Saturday, March 03, 2018

لوحات عالميـة – 452

لاتـونا وطفـلاها أبوللـو وديـانا
للفنان الأمريكي وليـام هنـري راينهـارت، 1871

بفضل التكنولوجيا المتطوّرة المتاحة هذه الأيّام، أصبح باستطاعة النحّات أن يصنع أيّ شي، وذلك بخلاف ما كان عليه الحال في الماضي، أي قبل مئات السنين، عندما لم يكن هناك كمبيوتر ولا أدوات متطوّرة وكان النحّاتون يضطرّون للاحتفاظ في ورشهم بمساعدين يعهدون إليهم بمهمّة بناء منحوتاتهم قطعة قطعة.
قَطْع الرخام فنّ موجود منذ زمن الرومان. وقد جرت العادة أن يبدأ العمل بتفتيت كتل الرخام بواسطة الإزميل والمطرقة والمثقاب، ومن تلك النقطة تأخذ القطعة في التشكّل. والعديد من التماثيل الموجودة في المتاحف اليوم صُنع بعضها منذ آلاف السنين، ومع ذلك استطاعت أن تتحدّى أثار الحروب والصراعات وأن تصمد بوجه امتحان الزمن.
كان وليام هنري راينهارت احد آخر النحّاتين الأمريكيين الكبار الذين تبنّوا الأسلوب الكلاسيكيّ في النحت. وهو وغيره من النحّاتين الأمريكيين والأوربّيين من القرن التاسع عشر وجدوا في الأساطير الكلاسيكية موضوعات كثيرة مفضّلة. واتّسم العصر الذي عاشوا فيه بالاهتمام بقصص وأحداث الأزمنة القديمة، خاصّة مع انتشار الحفريات الكثيرة التي كشفت عن الكثير من فنون العصور الكلاسيكية.
وقد ذهب راينهارت إلى ايطاليا وأقام فيها سنوات طوالا كي يدرس ويتدرّب على أيدي كبار النحّاتين في روما وفلورنسا وغيرهما من مدن ايطاليا. وكانت ايطاليا وقتها المكان الأمثل الذي يمكن لأيّ فنّان واعد أن يعثر على راعٍ يدعمه وزبائن يقدّرون موهبته ويشترون أعماله. وكان من بين المعجبين بفنّه العديد من الأمريكيين والأوربّيين الذين كانوا يقصدون ايطاليا للسياحة. وقد تعاقد العديد من هؤلاء مع راينهارت على أن ينفّذ لهم مشاريع في أمريكا وأوربّا.
هذا التمثال هو احد أشهر منحوتات راينهارت، وفيه يصوّر لاتونا "أو ليتو بالإغريقية" إلهة الليل والأمومة الرومانية وهي تجلس مع طفليها التوأم ابوللو وديانا وتنظر إليهما بمحبّة وحنوّ.
تذكر الأساطير أن لاتونا حملت من زيوس كبير الآلهة بعد أن فتنه جمالها ثم وضعت طفليها التوأم على ارض جزيرة ديلوس. وقد انتهى دورها في الأساطير بعد ولادتها للطفلين.
من الأشياء اللافتة في هذا العمل النعومة الفائقة واللمعان الرائع اللذان نحت بهما الفنّان شخوصه، وتجسيده البديع لملابس الأمّ والوضعية المسترخية للطفلين النائمين ببراءة. وهناك أيضا الأسلوب الكلاسيكيّ الواضح والمحسوب الذي تعامل به النحّات مع وجه المرأة وملامحها وشعرها. ومن الواضح أنه في ترجمته للأسطورة تجنّب التفاصيل الكثيرة والنواحي العاطفية التي كان يفضّلها عادةً زملاؤه الآخرون.
عندما كبر ابوللو، أصبح واحدا من أهمّ آلهة الأوليمب. وفي الأساطير هو إله الموسيقى والحقيقة والنبوءات والشفاء والشعر والشمس والضوء والمعرفة، كما ارتبط اسمه بالملهمات السبع. وطبقا لهوميروس، لعب ابوللو دورا مهمّا في حرب طروادة، فقد سلّط الوباء على معسكر الإغريق وساعد باريس على قتل البطل أخيل.
أما ديانا فقد أصبحت إلهة الصيد. لكنها أيضا كانت إلهة الغابات والطفولة والخصوبة والحيوانات المتوحّشة. وكانت تكلّم السباع وتسيطر على حركاتها وتصرّفاتها. وكثيرا ما تُصوّر في الرسم وهي توجّه حركة القمر من عربتها، ومن هنا جاء الاعتقاد بأنها إلهة النور. وعلى الرغم من الطبيعة الناعمة نوعا ما لديانا، إلا أنها كانت تميل للانتقام أحيانا، بدليل قصّتها مع اكتيان الصيّاد الذي فاجأها وهي تستحمّ في النهر عارية. وقد انتقمت منه بأن حوّلته إلى أيل ثم أطلقت عليه كلابه لتمزّقه إربا.
كانت لديانا جوانب متعدّدة وسمات متناقضة، لكنّها اليوم تُصوّر على أنها الأمّ الأولى للخليقة وما يزال الأدباء والشعراء والرسّامون يتغنّون بأسطورتها الخالدة والمستمرّة.
الغريب أن الرومان لم يتقبّلوا فكرة أن ديانا هي شقيقة أبوللو التوأم من لاتونا إلا في القرن الرابع قبل الميلاد، أي عندما أصبح اوغستوس أوّل إمبراطور على روما. وقد اختار هذه العائلة كي ترمز لعائلته هو في محاولة لتعزيز منصبه كخليفة ليوليوس قيصر. وقد زعم قرابته مع لاتونا وابنيها فعزا لنفسه خصائص ابوللو بينما منح خصائص ديانا لأخته اوكتافيا.
رسم هذا الموضوع فنّانون كثر منهم البيرت ديورر وجاك لوي دافيد ولوكاس كراناك وجاكوبو دي بارباري وغيرهم.
ولد وليم هنري راينهارت في سبتمبر من عام 1825 في ميريلاند بالولايات المتحدة. وعمل في بدايات حياته في منجم للرخام، ثم أصبح مساعدا لقاطع أحجار. وهناك تعلّم تقنيات القطع والتشكيل والصقل، ثم سجّل في معهد الفنّ الميكانيكيّ في ميريلاند.
وفي مرحلة تالية، قابل جامع فنون مشهورا يُدعى وليام والترز. وقام الأخير بتمويل رحلة راينهارت إلى فلورنسا عام 1855. وعندما عاد من رحلته، كان قد أصبح نحّاتا متمكّنا. وفي عام 1858، عاد إلى روما وكان وقتها في سنّ الثلاثين. وقد عاش فيها وعمل حتى وفاته بالسلّ عام 1874 عن واحد وأربعين عاما.
منحوتات راينهارت موجودة اليوم في بعض اكبر المتاحف الأمريكية مثل المتروبوليتان في نيويورك ومتحف الفنون الجميلة في بوسطن ومتحف كارنيغي وغيرها.

Monday, February 26, 2018

لوحات عالميـة – 451

المدينة الكاملة
للفنان الألماني ماكـس إرنست، 1932

كان ماكس إرنست عضوا مهمّا في دائرة الكتّاب والرسّامين السورياليين في باريس التي كان قد لجأ إليها هربا من بطش النازية في بلده ألمانيا. كان شخصا متعدّد المواهب. ومع انه مشهور أكثر بوصفه رسّاما بارزا، إلا انه كان أيضا نحّاتا وشاعرا.
من أهمّ أعمال إرنست هذه اللوحة التي يصوّر فيها طبيعة غامضة مشيّدة من عدّة مستويات أو طبقات. واللوحة هي واحدة من سلسلة من اثنتي عشرة لوحة تحمل جميعها نفس الاسم، أي المدينة الكاملة. وقد رسمها ما بين عامي 1933 و 1937.
المدينة في الصورة تتألّف من كتل من الأشكال الهندسية أمام سماء زرقاء. وما يُفترض أنها مباني المدينة مميّزة بأنماط زهرية، تعلوها دائرة صفراء في أعلى وسط اللوحة تمثّل القمر.
ومع أن التفاصيل قليلة، إلا أن المدينة تبدو خيالية على الأرجح وربّما لا توجد مثل هذه البنى المعمارية الغريبة إلا في المخيلة أو الأحلام.
وهي تذكّر بأطلال المعابد القديمة التي بنتها حضارات سادت ثم بادت. وبعض النقّاد يشيرون إلى أن المدينة، وخلافا لاسم اللوحة، ليست كاملة بل هي عبارة عن قلاع خربة تشبه آثار أو بقايا مدينة تعرّضت لكارثة ما.
وقد تكون الصورة انعكاسا لحالة التشاؤم والسوداوية التي كان يمرّ بها الرسّام بعد صعود الحزب النازيّ للسلطة في ألمانيا. أي أن المدينة الخربة في اللوحة قد تكون نبوءة الرسّام لما سيحلّ ببلده في المستقبل من دمار على يدي هتلر. أما القمر فربّما يمثّل وميض الأمل الذي يتمنّى الرسّام أن يجنّب سكّان المدينة القتل والدمار.
كان إرنست قد مرّ بفترة تشوّش واضطراب في ذلك الوقت بعد أن اعتُقل من قبل البوليس السرّيّ النازيّ أو الغستابو. ويبدو انه في هذه السلسلة من اللوحات اظهر الجانب المظلم من نفسه بعد أن عانى كثيرا من الملاحقة والسجن.
المعروف انه رسم هذه اللوحات في منزل احد زملائه الرسّامين في جنوب فرنسا. وكان قد حلّ ضيفا على ذلك الزميل بعد نفيه من ألمانيا.
ولد ماكس إرنست في ابريل من عام 1891 في كولون بألمانيا لعائلة من الطبقة الوسطى. كان والده رسّام طبيعة معروفا. وقد تأثّر الابن بحرفة والده الذي غرس في نفسه حبّ الرسم، وأيضا الميل إلى تحدّي السلطة.
درس إرنست الفلسفة وتاريخ الفنّ وعلم النفس والأدب في جامعة بون. وفي عام 1909، بدأ يرسم ثم تعرّف على الرسّام اوغست ماكي والتحق بالتعبيريين الألمان. ثم التقى في عام 1914 بـ هانز آرب الذي ربطته به صداقة طويلة دامت لأكثر من أربعين عاما.
خدم إرنست في الجيش الألمانيّ خلال الحرب العالمية الأولى. وكان تأثير تلك التجربة عليه مدمّرا. وهو يصفها في مذكّراته بقوله: في ذلك اليوم متّ. وفي نوفمبر من عام 1918، أي في السنة التي انتهت فيها الحرب، بُعثت إلى الحياة من جديد".
وقد حصدت تلك الحرب أرواح العديد من زملائه من الرسّامين التعبيريين، مثل فرانز مارك واوغست ماكي اللذين قُتلا وهما في سنّ الشباب.
كان إرنست أحد أوائل الرسّامين الذين طبّقوا نظريات فرويد في أعمالهم. وقد تأثّر بكلّ من فان غوخ وبيكاسو. ويُعرف انه كان مفتونا بالطيور التي تظهر كثيرا في لوحاته.
بعد تولّي النازيين الحكم في ألمانيا، هرب الرسّام إلى باريس. وعندما احتّلوا فرنسا، قاموا باعتقاله. لكنّه تمكّن من الهرب إلى أمريكا بمساعدة من بيغي غونغهايم التي كانت معروفة بدعمها للرسّامين وشراء أعمالهم. وقد تزوّج الاثنان وعاشا في نيويورك عدّة سنوات. وكان قد سبقه إلى أمريكا صديقاه مارك شاغال ومارسيل دوشان.
وبعد انسحاب النازيين من فرنسا، عاد إرنست إلى باريس وظلّ يعيش فيها إلى أن توفّي في ابريل 1976 عن أربعة وثمانين عاما.