Wednesday, November 07, 2007

لوحات عالميـة - 145‏

حانـة فـي الــ فولـي بيـرجيـر
للفنان الفـرنسـي إدوار مـانـيــه، 1882

رسم ادوار مانيه هذه اللوحة قبل سنة من وفاته. ورغم مرور أكثر من مائة عام على ظهورها، ما يزال يُنظر إليها باعتبارها واحدة من أكثر اللوحات إثارة وغموضا في تاريخ الفنّ التشكيلي العالمي.
كان مانيه معجبا كثيرا بأسلوب دييغو فيلاسكيز، ولطالما عبّر عن افتتانه بالألغاز البصرية المعقّدة التي ضمّنها الرسّام الاسباني الأشهر لوحته الذائعة الصيت وصيفات الشرف.
لكن يبدو النقاد منقسمين بشدّة حول مضمون هذه اللوحة وقيمتها الإبداعية. بعضهم يرى أنها خالية من أي معنى كما أنها لا تنطوي على أيّ إبداع حقيقي من وجهة النظر الأكاديمية البحتة.
لكنّ نقادا آخرين يرون أن اللوحة نتاج عقلية فذّة ومقدرة فنية فائقة على استخدام اللغة البصرية للمزاوجة بين الواقع الملموس والعالم المجرّد.
المكان الذي تقدّمه اللوحة هو الفولي بيرجير، وهو عبارة عن صالة باريسية شهيرة توفّر لروّادها ضروبا من اللهو والتسلية المختلفة وتقدّم فيها المشروبات وتعزف الموسيقى وتقام فيها العروض والألعاب البهلوانية.
في اللوحة نرى فتاة تقف وسط الحانة وأمامها صفّ من الفواكه والزهور وزجاجات النبيذ والشمبانيا.
لكن عنصر الغموض الأساسي في اللوحة يتمثل في الحاجز الزجاجي الكائن خلف الفتاة.
الزجاج يفترض أنه يعكس الأشياء والموجودات التي أمامه. غير أننا نرى فيه عالما آخر لا علاقة له بما هو موجود في مقدّمة اللوحة من عناصر وأشياء واقعية.
وأهمّ ما يمكن رؤيته منعكسا على الزجاج هو المرأة التي ترتدي القفّازات وتتبادل حديثا على الواقف مع رجل يبدو انه صديق أو زبون ما.
وقد عُرف عن هذا المكان تنوّع الخدمات التي من المفترض أن تقدّمها فتيات الحانة لبعض الزبائن من أصحاب الاحتياجات الخاصّة.
وما من شكّ في أن مانيه عندما رسم هذه اللوحة كان في ذهنه لوحة فيلاسكيز بأحاجيها البصرية وغموضها المثير. وربّما أراد مانيه هو الآخر التأكيد على فكرة أن بعض ما نراه في الواقع من أشياء وصور ومظاهر لا تعدو كونها أمورا تجريدية لا توجد إلا في المرايا. وهذا يستتبع أن يتحوّل المتلقي نفسه إلى حضور شبحي أو متخيّل لا يختلف عن الحشد الذي تنظر إليه الفتاة.
وفكرة مزج الواقعي بالمجرّد في الأدب والفنّ فكرة ليست بالجديدة، وهي تستند إلى افتراض مؤدّاه أن كلّ إنسان يرى الحياة بحسب فهمه وإدراكه، وأن عالم الواقع برغم غناه بالصور والرموز فإنه قاصر عن رؤية ما يختفي تحت سطح الأشياء والمظاهر.
كما تفترض الفكرة أن كلّ ما نعتقد انه واقع ملموس يخفي وراءه وجودا مجرّدا، وبذا يصبح من الضروري إعادة فحص الواقع وتمحيصه للتحرّر من قيوده ونواقصه ولاكتشاف امتداداته المجرّدة.
أحد التفسيرات الكثيرة التي أعطيت لهذه اللوحة هو أن الفتاة غير سعيدة بمهنتها لأنها تشعر أنها غريبة عن عالمها الصغير. وممّا يدعم هذه الفرضية حقيقة أن الفتاة هي الشخص الوحيد الذي لا تظهر صورته منعكسة في المرآة.
والزجاج يقوم هنا بدور الحاجز الذي يفصلها عن محيطها الذي هو عبارة عن غابة من المرايا التي تعكس صورا لأفراد منهمكين في تبادل الحديث والعناق وربّما الكذب والزيف.
قد يكون في ذهن مانيه عندما رسم هذه اللوحة أن الإنسان مهتم بطبعه بالتفاصيل الظاهرة والملموسة لان هذا يسهلّ عليه تفسيرها والبحث عن أسبابها من اجل فهمها والسيطرة عليها.
لذا فإن المزاوجة بين الواقع والمجرّد قد يكون أداة فعّالة تسمح للفنّان أو المبدع بتجاوز الإدراك النمطي والتفسير الحرفي والمباشر للأشياء والظواهر وتنقله إلى فضاء أوسع يستثار فيه العقل ويحفّز الشعور للنفاذ إلى كنه الأشياء وعوالمها الجوّانية.
وهذا لا يتأتّى إلا من خلال هذه المزاوجة التي تنحّي جانبا أية أفكار أو تصوّرات مسبقة وتمنح المجرّد وجودا ذاتيا وخاصّا.
وأيّا ما كانت التفسيرات التي أعطيت للوحة مانيه هذه، فإنها تظلّ إحدى العلامات الفارقة في تاريخ الرسم العالمي سواءً بغرابة مضمونها أو بالأسلوب الثوري الذي أنجزت به أو الجدل الذي أثارته وما زالت تثيره.

موضوع ذو صلة: أغنية البجعة الأخيرة

Tuesday, November 06, 2007

لوحات عالميـة - 144‏

بورتريـه الشاعـر الفقيـر
للفنان الألمـاني كـارل شبـيتــزوغ، 1839

هذه اللوحة مشهورة ليس في ألمانيا، بلد الرسّام، فحسب، وإنما خارجها أيضا؛ في أوربّا وأمريكا وغيرهما.
وقد كشف استفتاء اجري مؤخّرا عن أن اللوحة تحتلّ المركز الثاني في قائمة الأعمال التشكيلية الأكثر تفضيلا عند الألمان. ويأتي قبلها الموناليزا وبعدها مباشرة لوحة البريخت ديورر "أرنب برّي صغير".
أما صاحب اللوحة، كارل شبيتزوغ، فهو نفس الفنان الذي رسم في ما بعد دودة الكتب The Bookworm، وهي لوحة مشهورة جدا يعرفها عشّاق الكتب والمعنيّون بأمور الثقافة عموما.
ومن الواضح أن معظم أعمال شبيتزوغ تستمدّ موضوعاتها من رؤية الفنان إلى أحوال الطبقة الألمانية الوسطى، خاصّة المثقفين، خلال القرن التاسع عشر.
في هذه اللوحة يصوّر الفنان حال الشاعر معتمدا على الصورة النمطية المألوفة عن الشعراء .
فهم مثاليون وحالمون وميّالون لان يعزلوا أنفسهم عن واقع المجتمع. وهم يكرّسون كلّ وقتهم وجهدهم للكتابة والتأمّل والإبداع.
ثم إن معظم الشعراء، رغم إبداعهم وذكائهم وتميّزهم، غالبا ما يعيشون حياة فقر وعَوَز.
في اللوحة نرى شاعرا مستلقيا على سرير خشبي متهالك في غرفة بائسة.
ومحتويات الغرفة وشكلها، من الجدران إلى الأرضية والسقف، بالإضافة إلى هيئة الرجل الرثّة، كل ذلك يشي بمستواه الاجتماعي وربّما أيضا بشدّة إحساسه بالوحدة. وغالب الظنّ أنه يعيش وحيدا دون عائلة.
لكن بالرغم من ظروف الشاعر الصعبة، ورغم انه يرتجف من شدّة البرد، فإنه يبدو منهمكا في التفكير والكتابة.
ولأن الشاعر لا يرضى إلا أن يكون نتاجه في غاية الكمال والنضج والإتقان، يبدو الرجل وقد أحرق بعض أوراقه في المدفأة. وهناك على الأرض رزمة أخرى من الأوراق تنتظر نفس المصير.
وكلّ ما في غرفة الشاعر من موجودات وأشياء يدلّ على الفقر المدقع. وواضح أن كلّ ما يمتلكه لا يتعدّى قبّعة وعصا وربطة عنق بسيطة. بالإضافة إلى المظلة التي تركت مفتوحة ومعلقة في السقف.
لكن رغم حالة البؤس والعوز التي تكتنف المشهد، فإن الرسّام حرص على أن يضمّنه بعضا من روح المرح والدعابة.
وهذا واضح من طريقة رسمه لملامح وجه الشاعر وعدد وأحجام الكتب التي أحاط بها نفسه وكذلك الكيفية التي يمسك بها القلم.
وقد اتبع الفنان نفس الأسلوب في لوحته الأخرى عندما رسم وجه المثقّف العجوز وطريقة وقوفه وإمساكه بالكتب بطريقة لا تخلو من السخرية والكاريكاتيرية.
كان كارل شبيتزوغ متأثّرا بأعمال كل من جون كونستابل وديلاكروا.
وكان يهتمّ بملاحظة الخصائص والسلوكيات الإنسانية مع ميل إلى توظيف روح السخرية في لوحاته، وهو أسلوب أدّى إلى انه أصبح قريبا من وجدان العامّة الذين كانوا يحبّون لوحاته ويرتاحون لموضوعاتها.
وقد عاش شبيتزوغ في عصر كانت فيه الرومانسية في طريقها إلى الانحسار لصالح المدرسة الواقعية التي تعنى بمشاكل الناس وتصوير مظاهر الحياة اليومية للأفراد العاديين.
في تلك الفترة كان الموسيقي فرانز شوبيرت قد بدأ يحظى بالاهتمام والشهرة بموسيقاه التلقائية والسهلة على حساب بيتهوفن الغارق في رومانسيته وانضباطه وصرامته.
كما بدأ الناس ينصرفون عن الشعر الكلاسيكي لمصلحة شعر التفعيلة أو الشعر الحديث.
ربّما أراد كارل شبيتزوغ أن يقول من خلال لوحته هذه أن على الشاعر، والمبدع عموما، ألا يعزل نفسه عن حركة المجتمع وانه لا بدّ أن يجد له وظيفة نظامية يعتاش منها وينفق من دخلها على نفسه. وإلا بقي حاله كحال هذا الشاعر المعدم الذي بالكاد يجد ما يكفي حاجته أو يوفّر له الحدّ الأدنى من مقوّمات العيش الكريم.