Friday, August 14, 2009

لوحات عالميـة - 204

بورتريـه لزوجـة الفنـان
للفنان النمساوي إيغـون شِـيـلا، 1918

كان ايغون شيلا احد أكثر الرسّامين شهرة وتأثيرا في القرن العشرين.
وجزء من شهرته يعود إلى حقيقة انه عاش حياة عاصفة ومضطربة ومات في سنّ مبكّرة وهو لا يتجاوز الثامنة والعشرين.
وهناك من النقاد من يقدّرون فنّه ويثنون على موهبته. غير أن شيلا الحقيقي ظلّ دائما غامضا ومستعصيا على الفهم.
ويمكن التعرّف بسهولة على لوحاته اعتمادا على السمات الثابتة لشخصياته، كالعيون الفارغة والنظرات الضائعة والأجساد الشاحبة الهزيلة والأصابع الطويلة.
ويظهر أن طبيعة لوحات الفنان ونوعية مواضيعه لم تكن سوى انعكاس للتحوّلات التي كان يمرّ بها المجتمع النمساوي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
وثمّة من يقول إن رسوماته التي لا تروق للناظر كثيرا إنما تعكس عزلة شيلا ونفوره من مظاهر الازدواجية والنفاق التي كان سائدة في مجتمعه آنذاك. فقد كانت الطبقة الوسطى تدعي تمسّكها بالقيم الأخلاقية ولا تتردّد في انتقاد أفكار ونظريات سيغموند فرويد الثورية عن تأثير الدوافع الجنسية. غير أن تلك الطبقة كانت في نفس الوقت منغمسة في المتع الحسّية والجسدية.
ومع ذلك، كان مجتمع فيينا الثقافي في ذلك الوقت الأكثر ازدهارا في أوربّا وكان حاضنا للعديد من الأسماء الثقافية والفكرية البارزة مثل ستالين وفرويد وتروتسكي بالإضافة إلى عدد آخر من الكتّاب والفنانين الطليعيين.
وقد عاني شيلا من النبذ والتهميش بسبب نظرياته المتحرّرة عن الجنس ورسوماته العارية والمستفزّة. ووجد نفسه معزولا من الجميع باستثناء بضعة أفراد من ذوي النفوس الخيّرة وعلى رأسهم غوستاف كليمت أستاذه ومعلّمه الروحي.
وقد جلبت عليه رسوماته وأسلوب حياته البوهيمي الكثير من المتاعب. وفي إحدى المرّات اعتقل وحُكم بالسجن ثلاث سنوات بسبب ما قيل عن اختطافه واغتصابه لابنة احد النبلاء. كما اتهم بإفساد أخلاق العامة برسوماته العارية وأمرت المحكمة بإحراق بعضها.
في هذه اللوحة يرسم زوجته إديث التي تبدو جالسة وهي تحدّق في الفراغ. الألوان الثقيلة وضربات الفرشاة النشطة يذكّران بأسلوب كليمت. هنا تبدو الألوان غير طبيعية والخطوط مشوّهة إلى حدّ ما. والخلفية السوداء القاتمة تكرّس حالة الاغتراب والإحساس بالفراغ السيكولوجي.
وإذا استثنينا حقيقة أن المرأة تبدو محتشمة في اللوحة بخلاف لوحات الفنان الأخرى، فإنها لا تختلف كثيرا عن لوحاته التي رسمها لنساء. فملامح نساء شيلا قويّة ويخيّل إلى من ينظر إليهن أنهنّ يرتدين أقنعة تحجب حقيقة مشاعرهن عن الناظر.
والنساء في لوحات شيلا، خصوصا العارية، لسن أكثر من أدوات للرغبة. والجسد في رسوماته مصدر للذّة ويمكن أن يكون في نفس الوقت مصدرا للعذاب والألم.
ومعظم لوحاته تضجّ بالنرجسية والتمرّد والتوق والرغبة والقلق الوجودي. وطريقة تمثيله للجسد الإنساني لا تخلو من عنف واضح. وبعض النقاد يعزون هذه الجزئية إلى أن شيلا إنما كان يعكس في لوحاته ظاهرة العنف الذي كان يراه ينزل بالإنسانية كجزء من ظاهرة الحداثة.
وقصّة الفنّان مع زوجته مليئة بكلّ عناصر المفارقة والميلودراما. فقد تزوّجها في ذكرى زواج والديه. وبزواجه منها عرف الحبّ والاستقرار لأوّل مرّة في حياته. لكن بعد ثلاث سنوات من زواجه توفّيت بمرض الانفلونزا الاسبانية وهي حامل في شهرها السادس. وتوفي هو بعد ثلاثة أيّام من وفاتها متأثّرا بإصابته بنفس المرض.
وهناك من يرى أن ايغون شيلا كان يهدف من وراء رسوماته إلى إظهار قسوة الحياة وتناقضاتها في المجتمعات الصناعية الحديثة.
والغريب أنه ظلّ رومانسيا في عيون أجيال من الشباب الذين تربّوا على الجنس والمخدّرات والموسيقى العنيفة والصاخبة.
كما أن حياته القصيرة أضفت طابعا فانتازيا على صورته فتحوّل بعد موته إلى نموذج للفتى المتمرّد والخارج على القانون الذي عاش حياة بائسة وانطفأ نجمه قبل الأوان.

Sunday, August 09, 2009

لوحات عالميـة - 203

الشلـل والمقاومـة
للفنان الكويتي سـامـي مـحـمّـد، 1980

قليلون هم الفنانون الملتزمون بقضايا الإنسان والحرّية. وسامي محمّد هو احد أولئك الفنانين الذين اختاروا منذ البداية أن ينحازوا للإنسانية المعذّبة وأن ينتصروا لقضايا الحرّية والعدالة في العالم.
تنظر إلى أعماله النحتية فتشعر من خلالها بمعاناة الإنسان الذي يقاوم القمع ويتصدّى للظلم والاستبداد وإهدار الكرامة الإنسانية.
في هذه المنحوتة المشيّدة من البرونز يصوّر سامي محمّد رجلا عُصبت عيناه وشُدّ على فمه بوثاق محكم. لكن الرباط لا يستطيع إغلاق فمه ولا كتم صوته. التعابير على الوجه وتوتّر العضلات يكشفان عن قدر عظيم من روح التحدّي والصبر والقدرة الهائلة على التحمّل والمقاومة.
عندما تتأمّل هذا المشهد المؤلم، لا بدّ وأن تتعاطف مع الشخصية، وأن تحسّ بألمها وأن تتمنّى أن يأتي يوم لا يُسجن فيه إنسان ولا يعذّب أو تنتهك كرامته لمجرّد انه قال رأيا أو عبّر عن وجهة نظر لا تروق للسلطة.
الشخصيّة في التمثال ليس لها ملامح فارقة أو مميّزة. ولعلّ النحّات تعمّد هذا كي يعبّر عن همّ إنساني عام لا يقتصر على بقعة جغرافية معيّنة أو ثقافة دون أخرى.
والرسالة التي يحملها هذا العمل قويّة ومؤثّرة: التعذيب لا يفيد والسلطة، أيّ سلطة، مهما استبدّت أو تجبّرت لا يمكن أن تحطّم إرادة الإنسان أو تشلّ قدرته على التحدّي والمقاومة أو تجهض حلمه في التحرّر والخلاص من أغلال العبودية والتهميش والاستبداد.
التعذيب، من حيث كونه وسيلة لإخضاع البشر وإهانة آدميّتهم، ظاهرة قديمة قِدَم الحضارة الإنسانية. الإغريق كانوا أوّل من استخدموه. والرومان أيضا عرفوا التعذيب وابتكروا الكثير من طرقه وأساليبه. وكثيرا ما كان أسرى الحروب يخضعون لأنواع رهيبة من التعذيب الوحشي لمنحهم موتا بطيئا ومؤلما. وأثناء محاكم التفتيش بلغت أساليب التعذيب مستوى غير مسبوق من الوحشية والساديّة.
منذ بداياته، كان سامي محمّد يبحث عن التفرّد بين أقرانه وزملائه. واهتمامه بقضايا الإنسان دفعه لأن يسجّل في أعماله الفظائع التي تُرتكب ضد الإنسان والمعاناة التي يتحمّلها كلّ صاحب رأي أو فكر حرّ.
ولد سامي محمّد الصالح في الكويت عام 1943م. وقد أظهر ميلا للنحت والرسم في سنّ مبكرة. كان أيضا يهوى الموسيقى وعُرف عنه براعته في العزف على آلة العود.
في ما بعد، درس النحت على يد كلّ من جمال السجيني وأنور السروجي.
كان مفتونا بـ هنري مور ورودان. لكنه كان منجذبا أيضا لـ ميكيل انجيلو ودافنشي وجيان لورنزو بيرنيني.
في مرحلة لاحقة ابتعث إلى الولايات المتحدة التي تعرّف فيها على أساليب التعامل مع البرونز ودرس علم التشريح وعلاقته بالنحت.
في إحدى أشهر منحوتاته الأخرى وعنوانها "التحدّي"، نرى رجلا مقيّدا بشكل أفقي إلى عمود. لكنه، شأنه شأن شخصّيات الفنان الأخرى، يحاول باستماتة التحرّر من السلاسل والقيود التي تكبّله وتحاول شلّ حركته. إن إرادة الرجل ومقاومته قويّة بما يكفي لأن يتمكّن في النهاية من كسر العمود وتحرير نفسه على الرغم من حجم الألم وفداحة العذاب والمعاناة.
اليوم هناك فنّ قائم بذاته يُشار إليه أحيانا بـ فنّ التعذيب أو فنّ السجون، على غرار أدب السجون. ومن أشهر الرسّامين الذين تناولوا هذه الفكرة في أعمالهم الاسباني فرانشيسكو دي غويا، ومن المعاصرين الكولومبي فرناندو بوتيرو والكمبودي فان نات Vann Nath الذي قضى عدّة سنوات في معتقلات الخمير الحُمر ورسم لوحات كثيرة جسّد فيها بعض مظاهر العنف والقسوة التي شاهدها بنفسه أثناء سنوات سجنه.
من بين أعمال سامي محمّد الأخرى مجموعة من المنحوتات الجبسية والبرونزية أطلق عليها "سلسلة الصندوق". وفي كلّ منها يقبع إنسان داخل صندوق محكم. غير أنهم جميعا يجهدون من أجل كسر الصندوق والخروج من أسره الخانق. وقد أراد الفنان من خلال تلك السلسلة تصوير عزيمة وإصرار الإنسان العربي في محاولته التمرّد على الواقع السيئ وكسر الزنازين الكثيرة التي تطوّقه وتحكم سيطرتها عليه.
نال سامي محمّد العديد من الجوائز والشهادات التقديرية وعرض أعماله في أكثر من 140 معرضا.
كما تمّ تكليفه بإنجاز بعض المشاريع الجمالية كان آخرها تمثال من البرونز بعنوان "السدرة" قام بتشييده في دبي. وقد اختار هذه الشجرة لأنها ترمز لبيئة الخليج وترتبط في الوعي الجمعي لسكّان المنطقة بالصبر وبمعاندة الظروف المناخية القاسية. وقد حرص الفنان على أن يهدي التمثال للنساء العربيات اللاتي ساعدن في بناء المجتمع العربي بفضل وعيهن وعزيمتهن وإصرارهن على قهر كافّة القيود والتحدّيات.
ومن أشهر منحوتاته الأخرى "صبرا وشاتيلا" و"الأم" و"الجوع". وهناك أيضا تمثال "البحّار" الذي استمدّ فكرته من ارتباط الكويتيين القديم بحياة البحر والغوص.
أعمال سامي محمد تشي بمهارة وحرفية عالية وتنطوي على مضامين روحية وسياسية وفكرية وأخلاقية وإنسانية أصيلة استحقّ بفضلها أن يُحفر اسمه في قائمة أفضل الفنانين الخليجيين والعرب.