Thursday, February 08, 2018

لوحات عالميـة – 447

نقابـة صانعـي الأقمشـة
للفنان الهولندي رمبـرانــدت، 1662

عانى المؤرّخون من ندرة المعلومات عن رسّامي القرن السابع عشر الهولنديين. رمبراندت بالذات لم يترك مفكّرة أو سيرة ذاتية. وكلّ ما وُجد بعد وفاته كان بضع رسائل كان قد كتبها لنفس الشخص عن بعض المشاريع، ولكنها لا تكشف شيئا عن شخصيّة الرسّام وأفكاره.
ومن بين الوثائق الهولندية كانت هناك واحدة مهمّة تتضمّن جردا بممتلكاته بعد إعلان إفلاسه. وندرة المعلومات عن رمبراندت ليست نتيجة عدم اهتمام ولا لأنه كان غير معروف أثناء حياته، بل لأن مزاج الهولنديين عموما كان ضدّ النثر الذي يصف أو يشرح أو يتأمّل.
كان سكّان الأراضي المنخفضة يرون أن الحياة يجب أن تُعاش دون أن توصف بشكل مملّ. وربّما هذا هو السبب في أن هولندا لم تنجب شعراء أو روائيين أو كتّابا مسرحيين، بل رسّامين فقط.
كان الهولنديون يفضّلون أن يتصرّفوا ويفكّروا دون كلام أو تعليق أو تحليل، لذا لم يدوّنوا سوى ملاحظات بسيطة وعابرة عن رسّاميهم في العصر الذهبيّ.
في آخر عشر سنوات من حياته، رسم رمبراندت عددا من أعظم لوحات عصر الباروك. وحتى بعد إشهار إفلاسه، كان ما يزال يتلقّى تكليفات بالرسم، أي انه لم يكن عاطلا عن العمل تماما. وهذا كان مؤشّرا على الاحترام الكبير الذي كان يحظى به.
في هذه اللوحة، يرسم الفنّان بورتريها جماعيّا لأفراد نقابة صنع الأقمشة بتكليف من رئيس النقابة. كانت مهمّة النقابة تتمثّل في مراقبة الأقمشة للتأكّد من جودتها ومطابقتها للمعايير. وكان عمدة أمستردام هو من يعيّن أعضاءها الذين كانوا يعقدون اجتماعاتهم في مبنى خاصّ بهم.
الرجال الستّة في اللوحة يظهرون وهم جالسون في صالة وأمامهم طاولة مغطّاة بقطعة كبيرة من القماش. وأسماء هؤلاء الرجال معروفة لأنها مدوّنة في السجّلات التي تعود إلى تلك الفترة.
والكرّاس الذي أمامهم هو على الأرجح دفتر حسابات تُدوّن فيه أسماء الصنّاع الذين يتمّ اعتماد عيّناتهم، مع تاريخ الموافقة ومبلغ الرّسم المدفوع.
المكان المرتفع الذي يجلس فيه الأشخاص هو أداة توليف استخدمها رمبراندت لإحداث تأثير صوريّ. والرجل الثاني من اليسار يبدو على وشك الوقوف، ربّما لكي يجيب على سؤال من الحضور الذين لا يظهرون في اللوحة.
من التفاصيل اللافتة في الصورة ترتيب الرسّام لأماكن الحضور والعمق السيكولوجيّ الذي رُسمت به الشخصيات الستّ ونوعية الاهتمام والمزاج الذي أعطاه لكلّ منهم.
هناك أيضا الضوء الذي يأتي من جهة اليسار، والقماش الذي يغطّي الطاولة، وملابس الرجال ذات الألوان البيضاء والسوداء القويّة، والألوان البنّية والذهبية اللامعة التي تظهر في خلفية اللوحة لتضفي على المشهد مسحة من الدفء.
الحسّ الجمعيّ هو ما يميّز اللوحة وهو جوهرها وموضوعها الأساس. فجميع الأشخاص مجتمعون لتقييم نوعية الأقمشة التي يبيعها النسّاجون لأهل المدينة. أي أنهم يركّزون على غرض واحد، وهو الاهتمام بمصلحة الجمهور وبمصالح التجّار أيضا.
وقد أظهر فحص بالأشعّة اجري على اللوحة أن الرجل الذي يهمّ بالوقوف كان مرسوما في أقصى يمين اللوحة. أما الخادم، وهو الشخص الوحيد الذي لا يضع قبّعة على رأسه، فقد غيّر رمبراندت مكانه عددا من المرّات قبل أن يقرّر وضعه في مكانه الحالي.
بعد انتهاء رمبراندت من رسم اللوحة، تمّ تعليقها في مقرّ النقابة حتى عام 1771 عندما اشترتها بلدية أمستردام. وفي عام 1808، انتقلت إلى ملكية متحف ريكس الهولنديّ وما تزال فيه إلى اليوم. وفي احد الأوقات، اختيرت اللوحة كي تزيّن علب إحدى ماركات السيغار الهولندية.
ولد رمبراندت في يوليو من عام 1606، وكان الابن التاسع لأبوين فلاحين. كان طفلا معجزة في الرسم منذ طفولته. ورغم تعليمه المتواضع، إلا انه رسّخ نفسه في أمستردام ثم تزوّج من امرأة موسرة وجميلة تُدعى ساسكيا، وتمتّع الاثنان بفترة قصيرة من الرخاء والشهرة.
في العصر الذي عاش فيه رمبراندت، كان عدد الهولنديين اقلّ من ثلاثة ملايين نسمة. لكنهم استطاعوا تحقيق ما يشبه المعجزة عندما أسّسوا لهم امّة مستقلّة وناهضة. ولم يلبثوا أن قيّدوا نفوذ انجلترا كسيّدة على بحار العالم، فتبوّءوا مكانها ودفعوا بها إلى المركز الثاني.
وقد سُمع هدير سفن ومدافع الهولنديين في البحار والجزر البعيدة لعشرات السنين ورأوا علم بلدهم وهو يرتفع عاليا في كلّ مكان تقريبا.
ومع ذلك لم يمجّد الرسّامون الهولنديون تلك الانجازات والانتصارات ولم يتغنّوا بها، بل اكتفوا برسم الحياة الصامتة والقصص الدينية والأساطير القديمة.
بالنسبة لرمبراندت، فعلى النقيض ممّا كُتب عن رحلاته إلى السويد وانجلترا واسبانيا، يُرجِّح مؤرّخو الفنّ الآن انه لم يغادر هولندا أبدا وأن كلّ رحلاته كانت داخل عالمه الخاصّ. واليوم يُقدّر عدد لوحاته المعروفة بأكثر من ألف لوحة، منها تسعون بورتريها رسمها لنفسه.

Sunday, February 04, 2018

لوحات عالميـة – 446

تجربة على طائر في مضخّة هوائية
للفنان البريطاني جـوزيف رايـت اوف ديـربي، 1768

في عصر التنوير، كانت التجارب العلمية تُجرى من قبل علماء مترحّلين يحملون معهم أدواتهم بين القرى والمدن الأوربّية حيث يعرضون تجاربهم على الناس. وفي ذلك الوقت، كانت هناك شكوك حول مدى قدرة العلم على تفسير ألغاز الطبيعة والإجابة على كلّ التساؤلات.
وكانت في انجلترا آنذاك جمعيات علمية عديدة من بينها واحدة تُدعى "الجمعية القمرية". وكانت تضمّ علماء ومثقّفين يعقدون اجتماعاتهم في ليلة اكتمال القمر من كلّ شهر حتى يتسنّى للمشاركين العودة إلى منازلهم بأمان. والأشخاص الذين يحضرون تلك الاجتماعات كانوا عادة متخصّصين في الفلك والطبّ والنبات والجيولوجيا والآثار وغيرها من العلوم.
كان الرسّام جوزيف رايت اوف ديربي يحضر بعض التجارب العلمية التي كانت تُجرى في الجمعية. وقد أصبح مشهورا برسم مثل تلك التجارب. وهو في هذه اللوحة يرسم مجموعة من الأشخاص الذين يحضرون تجربة جهاز عبارة عن مضخّة هوائية. كانت المضخّة الهوائية قد اختُرعت قبل ذلك التاريخ بحوالي مائة عام على يد عالم يُدعى اوتو فون غيريك، وأصبحت أداة مهمّة في المختبرات العلمية، وكثيرا ما كانت تُستخدم كوسيلة إيضاح في المحاضرات والدروس العلمية.
وفكرة المضخّة تقوم على سحب الهواء من فراغ يوضع بداخله قطّ أو طائر أو فأر، فيموت الحيوان أو الطائر بعد ذلك موتا قاسيا نتيجة انقباض رئته بعد أن يغادرها الهواء. وكانت تلك التجارب تصدم كلّ من يراها، والكثيرون كانوا يعتبرون أنها تخلو من الرحمة والإنسانية.
العالِم في هذه اللوحة، أي الشخص ذو الشعر الأشيب الطويل، يقوم بإفراغ الهواء من كرة زجاجية ضخمة يستقرّ بداخلها طائر. ويده اليسرى تمسك بزرّ توقيف الهواء بحيث إذا فتحه في أيّة لحظة فإن الطائر يعيش وإذا استمرّ في حبس الهواء عنه يموت.
والرجل الجالس في مقدّمة المشهد إلى اليسار يضع يده فوق ساعة مهمّتها قياس فترة تعرّض الطائر لانقطاع الهواء. والإناء الزجاجيّ الموضوع على الطاولة يحتوي على سائل يضمّ بقايا جمجمة بشرية. والعجوز الجالس إلى اليمين يتأمّل الجمجمة بصمت باعتبارها تذكيرا بالموت.
ملابس العالم الذي يعرض التجربة غريبة وشعره جامح، لكنه يبدو كاريزماتيّا وذا عزيمة قويّة لأنه هو الذي سيقرّر في النهاية حياة الطائر أو موته. ويقال أن اسمه جيمس فيرغيسون الذي كان صديقا للرسّام، وقيل أيضا انه ايراسموس داروين حفيد العالم تشارلز داروين.
الشمعة التي تضيء الغرفة موضوعة خلف الكأس الزجاجيّ على الطاولة، والفضل يعود لهذه الشمعة الوحيدة في أن نورها هو الذي يكشف عن الوجوه ويعكس التعابير المرتسمة على كلّ وجه. وربّما لو كان الوقت نهارا، لما كان للمشهد كلّ هذا التأثير الدراميّ ولما وجد المتلقّي ما يدفعه للاهتمام بكلّ وجه ونوعية استجابة كلّ شخص لما يجري.
والمشهد كلّه يبدو وكأنه ينبثق من الظلام. وعبر النافذة في أعلى اليمين، نرى قمرا يمرّ من بين الغيوم، وهذا التفصيل يضيف دراما أكثر إلى الصورة.
والرسّام يؤكّد على ردود الفعل المتباينة للحضور. ففي أقصى يسار اللوحة مثلا، يقف رجل وامرأة متزوّجان حديثا، والاثنان يبدوان منشغلين بنفسيهما ولا يعيران اهتماما لما يحدث في الغرفة. وفي منتصف اللوحة تقريبا، تقف فتاتان صغيرتان وهما تراقبان ما يجري. الفتاة الأكبر تشيح بوجهها بعيدا كي لا ترى ما يحدث، بينما يحاول والدهما تهدئتهما، ربّما بالقول أن الهواء لن يُسحب بأكمله وأن الطائر لن يموت.
ضوء القمر والشمعة استلهمهما الرسّام من أسلوب كارافاجيو. أما الواقعية الناعمة والدقيقة التي يتّسم بها المنظر بعمومه فقد اعتمد فيها على أسلوب الهولنديّ غيريت دو، ولم ينسَ أن يضع الحدث بأكمله في دائرة مثيرة من الكياروسكورو.
استخدم رايت أصدقاءه وجيرانه كنماذج للشخصيات. وهو بطريقة ما يُشرِك المتلقّي معه في مراقبة التجربة. أما مصير الطائر فغير معروف على وجه اليقين، لكن المؤكّد انه قد يموت اختناقا في ما لو حُبس عنه الأكسجين لفترة أطول ممّا ينبغي.
ويقال أن الطائر ببّغاء من ذوات العُرف، وهذا الطائر كان غير معروف في انجلترا حتى عام 1773 عندما رسمه أشخاص كانوا ضمن رحلة الكابتن كوك. وربّما يكون الطائر قد جلبه إلى انجلترا تجّار هولنديون. وثمّة احتمال بأن يكون الرسّام قد رأى صورته في بعض المتاحف أو اللوحات. ووجوده في انجلترا آنذاك كان أمرا نادرا، وإن وُجِد فليس من المتصوّر المخاطرة به من اجل تجربة.
كان جوزيف رايت اوف ديربي احد أفضل الرسّامين الانجليز في القرن الثامن عشر. ويوصف بأنه أوّل رسّام انجليزيّ جسّد في صوره روح الثورة الصناعية.
وفي بداياته كان يرسم مناظر تضيئها الشموع وتكثر فيها الأنوار الباهتة والظلال المعتمة. وكان في هذا متأثّرا بكارافاجيو وبالرسم الهولنديّ، وخاصّة رمبراندت.
رسم رايت هذه اللوحة عندما كان في الرابعة والثلاثين من عمره. وعُرضت لأوّل مرّة في عام 1768، ثم بيعت بمبلغ مائتي جنيه إسترليني، ثم اشتراها تيت غاليري عام 1929، ثم اشتراها أخيرا الناشيونال غاليري عام 1986.
ولد الرسّام في سبتمبر من عام 1734 في ديربي بانجلترا لعائلة من المحامين، وكان ترتيبه الثالث بين إخوته. وقد درس الرسم في لندن تحت إشراف جوشوا رينولدز وتوماس هيدسون. وفي ما بعد تأثّر بلوحات الكسندر كوزين وطريقته في التوليف.
وفي عام 1883، ذهب إلى ايطاليا في رحلة دراسية. ويبدو انه أثناء مكوثه في نابولي رصد بعض الأنشطة البركانية في قمّة جبل فيزوف فصوّرها في بعض لوحاته. وفي عام 1781، اختير ليعمل أستاذا في الأكاديمية الملكية في لندن. لوحات رايت تعكس تأثيرات الثورة العلمية التي بدأت تقوّض سلطة الدين في المجتمعات الأوربّية. ومن أشهرها واحدة بعنوان خيميائيّ يبحث عن حجر الفلاسفة يصوّر فيها اكتشاف عنصر الفوسفور على يد الكيميائيّ الألمانيّ هانغ براند.
ومع انه رسم عددا من المناظر الكلاسيكية والبورتريهات، إلا أن أشهر أعماله ذات طبيعة علمية وفلسفية وفكرية. وكانت لتلك اللوحات أهميّتها في أواخر القرن الثامن عشر، أي زمن الثورة الصناعية وعصر التنوير.
قضى رايت معظم حياته في ديربي وتوفّي بها عام 1797.