منظر لساحة الجمهورية
للفنان الفرنسي إدوار ليـون كورتيـز، 1960
لا يوجد رسّام أحبّ مدينة بمثل ما أحبّ إدوار كورتيز مدينته باريس.
وقد بلغ من افتتانه وشغفه الكبير بهذه المدينة أن كرّس لها جميع لوحاته تقريبا وعكف على تصويرها على امتداد أكثر من خمسين عاما.
ومناظره التي رسمها لباريس وشوارعها وساحاتها ومعالمها المختلفة ما تزال من أشهر وأروع الصور التي تعكس بهاء وفخامة هذه المدينة.
كما يمكن اعتبار لوحاته سجلا يوثّق جانبا من الإرث التاريخي والحضاري لباريس خلال النصف الأول من القرن العشرين.
والذي يتأمّل لوحات كورتيز التي تبدو فيها الشوارع والبنايات والساحات غارقة في الأضواء الملوّنة والمشعّة، لا بدّ وأن يستذكر مغزى تسمية هذه المدينة بعاصمة النور.
فقد كانت باريس في ذلك الوقت عاصمة الفنّ الأولى في العالم. وكان يؤمّها الفنّانون والمبدعون من مختلف الأرجاء والأماكن، إمّا للدراسة أو سعيا للعمل أو التماسا للشهرة.
كما كانت المدينة مقصدا للكثير من السياح وأصحاب الأعمال وجامعي التحف الفنية، وحاضنة للعديد من المدارس والاتجاهات والتيّارات الحديثة في الرسم والموسيقى والمسرح والأدب.
في هذه اللوحة يرسم كورتيز بأسلوبه الانطباعي المتفرّد والخاص ساحة الجمهورية؛ أحد أشهر معالم باريس.
والمنظر عبارة عن كرنفال صاخب من الألوان والأضواء المتوهّجة والمنعكسة على الساحة والمباني المحيطة بها.
وفيها نرى رجالا ونساءً يمشون على الأرصفة، وعربة تجرّها جياد بيضاء، وعربة أخرى لبيع الزهور، ومقاهي وأكشاكا.
وإلى يمين اللوحة من الأمام تظهر زوجة الفنان وابنته اللتان كان يحرص على رسمهما في لوحاته.
ساحة الجمهورية كانت وما تزال أكثر الأماكن في باريس ازدحاما بالحركة وبالناس. ويعود تاريخ إنشائها إلى بدايات اندلاع الثورة الفرنسية.
ومن أهم المعالم التي تميّزها تمثال الجمهورية الذي يظهر في خلفية اللوحة والذي شيّده النحّات جول دالو في العام 1883م.
من الواضح أن كورتيز رسم هذا المنظر في إحدى ليالي الشتاء الباردة والممطرة.
وتتبدّى مهارته بشكل خاص في تمثيل الساحة المبللة بالمطر وفي استخدامه المبهر للألوان اللامعة والمتلألئة.
وعندما نتمعّن في اللوحة لا يمكن إلا أن تلفتنا براعة الفنان الهائلة في تحويل كتل الطلاء الثقيلة إلى وهج انطباعي أخّاذ تنبثق منه ألوان ناعمة ومتناغمة تتشكّل منها ملامح الوجوه وتفاصيل الملابس والنوافذ والمصابيح وغيرها من الأشياء والتفاصيل.
وكثيرا ما تتكرّر في مشاهده صور لخيول تجرّ العربات وأشخاص يمشون ويقرؤون الصحف ومحلات تبيع الزهور ونوافذ تشعّ منها الأنوار الساطعة والمتألقة.
في لوحاته الأخرى يصوّر كورتيز، بنفس الأسلوب الشاعري والروح المفعمة بالحياة، مناظر لمعالم باريس الأخرى التي لا تقلّ شهرة، مثل برج ايفل وكنيسة ماديلين وساحة الكونكورد والحيّ اللاتيني وقوس النصر وساحة نوتردام ودار الأوبرا والشانزيليزيه وغيرها.
وبالإضافة إلى الشكل الخارجي، فإنّ لكلّ مكان من هذه الأمكنة شخصية وحضورا داخليا محسوسا ومتجسّدا في اللوحة.
فاهتزاز الألوان وبريقها وتماهيها وذوبانها الغريب يتوالد عنه عناصر حيّة من أصوات وكلمات وإيقاعات وأحاسيس.
ويكاد الناظر إلى اللوحة يحسّ برودة الجوّ ويلمس الغيم بيديه ويشمّ رائحة المطر ويسمع وقع خطوات الناس وصدى كلماتهم واختلاج أنفاسهم.
لقد عاش كورتيز حياته بأكملها في هذه الأماكن. ومع مرور الوقت، نشأت بينه وبينها أواصر نفسية وروحية حميمة جعلته مندمجا فيها ومتّحدا بها.
ولوحاته هي بمعنى ما تجسيد لمشاعره وأحاسيسه الخاصّة وتعبير عن حالاته النفسية والشعورية.
وعند الحديث عن كورتيز ومناظره الباريسية الجميلة، لا بدّ وأن نتذكّر مواطنه الفنان انطوان بلانشار Antoine Blanchard الذي اشتهر، هو أيضا، بلوحاته التي تصوّر باريس بما تضمّه من صروح ومعالم وما تحفل به الحياة فيها من مظاهر وأنشطة مختلفة.