Friday, June 24, 2011

لوحات عالميـة – 282

نمـر في عاصفـة استـوائيـة
للفنان الفرنسي هنـري روسّـو، 1891


عُرف هنري روسو برسوماته التي يصوّر فيها الأدغال. وكانت هذه هي لوحته الأولى عن الموضوع. وفيها يصوّر نمرا يضيئه وميض برق خاطف، بينما يتأهّب للانقضاض على فريسته وسط عاصفة استوائية عاتية.
أكاديمية باريس للرسم امتنعت عن قبول هذه اللوحة في حينه، ما اضطرّ الرسّام إلى عرضها في معرض الفنّانين المستقلّين الذي كان مفتوحا لكافّة الرسّامين ولم يكن به محكّمون. وقد قوبلت اللوحة بردود فعل مختلفة ما بين مستحسن وناقد.
من المعروف أن روسو علّم نفسه بنفسه ولم يتلقّ أيّ دروس نظامية في الرسم. وهذا ما يفسّر سرّ شعبية أعماله وميل بعض النقّاد لاعتبارها تطوّرا غامضا في تاريخ الفنّ.
والحقيقة أنه لم يأت إلى الرسم إلا متأخّرا. فقد ظهرت أولى لوحاته، وكانت عبارة عن منظر طبيعي مع طاحونة، عندما كان في الخامسة والثلاثين.
ولوحاته بشكل عام تتّسم بالتوليف البسيط . وفي زمانه، سخر معظم النقّاد من أعماله ووصفوها بالطفولية والساذجة.
لكن على الرغم من بساطتها الظاهرية، إلا أن لوحات روسو عن الغابات مبنيّة وبدقّة على شكل طبقات يعلو بعضها فوق بعض. كما انه كان يميل إلى استخدام عدد كبير من الظلال الخضراء للامساك بالخصوبة والخضرة الوفيرة التي تتميّز بها الحياة في الغابات.
وقد رسم روسو في بداياته العديد من اللوحات عن المظاهر الحضرية في باريس. لكن تلك اللوحات خالية من الفوضى والضجيج اللذين يميّزان الحياة العصرية في المدن الكبيرة عادة. والمزاج الهادئ في لوحاته الحضرية يتناقض مع صوره عن الغابات التي تبدو مشحونة بالانفعالات والحركة.
ويقال إن الرسام خَبِر الحياة في الغابات الاستوائية في المكسيك. لكن المؤكّد انه لم يغادر فرنسا أبدا، كما اتضح في ما بعد. ويبدو أن مصدر إلهامه أتى من الحدائق النباتية في باريس التي تتضمّن عادة صالات لعرض عيّنات من الحيوانات المحنّطة والغريبة.
غير أن هناك عاملا آخر لا يقلّ أهمية. فقد عاش روسو في زمن الاستعمار الفرنسي للعديد من البلدان في العالم الثالث. وقد وفّر هذا العامل للفرنسيين، ضمن أشياء أخرى، ضروبا جديدة من التسلية والترفية من قبيل المعارض التي كانت تقام في باريس وتنقل قرى بأكملها مع قاطنيها وثقافاتها من أفريقيا واسيا لتضعها أمام أنظار الناس. وفي ذلك الوقت ظهرت مجلات شعبية وأعمال قصصية وروائية كثيرة تمتلئ بقصص المغامرات وصور الحيوانات الغريبة والمتوحّشة ومغامرات المستكشفين ولقاءاتهم مع السكّان الأصليين المتعطّشين للدماء.
وقد كتب احد النقّاد واصفا لوحات الفنّان عن الغابات بقوله إن روسو يرسم الغابات البكر بكل ما تزخر به من مظاهر الجمال والرعب الذي كنّا نحلم به ونحن أطفال". كما وصفها آخر بأنها لحظات من الصراع الدارويني والغرابة السوريالية التي تتجلّى وسط جنّات مخملية من النباتات والأشجار".
الهيئة المتحفّزة للنمر في اللوحة يُرجّح أنها مأخوذة من رسم بالباستيل لـ اوجين ديلاكروا. ومن الملاحظ أن طريدة النمر تقع خارج المشهد. ترى، ما الذي سيحدث؟ هل سيظفر النمر بفريسته؟ أم ستتمكّن من الإفلات منه في نهاية المطاف؟ هذه الاحتمالات متروكة لمخيّلة وتقدير الناظر، مع أن روسو قال في إحدى المرّات أن النمر يوشك في الحقيقة على أن ينقضّ على مجموعة من المستكشفين.
روسو كانت له أيضا طريقته الخاصّة في تصوير المطر المنهمر من خلال رسم طرق فرعية من الطلاء الفضّي عبر لوحة القماش. وهي تقنية مستوحاة من لوحات وليام بوغورو، على ما يبدو.
"نمر في غابة استوائية" اشتراها الناشيونال غاليري في لندن عام 1972 بمساهمة مالية من الملياردير الأمريكي والتر انينبيرغ.

Wednesday, June 22, 2011

لوحات عالميـة – 281

منتـزه في الخريـف
للرسّام البيلاروسي ليونيـد افريمـوف، 2009


الخريف ليس مجرّد فصل من فصول السنة، وإنما حدث يتغيّر فيه شكل الأرض ووتيرة الحياة وأمزجة البشر والكائنات.
في هذه اللوحة يصوّر ليونيد افريموف جمال الطبيعة ذات يوم ممطر في منتزه تصطفّ على جانبيه الأشجار التي تجرّدت من أوراقها الحمراء في ذروة فصل الخريف.
وعلى أرضية المنتزه المبلّلة بفعل المطر تظهر انعكاسات أوراق الشجر والناس وقد اصطبغت بألوان بهيّة ورائعة.
الأسلوب وحيوية ونوعية التوليف وقيم الألوان النهائية في اللوحة تذكّر إلى حدّ ما بـ مونيه وألوان الانطباعيين. وقد مزج الرسّام هنا الأسلوب الواقعي بعناصر الضوء والجوّ، على غرار ما يفعله الانطباعيون.
افريموف يُعتَبر رسّاما جديدا نسبيا على المشهد الفنّي. والكثير من لوحاته تتحدّث عن نفسها. مناظره مملوءة بالألوان الساطعة والانعكاسات المائيّة والمضيئة. ومن الواضح انه يعشق الليل، بدليل هذا العدد غير القليل من لوحاته التي تصوّر مشاوير ليلية حميمة في شوارع وطرقات المدن الروسية القديمة.
كما أن لوحاته لا تخلو من صور لأزهار وحيوانات بالإضافة إلى صور الأشخاص والمناظر الحضرية.
وقد جرّب الرسّام تقنيات مختلفة في الرسم. لكنه في النهاية وقع في حبّ الألوان الزيتية.
وكلّ لوحة من لوحاته تثير مزاجا مختلفا. لكنها إجمالا تعكس مشاعر الفنّان وعواطفه وأيضا حبّه للموسيقى وحرصه على إبراز مظاهر الجمال والتناغم في العالم.
ممّا يسترعي الاهتمام أيضا في هذه اللوحة الألوان الناعمة والمشبعة والتعامل البارع مع نسب الضوء والظلّ.
ومن الواضح أن الرسّام لجأ إلى استخدام السكّين أكثر من الفرشاة لوضع الطلاء على رقعة الرسم، وهي براعة يندر أن يتقنها كلّ رسّام.
كما أن مهارته في استخدام عدّة ألوان زيتية متوهّجة أضفى مزيدا من الجمال على المشهد.
ولد ليونيد افريموف في بيلاروسيا عام 1955م. وتخرّج من مدرسة الفنون في فيتسبيك التي شارك في تأسيسها الرسّام مارك شاغال عام 1921م. وإلى نفس تلك المدرسة ينتمي كلّ من كاندينيسكي وماليفيتش.
افريموف يعيش اليوم في فلوريدا بالولايات المتحدة. وبالإمكان التعرّف على أعماله بسهولة. والكثير من النقّاد يعتبرون أسلوبه متفرّدا ولا يمكن تقليده.

Sunday, June 19, 2011

لوحات عالميـة – 280

أنـا والقـريـة
للفنّان الروسي مـارك شاغـال، 1911


يحتلّ مارك شاغال مكانة فريدة في عالم الرسم. وطوال حياته، كان فنّانا مستقلا. ولطالما انتُقد على قلّة الواقعية في فنّه.
كان من عادته أن يملأ لوحاته بصور لملائكة وعشّاق وحيوانات طائرة وعازفي كمان وديَكة وعمّال سيرك. ويمكن القول إن مناظره تعكس إيمانه القويّ بالمعجزات وتعبّر عن جمال الخليقة وعن الحكمة اللانهائية للخالق.
لوحته هنا هي تمثيل حالم للماشية والمراعي والمزارع والبيوت الريفية البسيطة التي لم تبارح ذاكرته منذ كان طفلا. تنظر إلى هذا اللوحة فيساورك إحساس بأنها لعبة صاغها وأبدعها عقل طفل.
رسم شاغال اللوحة بعد عام من وصوله إلى باريس وكان في ذلك الوقت في الخامسة والعشرين من عمره.
وفي اللوحة يستذكر بعضا من تفاصيل مجتمعه الأصلي في فيتبسك التي كانت آنذاك جزءا من أراضي روسيا قبل أن يجري ضمّها في ما بعد إلى أراضي جمهورية بيلاروس أو روسيا البيضاء.
في القرية، كان الفلاحون والحيوانات يعيشون جنبا إلى جنب في اعتماد متبادل. الربيع الذي ترمز له شجرة الحياة أسفل اللوحة هو نوع المكافأة التي يجنيها الفلاحون على شراكتهم.
في المجتمع الذي جاء منه شاغال، كانت الحيوانات تشكّل نوعا من الصلة التي تربط البشر بالكون. والأشكال الدائرية الكبيرة في اللوحة ترمز إلى دوران الشمس، وكذلك إلى شكل القمر والأرض.
وقد استوحى الرسّام معمارية اللوحة من المساحات المتكسّرة للتكعيبية. لكن لوحة شاغال هي نسخة شخصية خاصّة به.
في مقدّمة المنظر نرى رجلا ذا وجه اخضر يلبس صليبا حول عنقه وتعلو رأسه قبّعة، بينما يمسك بيده غصن شجرة ويحدّق مباشرة في رأس ماعز ضخم انطبعت على وجهه صورة ماعز اصغر تحلبه امرأة. وفي الخلفية يظهر عدد من البيوت وكنيسة ومزارع يرتدي ملابس سوداء وامرأة في وضع مقلوب.
عندما كان صبيّا، كان الرسّام شغوفا بالهندسة من خطوط وزوايا ومثلّثات ومربّعات.. إلى آخره. وقد قال في إحدى المرّات إن هذه الأشكال تحمله إلى آفاق بعيدة وساحرة.
في باريس، استخدم شاغال بُنى هندسية كان يوظّفها في لوحاته تعبيرا عن حنينه إلى وطنه الأصلي. وإذا صحّ أن التكعيبية كانت في الأساس فنّا للمجتمع الطليعي الحضري، فإنه يمكن اعتبار "أنا والقرية" حكاية ساحرة تجسّد حنين الإنسان إلى بساطة العيش في الأرياف حيث تختلط الكائنات بعضها ببعض في تناغم وانسجام.
يقول شاغال: بالنسبة للتكعيبيين، فإن اللوحة هي عبارة عن سطح مغطّى بالأشكال في ترتيب معيّن. وبالنسبة لي، اللوحة هي سطح مغطّى بتصاوير للأشياء ولا أهمّية فيها للمنطق".
بعض مؤرّخي الفنّ يشيرون إلى شاغال باعتباره شاعرا وحالما كبيرا. وطوال حياته كان يلعب دور اللا منتمي والفنّان غريب الأطوار. وبفضل خياله الواسع وذاكرته الممتازة، تمكّن من استخدام موتيفات ومواضيع قويّة في لوحاته مثل مَشاهد الريف وحياة الفلاحين.
حياة مارك شاغال وأسلوبه الفنّي رسما له في أذهان الكثيرين صورة مواطن عالمي ما يزال يعيش بداخله طفل. وكثيرا ما يبدو على هيئة شخص غريب وضائع بسبب الأحداث الغريبة والمتناقضة التي كان شاهدا عليها.
وقبل سنوات من وفاته في فرنسا عام 1985، كان شاغال قد شهد تبدّد الآمال العريضة التي كان يعقدها على الثورة الروسية والخيبة الكبيرة التي انتهت إليها تلك الثورة. ووصل إحباطه إلى منتهاه عندما علم بالمصير المشئوم الذي آلت إليه قريته التي نشأ فيها وصوّر أجواءها الساحرة في لوحاته. إذ تسببّت الحرب العالمية الثانية في تدمير القرية تدميرا تامّا وقتل غالبية سكّانها.