Friday, November 21, 2008

لوحات عالميـة - 179

منظر لساحة الجمهورية
للفنان الفرنسي إدوار ليـون كورتيـز، 1960

لا يوجد رسّام أحبّ مدينة بمثل ما أحبّ إدوار كورتيز مدينته باريس.
وقد بلغ من افتتانه وشغفه الكبير بهذه المدينة أن كرّس لها جميع لوحاته تقريبا وعكف على تصويرها على امتداد أكثر من خمسين عاما.
ومناظره التي رسمها لباريس وشوارعها وساحاتها ومعالمها المختلفة ما تزال من أشهر وأروع الصور التي تعكس بهاء وفخامة هذه المدينة.
كما يمكن اعتبار لوحاته سجلا يوثّق جانبا من الإرث التاريخي والحضاري لباريس خلال النصف الأول من القرن العشرين.
والذي يتأمّل لوحات كورتيز التي تبدو فيها الشوارع والبنايات والساحات غارقة في الأضواء الملوّنة والمشعّة، لا بدّ وأن يستذكر مغزى تسمية هذه المدينة بعاصمة النور.
فقد كانت باريس في ذلك الوقت عاصمة الفنّ الأولى في العالم. وكان يؤمّها الفنّانون والمبدعون من مختلف الأرجاء والأماكن، إمّا للدراسة أو سعيا للعمل أو التماسا للشهرة.
كما كانت المدينة مقصدا للكثير من السياح وأصحاب الأعمال وجامعي التحف الفنية، وحاضنة للعديد من المدارس والاتجاهات والتيّارات الحديثة في الرسم والموسيقى والمسرح والأدب.
في هذه اللوحة يرسم كورتيز بأسلوبه الانطباعي المتفرّد والخاص ساحة الجمهورية؛ أحد أشهر معالم باريس.
والمنظر عبارة عن كرنفال صاخب من الألوان والأضواء المتوهّجة والمنعكسة على الساحة والمباني المحيطة بها.
وفيها نرى رجالا ونساءً يمشون على الأرصفة، وعربة تجرّها جياد بيضاء، وعربة أخرى لبيع الزهور، ومقاهي وأكشاكا.
وإلى يمين اللوحة من الأمام تظهر زوجة الفنان وابنته اللتان كان يحرص على رسمهما في لوحاته.
ساحة الجمهورية كانت وما تزال أكثر الأماكن في باريس ازدحاما بالحركة وبالناس. ويعود تاريخ إنشائها إلى بدايات اندلاع الثورة الفرنسية.
ومن أهم المعالم التي تميّزها تمثال الجمهورية الذي يظهر في خلفية اللوحة والذي شيّده النحّات جول دالو في العام 1883م.
من الواضح أن كورتيز رسم هذا المنظر في إحدى ليالي الشتاء الباردة والممطرة.
وتتبدّى مهارته بشكل خاص في تمثيل الساحة المبللة بالمطر وفي استخدامه المبهر للألوان اللامعة والمتلألئة.
وعندما نتمعّن في اللوحة لا يمكن إلا أن تلفتنا براعة الفنان الهائلة في تحويل كتل الطلاء الثقيلة إلى وهج انطباعي أخّاذ تنبثق منه ألوان ناعمة ومتناغمة تتشكّل منها ملامح الوجوه وتفاصيل الملابس والنوافذ والمصابيح وغيرها من الأشياء والتفاصيل.
وكثيرا ما تتكرّر في مشاهده صور لخيول تجرّ العربات وأشخاص يمشون ويقرؤون الصحف ومحلات تبيع الزهور ونوافذ تشعّ منها الأنوار الساطعة والمتألقة.
في لوحاته الأخرى يصوّر كورتيز، بنفس الأسلوب الشاعري والروح المفعمة بالحياة، مناظر لمعالم باريس الأخرى التي لا تقلّ شهرة، مثل برج ايفل وكنيسة ماديلين وساحة الكونكورد والحيّ اللاتيني وقوس النصر وساحة نوتردام ودار الأوبرا والشانزيليزيه وغيرها.
وبالإضافة إلى الشكل الخارجي، فإنّ لكلّ مكان من هذه الأمكنة شخصية وحضورا داخليا محسوسا ومتجسّدا في اللوحة.
فاهتزاز الألوان وبريقها وتماهيها وذوبانها الغريب يتوالد عنه عناصر حيّة من أصوات وكلمات وإيقاعات وأحاسيس.
ويكاد الناظر إلى اللوحة يحسّ برودة الجوّ ويلمس الغيم بيديه ويشمّ رائحة المطر ويسمع وقع خطوات الناس وصدى كلماتهم واختلاج أنفاسهم.
لقد عاش كورتيز حياته بأكملها في هذه الأماكن. ومع مرور الوقت، نشأت بينه وبينها أواصر نفسية وروحية حميمة جعلته مندمجا فيها ومتّحدا بها.
ولوحاته هي بمعنى ما تجسيد لمشاعره وأحاسيسه الخاصّة وتعبير عن حالاته النفسية والشعورية.
وعند الحديث عن كورتيز ومناظره الباريسية الجميلة، لا بدّ وأن نتذكّر مواطنه الفنان انطوان بلانشار Antoine Blanchard الذي اشتهر، هو أيضا، بلوحاته التي تصوّر باريس بما تضمّه من صروح ومعالم وما تحفل به الحياة فيها من مظاهر وأنشطة مختلفة.

Tuesday, November 18, 2008

لوحات عالميـة - 178

غــشّــاشــو الورق
للفنان الايطـالـي كـارافــاجـيــو، 1596

تعود هذه اللوحة إلى عصر النهضة الايطالي وتعتبر من بين أكثر الأعمال التشكيلية إتقانا وتميّزا.
وقد رسمها كارافاجيو في بدايات اشتغاله بالرسم، وحاول من خلالها ابتكار شكل جديد من الصور التي تتضمّن عناصر الغش والإخفاء والخداع.
ويقال انه يستحيل تقليد اللوحة أو استنساخها. ومع ذلك، فقد قلدها رسّامون كثر، لكنْ لا أحد تمكّن من مضاهاة الأصل.
في اللوحة نرى شابّين يلعبان الورق بحضور شخص ثالث يقوم بدور الضالع أو الشريك.
وفي الزاوية اليسرى من الطاولة تستقرّ كومة من العملات الذهبية التي يفترض أنها ستذهب إلى من سيفوز في النهاية.
الشابّ إلى اليسار يبدو ذا طبيعة رصينة وسمت وسيم. كما أن ملابسه الباذخة وهيئته الأنيقة تدلّ على خلفيته الاجتماعية الرفيعة.
والذي يتمعّن في ملامحه ونظراته سرعان ما يدرك أنه يلعب دور البريء أو الضحية في اللوحة.
أما الشابّ إلى اليمين فيجسّد دور الغشّاش، وهو يبدو على شيء من التوتّر واللهفة، فيما يخبئ بعض الورق وراء ظهره. وما يثير الانتباه في مظهره، بشكل خاص، هو أنه يرتدي خنجرا حول خصره.
غير أن الشخصية الأكثر درامية في اللوحة هي شخصية الرجل الجالس بين الشابين. فملامحه ونظراته وحركاته تختصر التأثير السيكولوجي والدراماتيكي للمشهد. إذ يبدو الرجل منهمكا في استراق النظر إلى أوراق الشاب الجالس إلى جواره، بينما يتابع شريكه إشاراته وإيماءاته بتلهّف وحرص.
نظرات الرجل متربّصة، مختلسة ومخاتلة. ومن الملاحظ أن كارافاجيو حرص على تغطية عينه اليمنى بطرف عمامة الشاب الجالس إلى جانبه لكي يكثف الإحساس بطبيعته المراوغة وليضفي على نظراته بعدا دراميا أعمق.
ومع ذلك تبدو عينه الوحيدة، الظاهرة في الصورة، مفتوحة على اتساعها، تراقب وتتابع وترسل الإشارات والتلميحات إلى الجانب الآخر من الطاولة.
وممّا يلفت الانتباه أيضا منظر يده التي خبّأها داخل قفاز بينما راح يؤشّر بإصبعيه لشريكه.
من الواضح أن كلّ شيء يتمّ على هذا المسرح المصغّر خلسة وعن طريق الإيهام ومحاولة صرف الأنظار.
والإخفاء هو سيّد الموقف هنا. فالشاب البريء واثق من أن أحدا لا يرى ما في يده من أوراق. والغشّاشان متأكّدان من أن الشاب غير واع بما يخطّطان له. وكلّ واحد من الثلاثة يلعب بطريقته الخاصّة ضمن لعبة اكبر يتنافس فيها الجميع للفوز بالجائزة.
والذي يمرّ على تفاصيل اللوحة بطريقة عابرة سوف لن يلمح فيها سوى خمس أيادٍ. لكن بشيء من التركيز سيكتشف مكان وجود اليد السادسة.
ويظهر أن كارافاجيو اختار أن يرسم اليد الثانية للرجل في ذلك المكان الذي لا يتوقّعه أحد، أي تحت ذراع شريكه وبالقرب من الخنجر، لكي يؤكّد مرّة أخرى على عنصر الإخفاء والتعمية، وربّما للإيحاء بأن اللعبة قد تنتهي بمشهد عنيف وغادر.
من المعروف أن لعبة الورق من الرياضات الذهنية القديمة جدّا، لكنْ لا يُعرف أين ولا متى نشأت. وقد جرت العادة أن يتنافس المتبارون فيها على مبلغ من المال، أي أنها في النهاية ضرب من القمار. وكثيرا ما يلجأ اللاعبون إلى الحيل والأحاجي السحرية للسيطرة على النظام الذي يجري من خلاله توزيع وتبادل الأوراق. ومن أهم المواصفات المطلوبة في اللاعب سرعة البديهة وخفّة اليد والقدرة على مراقبة الخصم وكشف إستراتيجيته في اللعب.
في هذه اللوحة، ثمّة ما يوحي بأن الخداع هو الذي سينتصر في النهاية على البراءة. لكن هناك من يرى بأن كارافاجيو إنما أراد أن يسرد قصّة أو حكاية، وهو لم يكن معنيا كثيرا بتضمين لوحاته دروسا أو مواعظ أخلاقية.
ومن الأمور الأخرى التي تشدّ الناظر إلى اللوحة واقعيّتها الشديدة وألوانها اللامعة بالإضافة إلى تأثيرات الضوء فيها. هناك أيضا أناقة الملابس: اللباس المخملي الذي يرتديه الشابّ إلى اليسار بطيّاته وحواشيه الموشّاة بأناقة، وأيضا النقوش الزهرية والأنماط البديعة التي تزيّن ملابس الشخصين الآخرين.
في ما بعد ظهرت لوحات كثيرة تتخذ من فكرة الغشّ أو الخداع موضوعا لها. ومن أشهرها لوحة بنفس الاسم للرسّام الفرنسي فالانتين دي بولون Valentin de Boulogne ولوحتان أخريان لـ جورج دي لا تور Georges de la Tour؛ الأولى بعنوان قارئة الحظ The Fortune Teller، والثانية The Cheater أو الغشّاش.
في القرون الوسطى، كان كلّ من تثبت عليه تهمة ممارسة لعب الورق يعاقب بالطرد من الكنيسة. في حين كان بعض الملوك والحكّام يحظرونها باعتبارها شكلا من أشكال القمار الذي يهدّد النظام الاجتماعي لأنه يتيح لبعض الفئات فرصة الإثراء بطريقة غير مشروعة تتنافى مع مبدأ أن يعيش الإنسان من عرق جبينه وأن يكسب رزقه بوسائل شريفة ونزيهة.
أما بالنسبة لـ كارافاجيو، فرغم أنه لم يعش أكثر من 39 عاما، فإن تأثيره وشهرته في زمانه وبعد وفاته كانا كبيرين وواسعين.
وقد عُرف عنه قربه من أكثر الشخصيات نفوذا في مجتمع روما آنذاك. كما كان مقرّبا من رجالات الكنيسة والكرادلة الذين كلفوه برسم مواضيع دينية.
لكنه أثار حنق هؤلاء بلوحته "موت العذراء" التي رسم فيها السيّدة بملامح وجسد امرأة مومس انطبعت صورتها في ذهنه بعد أن شاهد جثتها وهي تنتشل من مياه النهر بعد موتها غرقا.
ومن أغرب الحوادث التي تروى عن هذا الفنان واقعة قتله لأحد الأشخاص في روما بغير قصد إثر شجار نشب بينهما.
وقد تمكّن كارافاجيو بعد ذلك من الفرار بمساعدة احد أصدقائه القدامى من القساوسة. وبعد سنوات من هروبه، أصدر البابا حكما بالعفو عنه. وعندما عاد إلى روما، اعتقل عن طريق الخطأ لجريمة لم يرتكبها. لكنه توفي في السجن بعد ذلك بأيام بعد إصابته بمرض غامض لم يمهله طويلا.

موضوع ذو صلة: قراءة هادئة في مشهد عنيف