Wednesday, October 31, 2007

لوحات عالميـة - 143‏

جمـال روســي
للفنان الروسـي ألكسـي هـارلامــوف، 1921

قد لا يكون ألكسي هارلاموف اسما متداولا كثيرا في أوساط الفنّ التشكيليّ العالميّ، لكن لوحاته تدلّ على انه كان رسّاما متميّزا. كان تخصّصه الأساسيّ رسم البورتريه، لكن له لوحات يصوّر فيها الفقراء والفئات الاجتماعية الأقلّ حظّاً.
وكان قد حقّق نجاحا كبيرا في بلده روسيا، حيث رسم بورتريهات للعديد من أفراد الطبقة الارستقراطية فيها. في تلك الفترة، كان الاتجاه السائد الذي يغلب على أعمال الفنّانين الروس هو رسم المواضيع الدينية وتصوير السفن والحياة البحرية بشكل عام.
لم يمكث هارلاموف طويلا في مدينته سانت بطرسبورغ، إذ دائما ما كانت تحدوه الرغبة في السفر والتعرّف على تجارب فنّية جديدة. لذا هاجر إلى فرنسا، وهناك اتّسعت تجربته ونمت موهبته الفنّية أكثر وأصاب المزيد من النجاح والشهرة.
ولوحاته تذكّرنا إلى حدّ ما بأسلوب رينوار من حيث طريقته في استخدام الألوان والظلال، وإن كان يغلب على أسلوبه الطابع النيوكلاسيكيّ والواقعيّ.
في هذه اللوحة الجميلة استخدم هارلاموف ابنته كموديل، وهو كثيرا ما رسمها في العديد من البورتريهات بأوضاع مختلفة. وهي هنا تظهر في حالة تأمّل وعزلة مع شيء من الحزن، لكنها تبدو بعزيمة وحضور قويّين.
ومن الواضح أنه لم يكن يرسم اللوحة اعتمادا على ضربات الفرشاة فحسب، بل رسمها بقلبه ومشاعره، لذا استطاع أن ينفذ إلى روح الشخصية وأن يترجم مشاعرها بدرجة من الصدق والعفوية.
تعابير الطيبة والبراءة التي تنطق بها ملامح الفتاة وعيناها هي سمة نجدها في أعمال الفنّان الأخرى التي تستمدّ أجواءها من الحياة الريفية وبيئة الفلاحين التي تتّسم بالبساطة والتلقائية.
أيضا هناك الألوان الحيّة والمتناغمة التي تمتلئ بها اللوحة، ثمّ هذا التباين الرائع بين غطاء الرأس الأحمر والفستان الأبيض والخلفية التي اختار لها الرسّام اللون البنّي وتدرّجاته.
وطبعا لا يمكن للناظر إلا أن يجذب اهتمامه ذلك العقد الجميل من اللؤلؤ الذي يزيّن جيد الفتاة بألوانه الناعمة الشفّافة والمتناغمة مع البناء التشكيليّ العام للوحة.
ولد ألكسي هارلاموف في قرية ساراتوف على نهر الفولغا عام 1842 لعائلة من العبيد. وفي عام 1850 كسب والداه وعائلته حريّتهم. وقد درس الرسم أوّلا في أكاديمية سانت بطرسبورغ للفنّ ثم درس على يد الرسّام ماركوف الذي كان متخصّصا في رسم المواضيع التاريخية.
وفي بداياته، كان هارلاموف يقلّد أعمال كبار الرسّامين، وقد تأثّر على نحو خاص بأسلوب رمبراندت، ثم رسم مناظر حربية ودينية. كما انجذب إلى أعمال كلّ من فيرونيزي وروبنز التي رآها في اللوفر في ما بعد، ووقف مطوّلا أمام لوحة ديلاكروا "دانتي وفرجيل" ولوحة رمبراندت "طبيب التشريح".
وعندما تطوّرت موهبته وصار رسّاما معتبرا أصبح من بين زبائنه القيصر الروسيّ الكسندر الثاني. كما اشترت القيصرة ماريّا الكسندروفنا إحدى لوحاته.
وفي مرحلة تالية فاز بالميدالية الذهبية عن لوحته "عودة الابن الضالّ". وهذا مكّنه من أن يذهب إلى فرنسا ويدرس في مدرسة الفنون الجميلة بباريس على يد الرسّام ليون بونا.
وقد عرض بعض أعماله في صالون باريس وحصل على أكثر من جائزة. كما حظي بإعجاب الروائيّ إميل زولا الذي أثنى عليه وامتدح أسلوبه في رسم البورتريه وثمّن عاليا لوحته التي رسمها للكاتب ايفان تورغينيف. وفي باريس أيضا، رُشّح هارلاموف رئيسا لجمعية الرسّامين الروس في فرنسا.
غير أن نشوب الحرب بين فرنسا وبروسيا دفعه لمغادرة باريس إلى بلجيكا ثم قضى وقتا في إيطاليا وألمانيا، ثم استقرّ لبعض الوقت في انجلترا. وفي عام 1874 شارك في معرض الرسّامين الأكاديميين في سانت بطرسبورغ ونال لقب "أكاديميّ" تقديرا لموهبته.
رسم هارلاموف العديد من اللوحات لنساء جميلات تظهر على وجوههنّ تعابير الدفء والحنين والبراءة والرّقة. ومثل رينوار، كان يستخدم الزهور بكثرة في لوحاته للتأكيد على رقّة الموضوع وليرمز بها إلى مرحلة الشباب التي لا تدوم طويلا بل تذبل سريعا مثلما تذبل الأزهار.
الملكة الانجليزية فيكتوريا اُعجبت بإحدى لوحاته التي تصوّر أطفالا يلهون وسط الأزهار والتي رأتها في غلاسغو. ثم أصبح يلفت انتباه الموسرين الأمريكيين والأوربّيين الذين قدّروا عاليا صوره عن نساء وفتيات بهيئات مثالية.
وجامعو التحف واللوحات الفنّية من أثرياء أمريكا وأوربّا كانت تروق لهم هذه اللوحات وكانوا يهتّمون باقتناء وشراء أعماله التي تجسّد الروح العائلية وتعطي إحساسا بالبراءة والسلام الداخليّ.
ويتوزّع العديد من لوحاته اليوم على متاحف العالم الكبيرة من لوس انجيليس إلى سانت بطرسبورغ وحتى موسكو وتايوان. وقد استمرّ هارلاموف يرسم إلى أن توفّي في باريس عام 1922 عن عمر جاوز الثمانين.

Sunday, October 28, 2007

لوحات عالميـة - 142‏

أرنـب بـرّي صغيـر
للفنان الألماني البـريخـت ديورر، 1502

لا بدّ وان الكثيرين منا ألفوا رؤية هذه اللوحة، إذ لا تخلو منها كتب المطالعة المدرسية القديمة والحديثة. كما أنها تتبوّأ دائما المراكز الأولى في قوائم اللوحات الفنية الأكثر مبيعا، خاصة تلك اللوحات التي تقتنى لأغراض الديكور والزينة المنزلية.
واللوحة تنتمي إلى ذلك النوع من الأعمال الفنّية التي قد لا تلفت الاهتمام ولا ترتاح لها العين لأوّل وهلة. لكن النظر إلى تفاصيلها بشيء من التمعّن والتركيز سرعان ما يكشف لنا بعضا من ملامح الجمال والتفرّد فيها.
الملاحظة الأولى بشان اللوحة هي أنها تقدّم رسما واقعيا ومفصّلا يصل إلى درجة الكمال لأرنب برّي في وضع متحفّز. ويبدو الحيوان الصغير كما لو انه يحاذر الوقوع في قبضة عدوّ متربّص ينوي مهاجمته.
وإذا كانت لوحات مود لويس تعتبر أفضل ما رُسم عن عالم القطط، فإنه يمكن القول إن هذه اللوحة تصوّر أشهر حيوان في تاريخ الفنّ التشكيلي العالمي كله.
وثمّة احتمال بأن يكون البريخت ديورر رسم اللوحة لمجرّد المتعة الفنّية فحسب. ومع ذلك فإن كلّ شعرة وكلّ جزء وكل تعبير فيها يعدّ مؤشّرا على أن اللوحة أنجزت بحساسية وتمكّن عاليين، لدرجة انه يخيّل للناظر أن الحيوان قد عاد إلى الحياة وأصبح كائنا من لحم ودم. كما أن اللوحة تؤشّر أيضا إلى مدى قوّة ملاحظة الرسّام والدفء الإنساني الذي تختزنه مشاعره.
وقد ظهرت اللوحة لأوّل مرّة ضمن مجموعة رسومات بالألوان المائية أنجزها ديورر لتزيّن كتابا ألفه كونراد سيلتيس وضمّنه خمسين قصيدة حبّ يتغنّى فيها بالطبيعة وبعلاقة الإنسان بالحيوانات وبالكائنات إجمالا.
ويلاحظ أن ديورر لم ينسَ أن يوقّّّع اللوحة ويسجّل عليها تاريخ رسمه لها كما كان يفعل مع جميع لوحاته.
كان ديورر من أوائل الرسّامين الذين كانوا يؤمنون بأن الحيوان يمكن أن يكون موضوعا لأعمال فنية ذات شأن. وفي العصور التي جاءت بعده تلاشى الاهتمام برسم الحيوانات ثم عاد مجدّدا بحلول القرن الثامن عشر عندما رسم جورج ستبس لوحته الشهيرة ويسل جاكيت .
وقد كان النقاد في الماضي يعتبرون أن رسم الحيوان يمكن أن يوفّر دليلا على مهارة الرسّام وبراعته الفنية، غير أن ذلك لا يقدّم فنا عظيما يمكن أن يعبّر عن رؤى ومواقف أو عن إبداع حقيقي.
لكن ديورر اثبت من خلال هذه اللوحة بطلان تلك النظرية، حيث أصبحت اللوحة في ما بعد أحد أشهر الأعمال الفنية العالمية وأكثرها رواجا واستنساخا ومبيعا وتقليدا.
ويرى بعض النقاد أن ديورر كان آخر فنّاني العصور الوسطى لكنه بنفس الوقت كان أوّل فنّان حداثي، بالنظر إلى تجاوزه غيره وخروجه على التقاليد الفنية التي كانت سائدة في زمانه.
وقد عاش الفنان في عصر بدأ الناس فيه يهتمّون بتقديس العقل والاهتمام بالأمور الدنيوية على حساب الدين واعتبارات الإيمان.
في ما بعد، اتّسع الاهتمام بالرسومات التوضيحية التي تزيّن كتب الأطفال والقصص والأساطير الخيالية، ومن أشهر من تخصّصوا في هذا النوع من الرسم ادمون دولاك الذي رسم ألف ليلة وليلة و رباعيات الخيـّام، وآرثر راكهام الذي رسم سندريللا، وغوستاف دوري الذي رسم الكوميديا الإلهية، بالإضافة إلى أسماء مشهورة أخرى مثل نورمان روكويل و ماكسفيلد باريش.
وأخيرا، هناك من يقول انه إذا كان هناك عمل فنّي منفرد سجّل البدايات الأولى للثورة العلمية فربّما يكون هذه اللوحة التي سُخّر فيها الفن لخدمة التجريب وحبّ الاكتشاف والملاحظة.