العـاصفــة
للفنان الإيطالي جـورجيـونـي، 1505
هناك شبه إجماع بين مؤرّخي الفنّ على اعتبار هذه اللوحة الأكثر غموضا والأكثر إثارة للنقاش والجدل في جميع الأوقات.
وقد ألّف عنها العديد من الكتب والدراسات التي حاول بعضها فكّ رموزها الخفيّة. كما تباينت القراءات والتفسيرات الكثيرة التي تناولتها.
اللورد بايرون الذي عُرف عنه ازدراؤه للرسم، كانت هذه لوحته المفضّلة وقد خصّص إحدى قصائده للتغنّي بالجمال الفاتن للمرأة في اللوحة.
وبرغم غموض اللوحة واستعصائها على أيّ تفسير، فإنه يمكن القول إنها عبارة عن رحلة شاعرية في عالم الطبيعة المثالية واستذكار للمناظر الرعوية التي ارتبطت بروما وباليونان القديمة.
تفاصيل اللوحة تشبه الحلم. وأهميّتها الحقيقية تكمن في المزاج الذي تصوّره. ولعلّ هذا يفسّر افتتان الكثير من الشعراء والأدباء والفلاسفة بها.
"العاصفة" تصوّر طبيعة قديمة يجري في وسطها جدول ماء صغير. وعلى حافّة الجدول، إلى اليسار، يقف رجل يرتدي ملابس رسمية ويمسك بيده رمحا طويلا. بينما تجلس على الجهة المقابلة امرأة ترضع طفلا.
الرجل يبدو بهيئة تشبه هيئة الجنود. وقفته بطولية وواثقة، بينما ينظر باتجاه المرأة وطفلها.
المرأة تبدو عارية جزئيا. ملامحها هادئة ونظراتها وقورة. وعلى العكس من الرجل الذي تحجب الظلمة جانبا من وجهه، فإن وجه المرأة واضح المعالم بسبب تأثير الضوء في ذلك الجزء من اللوحة. غير أنها لا تنظر إلى الرجل وإنما إلى المتلقي أو الناظر. وأسفل منها، على طرف الجدول، تظهر أغصان شجرة صغيرة يبدو أن وظيفتها حجب جزء من جسد المرأة.
وفوق، في السماء، تلوح غيوم ثقيلة سوداء ينبثق من خلالها وميض برق، ما يعطي انطباعا بأن الطقس مضطرب وعاصف.
منظر السماء يوحي بالعاصفة المقتربة التي قد تكون نذير شؤم. لكن من الواضح أن الرجل والمرأة لا يعلمان شيئا عن العاصفة الوشيكة أو أنهما لا يباليان بها برغم التوتّر الذي توحي به خيوط البرق التي تلتمع في السماء فوقهما.
الطبيعة في اللوحة تذكّرنا بمناظر دافنشي. الألوان غنيّة ودافئة تعمّق الإحساس بشاعرية وحميمية المنظر.
كثرة الرموز في هذه اللوحة تفتح الباب أمام تفسيرات شتّى.
أحدها يقول إنها تتحدّث عن الثنائيات، الرجل والمرأة، المدينة والقرية، والأرض والسماء. إلى آخره.
البرق، برأي بعض النقاد، هو إشارة إلى قوّة الخالق. والرجل والمرأة هما نسخة عصرية من آدم وحوّاء بعد طردهما من الجنّة. والرضيع قد يكون طفلهما الأوّل قابيل.
وثمّة رأي يقول إن اللوحة يمكن أن تكون معادلا شعريا للعلاقة بين الإنسان والطبيعة. بينما يشير رأي آخر إلى أنها تتضمّن استعارات عن العناصر الأربعة والتناغم والخطيئة والخلاص والتزاوج بين السماء والأرض.
وهناك من قرأ هذا العمل استنادا إلى سياقات أسطورية ودينية متعدّدة.
غير أن احد أكثر التفسيرات إثارة للاهتمام ما نُسب إلى مؤرّخ ايطالي عندما قال إن موضوع اللوحة هو الطبيعة. والمرأة والرجل والطفل هم مجرّد عناصر. لكنهم ليسوا العناصر الأكثر أهمية في الطبيعة".
ورغم غموض اللوحة فإن كلّ شيء فيها واقعي وطبيعي. ويمكن القول إنها نموذجية في كلّ شيء. وهي في أبعادها وتوليفها ونسَبِها قريبة جدّا من الكمال.
وفي بعض الأوقات راجت نظرية تربط بين موضوع اللوحة وأشعار فرجيل. فقد كانت قصائد هذا الشاعر تُقرأ على نطاق واسع في فينيسيا زمن جورجيوني. وتتحدّث إحدى تلك القصائد عن شاعر راعٍ رأى في المنام امرأة عذراء تحمل بطفل. وقد رأى البعض في تلك القصيدة نبوءة وثنية عن مجيء المسيح.
ويقال إن "العاصفة" هي أوّل لوحة عن الطبيعة في تاريخ الرسم الغربي. كما أن اللوحة هي الوحيدة التي يجمع المؤرّخون على أن جورجيوني رسمها بالكامل.
وقد رسمها بناءً على تكليف من احد كبار مثقفي فينيسيا في حينه. ويظهر أن الفنان رسمها بهذه الطريقة كي يختبر ذكاء زبونه وقدرته على حلّ الإلغاز والغموض اللذين أودعهما فيها.
في ما بعد، أتى رسّامون كثر مشوا على خطى جورجيوني واستفادوا من شغفه بالإبهام والغموض ووظفوا ذلك في أعمالهم. ومن أشهر هؤلاء الفرنسي نيكولا بوسان.
جورجيوني صُنّف دائما على انه أكثر الرسّامين غموضا في تاريخ الفنّ. إذ لا يُعرف عنه الشيء الكثير باستثناء انه مات في سنّ مبكّرة وعمره لا يتجاوز الرابعة والثلاثين.
وكان احد روّاد رسم المناظر الطبيعية المستوحاة من الماضي والتي تصوّر الرعاة والقطعان وهي تسرح في الحقول.
ويغلب على لوحاته الطابع الرومانسي. وقد تكرّس هذا الطابع في شخصيّته هو عندما أحبّ امرأة كانت مصابة بالطاعون. ومع ذلك اختار أن يظلّ إلى جانبها وأن يموتا معا في النهاية.
"العاصفة" قد تعني أيّ شيء: نبوءة، حلم يقظة، فانتازيا أو رؤيا داخلية.
وقد لا تعني شيئا على الإطلاق.
لكنها تظلّ "قصيدة" جورجيوني الأشهر برغم غموضها الممتع والمحيّر.
موضوع ذو صلة: عاصفة جورجيوني.. قراءة مختلفة