Tuesday, June 09, 2015

لوحات عالميـة – 358

موسيقى في حدائق تويلاري
للفنان الفـرنسـي إدوار مـانـيــه، 1862

ذات مرّة، وصف الشاعر والأديب اميل زولا صديقه إدوار مانيه بأنه رسّام تحليلي، وبأنه لم يُظهر مهاراته التحليلية بشكل أكثر إدهاشا كما عرضها في هذه اللوحة.
كان زولا يؤمن بأن رسم الحياة الحديثة يُعتبر شيئا بطوليا وأنها تستحقّ أن تُرسم، تماما كما كان يحدث في العالم الكلاسيكي القديم. وكان من عادة الاثنين أن يلتقيا يوميا في حدائق تويلاري.
وقد عرض مانيه لوحته هذه لأوّل مرّة في غاليري مارتينيه. وكان الترحاب الذي قوبلت به محفّزا لظهور لوحتيه التاليتين المشهورتين غداء على العشب عام 1863، وأوليمبيا بعد ذلك بعامين.
بالنسبة للمتلقّي الحديث، من الصعب أن نرى تفسيرا مقنعا للضجيج الذي أحاط بهذا العمل. فاللوحة هي عبارة عن بورتريه جماعي يصوّر حشدا من عشّاق الموسيقى في إحدى حدائق باريس القريبة من اللوفر.
وبالنسبة للبعض، قد تبدو اللوحة وكأنها موضة قديمة. فهي تستذكر يوما جميلا في احد المتنزّهات، حيث كانت تقام الحفلات الموسيقية مرّتين في الأسبوع وتجتذب النخبة الحديثة في الإمبراطورية الفرنسية الثانية.
وقبل هذه اللوحة بوقت قصير، رسم مانيه صورة يقلّد فيها لوحة تُعزى إلى الرسّام الاسباني دييغو فيلاسكيز عنوانها حشد من السادة يصوّر فيها اجتماعا لفنّانين إسبان من القرن السابع عشر.
اللوحتان متشابهتان إلى حدّ غريب. ومانيه هنا يحيط نفسه، هو أيضا، بأعظم شخصيات المشهد الفنّي في زمانه، ومن بينهم المؤلّف الموسيقيّ اوفنباخ الذي يجلس إلى اليمين بقبّعة وشاربين ونظّارات، والروائيّ والناقد شامفلوري الذي يجلس إلى اليسار. وهناك أيضا الرسّام جورج بازيل الواقف إلى يمين الوسط متحدّثا إلى امرأة ومرتديا قبّعة سوداء مستديرة.
ومثل فيلاسكيز أيضا، رسم مانيه نفسه في أقصى الجزء الأيسر من اللوحة خلف الرجل الممسك بعصا. ومعنى هذا انه يقارن نفسه بفيلاسكيز الذي رسم نفسه في لوحته المشهورة وصيفات الشرف التي يقال أنها تصوّر العلاقة بين المتلقّي والمنظر الذي يراه. وبوضع مانيه نفسه في هذا الجزء البعيد من اللوحة، فإنه أراد أن يعرّف بنفسه وأن يؤكّد بأنه موجود ضمن هذا الجمع، ولكنه في نفس الوقت مُزاح عنه.
وكما في لوحة فيلاسكيز التي يجلس فيها المتلقّي مكان الملك والملكة، هنا أيضا يحتلّ المتلقّي فراغا متخيّلا في نفس المكان الذي يتعيّن أن يظهر فيه الموسيقيّون والعازفون. مفردة "الموسيقى" في عنوان اللوحة قد يكون المقصود بها المتلقّي نفسه، وهذا ولا شكّ ينطوي على نوع من الخداع الجميل الذي كان فيلاسكيز نفسه يفتخر به.
عناصر هذه اللوحة رُتّبت بعناية لتعكس الأوضاع الجندرية وقتها. فالنساء صامتات ولامباليات. كما أنهنّ يظهرن وهنّ جالسات، بينما الرجال متحرّكون ونشطون، وهم في وضع وقوف.
الكراسي المعدنية المذهّبة في المقدّمة تساعد على تكريس هذا الوضع. وهي توفّر خلطة ألوان تتكرّر في الأشكال الأنثوية للتوليف، أي ألوان القبّعات والفساتين. والرجال غالبا يرتدون الأسود الذي يتماهى مع الخطوط العمودية المظلمة التي تخلقها الأشجار.
ملء فراغ اللوحة بالرجال والنساء لم يكن شيئا ثوريّا أو مستحدثا في رسم القرن التاسع عشر. لكن اللوحة تتضمّن بعض الأشكال المبتكرة، مثل تقليص حجم السماء واختزالها في مثلّث صغير من اللون الأزرق، وكذلك طريقة تعامل الرسّام مع الطلاء.
لا يجب أيضا أن ننسى أن هذه اللوحة هي عن الحداثة في المدن الكبيرة. ومن ثم فإن لها ارتباطا وثيقا بشخصية أخرى مهمّة في المشهد الثقافي الباريسي في ذلك الوقت، وهو شارل بودلير.
كان بودلير يرى أن رسّام الحياة الحديثة يجب أن يُمسك، من خلال عدد قليل من ضربات الفرشاة، بتعبيرات وحركات الأفراد بما يشبه الاختزال البصري الذي تُبسّط فيه الأشكال بتحويلها إلى ما يشبه الكاريكاتير. وهذا ينطبق على الفرشاة الفضفاضة والتلقائية التي استخدمها مانيه هنا.
بودلير أيضا كان يعتبر أن الرسم، وليس الأدب، هو الوسيط المثاليّ للتعبير عن الحداثة، وأن الناس بمعاطفهم وملابسهم هم شجعان على طريقتهم ولا يختلفون في شيء عن مصارعي العصر الروماني.
كما كان يرى أن الحياة اليومية الحديثة يجب أن تكون موضوعا مفضّلا للرسّام، وأن التجربة البصرية للمدينة وطبيعة مناظرها هي التي تعبّر عن جوهرها، وأن حشود الناس جزء لا يتجزّأ من هذا الجوهر. وفي نهاية الأمر، فإن الناس هم من يصنعون المدينة ويقرّرون طبيعة ووتيرة أو سرعة الحياة فيها.
لم يكن بودلير مجرّد شاعر وأديب، بل كان أيضا ناقدا أدبيا وفنّيا. وكان معروفا بنثره وشعره المتفرّد الذي أثّر في الكثيرين ممن أتوا بعده. في ديوانه الأشهر "أزهار الشرّ"، يتحدّث عن الطبيعة المتغيّرة للجمال في مجتمع باريس القرن التاسع عشر. كانت باريس وقتها أكثر مدن العالم نموّا واتّساعا وزيادة في عدد السكّان.
المعروف أن بودلير كان أوّل من صاغ مصطلح "الحداثة"، الذي يصف تجربة الحياة في المدن الكبيرة ومسئولية الفنّ والأدب في الإمساك بتلك الظاهرة وتجسيدها.