Thursday, May 19, 2016

لوحات عالميـة – 374

العنكبـوت المبتـسم
للفنان الفرنسـي اوديـلـون رِيـدون، 1881

كان اوديلون ريدون يقول إن الخوارق ليست من مصادر إلهامه وأنه يكتفي بتأمّل العالم الخارجيّ والحياة عموما، ومن ثمّ يرسم انطباعاته عن ما يراه.
لكن هناك عدّة مصادر أسطورية وأدبية وشعرية يُعتقد أنها أسهمت في تشكيل ثقافته الصُورية وتغذية خياله.
كان، مثلا، صديقا لستيفان مالارميه، كما استوحى بعضا من رسوماته من عالم شكسبير، وممّا لا شك فيه انه تأثّر أيضا بأعمال إدغار آلان بو وفلوبير.
وهناك مفارقة صارخة بين الأسلوب المنزليّ لهذا الرسّام الأنيق الذي كان يعيش حياة هادئة مع زوجته وطفله في شقّة باريسية، وبين الشخصيات الفانتازية، والمخيفة أحيانا، التي كان يضمّنها رسوماته.
وما زاد في غموض أعماله الغريبة حقيقة انه كان دائما يرفض تفسيرها أو شرحها أو الحديث عن أصولها.
في تلك الفترة أيضا كان ريدون منكبّا على قراءة قصص ثيودور غراندفيل المستمدّة من عالم الخيال. وربّما من تلك العوالم الفانتازية خرج هذا العنكبوت العملاق الظاهر في اللوحة بعينين وابتسامة غامضة بينما يبدو منهمكا في رقصة مخيفة.
وكان زميله غوستاف دوريه قد رسم قبل ذلك لوحة اسماها "العنكبوت". ويبدو أن ريدون رسم هذه اللوحة وفي ذهنه أن يغامر بالدخول في عالم المسوخ مستلهما دوريه.
في ذلك الوقت، كان ريدون يعاني من سلسلة من نوبات الاكتئاب. ولهذا السبب، ربّما، رأى بعض النقّاد في لجوئه إلى الرسم بالفحم أسبابا روحية وسيكولوجية.
واستخدام الفحم مثّل نقطة تحوّل كبيرة في تاريخ الرسم. وكانت تلك الخطوة تشكّل قطيعة مع الأسلوب الأكاديمي في الرسم آنذاك. والمعروف أن الفحم يختلف عن اللون الأسود التقليديّ في أن الأوّل يعطي عددا بلا نهاية من الظلال.
جماعة الأنبياء، مثلا، ومن بينهم موريس دونيه وفويار وبيير بونار، كان ريدون على علاقة وثيقة بهم رغم تباين السنّ. وهؤلاء أيضا كانوا يدركون الأهمية الكبيرة للفحم في تطوّر الفنّ فاستخدموه في أعمالهم.
وفي نفس الفترة التي رسم فيها هذه اللوحة، رسم ريدون لوحة أخرى اسماها "الملاك الساقط من عليائه". كان مهتمّا بالملائكة والمخلوقات الغيبية، لكن الكائن المرسوم في اللوحة لا يبدو على هيئة ملاك.
كان مهتمّا برسم الوحوش والمسوخ الغريبة. ويبدو انه كان يتعمّد أن يرسم صورة مجازية للعالم تنسجم مع الصورة الخيالية التي كانت في ذهنه.
وفي كلّ الأحوال، يظلّ ريدون رسّاما متفرّدا لعب دورا مهما في تأسيس الرمزية وتأثّر به السورياليون.
بالنسبة لهذه اللوحة، لا يُعرف على وجه التحديد لماذا رسمها الفنّان ولماذا أعطى العنكبوت بعض خصائص الإنسان، ابتسامته تحديدا. هل أراد مثلا أن يبدو شرّيرا وبشعا؟ أم انه كان يحاول استكشاف الأبعاد الغامضة للأشياء؟
الأمر المؤكّد هو أن "العنكبوت المبتسم" كان بداية انشغاله بفكرة الكائنات المهجّنة التي يبدو أنها تجذّرت في ذهنه نتيجة افتنانه بالنباتات وبعلم الحيوان وعلم الأحياء المجهرية والنظريات الداروينية.
وبعض النقّاد أشاروا إلى أن اللوحة تتضمّن بعض السخرية، ويمكن أن تُقرأ باعتبارها كاريكاتيرا أراد ريدون من ورائه أن ينتقد عصره، بالنظر إلى المصاعب التي واجهها في حياته المبكّرة قبل أن يصل للشهرة التي كان يصبو إليها.
العنكبوت فكرة تكرّرت كثيرا في الثقافة والفنّ منذ القدم. وكثيرا ما يُصوّر على انه مخلوق مفترس وسامّ ومخادع. والعديد من الكتّاب والفنّانين تناولوا في أعمالهم الأسطورة القديمة عن أنثى العنكبوت القاتلة.
لوحة اراكني للرسّام الاسباني الكبير دييغو فيلاسكيز تصوّر أسطورة بطلها عنكبوت. والفيلسوف جان جاك روسّو أوصى ذات مرّة بأن يكون لكلّ إنسان مجاله الخاصّ والمحدّد، تماما مثل العنكبوت، كي نسيطر على ما يمكن أن يصل إليه نفوذنا وتأثيرنا. وفكرة روسّو مشابهة للقول الشائع "إعرف نفسك". أما ديدرو فقد كتب مقارنة فلسفية بين العنكبوت والإنسان.
ولد اوديلون ريدون عام 1840 في بوردو لعائلة متوسّطة الحال. تعلّم الموسيقى منذ وقت مبكّر وكان دائما قارئا نهما. وفي بداياته قضى بضعة أشهر في مرسم الفنّان جان ليون جيروم. كما تأثّر بدافنشي ورمبراندت.
في الحرب العالمية الأولى، عام 1914، تمّ تجنيد ابنه في الجيش الفرنسيّ، وأصبح هو متشائما سوداويّ المزاج. وتوفّي بعد ذلك بعامين، أي في 1916، بينما كان يعمل على انجاز لوحته "العذراء".

Tuesday, May 17, 2016

لوحات عالميـة – 373

عقـوبة البـذخ
للفنان الايطالي جيوفـاني سيغانتيـني، 1891

كان اسم هذه اللوحة في البداية "عقاب الشهوة". وكان يُعتقد بأن هذا الاسم مستفزّ، لذا تمّ تغييره إلى "عقاب البذخ".
واللوحة واحدة من ثلاث لوحات رسمها جيوفاني سيغانتيني، مستلهما إيّاها من مقطع من قصيدة ايطالية بعنوان "نيرفانا" كتبها في القرن الثاني عشر راهب مسيحيّ يُدعى "لويجي ايليكا" يحاكي فيها نصّا هنديّا قديما.
يقول المقطع واصفاً العقوبة الأخروية المخصّصة للنساء اللاتي يرفضن الدور البيولوجيّ للمرأة كأمّ: الأمّ الرديئة في الوادي القاحل تدور دون توقّف في البرد الأبديّ، حيث لا غصن يخضرّ ولا زهرة تتفتّح".
سيغانتيني أصبح يتيما في سنّ الثامنة، وقضى بقيّة طفولته في عهدة أقاربه في ميلانو. وفي سنّ الشباب، عاش على عوائد أعماله الزخرفية، بينما كان يأخذ دروسا مسائية في الزخرفة والرسم الديكوري.
وحوالي العام 1880، اكتشفه متعهّد فنّي يُدعى فيتوريو دي دراغون ودعم مشاركته في معارض محليّة ودوليّة. وقد أصبح معروفا في ألمانيا خاصّة.
وفي عام 1896، أقام معرضا منفردا في ميونيخ، كما كان محطّ إعجاب رسّامين مثل فان غوخ وإنسور ومونك. أما كاندينسكي فقد وصفه بأنه احد أوائل من تبنّوا الروحانية في الفنّ.
أعمال سيغانتيني المبكّرة تتضمّن مشاهد ريفية خارج البيوت. وفي مرحلة تالية، شجّعه راعيه دي دراغون على أن يتبنّى التقسيمية أو النقطية. وكان الهمّ الأساس لهذه المدرسة هو الكيفية التي ترى بها العين الضوء والتجانب وطبقات اللون على رقعة القماش لإنتاج اهتزازات لامعة الألوان.
وقد استخدم الرسّام التقسيمية للإيحاء بالصفات الغامضة والصوفية ولتكثيف ردّ فعل المتلقّي الانفعالي، مع انه كان يسود اعتقاد آنذاك بأن كلّ من يرسم بالأسلوب التقسيميّ أو النقطي يعاني من الهستيريا وأمراض العيون.
في اللوحة نرى مجموعة من النساء وهنّ يعاقبن لارتكابهنّ خطيئة الإجهاض عن وعي أو بدافع الإهمال. أرواحهنّ تطفو على خلفية ثلجية من جبال الألب السويسرية حيث قضى سيغانتيني جانبا كبيرا من حياته.
عظمة وروحانية منطقة الألب كانت مصدر إلهام مستمرّ للرسّام الذي قيل أن آخر كلمات لفظها قبيل وفاته كانت عبارة عن مناجاة لتلك الجبال الباردة.
كان سيغانتيني قد فقد أمّه عندما كان في السابعة، وربّما كانت تحدوه الرغبة في تصوير صدمته الشخصية بفقدان والدته في تلك السنّ الغضّة.
كان يَعتقد أن دور المرأة في الحياة هي أن تكون أمّاً، وأن المرأة التي ترفض مسئوليات الأمومة لا بدّ وأن تكون بالضرورة امرأة شرّيرة وسيّئة وأنانية. وقد استمدّ هذا التصوّر من الأفكار الدينية ومن قداسة مريم العذراء وأيضا من خصوبة الطبيعة.
الشجرة الكبيرة إلى يمين اللوحة قد تكون رمزا دينيّا لشجرة الحياة. فرغم أنها تبدو متيّبسة وميّتة في الشتاء، إلا أنه مقدّر لها أن تولد من جديد وتزهر في فصل الربيع.
القصيدة نفسها التي ألهمت الرسّام توحي بإمكانية التجدّد والتحوّل، والأمّ الرديئة قد تعود في النهاية إلى فطرتها الطبيعية كما تكتسي شجرة ميّتة في فصل الشتاء بالأوراق والأغصان من جديد مع بوادر حلول فصل الربيع.
المعروف أن سيغانتيني أتى من بلد محكوم بالكاثوليكية، وهذا هو السبب في أن معظم أعماله متأثّرة بالأفكار الدينية. ومع ذلك يقال أنه لم يكن في حياته الخاصّة منسجما تماما مع العقيدة الكاثوليكية. فقد رفض، مثلا، أن يتزوّج من رفيقته وأمّ أولاده الأربعة.
ورغم الفكرة المأساوية للوحة، إلا أن التأثير والشعور الذي تثيره طقوسيّ وحالم بسبب الفرشاة الريشية الموظّفة فيها. أما الجوّ الغامض للمنظر فينسجم مع رؤية سيغانتيني الغيبية عن العلاقة ما بين الإنسان وعالم الطبيعة.
ولد جيوفاني سيغانتيني في ترينتينو التي كانت آنذاك جزءا من الإمبراطورية النمساوية المجرية. وقضى أولى سنوات عمره في رعاية أمّه التي مرّت بتجربة اكتئاب شديد بعد موت أخيه الأصغر. وقد اتسمت تلك السنوات بالفقر والجوع وقلّة التعليم نظرا لضعف حيلة الأمّ.
في شبابه المبكّر اكتسب سيغانتيني رزقه من رعي الغنم في الجبال. وكان يقضي ساعات طويلة هناك في عزلة وهو يرسم. ثم انتقل بعد ذلك إلى ميلانو حيث عمل بتدريس الرسم ورسم الصور الشخصية. وفي تلك الفترة كرّس جهده لدراسة الحياة في الجبال وأصبح يوصف بأنه "رسّام جبال الألب".
سيغانتيني معروف جيّدا في ايطاليا وسويسرا والنمسا، لكنه ما يزال شبه مجهول خارج هذه البلدان. والمؤسف أن لوحاته غالبا موجودة في مجموعات فنّية خاصّة ولا يمكن العثور على أيّ منها في أيّ متحف.
وقد قضى هذا الرسّام حياته كلّها في سويسرا كشخص بلا جنسية، رغم انه تقدّم مرارا يطلب نيل الجنسية السويسرية. لكن بعد أن أصبح مشهورا وطاعنا في السنّ وافقت سويسرا على منحه جنسيّتها. لكنه رفضها رغم مشاكله قائلا إن ايطاليا هي موطنه الحقيقيّ.
كان سيغانتيني منجذبا دائما نحو الطبيعة. وشغفه هذا أدّى في النهاية إلى موته، إذ أصيب أثناء إحدى جولاته في الجبال بالتهاب في الغشاء الداخلي للبطن، ولم يكن ممكنا إسعافه أو نقله بسرعة إلى البلدة، فتوفّي في الطريق.