Tuesday, December 04, 2007

لوحات عالميـة – 152‏

شمشــون و دليـلــة
للفنان الهولندي بيتـر بـول روبنــز، 1610

كلف نيكولاس روكوكس صديقه الفنان روبنز برسم لوحة تتّخذ من قصّة شمشون ودليلة موضوعا لها كي يعلّقها في منزله.
وشمشون، حسب ما تذكر الأساطير، كان بطلا يهوديا يقال انه كان يتمتّع بقوى وقدرات جسدية خارقة.
وتذكر الروايات الانجيلية أن ملاكا ظهر لامّه قبل أن يولد وأخذ عليها عهدا بأن تحسن تربيته فتمنع عنه الخمر ولا تطعمه إلا الغذاء الطيّب وأن لا تقصّ شعر رأسه أبدا.
ويقال إن شمشون كان يصارع أعداءه فينتصر عليهم لوحده مهما كان عددهم وعدّتهم. وتروي بعض القصص كيف انه صارع سبعا ضخما فصرعه، وكيف اقتلع بوابّات مدينة محصّنة بيديه العاريتين، وكيف أباد جيشا بأكمله وليس معه من سلاح سوى عظمة حيوان ميّت! إلى آخر تلك القصص الغريبة.
وقد حاول أعداء شمشون مرارا القبض عليه أو قتله، غير أنهم لم يستطيعوا.
لكن سقوط شمشون تحقّق عندما وقع في حبّ امرأة جميلة تدعى دليلة. وقد رشا أعداؤه المرأة كي تساعدهم في معرفة مصدر قوّته ومن ثم تمكينهم من السيطرة عليه.
وفي إحدى الليالي وبعد عدّة محاولات من المرأة، كشف لها سرّ قوّته المتمثل في شعره الذي لم يقصّ أبدا.
واللوحة تصوّر هذا الجزء من القصّة.
وفيها نرى شمشون بلحيته السوداء وجسده القويّ راقدا في حضن دليلة في ما يبدو وكأنه نهاية ليلة غرامية طويلة.
صدر المرأة ما يزال مكشوفا وعيناها نصف مغمضتين، بينما انهمك شخص بقصّ شعر شمشون النائم على ضوء شمعة تحملها امرأة عجوز.
وفي الخلفية يظهر تمثال لفينوس وكيوبيد في إشارة إلى أن الحبّ كان السبب في المصير البائس الذي انتهى إليه شمشون.
وعلى الباب، إلى يمين اللوحة، وقف بعض الجند حاملين الشموع وقد ظهرت على وجوههم علامات الحماس والترقّب انتظارا لما سينجلي عنه الموقف.
المشهد يحمل لمسة درامية واضحة . وشكل الإضاءة وألوان الملابس والسجّاد ذو النقوش الشرقية والستائر المسدلة على الجدار وملامح الوجوه وانعكاسات اللحم العاري، كلها عناصر تعطي انطباعا بعمق الإحساس بدراماتيكية اللحظة ومصيرية الحدث.
مما يلفت الانتباه أيضا في اللوحة غموض ملامح المرأة، وليس واضحا هنا ما إذا كانت نظراتها تعبيرا عن الشعور بالانتصار أو الشفقة.
بعد أن ُقصّ شعر شمشون تلاشت قوّته وتمكّن أعداؤه من السيطرة عليه واعتقاله. ثم قاموا بعد ذلك بوضعه في السجن بعد أن سملوا عينيه.
وبعد فترة، أخذ للعمل كمهرّج خلال احتفال للإله داغون. في ذلك اليوم كان المعبد ممتلئا بالناس. ولم يفطن أعداء شمشون إلى أن شعره قد نما وعادت إليه قوّته مرّة أخرى.
وقد طلب من الخادم الذي كان يلازمه أن يجلسه في وسط المعبد. وعندما وصل إلى هناك وقف بين العمودين اللذين يسندان السقف وهزّهما بعنف ليتقوّض المعبد ويموت آلاف الناس تحت ركامه بمن فيهم شمشون الذي كان يردّد جملته المشهورة "عليّ وعلى أعدائي يا ربّ!".
قصّة شمشون ودليلة كانت وما تزال موضوعا للكثير من الأعمال التشكيلية والسينمائية والأدبية.
والدرس الذي تقدّمه القصّة هو أن جمال المرأة قد يكون أحيانا مصدر خطر مميت، وأن الرجل مهما كان قويّا فإن امرأة جميلة بإمكانها أن تروّضه وتعرف نقاط ضعفه وان تستغلّها إلى الحدّ الذي يمكن أن يتسبّب في شقائه وربّما نهايته، خاصّة إن كان الرجل من النوع الذي ينقاد للشهوة بسهولة.
بعض الروايات تقول إن دليلة كانت قد مشت في إثر شمشون محاولة خطب ودّه والتقرّب منه، غير أنه كثيرا ما كان يعرض عنها ويتجاهلها. لكنها بعد فترة أصبحت خليلة لأحد أعتى أعدائه.
وقد استخدمها هذا الأخير للإيقاع بخصمه اللدود. ولما عادت إلى شمشون كان قلبها يشتعل غيظا وحقدا عليه، تحدوها الرغبة العارمة في الثأر لكبريائها بالانتقام منه.
بعد وفاة روكوكس، مالك اللوحة الأصلي، ضمّت إلى مجموعة ليكتنشتاين في فيينا. وفي العام 1980 بيعت اللوحة إلى الناشيونال غاليري في لندن بمبلغ خمسة ملايين جنيه استرليني. ومنذ ذلك الوقت يثور الكثير من الجدل والتساؤلات حول اللوحة. وهناك من النقاد والمؤرّخين من يجادل بأن اللوحة الموجودة في الناشيونال غاليري اليوم ليست سوى نسخة مزيّفة عن اللوحة الأصلية التي رسمها روبنز منذ أربعمائة سنة.

موضوع ذو صلة: نساء خطرات

Sunday, December 02, 2007

لوحات عالميـة – 151‏

صباح الخير مسيو كوربيه
للفنان الفرنسـي غوستـاف كـوربيـه، 1854

ينقسم النقاد كثيرا حول غوستاف كوربيه. بعضهم يعتبره رسّاما موهوبا. والبعض الآخر يعزو شهرته وذيوع اسمه إلى نرجسيّته وفوضويّته. وثمّة من يزيد على ذلك بالقول إن كوربيه كان فنانا إباحيا ومستفزّا بل وعديم الحياء بدليل لوحتيه "النائمتان" و "أصل العالم".
لوحته "صباح الخير مسيو كوربيه" هي أشهر أعماله على الإطلاق. وقد بلغ من شهرتها أن العديد من الحركات الاشتراكية في العالم استخدمت اللوحة في أدبيّاتها واعتبرت مضمونها ترجمة للشعارات الاشتراكية العتيدة التي تدعو إلى المساواة والحرّية والعدالة.
في اللوحة يصوّر كوربيه حادثة لقائه مع الثريّ الفريد بروياس الذي ُعرف برعايته للفنون وتشجيعه للفنانين.
مكان المقابلة طريق ترابي في منطقة ريفية تحيطها الأشجار والمزارع الخضراء تقع على مقربة من منزل بروياس.
إلى اليمين يبدو كوربيه بمظهره البسيط حاملا أدوات الرسم فوق ظهره. وفي مواجهته يقف بروياس ذو المظهر الأنيق الذي يشي بمكانته وطبقته. وخلف بروياس يقف خادمه الذي يحمل عباءته وأشياءه الأخرى.
لغة الجسد في هذه اللوحة مهمّة ولها دلالاتها. فالرجل النبيل وخادمه يخلعان قبّعتيهما احتراما للرسّام الذي يبادلهما التحيّة بمثلها.
لكنّ كوربيه لا يتنّحى عن الطريق ولا يخفض رأسه بل يرفعه بطريقة مسرحية علامة الاعتزاز والثقة بالنفس، وكأنه يقول لبروياس: لست أنت السيّد وأنا بالتأكيد لست خادما عندك. صحيح أنني فقير لكني في النهاية لست بأقلّ شانا من النبلاء والأغنياء".
إن التفاصيل الصغيرة في هذه اللوحة لها أهميّتها. شكل القبّعات واللحى والعصي والأحذية وكذلك إيماءات الجسد، كلّها تحمل دلالات الطبقة التي ينتمي إليها كلّ شخص كما تتضمّن معاني السيادة والخضوع التي يفرضها التفاوت الاجتماعي في المنزلة والطبقة.
لكن كوربيه المتمرّد لا يعترف بهذا كله. لقد رسم نفسه على هيئة عملاق ضخم الجثة يشمخ برأسه في الهواء في مواجهة شخصين ضئيلي الحجم ولا حول لهما ولا قوّة.
انه يعتبر أن حادثة لقائه بالنبيل تستحقّ أن تسجّل وان يخصّص لها لوحة. وهو لا يأبه كثيرا بحقيقة أن بروياس يستطيع أن يوفّر له الدعم والرعاية أسوة بغيره من الفنّانين. وكلّ ما يهمّه هو أن يظهر نفسه في اللوحة بمظهر الرجل الفخور والمعتدّ بنفسه والمملوء ثورة وحنقا على التقاليد والأعراف الطبقية التي كانت سائدة في فرنسا في ذلك الوقت.
وإمعانا في الزهو والإعجاب بالذات، اختار للوحة هذا العنوان الغريب الذي يريد من خلاله أن يوحي بأن النبيل هو الذي بدأه بالسلام وليس العكس.
إن مضمون اللوحة قويّ ولا شكّ رغم بساطة خطوطها وخلوّها من الألوان المعبّرة، وإن كان تمثيل الظلال فيها ممّا يسترعي الاهتمام.
ممّا يؤثر عن كوربيه قوله لأحد أصدقائه: في مجتمعنا المتحضّر، من الضروري بالنسبة لي أن أعيش كشخص همجي. يجب أن أتحرّر حتى من الحكومات. إنني أتعاطف مع قضايا الناس ويجب أن أخاطبهم مباشرة".
إن احتقار كوربيه الواضح للطبقة البورجوازية كان احد مظاهر تمرّده على الكثير من قيود المجتمع وأعرافه المتوارثة.
وقد بلغ به التحدّي أن رسم لوحة ضخمة الحجم يصوّر فيها مراسم جنازة أحد أعمامه، وقد ملأ اللوحة بصور لأناس من الفقراء ومن عامّة الناس. ومثل هذا النوع من اللوحات الكبيرة والفخمة كانت تخصّص لتصوير الملوك وعلية القوم في ذلك الزمان.
في القرن التاسع عشر، أي زمن كوربيه، سادت الفكرة التي تنادي باستقلال الفنّان. وتزامن هذا مع ظهور البوهيمية التي جاءت كردّ فعل على تلاشي رعاية الدولة للفنون. وقد كان كوربيه جزءا من مجتمع من الكتّاب والموسيقيين والرسّامين الذين تبنوا الأفكار البوهيمية كأسلوب حياة، وكان يجمع بينهم الفقر وحبّ المغامرة والعصيان السياسي وكراهيتهم الشديدة للسلطة وللطبقة البورجوازية.
ولم يكن كوربيه يخفي تعاطفه مع الحركات الثورية التي كانت تنادي آنذاك بالإطاحة بالنظام الملكي. وفي ما بعد أصبح عضوا في اللجنة التي تولّت حكم باريس لفترة قصيرة في العام 1871 م. وبعد أن ُحلّت اللجنة عوقب على أنشطته السياسية بالسجن قبل أن ينفى إلى سويسرا.
اليوم ُينظر إلى غوستاف كوربيه كأحد المؤسّسين الأوائل للحركة الواقعية في الرسم، في زمن كانت السيادة فيه للأساليب الرومانسية والنيوكلاسيكية.

موضوع ذو صلة: صورة الفنّان عن نفسه