Thursday, October 22, 2009

لوحات عالميـة – 216

خيـول عربيـة تتعـارك في إسطبـل
للفنان الفرنسي أوجيـن ديـلاكـــروا، 1860

كان ديلاكروا منذ بداية اشتغاله بالرسم مفتونا بجموح ووحشية الحيوانات. ولطالما أثارت اهتمامه، بشكل خاصّ، الخيول وصراعاتها الدامية فيما بينها. وهو أمر رآه رأي العين أثناء زيارته لشمال أفريقيا.
وقد رسم العديد من اللوحات من وحي إقامته في المغرب صوّر فيها مظاهر من صراع الحيوانات بين بعضها البعض وصراعها مع الإنسان.
وضمن هذا السياق، تندرج لوحاته "أسد يهاجم حصانا" و"صيد الأسود" و"عرب يتقاتلون في الجبال".
وقد ألهمت رسوماته عن الحيوانات، والخيل خاصّة، عددا من الرسّامين مثل الفنان الانجليزي جورج ستبس الذي رسم الخيل في عدد من لوحاته، أشهرها "الجواد ويسل جاكيت" و"أسد يهاجم حصانا".
في هذه اللوحة الجميلة، يصوّر ديلاكروا منظرا لجوادين عربيين يتقاتلان بضراوة داخل إسطبل، بينما يحاول حرّاس الإسطبل التدخّل لوقف عراكهما.
اللافت للاهتمام في هذه اللوحة براعة ديلاكروا في تصوير آنية وحركية الصراع بين الحيوانين الهائجين. الحركة الدائرية والإيقاع الراقص للحيوانين توحيان بالصراع الذي يبدو بلا نهاية، وهي الفكرة التي تقوم عليها لوحات عديدة لـ ديلاكروا لا يمكن فصل الشكل فيها عن المضمون.
التباينات القويّة للضوء والظلّ في هذه اللوحة وبراعة الرسّام في استخدام الألوان الصاخبة يعتبران عنصرين إضافيين يعمّقان الإحساس بشراسة وعنف الصراع بين الحيوانين.
رأى ديلاكروا هذا المشهد في مدينة طنجة المغربية عندما كان، هو والقنصل الانجليزي، في ضيافة الباشا حاكم المدينة.
كان الرسّام قد ذهب إلى هناك ضمن بعثة ديبلوماسية إلى سلطان المغرب. وكانت تلك الرحلة تشكّل بداية اهتمامه بالرسم الاستشراقي الذي أصبح هو احد رموزه الكبيرة والمهمّة.
كان ديلاكروا منجذبا إلى مراقبة الحيوانات البرّية كالنمور والأسود والفهود. وقبل ذهابه إلى المغرب، كان يتردّد على حديقة حيوانات باريس كي يراقب ويرسم الحيوانات فيها.
غير أن حبّه الأكبر كان للخيول. كان الحصان عنده يجسّد بحث الفنان الدائم عن المجد والصعود إلى الشهرة. ولم يشبع حبّه للخيول إلا بعد زيارته للمغرب. وبعد تجربته المغربية أصبحت الخيول ملمحا ثابتا في عدد غير قليل من اللوحات التي رسمها في ما بعد.
وقد شرح ديلاكروا ذات مرّة مغزى افتتانه برسم مشاهد العراك بين الحيوانات بقوله: الإنسان نفسه مخلوق همجي. والبشر في واقع الأمر ليسوا أكثر من نمور وذئاب مدفوعة برغبتها الكامنة في تدمير بعضها البعض".
وزمن ديلاكروا تبنّى بعض النقاد رأيا طريفا يقول بوجود أوجه شبه بين ملامح وجه الرسّام والأسود التي كان مغرما برسمها.
فقد كانت عيناه تشعّان ببريق أخّاذ كما كانت عظام وجهه ناتئة. ويبدو، برأيهم، أن ديلاكروا خلع على ملامحه جمالا غير مروّض وغريبا عندما أعارها للأسود في لوحاته.
كان بودلير من اشدّ المعجبين بلوحات ديلاكروا. وقد وصف لوحته صيد الأسود بقوله إن فيها تفجّرا للألوان يثير الإعجاب. كما أن الحيوانات في اللوحة تزأر وتزمجر. وإذا كانت هناك لوحة تمزج بين الوحشية والتعبيرية بأجلى صورهما، فإنها ولا شكّ هذه اللوحة".
وعلى العكس من كثير من معاصريه الذين كانوا مهتمّين بأفكار اليونان وروما القديمة وتصويرها في أعمالهم، فضّل ديلاكروا أن يرحل إلى بلاد الشرق حيث انجذب إلى شعوبه وصوّر تقاليدهم وأزياءهم في أعماله.
كان ديلاكروا يعتقد أن شمال أفريقيا بتراثها الغنيّ وتقاليدها العريقة هي المعادل البصري للثقافة الكلاسيكية لشعوب اليونان وروما القديمة.
وتتميّز لوحات ديلاكروا بتنوّع أفكارها ومواضيعها. بعضها يتناول ملاحم وأساطير قديمة. وبعضها الآخر يصوّر المعارك بين الأتراك واليونانيين. والبعض الثالث استوحاه من أعمال أدبية مثل أشعار شكسبير وغوته وبايرون وسواهم.
في خطيبة ابيدوس، مثلا، يصوّر ديلاكروا حكاية ذكرها بايرون في إحدى مسرحياته الشعرية عن باشا شرقي يجبر ابنته على الزواج من صديقه المسنّ. لكن الفتاة المكرهة على الزواج من شخص لا تحبّه تضطرّ إلى الهرب مع ابن عمّها الذي لا تلبث أن تقع في حبّه ثم تتزوّجه. غير أن الباشا الأبّ وجنده يعثرون على مخبئهما فيقتلون الشابّ، وتموت الفتاة في ما بعد بسبب حزنها عليه.
وفي موت ساردانابالوس، يصوّر ديلاكروا دراما شعرية مقتبسة عن مسرحية لنفس الشاعر تحكي قصّة ملك آشوري قديم يقع تحت حصار فرضه عليه أعداؤه. وفي النهاية يفضّل الملك الانتحار على الاستسلام. غير انه قبل موته يأمر حرّاسه بقتل جميع خدمه ومحظياته وحيواناته لكي يموتوا ويُدفنوا معه.
كان غرام ديلاكروا الأول الرسم والأدب الرومانتيكي. وتدلّ مذكّراته ودراساته ومقالاته التي تتناول المسائل الجمالية على ثراء أفكاره وعمق ثقافته.
وقد دفعه إعجابه بلوحات الرسّام الانجليزي جون كونستابل إلى زيارة انجلترا حيث تجوّل في متاحفها ومسارحها واطلع على جوانب من ثقافة الانجليز، ما ترك في نفسه أثرا لا يُمحى.

موضوع ذو صلة: ديلاكروا ومصرع كليوباترا

Sunday, October 18, 2009

لوحات عالميـة – 215

روبنـز وإيـزابيـلا بـرانـدت
للفنان الهولندي بيتـر بـول روبنــز، 1609

يُوصف روبنز بأنه أمير الرسّامين ورسّام الأمراء، بالنظر إلى انه رسم الكثير من أفراد العائلات الملكية الأوربية.
ولوحاته تتميّز بثرائها اللوني وبسحرها الذي لا يُقاوَم. ويقال بأنه كان أفضل من يرسم بالألوان الزيتية.
وبعكس كبار الرسّامين الآخرين مثل فان غوخ ورمبراندت، فإن روبنز حقّق الكثير من التقدير والثراء أثناء حياته.
وكان من عادته أن يستعين برسّامين كثر في محترفه لمواكبة طلبات الرسم الكثيرة التي كان يتلقاها والتي لم يكن يستطيع رفضها.
كان يرسم اسكتشات أولية للوحاته ثم يعهد بها إلى مساعديه لإتمام بقيّة التفاصيل.
لكنّ روبنز اختار أن يرسم هو بنفسه هذه اللوحة بالكامل.
قد يكون السبب أن موضوع اللوحة شخصيّ وحميم. إذ تصوّره هو وزوجته ايزابيلا براندت التي اقترن بها عقب عودته من رحلته إلى ايطاليا.
كان روبنز آنذاك في الثانية والثلاثين من عمره بينما كان عمر ايزابيلا ثمانية عشر عاما.
ويرجّح انه رسم اللوحة بعد زواجهما مباشرة، أي في العام 1609، ثم أهداها إلى والدي عروسه.
وقد استخدم روبنز في اللوحة بعض الرموز التقليدية التي تعبّر عن العاطفة القويّة. هناك مثلا أشجار رحيق العسل التي تظهر في خلفية اللوحة. هذه الأشجار تعتبر رمزا معروفا منذ القدم عن الإخلاص ووفاء الزوجية.
والرمز الآخر يتمثل في وضع كلّ من العريس والعروس يده على يد الآخر تعبيرا عن حبّهما وارتباطهما القوي.
ايزابيلا تبدو هنا جميلة وعلى قدر كبير من التهذيب والبراءة. لكنها أيضا مسترخية وواثقة من نفسها. وأكثر ما يميّزها هو قبّعتها الكبيرة وياقتها الرمادية الفخمة.
روبنز، هو الآخر، يلفت الاهتمام بملامحه الواثقة وملابسه الأنيقة.
مما يلفت الانتباه أيضا في اللوحة تناغم الألوان والنسيج المتباين للملابس ولمعان الخطوط الذهبية على التنّورة ثم اللون الأصفر، لون روبنز المفضّل والذي لا تكاد تخلو منه لوحة من لوحاته.
كانت ايزابيلا براندت أولى زوجات روبنز. وكان والدها احد أعيان مدينة انتويرب. وقد عاش الفنان وزوجته بسعادة ووئام طيلة سبعة عشر عاما أنجبا خلالها ولدين وبنتا.
لكن وفاة ايزابيلا فجأة بمرض الطاعون أنهت كلّ شيء. كان عمرها وقت وفاتها أربعة وثلاثين عاما. وقد سبّب موتها في تلك السنّ المبكّرة صدمة كبيرة لـ روبنز. وبسبب الحزن العميق على رحيلها، توقّف عن الرسم لفترة.
هذه اللوحة الرائعة تعتبر نموذجا لفنّ روبنز الذي كان رسّاما استثنائيا ونادرا بسبب تقنيات ألوانه الخاصّة وابتكاراته الكثيرة في رسم البورتريه.
وهو يعتبر احد أشهر رسّامي عصر الباروك وأكثرهم إنتاجا وتنوّعا. وتتراوح أعماله بين رسم البورتريه والمناظر الطبيعية والمواضيع التاريخية. وبالإضافة إلى كونه رسّاما كبيرا، كان روبنز ديبلوماسيا مرموقا.
وقد سافر في مهمّات ديبلوماسية كثيرة وأقام في ايطاليا ثماني سنوات ثم ذهب إلى اسبانيا حيث اطلع على أعمال رسّامي عصر النهضة.
وفي نفس العام الذي تزوّج فيه ايزابيلا، عُيّن رسّاما في بلاط الأمير البريخت.
وفي ما بعد اشترى قطعة ارض بنى عليها منزلا فخما خصّص جزءا منه ليكون مرسما له.
ولم يكن بيته يخلو من التلاميذ والمريدين الذين كانوا يقصدونه لتلقي دروس في الرسم على يديه.
وفي احد الأوقات ذهب روبنز إلى انجلترا وزار بلاط الملك تشارلز الأول.
وأثناء إقامته في لندن كُلّف برسم سقف قصر الضيافة في الوايتهول.
بعد أربع سنوات من وفاة ايزابيلا، تزوّج روبنز من هيلينا فورمنت ذات الستة عشر عاما.
وكما رسم لـ ايزابيلا أكثر من لوحة، رسم روبنز لـ هيلينا عدّة لوحات تظهر في إحداها مع روبنز وطفلهما البكر.
كما تظهر في أخرى مع اثنين من أطفالهما.
على المستوى الشخصي، كان روبنز شخصا متزنا وعلى درجة عالية من الالتزام والانضباط. كان ربّ عائلة من الطراز الأول كما كان مخلصا ووفيّا لبيته وأفراد عائلته. وتخلو سيرة حياته من قصص الانفلات والمجون التي طبعت حياة غيره من الرسّامين.
في نهايات حياته، أصبح روبنز يميل إلى رسم المناظر الطبيعية. غير أن إصابته بالروماتيزم حالت بينه وبين الاستمرار في الرسم.
وقد توفي وهو في الثالثة والستين من عمره وترك لـ هيلينا التي كان عمرها آنذاك 26 عاما ثروة طائلة وستّة أطفال ولد آخرهم بعيد وفاته بأشهر.
وتتوزّع لوحاته على العديد من المتاحف الأوربية الكبيرة. لكنّ عددا من أهمّ وأفضل أعماله موجودة اليوم في متحف مدينة ميونيخ الألمانية.