Friday, January 05, 2018

لوحات عالميـة – 439

لفتـة وفـاء لديـلاكـروا
للفنان الفرنسي هنـري فونتـان-لاتـور، 1864

كان اوجين ديلاكروا احد أهمّ الفنّانين الفرنسيين في القرن التاسع عشر وربّما أعظم رسّام أنتجته المدرسة الرومانتيكية.
أعمال ديلاكروا وإنجازاته جعلت منه بطلا في أعين كثير من الرسّامين الذين أتوا بعده سواءً في فرنسا أو خارجها. وأسلوب استخدامه للّون كان له اثر كبير في تطوّر الحركة الانطباعية وما بعدها.
وكان هذا الفنّان ملهما للعديد من الرسّامين مثل بيكاسو الذي رسم سلسلة من خمس عشرة لوحة استوحاها جميعا من لوحة ديلاكروا المشهورة نساء الجزائر.
كان بيكاسو مفتونا طوال حياته بالمعلّم الفرنسي. وقد اعتاد أن يزور اللوفر مرّة كلّ شهر لكي يرى اللوحة ويدرسها. وعندما سُئل عن شعوره تجاهه قال: ذلك اللعين، كان رائعا بما لا يوصف".
وحتى هنري ماتيس كان معجبا كثيرا بديلاكروا ولطالما اعتبره معلّمه في اللون وفي الرسومات الاستشراقية.
وعندما توفّي ديلاكروا في أغسطس من عام 1863 أقيمت له جنازة متواضعة غابت عنها الدولة، واُعتبِر ما حدث إهانة كبيرة بحقّ فنّان كان الكثيرون يعتبرونه أعظم رسّام أنجبته فرنسا.
الرسّام هنري فونتان-لاتور كان احد أصدقاء ديلاكروا المقرّبين. وقد شعر بالغضب من تجاهل فرنسا الرسمية لجنازة الفنّان الكبير. وكبادرة منه لتكريم صديقه الراحل وإحياءً لذكراه، رسم لاتور هذه اللوحة وهي عبارة عن بورتريه جماعيّ جمع فيه عددا من أصدقاء ديلاكروا من الرسّامين والنقّاد وهم يقفون أمام بورتريه ضخم للرسّام الراحل.
في الصفّ الأماميّ من اللوحة، ومن اليمين لليسار، يظهر الشاعر شارل بودلير الذي كانت تربطه بديلاكروا صداقة قويّة. كان بودلير شغوفا برسومات صديقه الملوّنة وذات الطابع الرومانتيكيّ. وقد أحسّ بحزن شديد لفقدان الرسّام الذي كان يعتبره تجسيدا لروح الحداثة التي طبعت فنّ وأدب النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وإلى جوار بودلير يقف الرسّام ادوار مانيه الذي يضع يده في جيبه، وكان هو وبودلير قد حضرا مأتم صديقهما. والملاحظ أن ديلاكروا في صورته في الخلفية ينظر تقريبا إلى مانيه كما لو أن لاتور يريد الإيحاء بأن مانيه سيكون خليفة ديلاكروا والشخص الذي سيتبوّأ بعده مركز الريادة في الرسم الفرنسي.
وإلى جوار مانيه يجلس الناقد والكاتب جول شامبفلوري، ثم الرسّام الأمريكيّ جيمس ويسلر الذي يظهر واقفا وهو يحمل باقة أزهار، ثم الرسّام هنري لاتور نفسه الذي يظهر مرتديا قميصا ابيض، وإلى جواره في أقصى اليسار يظهر الناقد الفنّي إدمون دورانتي في نظرة جانبية.
وفي الصفّ الخلفيّ، وأيضا من اليمين لليسار، يظهر الرسّام ألبير دو باليروي، ثم الرسّام فيليكس براكمون، فالرسّام الفونس لاغروس، وأخيرا الرسّام لويس كوردير الذي كان قد أصبح في ذلك الوقت رسّاما شبه منسيّ.
بورتريه ديلاكروا الذي يظهر في خلفية اللوحة نفّذه لاتور اعتمادا على صورة فوتوغرافية التُقطت للرسّام الراحل قبل عشر سنوات من ذلك التاريخ.
والملاحَظ أن لا احد من الكتّاب والرسّامين العشرة ينظر إلى ديلاكروا. وقد تكون الفكرة هي أن الوقت قد حان للنظر إلى المستقبل واستنباط أساليب وأفكار فنّية جديدة.
استلهم لاتور في رسمه لهذه الصورة لوحة جان اوغست انغر بعنوان تمجيد هوميروس ، في إشارة إلى أن ديلاكروا يشبه الشاعر الإغريقيّ من حيث انه يجسّد العبقرية التي ستستفيد منها الأجيال التالية.
العلاقة بين جيل ديلاكروا وجيل مانيه هي موضوع اللوحة. وهؤلاء الرسّامون والكتّاب، باجتماعهم هنا، إنّما يكرّمون رسّاما عُرف عنه عشقه الكبير للأدب والشعر وحرصه على أن يعكس ذلك الشغف في رسوماته.
ولوحة لاتور هذه كانت الأولى في سلسلة من اللوحات التي رسمها لبعض أصدقائه المقرّبين. كما أنها أوّل عمل كبير لرسّام مقرّب من الانطباعيين. وهي تُظهر طريقته في دراسة الشخصية واختيار تناغمات الألوان القاتمة. ويُرجَّح انه استوحى أسلوب تجميع الأشخاص فيها من البورتريهات الجماعية التي كانت تُنفّذ في هولندا في القرن السابع عشر.
بعض النقّاد رأوا في اللوحة بيانا دعائيا للرسّامين الواقعيين، بينما اخذ عليها آخرون ألوانها الصعبة وطابعها الفوتوغرافيّ.
المعروف انه بعد وفاة ديلاكروا، تمّ تحويل منزله الواقع في وسط باريس إلى متحف يحمل اسمه ويضمّ عددا من لوحاته.
ولد هنري فونتان-لاتور في غرينوبل في فرنسا في يناير من عام 1836. وتلقّى دروسا في الرسم منذ صغره على يد والده الذي كان رسّاما معروفا.
ثم التحق بمدرسة الفنون الجميلة وعمل في محترف غوستاف كوربيه، وأثناء ذلك كان يتردّد على اللوفر ويستنسخ أعمال كبار الرسّامين فيه.
كان لاتور صديقا للعديد من الرسّامين في زمانه. وأشهر أعماله هي بورتريهاته الجماعية، بالإضافة إلى رسوماته للأزهار والحياة الساكنة التي ذكر أحدها مارسيل بروست في روايته "البحث عن الزمن المفقود". كما رسم أيضا عددا من المناظر المطبوعة على الحجر والتي استلهمها من بعض مؤلّفات الموسيقى الكلاسيكية.
زار الرسّام لندن عدّة مرّات وعرض أعماله في أكاديميّتها الملكية. وقد بيعت بعض لوحاته مؤخّرا بمبالغ تربو على المليوني دولار أمريكي للوحة.
توفّي هنري لاتور في أغسطس من عام 1904 بعد إصابته بـ "داء لايم"، وهو مرض بكتيريّ يؤدّي إلى اختلال في وظائف الجسم، وخاصّة الجهاز العصبي.

Monday, January 01, 2018

لوحات عالميـة – 438

زوجـة التـاجـر
للفنان الروسي بوريـس كستـودييـف، 1918

يُعتبر بوريس كستودييف احد أشهر الرسّامين الروس في القرن العشرين. كان مهتمّا بإبراز الجمال الروسيّ، رغم انه رسم معظم لوحاته بعد الثورة البلشفية مع ما رافقها من أحداث واضطرابات سياسية واجتماعية كبيرة.
موتيفات الرسّام ومواضيعه كانت تذكيرا بحياة كانت معالمها قد اختفت وأصبحت جزءا من الماضي، لكن روائحها ونكهاتها لم تكن قد تلاشت بعد من الذاكرة.
وبعض لوحات كستودييف المستمدّة من الأساطير السلافية ساحرة بعوالمها وألوانها ومواضيعها. لكن لوحاته التي رسمها لطبقة التجّار في بلدته استراكان هي التي ما تزال تذكّر الناس به إلى اليوم.
وقد خَبِر الفنّان طريقة حياة التجّار منذ سنّ مبكّرة. فبعد أن توفّي والده، انتقلت أمّه مع بقيّة أبنائها للسكن في جزء من منزل فاره يملكه احد التجّار في بلدتهم. وبعد مرور سنوات، استدعى كستودييف ذكرياته عن تلك المرحلة عندما كان صبيّا وترجمها إلى لوحات باستخدام الألوان الزيتية والمائية.
كان الرسّام سعيدا بالعيش قريبا من التاجر وزوجته. وقد كتب في ما بعد يقول انه كان يسكن مملكة ساحرة من الذكريات والأحلام وأن ما رآه في ذلك المنزل كان أشبه ما يكون بأجواء القصص الخيالية.
وصوّر كستودييف جزءا من ذكرياته تلك عن الصباحات والأمسيات السعيدة التي كان يقضيها برفقة التاجر وزوجته.
في هذه اللوحة، يرسم الزوجة وهي تجلس في شرفة منزلهم وتتناول إفطارها مستمتعةً بالشمس وبصحبة قطّتها، مع طقوس الشاي والإيقاع المستمرّ للحياة في تلك البلدة الريفية.
البيئة المرفّهة والديكورات الجميلة والسماء الساطعة والأشجار في الخلفية تملأ اللوحة بالألوان والأضواء الرائعة.
وهناك تفاصيل أخرى معبّرة في اللوحة كالحياة الساكنة على المائدة والسماور الضخم والعنب والبطّيخ والتفّاح والخبز وغطاء المائدة الملوّن والآنية المزخرفة، وغير ذلك من تفاصيل استوحاها الرسّام من التقاليد المحلية الروسية.
وفي خلفية الصورة، يظهر جزء من طبيعة استراكان الجميلة مع أبراج الكاثدرائية ذات الألوان البيضاء والخضراء والمشيّدة فوق احد التلال.
بالنسبة لكستودييف، كانت حياة التاجر وزوجته مريحة ومثيرة. وقد رسم لوحتين أخريين للزوجة في وضعين مختلفين. وافتتان الفنّان بجمال نساء بلدته تطوّر في ما بعد عندما رسم لوحته المسمّاة فينوس الروسية.
"زوجة التاجر" تُعتبر من الصور الايقونية للفنّان، وقد ظهرت على أغلفة بعض المجلات بعد أن كانت بحوزة مالك مجهول. وبقيت اللوحة بعيدة عن الأنظار حتى عام 1998، عندما بيعت في مزاد بلندن بمبلغ ثلاثة ملايين دولار.
وبعض النقّاد رأوا في اللوحة رمزية خاصّة، إذ أنها تستثير الحنين إلى المجتمع الأبويّ الروسيّ الذي كان فاعلا حتى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين. كما أنها ترمز لروسيا في مستهلّ القرن الماضي عندما كان سكّان الأقاليم يعيشون حياة بساطة ووفرة وألفة.
ولد بوريس كستودييف في مارس من عام 1878 في بلدة استراكان الواقعة على ضفاف نهر الفولغا لعائلة من الطبقة الوسطى. كان والده يعمل أستاذا للفلسفة، وقد توفّي قبل بلوغ الرسّام سنّ الثانية من عمره. وتولّت أمّه المسئولية عن تربيته وإخوته.
درس الرسّام الكهنوت في أوّل شبابه، ثم تلقّى دروسا في الرسم على يد فاسيلي بيروف، ثم التحق بمحترف ايليا ريبين في أكاديمية سانت بطرسبورغ للفنون. وقد امتدحه الأخير وأثنى على موهبته.
وفي عام 1904، ذهب لدراسة الرسم في فرنسا واسبانيا وحضر دروسا في الرسم في باريس على يد رينيه مينار. ثم ذهب إلى ايطاليا فالنمسا وألمانيا. وأينما حلّ كان دائما يشعر بحنين لا يقاوم لوطنه الأمّ.
المعروف أن كستودييف وضع الرسوم الإيضاحية لعدد من الأعمال الأدبية من أهمّها كتاب "أرواح ميّتة" لغوغول، بالإضافة إلى ديواني "العربة" و"المعطف" للشاعر ليرمونتوف. وفي مرحلة تالية رسم إحدى المجموعات القصصية لليو تولستوي.
في عام 1909، أصيب الرسّام بالسلّ، فذهب إلى سويسرا للعلاج حيث قضى هناك عاما في أحد المصحّات الخاصّة. وبحلول 1916، كان قد أصبح مقيّدا إلى كرسيّ بسبب تدهور صحّته، لكنه استمرّ يرسم حتى بعد أن أعاقه المرض وجرّده من قدرته على أن يتحرّك بحرّية. وتوفّي في ليننغراد في مايو من عام 1927.