Wednesday, May 27, 2015

لوحات عالميـة – 357

الهروب من النقد
للفنان الاسباني بير بوريل ديل كاسو، 1874

تُعتبر هذه اللوحة مثالا جيّدا على فنّ الترومبليه، وهو عبارة عن توظيف صور واقعية لخلق نوع من الخداع البصريّ تظهر فيها الأشياء في مجال ثلاثيّ الأبعاد بدلا من بعدين فقط، وذلك من اجل إضافة محور آخر للرؤية غير موجود.
هذا النوع من الخداع البصري يضفي غبَشا على الحدّ ما بين الفراغ الواقعي والخيالي. والرسّام هنا يحاول أن يخدع أعيننا بخلق نوع من الإيهام البصريّ المقنّع من خلال تحويله الموادّ الجامدة، كالخشب والرخام والطلاء، إلى وسيلة لتعزيز فهمه للعالم.
هنا نرى صبيّاً بملابس رثّة وهو يخطو خارج إطار اللوحة التي هو جزء منها في محاولة يائسة للهرب. وجهه تبدو عليه آثار الخوف أو الصدمة. وضعية اليدين والقدمين والرأس خارج الإطار المرسوم، وكذلك الظلال الهابطة عليها هي التي تخلق وهما بأن الشخص يتسلّق خارج اللوحة.
الألوان في الصورة يغلب عليها الأصفر. والضوء يأتي من جهة اليسار لجذب العين إلى وجه الشخص.
في الواقع لا يُعرف معنى اللوحة ولا القصد من رسمها. لكن عنوانها ربّما يوحي بالنضال والجهد الذي يبذله الرسّامون الشباب عندما يتعرّضون للنقد الشديد على يد من يسمّون أنفسهم بنقّاد الفنّ الضليعين.
في زمن الرسّام، كان نقّاد الفنّ المحافظ يفضّلون رؤية لوحات مليئة بصور الأبطال وترويج القيم الأخلاقية، متجاهلين حيوية ونشاط العالم الواقعي.
فنّ الترومبليه نفسه قديم جدّا. ذات مرّة كتب أفلاطون يقول: كلّ شيء يخدع .. يفتن بنفس الوقت". وفي عالم الفنون فإن هذه الفكرة واضحة وتشرح نفسها بنفسها. وهناك أمثلة مبكّرة عن الترومبليه يمكن أن نجدها في الفنّ الروماني واليوناني القديم، مثل جداريات بومبي المشهورة التي تصوّر مناظر عن طبيعة متخيّلة.
ويمكن القول أيضا بأن الترومبليه لعبة يمارسها الرسّام مع المتلقّي لإثارة أسئلة حول طبيعة الرسم والإدراك وحول منظورنا عن الأشياء، من قبيل أين تنتهي اللوحة وأين يبدأ العالم الحقيقي؟ والغاية هي أن نتعلّم كيف نرى الأشياء بمنظور جديد وأن نقبل ونتعايش مع فكرة أن ما نستقبله محدود بمساحة الصورة أو نطاقها البصريّ.
في القرن التاسع عشر اعتمد رسّامو الطبيعة الانجليز هذا النوع من الإيهام عندما استخدموا ألوانا وأشكالا ومنظورا غير واقعي لكي يبرهنوا على ذكائهم وبراعتهم وليخلقوا نوعا من التأثير على ذهن وإدراك المتلقّي.
ورسّامو الطبيعة الهولنديون من القرن السابع عشر وظّفوا، هم أيضا، هذا النوع من الخداع أو الوهم في أعمال الطبيعة الصامتة. كانوا يرسمون ثمار الفواكه في أطباق من الفضّة، بحيث تتداخل الأطباق مع المائدة الموضوعة فوقها، معطية إحساسا بالعمق وكما لو أن اللوحة ثلاثية الأبعاد.
غير أن بعض مؤرّخي الفنّ يُعيدون فكرة الإيهام الفنّي إلى زمن أقدم، وبالتحديد إلى القرن الخامس قبل الميلاد. فالمؤرّخ الروماني بليني "أو بلينيوس" الأكبر في كتابه "التاريخ الطبيعي" كتب عن أسطورة تحكي عن مسابقة فنّية بين أعظم رسّامين إغريقيين في ذلك الوقت، وهما باراسيوس وزيوكسيس.
وكلاهما كان يرسم على ألواح الخشب وعلى الجدران. كما كان كلّ منهما يعتقد انه الرسّام الأعظم. ولذا قرّرا أن يسوّيا الأمر ويحتكما للجمهور في مسابقة للرسم يتقرّر في نهايتها أيّ منهما يستحقّ اللقب. وقد اختار كلّ منهما جانبا من جدار كي يرسم عليه بحيث لا يرى احدهما الآخر. واختارا عددا من الأشخاص كي يكونوا محكّمين.
كان كلّ من باراسيوس وزيوكسيس بارعا في الترومبليه. وقد أنجز كلّ واحد منهما عمله ثمّ غطّاه بستارة.
وعندما عرض زيوكسيس جداريّته، تبيّن انه رسم آنيّة بسيطة فيها فاكهة منوّعة. كان ما أنجزه عبارة عن طبيعة صامتة رسمها بشكل جميل. كما جعل الشمس تسطع على السطح الأخضر الشاحب لثمار الكمثرى بحيث تبدو رطبة وصلبة في آن. أمّا الرمّان فقد رسمه بطريقة رائعة، لدرجة أن المحكّمين والمتفرّجين كان باستطاعتهم أن يتذوّقوا ثماره تقريبا.
ذُهل الناس من براعة زيوكسيس وتمكّنه. وبينما كانوا يقفون أمام لوحته، ظهر طائر كان قد حطّ على الجدار إلى فوق وطار نزولا إلى حيث إناء الفاكهة المرسوم، ممنّيا نفسه بالتقاط بعض حبّات العنب والطيران بها بعيدا. غير أن رأس الطائر ارتطم بالجدار وسقط على الأرض ميّتا ضحية الوهم.
كان عمل زيوكسيس في غاية الواقعية. وكان متأكّدا من انه سيفوز باللقب بصرف النظر عما سيفعله منافسه.
ثم انتقل المحكّمون إلى الجهة الأخرى من الجدار المخفيّ ليروا ماذا رسم عليه باراسيوس. وطلبوا منه أن يزيل الستارة، فقال إن ذلك غير ممكن. ودُهش الحضور من كلامه. لكنه استدار ناحيتهم قائلا إن الستارة هي اللوحة التي رسمها!
وعلى الرغم من أن لوحة زيوكسيس خدعت الطائر بواقعيّتها الشديدة، إلا أن ستارة باراسيوس كانت واقعية جدّا لدرجة أنها خدعت أو أوهمت زيوكسيس والحكّام والجمهور معا. وانتهت المسابقة بإعلان فوز باراسيوس بلقب الرسّام الأعظم.
بير بوريل ديل كاسو رسّام غير معروف نسبيّا. لكنّه من مواليد إقليم كاتالونيا الاسباني. وقد عاش في الفترة من عام 1835 إلى 1910م. كان أبوه يعمل في النجارة وقد تعلّم منه الابن طريقة التعامل مع الخشب.
ثم ذهب إلى برشلونة ليتلقّى تدريبا في مدرسة الفنون هناك. وقد نأى بنفسه عن الرومانسية التي كانت تهيمن على التعليم في المدارس آنذاك كما رفض الأشكال المثالية. وكان الطلبة وقتها يُشجَّعون على رسم مناظر الهواء الطلق والحياة اليومية.
رسم بوريل مناظر دينية أكثرها موجود اليوم في متحف برشلونة. وفي ما بعد انشأ أكاديميّته الخاصّة للرسم، وكان يقدّم للتلاميذ فيها تدريبا ودروسا في الرسم الواقعي. كما كان يشجّعهم على أن يتركوا قاعات الدراسة ويرسموا في الهواء الطلق.