه رسم اللوحة بعد زواجهما مباشرة، أي في العام 1609، ثم أهداها إلى والدي عروسه.
وقد استخدم روبنز في اللوحة بعض الرموز التقليدية التي تعبّر عن العاطفة القويّة. هناك مثلا أشجار رحيق العسل التي تظهر في خلفية اللوحة. هذه الأشجار تعتبر رمزا معروفا منذ القدم عن الإخلاص ووفاء الزوجية.
والرمز الآخر يتمثل في وضع كلّ من العريس والعروس يده على يد الآخر تعبيرا عن حبّهما وارتباطهما القوي.
ايزابيلا تبدو هنا جميلة وعلى قدر كبير من التهذيب والبراءة. لكنها أيضا مسترخية وواثقة من نفسها. وأكثر ما يميّزها هو قبّعتها الكبيرة وياقتها الرمادية الفخمة.
روبنز، هو الآخر، يلفت الاهتمام بملامحه الواثقة وملابسه الأنيقة.
مما يلفت الانتباه أيضا في اللوحة تناغم الألوان والنسيج المتباين للملابس ولمعان الخطوط الذهبية على التنّورة ثم اللون الأصفر، لون روبنز المفضّل والذي لا تكاد تخلو منه لوحة من لوحاته.
كانت ايزابيلا براندت أولى زوجات روبنز. وكان والدها احد أعيان مدينة انتويرب. وقد عاش الفنان وزوجته بسعادة ووئام طيلة سبعة عشر عاما أنجبا خلالها ولدين وبنتا.
لكن وفاة ايزابيلا فجأة بمرض الطاعون أنهت كلّ شيء. كان عمرها وقت وفاتها أربعة وثلاثين عاما. وقد سبّب موتها في تلك السنّ المبكّرة صدمة كبيرة لـ روبنز. وبسبب الحزن العميق على رحيلها، توقّف عن الرسم لفترة.
هذه اللوحة الرائعة تعتبر نموذجا لفنّ روبنز الذي كان رسّاما استثنائيا ونادرا بسبب تقنيات ألوانه الخاصّة وابتكاراته الكثيرة في رسم البورتريه.
وهو يعتبر احد أشهر رسّامي عصر الباروك وأكثرهم إنتاجا وتنوّعا. وتتراوح أعماله بين رسم البورتريه والمناظر الطبيعية والمواضيع التاريخية. وبالإضافة إلى كونه رسّاما كبيرا، كان روبنز ديبلوماسيا مرموقا.
وقد سافر في مهمّات ديبلوماسية كثيرة وأقام في ايطاليا ثماني سنوات ثم ذهب إلى اسبانيا حيث اطلع على أعمال رسّامي عصر النهضة.
وفي نفس العام الذي تزوّج فيه ايزابيلا، عُيّن رسّاما في بلاط الأمير البريخت.
وفي ما بعد اشترى قطعة ارض بنى عليها منزلا فخما خصّص جزءا منه ليكون مرسما له.
ولم يكن بيته يخلو من التلاميذ والمريدين الذين كانوا يقصدونه لتلقي دروس في الرسم على يديه.
وفي احد الأوقات ذهب روبنز إلى انجلترا وزار بلاط الملك تشارلز الأول.
وأثناء إقامته في لندن كُلّف برسم سقف قصر الضيافة في الوايتهول.
بعد أربع سنوات من وفاة ايزابيلا، تزوّج روبنز من هيلينا فورمنت ذات الستة عشر عاما.
وكما رسم لـ ايزابيلا أكثر من لوحة، رسم روبنز لـ هيلينا عدّة لوحات تظهر في إحداها مع روبنز وطفلهما البكر.
كما تظهر في أخرى مع اثنين من أطفالهما.
على المستوى الشخصي، كان روبنز شخصا متزنا وعلى درجة عالية من الالتزام والانضباط. كان ربّ عائلة من الطراز الأول كما كان مخلصا ووفيّا لبيته وأفراد عائلته. وتخلو سيرة حياته من قصص الانفلات والمجون التي طبعت حياة غيره من الرسّامين.
في نهايات حياته، أصبح روبنز يميل إلى رسم المناظر الطبيعية. غير أن إصابته بالروماتيزم حالت بينه وبين الاستمرار في الرسم.
وقد توفي وهو في الثالثة والستين من عمره وترك لـ هيلينا التي كان عمرها آنذاك 26 عاما ثروة طائلة وستّة أطفال ولد آخرهم بعيد وفاته بأشهر.
وتتوزّع لوحاته على العديد من المتاحف الأوربية الكبيرة. لكنّ عددا من أهمّ وأفضل أعماله موجودة اليوم في متحف مدينة ميونيخ الألمانية.

Wednesday, October 14, 2009

لوحات عالميـة – 214

المـأســاة
للفنان الإسباني بابلـو بيكـاسـو، 1903

اتسمت مرحلة بيكاسو الزرقاء بغلبة اللون الأزرق على لوحاته. وأصبح الأزرق، بفضل توظيف بيكاسو له، رمزا للوحشة والحزن والخواء وأحيانا للتأمّل الصامت.
كان الفنان يمزج اللون والمزاج معا بنمط معيّن من الشخصيات التي كان يتعاطف معها، كالمتسوّلين والمنبوذين والمشرّدين والسكارى ولاعبي السيرك والباعة المتجوّلين وبائعات الهوى وغيرهم من الفئات الاجتماعية المسحوقة والمهمّشة.
ولوحات بيكاسو في المرحلة الزرقاء تعتبر من أجمل ما رسم، رغم كونها مجلّلة بالمعاناة والخيبة والحزن.
في "المأساة" يرسم بيكاسو ثلاثة أشخاص، رجل وامرأة وطفل، وهم يقفون على شاطئ البحر. اللون الأزرق، هنا أيضا، يحدّد طبيعة المزاج والمشاعر.
الأشخاص الثلاثة قد يكونون أفراد عائلة واحدة، رغم أن هذا ليس مؤكّدا. غير أن من الواضح أن المنظر يعكس شعورا بالحزن وربّما الفجيعة.
من الأشياء اللافتة في اللوحة أن الفنان بالغ في رسم نسب الشخوص وجعلهم يغطون كامل مساحة اللوحة تقريبا.
الطفل يبدو وكأنه الشخصية المركزية في هذه اللوحة. يده الممتدّة إلى الرجل ونظراته التائهة تعطي إحساسا بحاجته للتعاطف والسلوان. وقد تكون حركة يديه تعبيرا عن حاجته للدفء الإنساني.
في اللوحة، ثمّة إحساس واضح بالفقد. لكن طبيعة المأساة ليست واضحة. قد تكون مرضا، موتا، جوعا، أو كارثة طبيعية ما. لكن لا شيء مؤكّد.
الرجل يبدو منسحبا وغير مكترث بما يجري. تعابيره توحي بأنه يريد إبعاد نفسه عن لمسة الطفل ونظرات المرأة.
ويُحتمل أن يكون ردّ فعل الرجل غير المبالي انعكاسا لشعوره بالذنب أو تأنيب الضمير.
المرأة تعطي ظهرها للناظر ولا يظهر منها سوى جانب واحد من وجهها. كما أن نظرها مركّز إلى أسفل.
هل في هذا ما يشير إلى أنها تلوم الرجل وتعتبره مسئولا عما حدث؟
من الواضح أن الثلاثة فقراء، إذ يبدون حفاة الأقدام ويرتجفون من البرد كما أنهم غارقون في الحزن.
لا يبدو واضحا لماذا رسم بيكاسو اللوحة وما الذي كان يقصده من ورائها.
هل "المأساة" هي الإحساس بالوحدة والحزن الذي يجعل كلّ واحد من الثلاثة يشعر بأنه منفصل عن الآخرين ومستغرق في همّه الخاص؟
بعض النقاد يشيرون إلى أن "المأساة" رُسمت فوق لوحة أخرى وأن في تفاصيل اللوحة ما يوحي بأن بيكاسو استبدل باللوحة لوحة أخرى مخبّأة تحت سطحها.
المعروف أن الرمزيين سبقوا بيكاسو في استخدام لون واحد لخلق مزاج أو انفعال معيّن. ويسلر ومونيه وسيزان أيضا رسموا لوحات ذات لون واحد.
ومثل هذه الصور كانت تروق كثيرا للشعراء الرمزيين مثل بول فاليري الذي كان شاعر بيكاسو المفضّل.
"المأساة" تبدو لوحة كئيبة وحزينة. وهناك من يعتبرها دراسة بصرية مثيرة عن الحزن.
بيكاسو نفسه كان يعتقد أن الفنّ هو الابن الشرعي للحزن وأن المعاناة شيء أساسي في الحياة.
وعندما كان في أوائل العشرينات من عمره، كان بيكاسو شخصا فقيرا ومكافحا. ويقال انه بسبب الفقر كان يحرق لوحاته ليتدفّأ بنارها.
ويبدو أن هذا سرّ تماهيه وتعاطفه الشديد مع المنبوذين والتعساء الذين كان يرسمهم.
لوحات المرحلة الزرقاء تتضمّن الكثير من المشاعر الإنسانية. وهي ترمز لحالة بيكاسو التعيسة آنذاك. وربّما أراد أن يقرن حال الفنان بحال الشخص المنبوذ، باعتبار مكانة الفنان المتدنّية اجتماعيا في ذلك الوقت.
وقد يكون اللون الأزرق قدّم لـ بيكاسو العزاء والراحة وحماه من بعض الانفعالات التي لم يكن قادرا على كبحها أو التعامل معها وسمح له بأن يحزن فنيّا وأن يتعافى من حزنه بعد ذلك.
بدأت مرحلة بيكاسو الزرقاء بموت اقرب أصدقائه الذي حاول التقرّب من إحدى الفتيات وعندما صدّته قتلها وقتل نفسه. وقال بيكاسو في ما بعد: كان التفكير في ذلك الصديق هو ما دفعني لكي أرسم بالأزرق".
الجدير بالذكر أن "المأساة" وظفت في احد الإعلانات التي تحذّر من مخاطر مرض نقص المناعة المكتسبة أو "الايدز".

موضوع ذو صلة: خواطر من وحي لوحة

Wednesday, October 07, 2009

لوحات عالميـة - 213

عِنــاق
للفنان البولندي إيزديسواف بكشينيسكي، 1971

عندما تنظر إلى إحدى لوحات بكشينيسكي، لا بدّ وأن تستوقفك طبيعتها الصادمة وتفاصيلها المخيفة.
في هذه اللوحة يرسم رجلا وامرأة على هيئة هيكلين عظميين وهما في حالة عناق حميم. الصورة مزعجة وربّما مرعبة. واللون البرتقالي الذي يغطّي المشهد بالكامل يكثّف حالة الشعور بالانقباض والسوداوية.
هل هي لوحة عن الموت؟ أم أنها تعبير عن الإحساس بخواء الحياة وخلوّها من أيّ معنى؟
الواقع أن جميع لوحات بكشينيسكي هي عبارة عن مشاهد متتالية من طبيعة كئيبة تمتلئ بالهياكل والصحاري والأشخاص المشوّهين. كما تظهر في بعضها صور لدُمى أطفال مهشّمة ولأشخاص بلا وجوه وأشخاص آخرين تغطّي الضِمادات وجوههم.
ومناظره بشكل عام تذكّر بأفلام الرعب وأحيانا بتفاصيل تلك الطبيعة الفانتازية التي تظهر في أفلام الفيديو الالكترونية عادة. وأجواء معظم لوحاته مظلمة ومسكونة بالكوابيس والرؤى المزعجة. مقابر، مخلوقات غريبة الشكل، ملامح لأشخاص تكشف عن قدر عظيم من الألم والمعاناة والقسوة. بعض اللوحات تذكّرنا بفنّ وأدب الحقبة القوطية. بعضها الآخر فيها تأثيرات سوريالية وتجريدية واضحة.
تتأمّل بعض لوحات بكشينيسكي فيخطر بذهنك انه يرسمها من العقل الباطن. قد تكون مشاهد لشياطين أو انعكاسات لحالات روحانية أو سيكولوجية أو تخيّلات لما سيحدث في يوم القيامة أو في نهاية الزمان.
في إحدى اللوحات نرى ما يشبه الجحيم. وجوه تصرخ بهلع في مكان موحش ومقبض. وفي أخرى نرى شخصين يرتديان ملابس خضراء وهما يقفان أمام حائط حجري بينما يمرّ القمر أمامهما بطيئا عبر نافذة مفتوحة. وبخلاف ما هو معتاد، فإن منظر القمر الذي يملأ النافذة يبعث القشعريرة والرهبة في النفس. وفي لوحة ثالثة يظهر مخلوق شبحي أعمى يمشي على عصا في جوّ ضبابي بينما يقوده حيوان أسود غريب الهيئة ودميم الملامح.
وفي لوحة أخرى يظهر إنسان على هيئة هيكل عظمي وهو يعزف على آلة موسيقية بعظام يديه وقفصه الصدري.
لوحات بكشينيسكي الفانتازية والمرعبة ليس من السهل فهمها بل يستعصي أكثرها على الشرح والتفسير. البعض يشبّه وجوه شخوصه المشوّهة بـ "غورنيكا" بيكاسو. والبعض الآخر يقارنه بالرسّام النمساوي ارنست فوكس. وهناك من يشبّهه بـ كافكا الذي يقال انه كان يضحك بشكل هستيري عندما يقرأ قصصه المخيفة بصوت عال. وربّما تكون مناظره تعبيرا عن وحشية العالم الحديث وافتقاده للمثل الإنسانية والأخلاقية.
ومن الواضح أن الفنان يرسم لوحاته بكثير من البراعة والإتقان. كما انه ماهر في استخدام تأثيرات الضوء والظل.
لكن يظلّ غموض أعماله من النوع الذي يشوّش العقل ويربك الحواسّ. هناك مثلا البُنى العملاقة التي تنهض من التراب أو من وسط الصحراء الشاسعة، والأشخاص الذين يمشون تحت سماء تنذر بالخطر، ومنظر البالونات الملوّنة التي تطفو فوق ناطحات سحاب توشك أن تنهار. وفي إحدى لوحاته المعروفة يبدو شخص ضئيل يمسك بمصباح في قاع هاوية سحيقة بين جبلين ضخمين. وفي أكثر من لوحة، تظهر كاثدرائيات عملاقة تغرق في الصمت والظلام.
العين المعمارية لـ بكشينيسكي واضحة في كلّ لوحاته، وأحد شواهدها هو تعامله المبدع مع النسيج والمنظور. ويبدو انه استفاد من دراسته للمعمار في بدايات حياته، أي قبل أن يتحوّل للرسم.
وبعض النقاد يقولون إن طبقة القبح التي تغطي لوحات الرسّام تكشف أحيانا عن قيم وأفكار ايجابية. والبعض القليل من مناظره لا تخلو من مسحة رومانسية، ما يذكّر ببعض أعمال الفنان الألماني كاسبار فريدريش.
مشاهد البحر والمحيط في لوحات بكشينيسكي وتصويره لجلال وعظمة الجبال قد يكون تذكيرا بضآلة البشر في هذا الكون الواسع الفسيح وكيف أن هذا العالم الغامض يمكن في أيّ لحظة أن يطبق على الإنسان ويسحقه.
وهناك احتمال أن تكون رسوماته ترجمة لما اختزنه لاوعيه من ذكريات الطفولة. فقد تربّى ونشأ قرب احد معسكرات الاعتقال في بولندا خلال الحرب العالمية الثانية وشاهد هناك الكثير من الفظائع التي لا يشاهدها الأطفال الصغار عادة. كما عاصر غزو واحتلال كلّ من ألمانيا والاتحاد السوفيتي للأراضي البولندية، ما أدّى إلى مقتل أكثر من خمسة ملايين مواطن بولندي.
ولد إيزديسواف بكشينيسكي في بولندا وكان يحبّ الرسم منذ سن مبكّرة. وقد أصبح بسرعة الشخصية الأكثر أهميّة في الفنّ البولندي المعاصر.
الغريب انه كان شخصا مرحا ومحبّا للدعابة على العكس مما توحي به لوحاته. كما كان على درجة كبيرة من التواضع والخجل، لدرجة انه كان يتجنّب حضور المناسبات العامّة بما فيها حفلات افتتاح معارضه الخاصّة.
وقد كان بكشينيسكي شغوفا كثيرا بالموسيقى. وكان دائما يتجنّب تحليل لوحاته ويرفض إطلاق تسميات عليها. وكثيرا ما كان يؤكّد أن أعماله تثير التفاؤل والأمل على عكس ما يتصوّره معظم الناس.
المفارقة الساخرة هي أن بكشينيسكي أصبح في ما بعد ضحيّة للعالم الذي طالما صوّر توحّشه وقسوته في لوحاته. ففي أواخر حياته توفّيت زوجته وبعد ذلك بسنة انتحر ابنه الوحيد، وهو الحادث الذي دمّره وشلّ حياته تماما.
غير أن آخر مشاهد القيامة الذي لم يرسمه في ايّ من لوحاته كان حادثة اغتياله هو شخصيا.
ففي أحد أيّام شهر نوفمبر من عام 2005 م عُثر على بكشينيسكي مقتولا في شقّته بـ وارسو بعد إصابته بعدّة طعنات في أنحاء متفرّقة من جسده.
وفي ما بعد تمّ الكشف عن أن القاتل كان ابن أحد اعزّ أصدقائه وأكثرهم قربا منه وأن الدافع وراء الجريمة كان السرقة.
وبعد وفاته اُنشيء متحف يحمل اسمه ويضمّ معظم أعماله.

Thursday, September 24, 2009

لوحات عالميـة - 212

عائـلـة الرسّـام
للفنان الأمريكي إدمونـد تاربِـل، 1899

يعتبر ادموند تاربل احد أشهر الرسّامين الانطباعيين الأمريكيين. وكان معاصرا لكلّ من فرانك بنسون وتشايلد هاسام اللذين يعتبران من أهمّ رموز الانطباعية الأمريكية خلال القرن العشرين.
كان تاربل يهوى رسم الديكورات الداخلية والمناظر المنزلية. وكانت زوجته وأطفاله الأربعة هم موديلاته المفضّلون. وتتسمّ أعماله بالمزج ما بين الانطباعية والأسلوب الأكاديمي في الرسم.
ويبدو الشخوص في لوحاته وهم منهمكون في أعمال وأنشطة منزلية أو جالسون خارج المنزل.
كان الرسّام ينتمي إلى مدرسة بوسطن للرسم والتي ازدهرت وذاع صيتها بدءا من السنوات الأولى من القرن العشرين.
وقد اشتهر رسّامو تلك المدرسة إجمالا بمناظرهم التي تصوّر العالم المنعزل لنساء الطبقة العليا اللاتي يظهرن بملابسهن الأنيقة وهيئاتهن الحديثة وهنّ يؤدين أعمالهن الروتينية اليومية.
في هذه اللوحة يرسم تاربل زوجته وشقيقتها وأبناءه الأربعة. وأوّل ما يلفت الاهتمام في المنظر سحر الألوان، وخاصّة هذا المزج المرهف ما بين اللونين الأصفر والأزرق واهتمام الرسّام بالتفاصيل والعناصر الصغيرة.
الألوان في اللوحة متقشّفة وباردة وذات لمسة ناعمة. والأسلوب الذي تعامل به الرسّام مع عنصري الضوء والظل هو أيضا ممّا يسترعي الانتباه.
أيضا هناك النافذة المفتوحة على منظر خارجي، وانعكاسات الضوء على الأرضية والجدران والملابس. كما أن مسارات الفرشاة الفضفاضة وذات النسيج الريشي الأملس على الملابس وملامح الوجوه تعطي إحساسا بالحيوية والتلقائية. وكل هذه سمات واضحة للرسم الانطباعي.
لزمن طويل كان الرسّامون كثيرا ما يستخدمون أفراد عائلاتهم كموديلات في لوحاتهم من اجل تجسيد حدث تاريخي أو موضوع أدبي أو للتعبير عن فكرة مجازية.
لكن اعتبارا من أواخر القرن التاسع عشر تغيّر ذلك التقليد مع مجيء المدرسة الانطباعية، حيث بدأ الفنانون يرسمون أفراد عائلاتهم في الطبيعة المفتوحة من اجل الإمساك بآنية وفورية الحياة المعاصرة وتصوير تبدّل حالات الضوء والظل أثناء ساعات النهار.
عاش ادموند تاربل معظم حياته في الولايات المتحدة. لكن لأنه اظهر موهبة غير عاديّة في الرسم منذ صغره فقد اُرسل إلى باريس حيث تعلّم فيها على يد كلّ من غوستاف بولانجير وجول لوفيفر.
وفي باريس أيضا تدرّب على أسس ومبادئ الرسم الأكاديمي وقام باستنساخ أعمال كبار الرسّامين الذين كان يرى لوحاتهم في اللوفر.
في تلك الأثناء كانت الانطباعية تعيش أوج صعودها. وقد أعجبته أعمال الانطباعيين وبدأ يدرس أساليبهم ويتأثر بمناظرهم.
وأثناء إقامته في فرنسا قرّر أن يذهب إلى ايطاليا ثم ألمانيا وبلجيكا. وبعد ذلك بعامين عاد إلى بوسطن حيث تزوّج وعمل رسّاما للبورتريه.
ومع مرور الأيام ترسّخ اسمه وأصبح مشهورا باعتباره رسّاما انطباعيا مرموقا.
ومن النقّاد من يعتبر لوحته "في البستان" نقطة تحوّل مهمّة عرّفت الجمهور أكثر بفنّه وموهبته. وقد صوّر في هذه اللوحة، شأنها شأن العديد من لوحاته الأخرى، زوجته وأطفاله وهم يجلسون ذات ظهيرة في حديقة منزلهم في الهواء الطلق.
وفي ما بعد اختير الرسّام للعمل أستاذا في المدرسة التابعة لمتحف بوسطن للفنون الجميلة.
ولوحات تاربل تتسم بثرائها اللوني الأخّاذ وبضربات الفرشاة السائلة وبلمعان الطبيعة والألوان الساطعة والمبهجة.
وهناك من النقّاد من يلقّبه بـ "شاعر المناظر المنزلية". كما أن هناك من يشير إلى تأثره بأسلوب الرسّام الهولندي يوهان فيرمير.
الجدير بالذكر أن ادموند تاربل رسم بورتريهات لبعض الشخصيات المهمّة في زمانه مثل الرئيسين الأمريكيين وودرو ويلسون وهيربرت هوفر.
وتتوزّع الكثير من لوحاته اليوم على أشهر المتاحف والمجموعات الفنّية الخاصّة في الولايات المتحدة.

Friday, September 18, 2009

لوحات عالميـة - 211

حالـة إلهــام
للفنان الفرنسي غِـيـوم سِيـنـيـاك، 1911

الذي ينظر إلى هذه اللوحة ويستوقفه تناغم ألوانها ورقّة تفاصيلها قد يظنّ أنها لوحة منسيّة أو غير معروفة لـ ويليام بوغورو. وهذا الانطباع ليس في مكانه تماما، مع أن له ما يبرّره.
فـ غِيوم سينياك كان احد الرسّامين الذين تتلمذوا على بوغورو وتأثروا كثيرا بأسلوبه الأكاديمي وبطريقة اختياره لمواضيع لوحاته.
ومن هنا قرب الشبه بين لوحات الاثنين.
وربّما كان هذا احد الأسباب المهمّة في أن اسم سينياك غير معروف كثيرا اليوم. فلوحاته تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن لوحات بوغورو. وهذه السمة لوحدها كفيلة بأن تجعل منه رسّاما يفتقر إلى الأصالة والتجديد إلى حدّ ما.
لكنْ قد يكون عذر سينياك هو انه لم يجد في زمانه رسّاما جديرا بالمحاكاة والتقليد خيرا من أستاذه الذي لا يتردّد بعض النقاد اليوم في وصفه بأنه احد أعظم الرسّامين الذين عرفهم تاريخ الفنّ.
وعلى كلّ، فقد كان سينياك مشهورا كثيرا في عصره وكان احد الفنانين الذين كانوا يعرضون أعمالهم بانتظام في صالون باريس ونال على بعضها العديد من الجوائز.
من جهة أخرى، كان هواة الفنّ وجامعو التحف الفنية من الأوربيين والأمريكيين مفتونين كثيرا باقتناء مناظره التي لا تنقصها الرومانسية وسعة الخيال.
ومنذ تسعينات القرن الماضي انتعش الطلب مجدّدا على لوحاته في وقت أعيد الاعتبار للفنّ الأكاديمي ورموزه الكبيرة.
والحقيقة أن لوحات سينياك كلها جميلة وتروق للعين، ما يجعل اختيار واحدة منها بالذات أمرا في غاية الصعوبة. والمشكلة الأكبر تتمثّل في أن معظم لوحاته عارية. وحتى في اللوحات الأقل عُريا، عمد الرسّام إلى إلباس نسائه ثيابا شفّافة تكشف عن مفاتنهن أكثر مما تستر.
لكنْ، والتزاما بنهج المدوّنة، استقرّ الاختيار على هذه اللوحة رغم أنها ليست أشهر أعمال الرسّام.
اللوحة تصوّر امرأة شابّة تجلس في حالة تأمّل وسط طبيعة خضراء. ويبدو أن المرأة بانتظار الإلهام الذي يأخذ هيئة ملاك صغير بجناحين وملامح بريئة. الملاك يجلس على الطرف العلوي للكرسي الذي تجلس عليه المرأة، بينما يوشوش في أذنها بكلمات قد تكون المفتاح الذي يساعدها على رسم لوحة أو كتابة قصيدة ما.
وجه المرأة ذو ملامح جميلة تذكّرنا بالجمال المثالي الذي كان الرسّامون يستقونه من النماذج الرومانية واليونانية القديمة.
الألوان هنا دافئة ومتناغمة، والخطوط ناعمة، والملابس المنسدلة مرسومة بطريقة غاية في البراعة والرقّة.
وممّا يلفت الانتباه في اللوحة أيضا الأسلوب المتناسب الذي رسم به الفنّان الكتفين وانثناء الجسد وميلان الرأس قليلا إلى اليسار.
اللوحة ذات لمسة رخامية ناعمة. ويبدو فيها واضحا تأثر سينياك بأسلوب مواطنه الرسّام نيكولا بوسان وبرسّامي عصر النهضة الايطالي الذين كانوا يولون أهمية كبيرة للتوليف المتناغم والتوازن الدقيق والمحسوب بين الخطوط والألوان والظلال.
غير أن بوغورو يظلّ الحاضر الأكبر في كلّ تفصيل وفي كلّ ضربة فرشاة، بل وحتى في الفكرة التي تتناولها هذه اللوحة.
لوحات سينياك الأخرى تصوّر، هي أيضا، نساءً صامتات أو متأمّلات في طبيعة زهرية لا تخلو أحيانا من صور لنوافير وكراسي وأباريق من الرخام.
ومن الملاحظ انه أعطى بعض نسائه شيئا من ملامح نساء ميكيل انجيلو، غير انه وضعهم في قلب الطبيعة كأنما ليخلّد جمالهم الشائك والمثالي.
بعض مناظر سينياك تنطق بالبراءة. وبعضها الآخر لا يخلو من فتنة وغواية.
وربّما لهذا السبب، هي تروق للتقليديين والحداثيين على حدّ سواء.
فكرة التأمّل والإلهام في الرسم تعود إلى نهايات القرن التاسع عشر ونهايات القرن العشرين.
في ذلك الوقت كان الرسّامون يركّزون على الأفكار والانفعالات الذهنية المختلفة كالتأمّل والصمت والإلهام والتذكّر والعزلة وغيرها من الحالات التي تتناول المسائل العاطفية والروحية.
وأحيانا كانت رسوماتهم مرتبطة بتأثيرات دينية أو شعرية أو فلسفية.
وكان بعض الأدباء والفلاسفة يعتقدون بأن التأمّل في الوجوه الخفيّة للحياة هو أساس الوعي والإبداع.
وبعضهم كان يرى أن الفنّ بحدّ ذاته هو نوع من التأمّل الذي يمتّع العقل ويثري الحواسّ. كما أن الأعمال الفنية العظيمة ليست سوى نتاج للتأمّل الذي يفضي بدوره للإلهام ومن ثم الإبداع.
ومن أشهر فنّاني تلك الحقبة ممن صوّروا التأمّل والعزلة في رسوماتهم كلّ من ويليام همرشوي واوديلون ريدون وغيرهما.

Tuesday, September 15, 2009

لوحات عالميـة - 210

إنسـان فيتـروفيـوس
للفنان الإيطالي ليــونــاردو دافـنـشـي، 1487

هذه اللوحة مهمّة جدّا، ليس فقط لأننا اعتدنا رؤيتها في الكثير من الأماكن، وإنما لأنها أيضا ترمز إلى امتزاج الفنّ بالعلم خلال عصر النهضة، كما أنها توفّر دليلا آخر على عبقرية دافنشي وتنوّع مشاغله واهتماماته.
في اللوحة يصوّر ليوناردو رجلا عاريا في وضعين عموديين متداخلين، بينما تبدو ذراعاه وساقاه في حالة تماسّ مع محيط مربّع ودائرة. وفي أعلى اللوحة وأسفلها سجّل الرسّام بعض الملاحظات التي أراد من خلالها أن يشرح ما قصده من اللوحة.
وعلى الرغم من بساطة الشكل المرسوم فإنه أصبح مع مرور الأيّام احد أشهر الأعمال التشكيلية وأوسعها انتشارا. وكثيرا ما تُستدعى اللوحة عند الحديث عن مواضيع مثل التناغم الداخلي والشفاء الذاتي من خلال اليوغا والتأمّل.
وليس بالمستغرب أن يكون للّوحة هذا الظهور الدائم والمتكرّر في الإعلانات وعلى شعارات المراكز والنوادي الصحّية.
والأساس الذي بنى عليه دافنشي موضوع اللوحة هو فكرة وردت في كتاب للمهندس المعماري الروماني ماركوس فيتروفيوس الذي عاش في القرن الأوّل قبل الميلاد.
كان فيتروفيوس، بالإضافة إلى اشتغاله بالهندسة المعمارية، مهتمّا بالفلسفة وبالأمور الروحانية. وكان يتبنّى فكرة تقول بالتكامل بين شكل الجسد الإنساني والبنى المعمارية. كما كان ميّالا إلى استخدام مصطلحات معمارية لوصف جسم الإنسان، مؤكّدا على أن العمارة الجيّدة ليست في واقع الأمر سوى استمرار لقوانين الطبيعة.
ولطالما اعتبر فيتروفيوس جسم الإنسان نموذجا للكمال وأن شكل أطرافه يتفق مع الأشكال الهندسية الكاملة، أي الدائرة والمربّع.
فلسفة فيتروفيوس وأفكاره الهندسية لاقت رواجا واسعا خلال عصر النهضة الإيطالي. وقد طُبّقت مبادئه وأفكاره في تصميم الكنائس التي روعي في بنائها الأشكال الدائرية، باعتبار أن الدائرة مرتبطة بالقداسة وباكتمال الخَلق وإحكامه. وهو ما كان يقول به فيتروفيوس وغيره من فلاسفة الرومان القدماء.
وكانت تلك الأفكار مصدر إلهام للكثير من الرسّامين. وقد حاول ليوناردو من خلال هذا الرسم المنفّذ بالحبر الأسود توضيح عنصري التكامل والسيميترية اللذين تحدّث عنهما الرومان في العلاقة بين المعمار وجسم الإنسان.
وما ساعد ليوناردو على إتمام هذه المهمّة براعته ومعرفته الواسعة بالتشريح والهندسة المعمارية. واللوحة تعبّر عن فهم الفنان للعلاقة الوثيقة بين الإنسان والطبيعة. إذ كان دافنشي يعتقد بأن وظائف جسم الإنسان تشبه كثيرا وظائف الكون وتتكامل معها. كما كان يرى في المربّع رمزا للوجود المادّي وفي الدائرة رمزا للوجود الروحي. ولعلّه أراد من خلال اللوحة أيضا أن يؤكّد على العلاقة القويّة والمتبادلة بين هذين العنصرين.
من المعروف أن فيثاغوراس، أيضا، تبنّى أراءً قريبة ممّا قال به فيتروفيوس ودافنشي. كان يرى، مثلا، أن الدائرة مرتبطة بالسماء وبالكواكب التي تدور حول الأرض؛ ما يعطيها، أي الدائرة، رمزية روحية. وهذا ما يفسّر اهتمام الناس بتوظيف الأشكال الدائرية في بناء المعابد والكنائس وغيرها من دور العبادة. بينما المربّع مرتبط بالعالم المادّي، فهناك أربعة فصول وأربعة عناصر وأربعة اتّجاهات.. إلى آخره.
كما كان فيثاغوراس يعتقد أن الرموز والتجريدات الرقمية تشكّل أساسا لفهم العلاقة بين الإنسان والكون، وأن فهم هذه العلاقة بشكل أفضل لا يتحقّق إلا من خلال التأمّل والغذاء النباتي والتمسّك بأهداب الأخلاق والفضيلة.
الغريب أن فيثاغوراس عاش في نفس الفترة التي عاش فيها بوذا. وكلاهما كان معنيا بمسائل التأمّل والتطهير والتقمّص والطبيعة المزدوجة للإنسان.
الجدير بالذكر أن ليوناردو دافنشي لم يكن الرسّام الوحيد الذي حاول تصوير العلاقة بين الإنسان والكون. فقد جاء بعده فنّانون حاولوا تقليد هذه اللوحة والنسج على منوالها، ومن أشهرهم الرسام وليام بليك والنحّات أندرو ليستر.

موضوع ذو صلة: نظرية التطوّر بين داروين ودافنشي

Thursday, September 03, 2009

لوحات عالميـة - 209

من نحن؟ من أين أتينا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟
للفنان الفرنسي بـول غوغـان، 1897

يطرح غوغان في هذه اللوحة ذات الاسم الطويل ثلاثة أسئلة تختزل حيرة الإنسان وقلقه الوجودي وعجزه عن فهم الحياة.
كان الفنّان الفرنسي كان قد قضى جزءا من حياته في جزيرة تاهيتي حيث كان يعكف على رسم النساء الهنديات وتصوير مظاهر الحياة البدائية هناك.
وقد عُرف عنه أنه كان مثالا للفنان البوهيمي الذي عاش حياته طولا وعرضا ولم يؤمن يوما بسلطة التقاليد أو الأعراف الاجتماعية.
وطوال حياته، كان غوغان دائم السفر والتنقّل، ولم يهدأ أو يستقرّ أبدا. وقد أصبح نموذجا للفنان المتجوّل وحيدا والذي لا يتردّد في التضحية بحياته في سبيل فنّه.
غادر غوغان مجتمع المدنية الحديثة في باريس وأخذ طريقه وحيدا نحو البحار الجنوبية النائية بحثا عن الجنّة التي تغذّي روحه وتثري خياله وتروّض جموح نفسه الثائرة.
وقد وجد بغيته في تاهيتي. كانت تلك الجزيرة قد اكتُشفت على أيدي البريطانيين في القرن الثامن عشر. وفي نهاية القرن التاسع عشر أصبحت هي وغيرها من جزر بولينيزيا أرضا فرنسية.
وكانت تأثيرات الثقافة الغربية قد بدأت بتقويض التقاليد القديمة لسكّان تلك الجزر من هنود الماوري. لذا عندما وصلها غوغان، كانت قد فقدت جزءا من سحرها وبراءتها وصورتها الفردوسية التي طالما ارتسمت في مخيّلته.
ويقال إن غوغان حاول في إحدى المرّات الإقدام على الانتحار. حدث هذا قبيل رسمه هذه اللوحة التي يعتبرها الكثيرون تحفته الفنّية بلا منازع.
كان يعاني من تدهور حالته المادّية. وقد ساءت أموره أكثر بعد أن رفض مساعدة الحكومة له على أساس انه لا يقبل صدقة من أحد.
وفي الوقت نفسه كان الرسّام يعاني من آثار الإدمان على الكحول ومن إصابته بمرض الزهري الذي انتقل إليه على الأرجح أثناء إقامته في جزر المارتينيك.
غير أن الحدث الذي كان له تأثير مدمّر عليه كان موت ابنته وهي في سنّ الحادية والعشرين. وما زاد معاناته أكثر اتهام زوجته له بأنه وراء ما حدث بسبب تخلّيه عن واجباته تجاه بيته وعائلته.
وقد صُدم الفنان كثيرا بموت ابنته. ولم يلبث أن أعلن انه لم يعد بحاجة إلى الله وفقد اهتمامه كلّيا بالدين وأصبح يميل إلى الأفكار الفلسفية المتشائمة.
في سياق هذه الظروف رسم غوغان هذه اللوحة الضخمة التي هي أشبه ما يكون بشرح لنظرية التطوّر. إلى أقصى يسار اللوحة نرى مومياء قديمة تغطي أذنيها بيديها. وخلفها آلهة زرقاء من الحجر تشبه ملامحها آلهة الهنود.
والى أقصى اليمين ينام طفل على الأرض قد يكون أراده رمزا للحياة والبراءة. وعلى مقربة منه تجلس ثلاث نساء تاهيتيات.
وفي منتصف اللوحة من الأمام يظهر رجل شابّ وهو يقطف الفاكهة التي قد تكون رمزا لقصّة آدم وحوّاء. وعلى الأرض قطط وكلاب وطيور ونساء.
والمشهد كلّه يشي بنوعية حياة لا مكان فيها سوى للبدائية والبساطة.
ومن الواضح أن غوغان في هذه اللوحة، كما في لوحاته الأخرى، يتعامل مع البراءة والبدائية باعتبارهما الملاذ الوحيد أمام الإنسان للإفلات من قبضة الألم والمعاناة.
المكان الذي تصوّره اللوحة يجسّد جمال الطبيعة الاستوائية، حيث الشمس المتوهّجة والألوان الساحرة التي طالما جدّ غوغان في البحث عنها.
في اللوحة مجموعات من الناس وكلّ واحدة منهمكة في نشاط ما. في الخلفية يبدو نهر صغير ازرق لامع يمرّ عبر الغابة وجبال تلوح من بعيد وقد كساها ضباب خفيف. وإلى أقصى اليسار سيّدة عجوز تبدو وكأنها على وشك الموت، أي نقيض ما توحي به صورة الطفل في الجهة المقابلة من اللوحة عن الولادة واستمرارية الحياة.
وقد استوحى غوغان هيئة العجوز من تمثال محنّط جيء به من بيرو وشاهده في احد متاحف باريس.
كان غوغان دائم البحث عن الجمال النقي ليصوّره بأسلوب بدائي ألهم في ما بعد بيكاسو وترك أثره على ماتيس.
وقد كشف ذات مرّة أنه اعتمد في رسم الأجساد العارية في لوحاته على صور لأشخاص في معبد بوذا العظيم في اندونيسيا. وكان قد اشترى تلك الصور من باريس في إحدى السنوات واحتفظ بها معه بقيّة حياته.
هذه اللوحة تدعو الناظر إلى أن يتأمّل معنى الحياة من خلال الرموز التي وضعها الفنان فيها.
وهي تذكّرنا بلوحات أخرى تعالج نفس هذه الفكرة وتطرح تساؤلات وجودية وفلسفية عن كنه الحياة ومعنى الوجود، مثل رحلة الحياة لـ توماس كول ورقصة الحياة لـ إدفارد مونك.
ولوحات غوغان كلّها، تقريبا، تتناول الانفعالات والتأمّلات المتعلقة بالوجود الإنساني.
وفي بعض لوحاته تلك، ترتسم على وجوه النساء نظرات خالية من أيّ شعور أو عاطفة وكأنها انعكاس لنظرة الفنان نفسه المتشكّكة والحائرة.
بعد أن أكمل غوغان رسم هذه اللوحة، كتب إلى احد أصدقائه يقول: إنني متأكد أنني لن أرسم لوحة أفضل من هذه، ولا حتّى مثلها".
وبعد ذلك بأربع سنوات توفي إثر أزمة قلبية وهو في سنّ الرابعة والخمسين.
كان غوغان ينتمي لعائلة من الطبقة الوسطى. والده كان صحافيا وأمّه تنتمي إلى عائلة ارستقراطية تعود جذورها إلى بيرو بأمريكا الجنوبية.
ورغم أن غوغان مات فقيرا ومريضا ولم يحصل على التقدير الذي كان يستحقه في حياته، فإن لوحاته تباع اليوم بالملايين.
ومؤخّرا بيعت لوحته المسمّاة الأمومة بأكثر من تسعة وثلاثين مليون دولار أمريكي.

Friday, August 28, 2009

لوحات عالميـة - 208

انتصــار المــوت
للفنـان الهولندي بيـتر بـريغــل الأبّ، 1562

أينما نظرت في هذه اللوحة، لا تجد سوى الموت. ولهذا السبب تُصنّف على أنها إحدى أفظع الصور في تاريخ الفنّ التشكيلي.
في هذا المشهد البانورامي الضخم نرى جيشا من الهياكل العظمية وهي تشقّ طريقها وسط إحدى المدن. الهياكل رمز للموت الذي يصطاد الأحياء ويقتلهم بلا تمييز ودون شفقة أو رحمة.
حتى التفاصيل الطبوغرافية للمكان لا تشي سوى بالموت والخراب: النهر، الشاطئ والنيران المشتعلة في البحر.
ووسط هذه الفوضى العارمة، يحاول الناس المذعورون الهرب بينما يقرّر بعضهم أن يقاتل، لكن بيأس.
التفاصيل في اللوحة كثيرة جدّا. ويخيّل للناظر أن الرسّام عاجز عن مواكبة الرغبة الهائلة التي يبديها رسُل الموت في القتل والتدمير.
الحرب هنا ليست عادلة ولا متكافئة. ويبدو أن لا سبيل لوقف جيش الموت من التقدّم وحصد المزيد من الأرواح.
كما أن الجيش الغازي لا يميّز بين الضحايا ولا يفرّق بين ملك أو فلاح أو نبيل أو رجل أو طفل أو امرأة. فالجميع مستهدفون.
كما أن جيش الموت بارع في تنويع طرق القتل، من قطع الأعناق إلى الشنق والإغراق في الماء والصلب وحتى استخدام الخوازيق المنصوبة في الهواء.
الطبيعة شبه محروقة. وبالكاد نلمح وجودا لشجرة أو نبات أو أي شيء يدلّ على حياة. وتبدو السفن مشتعلة أو غارقة في الميناء بينما ترتفع أعمدة الدخان من الأبراج التي تلوح من بعيد.
وبعض التفاصيل في اللوحة تعمّق الحضور الموحش والمشئوم للموت وتكرّس الإحساس باليأس الذي يثيره المنظر. التوابيت، أكداس العظام والجثث الملقاة على الأرض، الكلاب الضالّة التي تنهش الجثث، الهياكل التي تقود عربة محمّلة بالجماجم والشخص الذي يعزف الموسيقى وهو غير منتبه لما يجري.
ثم هناك الغرفة المستطيلة والغريبة الشكل إلى يمين اللوحة حيث يُحشر بداخلها الناس إلى حتفهم. ولا يبدو أن الصُلبان المرسومة حولها تقدّم وعدا بالخلاص أو البعث على نحو ما تبشّر الأفكار المسيحية.
ويُحتمل أن بريغل عمد إلى رسم الرموز الدينية في اللوحة لكي يضفي على المنظر إحساسا بالسخرية والعدمية وكأنه يقول أن لا مكان للحديث عن الدين والخلاص وسط كلّ هذه الوحشية والبشاعة.
لا يُعرف على وجه التحديد السبب الذي دفع بريغل إلى رسم هذه اللوحة.
لكنّ الثابت أن الرسّام عاش في عصر اتسم بكثرة الحروب والحملات العسكرية. وقبل ذلك شهدت أوربّا ذروة اشتداد المعارك والكراهية بين الكاثوليك والبروتستانت.
وهناك من يربط موضوع اللوحة بحادثة اكتساح جيوش اسبانيا للأراضي الهولندية وبالمناخ السياسي المتوتّر في أوربّا الذي سبق نشوب ما عُرف بحرب الثمانين عاما.
غير أن ثمّة من يقول إن اللوحة يمكن أن تكون تصويرا لأجواء الاضطراب الاجتماعي والرعب الذي أعقب انتشار مرض الطاعون القاتل في أجزاء واسعة من أوربّا أثناء القرون الوسطى.
بشاعة اللوحة منحت بريغل قدرا اكبر من الذيوع والشعبية في زمانه. رغم انه جاءت بعده حروب كثيرة ارتكبت فيها مجازر وفظائع اشدّ وأقسى مما صوّره في هذه اللوحة.
الموت، كفكرة دينية وفلسفية، كان موضوعا مفضّلا للكثير من الرسّامين لقرون عديدة.
في القرون الوسطى، كانت معدّلات الحياة أقصر مما هي عليه اليوم بسبب كثرة الحروب وانتشار الأوبئة والأمراض المعدية كالكوليرا والطاعون. ولهذا السبب ازدهرت الرسومات الدينية التي كانت تربط الموت بالدين.
وغالبا ما كانت هذه الرسومات تُعلّق في الكنائس والأديرة كنوع من العزاء والسلوى لجمهور المؤمنين ولتذكيرهم بالآخرة.
وفي بعض الأحيان كان الموت يأخذ شكل رجل يمتطي حصانا ذا هيكل عظمي. كما يظهر أحيانا ممسكا بمنجل مقوّس أو سيف وترس ويداه ممدودتان في إشارة إلى انتصاره على البشر.
وفي بعض اللوحات التي تعود إلى تلك الفترة يظهر الموت على هيئة امرأة بوجه شبحي وملابس سوداء.
وهناك نوع آخر من الرسومات التي تصوّر ملاك الموت على شكل امرأة شابّة لها جناحان ووجه تكسوه تعابير الرقّة والشفقة.
ومن أشهر الرسّامين الذين تناولوا الموت في أعمالهم ألبيرت ديورر وهيرونيموس بوش وإيغون شيلا وإدفارد مونك وألبرت رايدر وإيفلين دي مورغان.

Wednesday, August 26, 2009

لوحات عالميـة - 207

الكــلــب
للفنان الإسباني فرانشيسـكو دي غــويا، 1823

لا بدّ وأن معظمنا سمع باللوحات السوداء التي رسمها الفنان الاسباني دي غويا على جدران منزله قبيل وفاته.
كان غويا في تلك الفترة يمرّ بأقسى مراحل حياته. وكان قد فقد زوجته وأولاده جميعا ووقع فريسة الاكتئاب والصَمَم والرؤى السوداء.
وقد بدأ رسم اللوحات السوداء، وعددها 14 لوحة، في مطلع العام 1819 وضمّنها صورا لكوابيس وساحرات وأشباح ومناظر مرعبة توّجها بلوحته المشهورة والمزعجة "ساتورن يفترس أبناءه".
هذه اللوحة واسمها "الكلب" هي إحدى أشهر تلك اللوحات، وأحد أكثر الأعمال غموضا في تاريخ الرسم العالمي.
"الكلب" تصوّر طبيعة كئيبة ذات لون اصفر وبنّي يتوسّطها صورة لكلب لا يظهر منه سوى رأسه.
ما قصّة الكلب؟ وما دلالته؟ وهل الصورة استعارة لشيء أو فكرة ما؟
لا أحد يعرف الإجابة على وجه التأكيد. وما تزال اللوحة تثير الكثير من التفسيرات والقراءات المختلفة والمتناقضة.
في الكوميديا الإلهية يتحدّث دانتي عن كلب يقود أرواح الخاطئين والعصاة من بني البشر إلى حيث نار الجحيم والعذاب الأبدي. وثمّة احتمال بأن تكون القصّة أوحت لـ غويا برسم هذا المنظر الغريب والمحيّر.
وربّما أراد من وراء صورة الكلب الوحيد والغامض أن تكون رمزا لحالة الوحدة والمعاناة التي كان يعيشها في تلك المرحلة الصعبة من حياته.
لكن هناك تفسيرات أخرى أكثر إثارة للاهتمام. الكلب في اللوحة يبدو خائفا مذعورا كما لو انه تُرك وحيدا في هذا المكان المقفر الموحش.
إنه يغرق شيئا فشيئا في الرمال المتحرّكة ويحدّق في الفراغ إلى أعلى بيأس وفي عينيه نظرات قلقة ومثيرة للشفقة.
وهناك احتمال أنه عالق وغير قادر على انتزاع نفسه أو انه يحاول أن يحمي نفسه ويتقي خطرا قادما من أعلى قد يكون عاصفة أو طوفانا.
فقط رأسه هو الظاهر في الصورة فيما بقيّة جسمه مغمور. ومن الواضح أن الكلب مجرّد من أي إحساس بالحركة أو الفعل؛ الأمر الذي يوحي بأن فرص الهرب أو النجاة أمامه ضئيلة ومحدودة.
ولا يبدو في المشهد ما يشير إلى بقعة أو مكان ما يمكن أن يوفّر له ملاذا من العالم الخطير الذي يطبق عليه من فوقه ومن تحته.
وقد يكون الكلب جريحا وينتظر الموت. الموت الذي ينتظر الرسّام أيضا.
وربّما كان غويا يرى في الكلب انعكاسا لحالته هو. فالكلب يبدو هنا وكأنه يقاتل ضدّ التيّار. غويا، أيضا، كان دائم السباحة عكس التيّار قبل أن تنهكه متاعب اسبانيا ومشاكلها الكثيرة.
ويُحتمل أن يكون الفنان أراد أن يكون الكلب تجسيدا لحالة اسبانيا في ذلك الوقت والتي كانت تنجرف باتجاه الهاوية بفعل قوى لم يكن ممكنا كبحها أو السيطرة عليها.
بعض النقاد يرون أن اللوحة تدلّ على قوّة البساطة في التعبير. وهناك من وصفها بأنها أجمل لوحة في تاريخ الفنّ العالمي.
الرسّام المشهور خوان ميرو طلب قبل أن يموت أن يذهب إلى متحف برادو في مدريد ليرى لوحتين فيه للمرّة الأخيرة: الأولى وصيفات الشرف لـ فيلاسكيز والثانية لوحة غويا هذه.
رسم غويا اللوحات السوداء بعد مرضه الخطير عام 1819. وقيل انه رسمها مدفوعا بيأسه من الحرب وبمعاناته النفسية جرّاء إصابته بالصَمَم الكامل.
وقد أطلق عليها المؤرّخون هذا الاسم لطغيان اللون الأسود عليها. غير أنها أيضا تعكس مزاج غويا المظلم وتشاؤمه وحالته العقلية في تلك الفترة.
اللوحات بوجوه أشخاصها المشوّهة وأجسادهم المعذّبة تتضمّن سخرية فاقعة من الحياة وخيبة أمل كبيرة من البشر. كما أنها تمثل قطيعة مع أعمال الفنان المبكّرة التي اتسمت بمواضيعها المرحة وبنظرتها المتفائلة للحياة.
في إحدى اللوحات السوداء واسمها "ليل الساحرات أو التيس العظيم" يرسم غويا الشيطان في هيئة تيس ضخم له قرون طويلة ويرتدي زيّ كاهن وقد وقف يعظ جمعا من أتباعه الذين تظهر على ملامحهم تعابير الصدمة والهلع. هذه اللوحة قد لا تبدو مخيفة كثيرا لكنها مزعجة بأجوائها الكابوسية والمقبضة.
وفي لوحة أخرى بعنوان "الحجّ إلى سانت إيزيدرو" يرسم الفنان مجموعة من الكهّان الذين يمشون بلا هدف أو غاية ويرفعون أصواتهم بالإنشاد وسط طبيعة سوداء قاحلة. هنا أيضا تبدو تعابير الأشخاص في حال من الجزع والهوس والكرب. ويقال إن هذه اللوحة تتضمّن انتقادا مبطّنا لرجال الكنيسة بدليل الطريقة الغريبة التي رُسم بها الرهبان.
وفي لوحة "العجوزان" يرسم غويا شخصين أحدهما بهيئة عجوز له لحية طويلة وإلى جواره شخص ذو ملامح شرّيرة وقد راح يصرخ في أذن العجوز. وهناك نظرية تقول إن العجوز هو غويا نفسه والرجل إلى جانبه هو شيطان إلهامه الذي يتعيّن عليه من الآن أن يصرخ بعد إصابة الفنان بالصمم.
وفي لوحة "المنازلة" نرى رجلين يتعاركان بالهراوات الثقيلة وقد انغرزت أقدامهما في الرمل. الصراع هنا يبدو حقيقيا. انه قتال حتى الموت ولا سبيل لحسمه إلا بموت احد الرجلين. وفي هذا إشارة ضمنية إلى الحرب الأهلية.
اللوحات السوداء ظلّت دائما عرضة للتأويلات والتفسيرات المتناقضة. وقيل إنها محمّلة بمعانٍ ومضامين فلسفية ورمزية. وقد ثبت في ما بعد وعلى عكس التصوّر السائد، أن غويا لم يرسمها عفو الخاطر بل حضّر لها جيّدا وعمل لها اسكتشات عديدة ولم يكن اهتمامه بها اقلّ من اهتمامه بلوحاته الأولى.
بعد أن أتمّ غويا رسم اللوحات السوداء غادر اسبانيا قاصدا مدينة بوردو الفرنسية التي بقي فيها حتى وفاته. وانتقل بيته الذي يضمّ تلك اللوحات من مالك لآخر إلى أن استقرّ في عهدة احد البارونات الذي أمر بنقل اللوحات الجدارية إلى الورق قبل أن يتبرّع بها لمتحف برادو الذي ظلّت فيه إلى اليوم.

موضوع ذو صلة: غويا ودوقة ألبا