Saturday, August 22, 2009

لوحات عالميـة - 206

السايكلوب أو ذو العيـن الواحـدة
للفنان الفرنسـي اوديـلـون رِيـدون، 1914

بالنسبة للكثيرين فإن مجرّد تخيّل أن هناك كائناتٍ بعين واحدة وقريبة الشبه بالبشر كفيل بأن يملأ النفس خوفا وهلعا.
ولا بدّ وأن ذاكرة الكثيرين منا تحتفظ ببعض القصص المرعبة التي يلعب ذو العين الواحدة دور البطولة فيها.
الإغريق كانوا يسمّونه السايكلوب. وهو كائن خرافي ضخم من فصيلة العمالقة له عين واحدة كبيرة ومستديرة في منتصف جبهته. وقد ورد ذكر هذه المخلوقات الأسطورية لأوّل مرّة في أوديسّا هوميروس.
والذي يرى صورة السايكلوب في الرسومات القديمة لا بدّ وأن يتذكّر "الغول" الذي يرد ذكره كثيرا في الأساطير العربية القديمة ويوصف بأنه حيوان ليلي وآكل نهم للحوم البشر بالإضافة إلى اتصافه بالقوّة والغدر وبشاعة المنظر.
هوميروس يذكر أن مخلوقات السايكلوب كانوا أبناءً لأورانوس "السماء" وغايا "الأرض". لكن بسبب خوف والدهم من قوّتهم وشدّة بأسهم قام بحبسهم في ارض الجحيم "تارتاروس" إلى أن حرّرهم كبير الآلهة زيوس.
وقد كافئوا زيوس على صنيعه بأن سخّروا له الرعد والبرق لاستخدامهما ضدّ أعدائه الكثر.
في ما بعد انقرضت هذه الكائنات نهائيا من الأرض بعد أن قضى عليها أبوللو اثر تسبّبها في مقتل ابنه، حسب ما تذكره الأساطير.
الرسّام الفرنسي اوديلون ريدون رسم هذه اللوحة وفيها يظهر سايكلوب ضخم وهو يطلّ على طبيعة غامضة. وفي وسط المنظر الطبيعي تستلقي امرأة عارية.
وعلى خلاف المتوقّع، فإن شكل السايكلوب ونظراته في اللوحة لا توحي بالخوف. بل يبدو كائنا ضعيفا، خجولا ومثيرا للشفقة.
هذا المنظر قد يكون تعبيرا عن العزلة أو المعاناة أو الألم. نظرات الكائن الغريب يمكن أن تكون انعكاسا لتوقه في أن يغادر هيئته ويتحرّر من صورته النمطية ويصبح شخصا آخر.
لكن لا يبدو من المتيسّر فهم العلاقة بينه وبين والمرأة المستلقية في المنحدر الأخضر أسفل منه.
ترى لو كان للكائن عينان هل كان سيرى المرأة في الأسفل بهيئة مختلفة؟ وهل النظر بعينين يوفّر دائما صورة أكثر شمولا للأشياء مما لو كان بعين واحدة؟ وهل يمكن أن تتغيّر خصائص بعض المخلوقات لو قُدّر لها أن ترى بعض ملامح العالم الواقع خارج حدود تصوّراتها ومداركها؟
كان اوديلون ريدون يتعمّد الغموض في لوحاته التي تتّسم برمزيتها وبعمقها السيكولوجي وأحيانا بشاعريّتها. غير انه كان يضمّن بعضها تلميحات وإشارات تدفع الناظر إلى التفكير في محاولة لفهم العلاقة بين عناصرها وأجزائها المختلفة وصولا إلى فهم الصورة الكبيرة والكاملة.
وكان يستمدّ رسوماته الغامضة والمليئة بالكائنات الغريبة من الأحلام والفانتازيا ومن أحداث ما قبل التاريخ. ويبدو أن ميله لتصوير القصص الميثولوجية كان ناتجا عن تأثّره بكل من رمبراندت وديلاكروا.
هناك من يُرجِع أصل أسطورة السايكلوب إلى الغول الذي تذكر المأثورات الشعبية أن له عينا ثالثة في مؤخّرة رأسه.
غير أن هناك رأيا آخر يقول إن الفكرة استوحيت من جمجمة الفيل التي وجدت في العصور القديمة في بعض جزر اليونان. وقد توهّم الناس وقتها أن عينا كبيرة ووحيدة كانت تستقرّ في الفجوة الأنفية الكبيرة الكائنة في منتصف وجهه.
في بعض حكايات ألف ليلة وليلة نلمس حضورا متكرّرا لذي العين الواحدة. في إحدى المرّات يكتشف السندباد آثار أقدامه في الرمال بينما كان هو ورفاقه يبحثون عن طعام فوق إحدى الجزر البعيدة والغامضة. ثم يفاجئون بهدير كالرعد ينبعث من احد الكهوف القديمة. وتجري معركة عنيفة بين الطرفين يتمكّن الرجال في نهايتها من الإفلات من قبضة الوحش تاركين له المصباح السحري قبل أن يواصلوا رحلتهم إلى بغداد.
عُرف عن اوديلون ريدون اهتمامه بعلم النفس والعقل الباطن. وكان معجبا بكتابات الأدباء الرمزيين وخاصّة صديقه الشاعر مالارميه.
ومن أشهر لوحاته الأخرى بورتريه فيوليت هايمان، الزنزانة الذهبية، وقارب أحمر بشراع أزرق.
وقد بيعت إحدى لوحاته قبل خمسة أعوام بأربعة ملايين دولار.

موضوع ذو صلة: اللوحات الأكثر ترويعا وعنفا

Tuesday, August 18, 2009

لوحات عالميـة - 205

فيلـوكتيتـيس الجـريـح
للفنان الدانمركي نيكـولاي ابيلـدغـارد، 1775

الشخص الظاهر في هذه اللوحة ليس مصارعا ولا ملاكما. كما انه ليس بطلا في كمال الأجسام كما قد يظنّ الناظر لأوّل وهلة.
وانتفاخ جسمه الغريب ليس بالضرورة دليل صحّة أو عافية.
بل على العكس من ذلك، فالمشهد يقدّم صورة للألم الجسدي والمعاناة بأجلى صورهما.
لكن لنفترض أوّلا أن شخصا لدغته أفعى، كيف ستبدو تعابير وجهه واستجابة جسده للحادثة؟
الإجابة البسيطة عن هذا السؤال هو أن استجابته ستكون مزيجا من الصراخ والنظرات المرعوبة من اثر الصدمة والشعور بالألم.
لكن الرسّام ابيلدغارد اختار أن يصوّر هذا الموقف الإنساني العصيب بطريقة مختلفة وغير مألوفة.
والفنان يجسّد في هذه اللوحة، التي تعتبر أشهر لوحاته، قصّة البطل الإغريقي فيلوكتيتيس.
كان فيلوكتيتيس رامي سهام عظيما في اليونان القديمة. وفي طريقه إلى حصار طروادة حدث أن لدغته أفعى سامّة في قدمه.
كان ذاهبا إلى الحرب لإظهار براعته في رمي السهام. لكن الأفعى قطعت عليه الطريق وسبّبت له معاناة لا توصف.
بدأ الجرح يتقيّح وتنزّ عنه رائحة كريهة ومقزّزة. وأصبح البطل يعاني من نوبات من الصراخ والعويل الذي لا ينقطع.
ولأن حالته بدت ميئوسا منها، فقد قرّر رفاقه أن يتخلّوا عنه فتركوه لوحده فوق جزيرة منعزلة وأبحروا مبتعدين.
الأسطورة وفّرت للرسّام فرصة لتصوير الألم. ولكي يثبت براعته عمد إلى تعرية بطله. غير انه لم ينشغل كثيرا بتصوير مكان الألم، أي القدم. كما لم يهتمّ بتصوير صراخ البطل وعويله. بل فضّل أن يرسم ألمه الجسدي العام من خلال تصوير تشنّجات واهتزازات الجسد بأكمله.
في اللوحة يبدو فيلوكتيتيس متكوّما على نفسه من هول إحساسه بالألم، وفكّه ملتصق بركبته، بينما انثنى عموده الفقري كالدائرة. التشريح في هذه اللوحة غريب جدّا. العضلات متضخّمة، والظهر مقوّس ومشدود بعنف والمسافة بين الأعضاء والمفاصل أطول مما ينبغي.
القوّة التعبيرية في اللوحة واضحة. شعر البطل الذي تطيّره الرياح القويّة يضفي على المشهد بعدا دراميا إضافيا. ومع ذلك قد لا يشعر الناظر بكثير من التعاطف مع البطل، ربّما لأن الألم هنا يبدو مسرحيا واستعراضيا إلى حدّ كبير.
ابيلدغارد اشتهر بأسلوبه الرومانسي. وهو يُلقّب بأبي الرسم الدانمركي. ويعود إليه الفضل في انه وضع الأساس لحقبة في الفنّ سُمّيت بالعصر الذهبي للرسم الدانمركي.
وقد كان منجذبا إلى شكسبير وهوميروس وسقراط وكانت تستهويه أساطير الشمال والملاحم الإغريقية. كما كان صديقا للرسّام السويسري هنري فوزيلي الذي زامله في روما حيث درسا هناك أعمال ميكيل انجيلو. وفي ما بعد قام باستنساخ لوحة فوزيلي المشهورة "الكابوس" بعد أن أجرى عليها بعض التعديلات.
لا بدّ وأن ابيلدغارد رسم هذه اللوحة وفي ذهنه شخوص ميكيل انجيلو بعضلاتهم المفتولة وأطرافهم المتضخّمة.
لكن كيف كانت نهاية البطل المشئوم فيلوكتيتيس؟
لحسن حظّه لم تنجح الآلهة في إجهاض أحلامه بتحقيق المزيد من الانجازات والانتصارات.
إذ تذكر الأسطورة انه قضى في عزلته في الصحراء عشر سنوات. وبعد أن شُفي من عضّة الأفعى التحق بالحرب وكان من ضمن المقاتلين الذين اختبئوا داخل حصان طروادة الخشبي.
وقد كانت قصّته موضوعا لمسرحيتين؛ الأولى للأديبة الفرنسية جورج صاند والثانية للشاعر الايرلندي الحائز على نوبل في الآداب شيموس هيني.
كما استلهم الشاعر الانجليزي وليام ووردزوورث أحداث أسطورة فيلوكتيتيس في إحدى قصائده.
عمل الفنان نيكولاي ابيلدغارد أستاذا بأكاديمية الفنون في كوبنهاغن. وعُرف بدفاعه عن الإصلاح السياسي وحرّية الفكر. كما كان مناوئا للنظام الملكي ولسلطة الكنيسة. وبعض لوحاته ما تزال إلى اليوم تزيّن قاعات مجلس النوّاب وبعض القصور الملكية في بلاده.