Thursday, December 26, 2013

لوحات عالميـة – 339

الطبيعـة تكشـف عن نفسهـا أمـام العِلـم
للفنان الفرنسي لـوي ارنسـت بـاريـاس، 1899

في القرن التاسع عشر الميلادي، كانت الطبيعة تُصوّر على هيئة امرأة جميلة وعارية، وسادت فكرة تقول إن الإنسان يجب أن يكتشف الطبيعة ويزيل عنها النقاب وينتصر عليها ويصبح سيّدا لها. وكلّ هذه الأفعال تتضمّن معنى التملّك والسيطرة.
ولم يكن علماء وفنّانو ذلك الوقت يدركون أن نظرتهم الايروتيكية للطبيعة ستقود إلى مشاكل خطيرة. وبالفعل فقد أدّى سعي البشر لأن يستغلّوا الطبيعة ويكتشفوا أسرارها إلى تخريبها وسقوطها.
ومع الاكتشافات المتوالية تقلّص الإحساس بالدهشة من الطبيعة وتضاءل شعورنا بالمقدّس فيها. وكلّما اكتشفنا الطبيعة أكثر كلّما أصبحت اقلّ غموضا. وربّما يكون الإنسان قد ملّ من الطبيعة ولذا يقوم بانتهاكها.
هيراكليتوس الفيلسوف الإغريقي من القرن الخامس قبل الميلاد قال "إن الطبيعة تحبّ أن تخفي نفسها". لكن ربّما كان من الأفضل لو أن الطبيعة حافظت على تغطية جسدها، عندها ستتضاءل شهوة البشر لانتهاكها ونهشها.
في هذا التمثال يصوّر النحّات لوي ارنست بارياس الطبيعة بهيئة امرأة تلفّ نفسها برداء بينما تزيح خمارها الفضّي عن الجزء الأعلى من جسدها لتكشف عن وجهها وعن كتفيها وصدرها العاري.
الوضعية الحسّية للمرأة وطيّات الملابس الجميلة وألوان الأسطح الثريّة تعكس الأنماط الطبيعية التي هي إحدى سمات الأسلوب الحديث في النحت.
بعض النقّاد يقولون إن التمثال يمزج بين المجاز القديم عن خمار ارتيميس أو ايزيس والذي يُترجَم على انه رغبة الطبيعة في إخفاء أسرارها والفكرة الحديثة عن الطبيعة "الأنثى" التي تكشف نفسها طواعية للرجال "العلماء" دون عنف أو مكر.
هذا التمثال يمكن أن يُفهم على انه رمز للتطوّر التكنولوجي والاختراقات التي حلّت الكثير من ألغاز العالم. لكن هناك من يقول إنه يرمز للتحوّل في مفاهيمنا عن الطبيعة التي أتت بالثورة العلمية والتي حوّلت الطبيعة من مَعلم نشط وملهِم إلى جسد مذعن وبلا عقل.
والتمثال ينتمي إلى عصر الإحياء العظيم للنحت الملوّن الذي أطلقته الاكتشافات الجغرافية والأثرية. وهو مصنوع من الرخام العالي الجودة ومن الأحجار الثمينة التي جُلبت من أماكن بعيدة مثل مقالع الحجارة في الجزائر وشمال أفريقيا.
شخص المرأة مصنوع من الرخام بينما معظم لباسها مصنوع من العقيق. الحجارة نفسها مستمدّة من الطبيعة. ولولا التقدّم التكنولوجي ما أمكن استخلاصها وتطويعها، وهذا جزء لا يتجزّأ من رسالة التمثال. بل لقد قيل إن المرأة لا ترمز للطبيعة بأنوثتها أو بعريها وإنما بالرخام الفاخر والعقيق والحجارة الثمينة الموظّفة في صنعها.
من التفاصيل التي تلفت الانتباه في التمثال السمات الزخرفية الغنيّة كالتأثير المرقّش للرخام الأحمر في الرداء واللازورد النفيس في العيون والعقيق في الخمار والمرمر والمرجان في الفم والشفتين.
عينا المرأة تنظران إلى الأرض في حياء بينما ترفع يديها لتزيل الخمار الذي يغطّي بقيّة جسدها. الغموض في التمثال يتجلّى في الخمار وفي فعل رفعه. رفع الخمار عن الجسد يرتبط عادة بالرؤى الطبّية والعلمية وأحيانا يُعتبر رمزا لعفّة وطهر الأنثى. غير انه في الطقوس الدينية وفي مناسبات الحداد يخفي جنسانية المرأة.
أيضا المرأة ذات الخمار يمكن أن تكون رمزا للبحث عن غموض الأصول والبدايات وحقائق الميلاد والموت. فرويد فسّر أسطورة رأس ميدوسا كرمز للمرأة المحجّبة التي تحيل نظراتها الرجال إلى حجارة. لذا عندما يكشف الرجال خمار ميدوسا فإنهم يواجهون رعب النظر إلى أعضائها الداخلية.
بعض النقّاد اتهموا النحّات بأنه كاره للنساء. لكن هؤلاء يتجاهلون تاريخ استخدام الرموز في النحت وأن النحت نفسه هو رمز لتطوّر العلم. والنحّات يعكس عالم الطبيعة كما اكتشفه العلم.
كُلّف بارياس بتشييد التمثال عام 1889 ليزيّن مدرسة الطبّ في بوردو. وعُرض لأوّل مرّة أمام الجمهور في الصالون عام 1893. وقد استنسخ التمثال مرارا باعتباره تحفة شعبية وهو متوفّر بوسائط مختلفة ومقاسات شتّى.
ولد ارنست بارياس في ابريل من عام 1841م. كان أبوه رسّام بورسلين وشقيقه الأكبر رسّاما معروفا. وقد بدأ ارنست عمله كرسّام. لكن في ما بعد تحوّل إلى النحت ودرس على يد بيير كافالييه. ثم انتظم في مدرسة الفنون الجميلة في باريس ثم في الأكاديمية الفرنسية في روما. وتلقّى بارياس العديد من الجوائز والأوسمة وعمل أستاذا في مدرسة الفنون وانتخب عضوا في مجلس المتاحف الوطنية.