Thursday, September 04, 2008

لوحات عالميـة - 172

إنعكـاس، بورتـريه شخـصـي
للفنان البريطاني لـوسيـان فـرويـد، 1985

بعض النقاد يعتبرون لوسيان فرويد أعظم الرسّامين البريطانيين الأحياء. وفرويد ينحدر من عائلة ألمانية يهودية عريقة. فجدّه هو الطبيب وعالم النفس الشهير سيغموند فرويد. ووالدته تنتمي إلى أسرة من التجّار وأرباب الأعمال.
ولد فرويد في برلين عام 1922م. وعندما جاء هتلر إلى الحكم أصبحت أوضاع اليهود في ألمانيا لا تطاق. فقرّرت العائلة الهجرة إلى بريطانيا والإقامة فيها نهائيا.
وأعمال لوسيان فرويد تكتسب أهمّية خاصّة لأنها مرتبطة بزمن الحرب وبتبعات الحقبة النازية. ولوحاته تمتليء بصور لرجال ونساء عراة في مواقف وأوضاع شتّى.
وقد قيل في إحدى المرّات أنه بقدر ما كان سيغموند فرويد مهتمّا بدراسة النفس وسبر أغوارها، بقدر ما أن حفيده مهجوس بالجسد. وهناك حضور شبه دائم للكراسي في لوحاته. ويبدو أن اهتمامه بالكراسي والأرائك يستمدّ مغزاه من قرب هذه الأشياء من اللحم الإنساني الذي يشكّل لفرويد مصدر قلق وتفكير دائمين.
وعندما نتمعّن في لوحاته التي تصوّر نساءً عاريات نكتشف أن لا علاقة لها بالجنس أو الإيروتيكية. فالجلد سميك متغضّن والعظام نافرة والأطراف منهكة والأعين جامدة والوجوه حزينة وباردة.
وحضور النساء في اللوحات يتسمّ بالغموض والتشظي، وملامحهن إجمالا لا تثير في النفس سوى شعور بالتوتّر الذي لا يوصف وبالعزلة المتعبة وبالاستلاب المضني.
في إحدى لوحاته القديمة، نرى امرأة شابّة بنظرات شاحبة وهي تمسك بقطّة صغيرة من رقبتها. ورغم خلوّ تعابير المرأة من أي أثر للعدوانية أو العنف، فإن المنظر يوحي كما لو أن المرأة توشك أن تقتل القطّة خنقا.
من أشهر لوحات لوسيان فرويد هذا البورتريه الذي رسمه لنفسه في سنّ الرابعة والستّين، أي عندما كان في ذروة نضجه الفنّي. واللوحة ليست "بورتريه" شخصّيا بالمعنى المتعارف عليه، وإنما هي صورة الفنان كما تبدو منعكسة في مرآة، بحسب ما يشير إليه العنوان.
تعابير الوجه هنا صارمة، والنظرات قاسية، قلقة، ومتوتّرة مثل نمر متحفّز. إنه نفس أسلوب فرويد الذي يتّسم بالعنف والوحشية والصدمة. ومن الملاحظ أنه استخدم في اللوحة ضربات فرشاة سميكة وسكب على القماش طبقات كثيفة من الطلاء. ومن بين كتل الألوان الخام والمشبعة نلمح في الوجه آثار رضوض وندوب، كأنما يعطي الإحساس بقسوة الحياة التي لا تني تعاقبنا وتجعلنا نبدو عراة، مكشوفين، ضعفاء ووحيدين.
وفرويد يفعل هذا بواقعية شديدة وبمزاج مشبع بالوحدة والانقباض.
يقول أحد أصدقائه إن من عادة فرويد أن يرتدي في محترفه ملابس تناسب مواضيع صوره، وهو يباشر عمله في الرسم بزيّ جزّار مسلّح بالمناشير والفوط والسكاكين.
ولا يبدو الفنان مهتمّا بإظهار الجمال في أعماله إلا بقدر ما يرى في القبح والدمامة ضربا من الجمال. كما لا يعنيه أن يصوّر الجوانب الإنسانية التي تعبّر عن السعادة والأمل والنبل والتفاؤل.
ويمكن القول أن السمة الغالبة على لوحات فرويد هي كونها ذات مضامين سيكولوجية ووجودية، وهو أمر يؤهله لأن يكون رسّاما "فرويديا" حتى النخاع.
فالكثير من لوحاته مزعجة وتعطي شعورا بجدب الحياة ووحشتها وهشاشتها. وكلّ شخصية لها فضاؤها الوجودي الخاص والمستقل. وليس هناك اتصال بين الشخصيات، إذ لا أحد ينظر إلى الآخر مباشرة، ونادرا ما يعترف أحد بوجود الآخر. وفي غالب الأحيان تظهر الشخصيات كما لو أنها مشدودة إلى أسفل بفعل قوّة خفيّة وغامضة.
ومن الواضح أن فرويد يتعمّد دائما تصوير الغرف بحيث تخلو من أي أثر للتكنولوجيا أو لوازم الحياة اليومية الأخرى، وكأنها - أي الغرف – فضاءات خاصّة ومنعزلة توفر للشخوص فيها ملاذا مريحا وآمنا يحميها من فظائع وتعاسات العالم الخارجي.
مما يجدر ذكره في الختام أن فرويد يقترب اليوم من عامه السادس والثمانين. وهو أب لأربعين طفلا أنجبهم من علاقاته العابرة مع عدد من النساء من بينهن بعض "موديلاته". ومؤخّرا إبتاع مليونير روسي لوحته المسمّاة "مديرة المتجر النائمة Benefits Supervisor "Sleeping والتي تصوّر امرأة بدينة عارية بمبلغ 34 مليون دولار أمريكي. كما بيعت لوحتة الأخرى "على خُطى سيزان After Cézanne " بمبلغ ثمانية ملايين دولار.

Monday, September 01, 2008

لوحات عالميـة - 171

سيمفـونيـة الـرعـاة
للفنان الإيطالي جـورجيـونـي، 1509

يعتبر جورجيوني الرسّام الأكثر غموضا في تاريخ الفن الأوربّي. إذ لا يُعرف عنه أو عن حياته الكثير. غير أن العديد من النقاد يتفقون على أنه كان شخصية متميّزة في زمانه. وبالإضافة إلى كونه رسّاما، كان جورجيوني شاعرا وأديبا وموسيقيا وكان مقرّبا من أوساط النبلاء والعائلات الأرستقراطية في فينيسيا.
و"سيمفونية الرعاة" ليست إحدى أجمل لوحاته فحسب، بل وإحدى التحف الفنية الكبيرة التي أنتجها عصر النهضة الإيطالي. ويقال إن تيتيان، تلميذ جورجيوني وأقرب أصدقائه، أكمل رسم هذه اللوحة بعد وفاة جورجيوني المفاجئة عن عمر لا يتجاوز الرابعة والثلاثين. وليس مستغربا أن تُنسب اللوحة أحيانا الى تيتيان بالنظر الى التشابه الكبير بين أسلوب الإثنين.
موضوع اللوحة هو امتداد للفكرة اليونانية القديمة عن "أركاديا" وعن تقاليد الحياة الرعوية والريفية، حيث يتعايش الإنسان مع الطبيعة جنبا إلى جنب في وئام وانسجام. وقد بُعثت هذه الفكرة من جديد في المراحل الأخيرة من عصر النهضة وبدايات عصر الباروك.
وكان من عادة الفنانين في ذلك الوقت رسم مناظر لطبيعة مثالية تصوّر حياة الرعاة، لكنها لا تخلو من أفكار ترمز للأدب والشعر والموسيقى والربيع والجمال والحبّ والحقيقة. وغالبا ما يتم توظيف شخصيات خيالية وأسطورية مثل الآلهة والحوريّات اللاتي يظهرن إما عاريات أو مرتديات ملابس كلاسيكية.
في مقدّمة اللوحة نرى أربعة أشخاص: رجلين بملابس أنيقة وامرأتين عاريتين. الرجلان يبدوان كما لو أنهما يجريان تدريبات على الموسيقى.
وإلى اليمين تجلس إحدى المرأتين وظهرها للناظر بينما تمسك بآلة ناي. في حين تنشغل الأخرى، إلى اليسار، بملء إناء زجاجي شفاف من مياه حوض.
وثمّة احتمال بأن يكون الماء والزجاج رمزا للصفاء والنقاء اللذين ينظر إليهما كتجسيد لحقيقة الفن.
من الواضح أن الرجلين لا يهتمّان كثيرا بوجود المرأتين. وهذا يطرح سؤالا عن حقيقة وجودهما، إذ قد تكونان مجرّد صورة ذهنية، أي أنهما لا توجدان سوى في خيال الرجلين.
وربّما أرادهما الرسّام رمزا للإلهام أو الإبداع. وقد يكون حضورهما في اللوحة استدعاءً لبعض الأساطير القديمة التي تتحدّث عن الحوريات اللاتي يجتذبهن سحر الموسيقى وجمال الأنغام.
في المشهد ليس هناك ما يدلّ على حوار أو تبادل للكلام. والاتصال بين الشخصيات الأربع يتم فقط من خلال الموسيقى والعزف.
وفي خلفية اللوحة نرى راعيا بمعيّة قطيعه ومنزلا يقوم على ربوة تعلوها سماء غائمة.
ورغم غموض هذه اللوحة فإنها تروق للعين والمشاعر. فالألوان فيها دافئة والأضواء ناعمة. ومن الواضح أن جورجيوني لا يعير اهتماما كبيرا بالخطوط بل يركّز على مناطق اللون. كما أن المنظر الضبابي للتلال في الخلفية يعطي المشهد عمقا، ما يذكّرنا بمناظر دافنشي الحالمة.
ومن التفاصيل الأخرى التي تجذب الانتباه في اللوحة أسلوب الرسّام المتفرّد في تمثيل الأضواء الذهبية المشعّة وفي تعامله مع عنصري الضوء والظل.
ويمكن القول إن "سيمفونية الرعاة" نموذج لمناظر عصر النهضة التي تصوّر أجواءً رعوية حالمة لا تخلو أحيانا من إحساس بالحزن والتوق الممزوج بشيء من الغموض والشاعرية.
والمتمعّن في تفاصيل اللوحة لا بدّ وأن يتذكّر لوحة مانيه المشهورة غداء على العشب Manet's Luncheon on the Grass، التي قد يكون الفنان الفرنسي رسمها وفي ذهنه لوحة جورجيوني.
كان جورجيوني مشهورا بوسامته اللافتة وحضوره الطاغي. وقد تتلمذ على يد بلليني وكان الاثنان، بالإضافة إلى تيتيان، يمثلون نخبة رسّامي فينيسيا في نهايات القرن الخامس عشر وبدايات السادس عشر.
ويعتبر كتاب جورجيوني للكاتب هيربرت كوك من بين أفضل المراجع التي تتحدّث عن حياة وأعمال هذا الفنان وتسلّط الضوء على إسهامات فينيسيا في فنّ عصر النهضة الإيطالي.