Tuesday, July 17, 2018

لوحات عالميـة – 468

ثـلاث عـازفـات
لمعلّم رسم البورتريهات النصفية للنساء، 1530

في النصف الأوّل من القرن السادس عشر، كان يعيش في جنوب هولندا عدد من الرسّامين الذين كانوا يعملون ويوقّعون لوحاتهم بألقابهم لا بأسمائهم الحقيقية.
كانوا يختارون لأنفسهم صفات تناسب نوعية الرسم الذي برزوا فيه، مثل "معلّم رسم الطيور" و"معلّم رسم البورتريهات النصفية للنساء" وما إلى ذلك.
وكانت هناك محاولات مبكّرة لتحديد أسماء أولئك الرسّامين دون جدوى. ورغم شعبيّتهم إلا أن هويّاتهم ظلّت غير معروفة.
وأحد أشهر هؤلاء كان رسّاما أطلق على نفسه لقب "معلّم رسم بورتريهات النساء النصفية". لكن لا يُعرف عنه الكثير. ولا احد يعرف على وجه اليقين إن كان شخصا واحدا أو مجموعة من الرسّامين الذين كانوا يتشاركون ورشة جماعية.
كان هذا المعلّم يعمل في مدينة انتويرب. وقيل أيضا أنه عاش وعمل في مدينة ميشلين ضمن الدائرة المثقّفة التي كانت تحيط بمارغريت، الحاكمة النمساوية لهولندا، في بدايات ذلك القرن. وعلى الأرجح، كانت له ورشة كبيرة يديرها ويعمل تحت إشرافه رسّامون متعدّدون.
ويبدو من أسلوبه انه تلقّى تدريبا في الرسم على يد الفنّان يواكيم باتينير بسبب تماثل لوحاتهما المرسومة على الخشب. أما من يظهر في رسوماته غالبا فبعض نساء الطبقة الارستقراطية بملابسهنّ الأنيقة وهنّ يقرأن أو يعزفن الموسيقى أو يجلسن داخل ديكورات منزلية.
والمعلّم يرسمهنّ بنصف طول كما يوحي لقبه. وكثيرا ما كان يضيف إلى البورتريه منظرا طبيعيا تعبيريّا. ومن الواضح انه كان يرسم لوحاته بأسلوب القصر ولمصلحة بعض جامعي الفنّ في زمانه.
وعدد اللوحات المنسوبة للمعلّم يربو فوق المائة. كما أن أسلوبه، من ناحية الذوق والمزاج، يعكس أسلوب رسّامي مدينة بورغيس، مثل ادريان آيزنبرانت وآمبروزيوس بنسون وغيرهما. كما أن لوحاته تعبّر عن الخصائص والقيم الإنسانية والفنّية لعصر النهضة الشمالية.
وبعض لوحاته مرسومة ببراعة فائقة، لذا لاقت استحسانا وتقديرا واسعين من معاصريه. ويقال أن إحداها رُسم منها خمس عشرة نسخة وما تزال جميعها باقية إلى اليوم. وتظهر فيها امرأة عصرية بملابس جميلة وهي تكتب بينما تظهر خلفها نافذة.
لكن أشهر لوحات معلّم رسم البورتريهات النصفية للنساء هي هذه اللوحة التي يصوّر فيها ثلاث نساء يرتدين ملابس عصرية من القرن السادس عشر وهنّ يؤدّين وصلة موسيقية. وبينما تمسك إحداهنّ في يدها بنوتة موسيقية، تعزف الأخريان على آلتي لوت "عود" وفلوت أو ناي.
النساء الثلاث يشتركن في نفس السمات، فملامحهنّ متقاربة كثيرا وملابسهنّ بديعة بألوانها المتناغمة وزخارفها النفيسة. وكلهنّ رُسمن بأسلوب حديث، مع خاصّية لمعان تشبه تلك التي تظهر في اللوحات المرسومة للقصور.
السمت المهذّب للنساء والوجوه البيضاوية الشكل والمرسومة على هيئة قلوب والرموش المقوّسة والشفاه المحدّدة كانت دائما خصائص المرأة النموذج التي استخدمها الرسّام في جميع لوحاته. وهناك فرضية غير مؤكّدة تقول أن رسّاما مختلفا قد يكون هو الذي رسم الأيدي.
وربّما تكون الطبيعة الأنيقة للنساء ومواضيع اللوحات نفسها من بين الأسباب التي جعلت من هذه اللوحات مصدر إلهام لبعض الموسيقيين والشعراء.
وبحسب احد المؤرّخين، فإن النساء في هذه اللوحة يؤدّين أغنية مشهورة من ذلك الزمان لحنّها موسيقيّ يُدعى كلود دي سيرميزي وكتب كلماتها شاعر اسمه كليمنت ماروت.
المعروف انه توجد من هذه اللوحة اليوم نسخ متعدّدة، لكن أشهرها هي الموجودة في متحف الارميتاج الروسيّ.

Friday, June 01, 2018

لوحات عالميـة – 467

تحـوّل في الطريـق إلى دمشـق
للفنان الايطالي كارافـاجيـو، 1601

ترك كارافاجيو أثرا كبيرا على فنّ الباروك بأسلوبه الخاصّ والمبتكر الذي يتميّز بالإضاءة والحركة والدراما والتوتّر والفخامة.
كان الفنّانون قبل كارافاجيو يرسمون مناظر دينية مثالية، وذلك بإضافة هالات إلى الأشخاص أو ملائكة تطير في الهواء وتفاصيل من عوالم أخرى.
أما كارافاجيو فقد أصرّ على أن يتعامل مع القصص الدينية بشكل مختلف وذلك بتركيزه على الواقع والجسد والانفعال.
في هذه اللوحة، يصوّر الرسّام قصّة دينية وردت في الكتب القديمة عن قدّيس يُدعى سول كان مشهورا باضطهاده للمسيحيين. وسول هذا هو الذي سيتحوّل في ما بعد إلى بولس الرسول أحد كتبة الإنجيل.
تذكر القصّة أن سول كان فرّيسا وكان يعيش في مدينة القدس بعد صلب المسيح. وقد أقسم على أن يبيد جميع المسيحيين الجدد. ثم جاءته أوامر من كبار الكهنة بالذهاب إلى دمشق والتعامل بشدّة مع أتباع المسيح فيها.
لكن مفاجأة حدثت له في الطريق بالقرب من دمشق، إذ فوجئ – بحسب القصّة - بضوء قويّ يأتي من السماء ويُسقطه عن ظهر حصانه. ثم سمع صوت المسيح يقول له: لماذا تضطهدني؟!" وأثناء تخبّطه، اكتشف سول انه لم يعد يرى. ثم جاءه الصوت مرّة ثانية يقول له: الآن انهض واذهب إلى دمشق وسأخبرك ما الذي ستفعله هناك".
وكارافاجيو يرسم لحظة السقوط تلك من على ظهر الحصان والفوضى التي رافقت ذلك. والرسّام يختار لهذه الدراما خلفية مظلمة لكي يركّز اهتمام الناظر على تلك اللحظات المثيرة التي مرّ بها سول المتمدّد على الأرض في ذهول وصدمة. ويُفترَض انه رأى المسيح في تلك اللحظة التي أعماه فيها النور القادم من السماء.
والضوء يضرب الحصان ويسقط على سول المتمدّد على الأرض والرافع يديه والمغمض عينيه بينما سيفه وخوذته ملقيان على الأرض.
ووسط هذه المعمعة هناك أقدام كثيرة. الخادم المرتبك والذي لا يظهر منه سوى رأسه وقدماه يحاول الإمساك برسن الحصان لمنعه من دوس سول.
الحصان يحتلّ معظم مساحة اللوحة، وهو يثير إحساسا بالتوتّر يعمّقه رفعه لأحد حافريه في الهواء كما لو انه يريد تحاشي أن يخطو فوق صاحبه. ونظرات الحصان تبدو متعاطفة، بينما نصفه في الظلمة ونصفه الآخر في الضوء. والرمزية هنا واضحة، وفيها إيحاء برحلة سول من الظلام إلى النور أو من الكفر إلى الإيمان.
بحسب القصّة، فإن هذه الحادثة كانت إيذانا بالتحوّل الروحيّ الذي سيطرأ على سول فيتحوّل بعد قليل من كونه مضطهِدا للمسيحيين إلى قدّيس يحمل اسم بولس الرسول. ووضع سول المثير للشفقة يوحي بأن ما نراه هو ولادة روحية جديدة.
وعلى الرغم من أن هذه الصورة لا تشبه أيّ صورة أخرى، إلا أنها برأي الكثيرين اقلّ لوحات كارافاجيو حيوية ودراماتيكية.
تقول القصّة أن سول بقي أعمى ثلاثة أيّام امتنع خلالها من تناول أيّ طعام أو شراب. وعندما وصل إلى دمشق، كان المسيح قد ظهر لرجل صالح فيها يُدعى انايناس وأمره بأن يقابل سول. ورغم انه كان خائفا من الأخير بسبب سمعته السيّئة كقاتل بلا رحمة للمسيحيين، إلا انه قابله في النهاية. وأثناء اللقاء استردّ سول بصره ثم تحوّل إلى بولس الذي تذكر الأدبيات المسيحية أنه أسهم إسهاما كبيرا في نشر المسيحية.
استخدم كارافاجيو في اللوحة تقنية الكياروسكورو، أي توظيف الضوء والظلّ، لتركيز الأنظار على مناطق معيّنة في الصورة. وهذا الأسلوب أصبح علامة مميّزة له ومصدر إلهام لأجيال عديدة من الرسّامين الذين أتوا بعده.
المعروف أن هذه القصّة استهوت العديد من الفنّانين الذين صوّروها، ومن أهمّهم لوكا جوردانو و غويدو ريني و آدم الزهايمر وغيرهم.
بسبب رحلة بولس تلك، أصبحت عبارة "تحوّل في الطريق إلى دمشق" شائعة في اللغة. وتُستخدم عادة لتعكس تغيّرا كبيرا أو أساسيّا ومفاجئا في حياة شخص ما بسبب لحظة واحدة. وأحيانا تُستخدم العبارة لتعني النقطة التي يحدث فيها تغيير دراماتيكيّ ودائم في أفكار ومعتقدات شخص ما بسبب تدخّل إعجازيّ وخارق للعادة.
لوحات كارافاجيو الدينية اعتُبرت دائما أفضل ما في روما من فنّ. كان أسلوبه يروق للكنيسة والكهنة. ولسوء الحظ أدّى مزاجه العنيف لأن يفرض على نفسه المنفى في السنوات الأخيرة من حياته. ورغم موته في سنّ الثامنة والثلاثين، إلا أن الكارافاجيوية عاشت طويلا بعده وتأثّر بها معظم رسّامي عصر الباروك.
هذه اللوحة هي إحدى لوحتين أمر برسمهما المونسنيور الايطاليّ سيراسي، وزير خزانة البابا كليمنت الثامن، كي تزيّنا كنيسة ماريّا ديل بوبولو في روما.
وكلا اللوحتين ما تزالان في مكانهما إلى اليوم مع لوحات أخرى لرافائيل وكاراتشي وبيرنيني. لكن مقارنةً بلوحات هؤلاء الثلاثة، تبدو لوحة كارافاجيو حديثة جدّا من حيث الشكل والمضمون.

Thursday, May 24, 2018

لوحات عالميـة – 466

وادي يوسـاميتـي
للفنان الأمريكي البيـرت بيـرستـادت، 1864

أسهمت صور الطبيعة الأمريكية في صوغ الهويّة الوطنية للأمريكيين في منتصف القرن التاسع عشر. وكانت المناظر البانورامية الضخمة للغرب الأمريكيّ، كما تظهر في الرسم، مؤشّرا على فترة الرخاء والوفرة المنتظَرة.
البيرت بيرستادت كان أوّل رسّام أمريكيّ يُمسك بالقوّة الرمزية لجبال روكي وسييرا نيفادا ويوساميتي. وقد كرّسته مناظره تلك كواحد من أفضل رسّامي طبيعة الغرب الأمريكيّ.
في صيف عام 1863، ذهب بيرستادت إلى الساحل الغربيّ لأمريكا وقضى في تلك النواحي بضعة أسابيع أنجز خلالها دراسات في الطبيعة المفتوحة لوادي يوساميتي في كاليفورنيا. وعندما رأى الوادي لأوّل مرّة ذُهل من جماله وكتب إلى صديق له يصفه بأنه "جنّة عدن الأمريكية".
لوحاته التي رسمها للوادي، على وجه الخصوص، اعتبرها الكثيرون صورة لجنّة لم تطأها أقدام بشر من قبل، وأصبحت محفّزا على ضرورة حماية تلك الطبيعة البكر.
وفي عام 1864، وقّع الرئيس ابراهام لنكولن قانونا يقضي بحماية الجمال الطبيعّي لوادي يوساميتي والمحافظة عليه كمتنّزه عامّ للناس. وحتى ذلك الوقت، كانت كاليفورنيا ما تزال مكانا نائيا وخطيرا ويصعب الوصول إليه بالنسبة لمعظم الناس.
وقبل ذلك كانت بعثة استكشافية قد وصلت إلى يوساميتي وبُهر أفرادها بجمال الطبيعة فيه بعد أن نجحوا في إخضاع القبيلة الهندية التي كانت تقطنه. وبعد فترة قصيرة بُني فندق متواضع هناك لاستقبال السيّاح.
وقد سافر بيرستادت مرارا إلى المنطقة مع بعثات أخرى. وكانت لوحاته الفخمة للمكان تمثّل تجربة شخصية متفرّدة ورأى أن الوادي ينافس جبال الألب والهمالايا في جمال طبيعته. وقيل إن لوحاته حوّلت المكان إلى رمز ومنحت أفراد الطبقة الوسطى لمحة عن الوادي وشجّعتهم على زيارته ورؤيته عيانا.
رسم بيرستادت خمسا وعشرين لوحة لوادي يوساميتي، وجميعها تُظهِر المنطقة كمكان فطريّ لم يتلوّث بعد بآثار الحضارة والتصنيع.
في هذه اللوحة، يرسم الفنّان منظرا مثاليا للطبيعة تظهر فيه مجموعة من الغزلان وهي ترعى بسلام. ولا بدّ أن فكرة الجنّة كانت في عقله، لذا رسم برّية مثالية لا تعيش فيها سوى الحيوانات.
وقد أضفى على المنظر لمسة لامعة من خلال وهج الشمس الغاربة المصطبغ بالألوان الصفراء والبرتقالية المنعكسة على المكان بأكمله.
هذه اللوحة وغيرها أضفت طابعا رومانسيّا على يوساميتي باعتباره مكانا رعويا وفطريا وخالدا وغير مأهول، ما يخلع عليه طابعا من القداسة والسموّ.
وبفضل رسومات بيرستادت، أصبح للمكان تاريخ وبات محطّة سياحية وموضوعا فنيّا وأيقونة للبراري الأمريكية. كما شجّعت لوحاته الناس على المجيء لزيارة الوادي واستغلال التجربة الروحية التي يوفّرها للزائر.
بعد أن رسم الفنّان اللوحة بفترة قصيرة، عُرضت في متحف المتروبوليتان، ثم بيعت بمبلغ لا يتجاوز الألفي دولار، لكنه كان أعلى مبلغ يُدفع للوحة في ذلك الوقت. وكان الذي اشتراها شخص يقال له جون لينوكس أراد أن يضيفها إلى مجموعته الخاصّة. لكن بعد موته اشترتها مكتبة نيويورك، ثم تنقّلت بين العديد من الأيدي إلى أن استقرّت في متحف الفنّ التشكيليّ في بوسطن منذ عام 1947 وحتى اليوم.
كان البيرت بيرستادت وهو يرسم لوحاته يتطلّع لأن يحافظ على هذه الجنّة الجميلة. لكن بعد بضع سنوات اُنشيء أوّل خطّ للسكك الحديد يمرّ عبرها ودخلت السياحة لأوّل مرّة مناطق الغرب الأمريكيّ.
ولد البيرت بيرستادت في ألمانيا وبدأ تعلّم الرسم في دوسلدورف، ثم سافر إلى ايطاليا ومكث فيها أربع سنوات للدراسة، قبل أن يهاجر مع عائلته إلى الولايات المتّحدة.
ويبدو انه اكتسب حبّ الطبيعة بعد أن زار وهو صغير الطبيعة الجبلية لمنطقة جبال الألب السويسرية. والمعروف أن بيرستادت أصبح عضوا في مدرسة هدسون للرسم واشتهر خاصّة ببراعته في توظيف الضوء الطبيعيّ وفي رسم الطبيعة الفسيحة من نقاط منخفضة وبكثير من التفاصيل.
في زمن الرسّام، كان يسود اعتقاد بأن رسم مناظر الطبيعة الآمنة والهادئة والخالية من البشر يرقى لأن يكون بيانا ضدّ الحرب الأهلية والجرائم التي يرتكبها البشر بحقّ أنفسهم وبحقّ الطبيعة. والمعروف أن تلك الفترة اتّسمت بالتوتّر والاضطراب ولم يمرّ وقت طويل حتى اندلعت الحرب الأهلية الأمريكية.
بعد عدّة سنوات، عاد بيرستادت إلى وادي يوساميتي مرّة أخرى، وحزن كثيرا عندما وجد أن الناس لوّثوا المكان الذي ساعد هو في اكتشافه وفي الترويج له من خلال صوره.

Friday, May 18, 2018

لوحات عالميـة – 465

الساحـرات الثـلاث
للفنان السويسري جون هنـري فوزيـلي، 1782

ماكبث هي إحدى أهمّ وأشهر مسرحيات شكسبير. وقد كتبها حوالي عام 1616. وهي تستند إلى أحداث حقيقية وقعت في اسكتلندا في القرن الحادي عشر.
كان شكسبير قد قرأ تاريخ الملك الاسكتلنديّ ماكبث في بعض المصادر. ولأن القصّة حافلة بالدراما والمفاجآت والمفارقات، فقد رأى أنها تناسب المسرح. ثم أضاف إليها أعمالا لها علاقة بالسحر الذي كان على ما يبدو موضوعا ساخنا ومفضّلا في نهاية القرن السادس عشر وبداية السابع عشر، لدرجة انه يقال أن جيمس الأوّل ملك انجلترا كان مهتمّا كثيرا بمطاردة الساحرات وتحدّث عنهنّ في كتابه الوحيد الذي ألّفه.
الرسّام جون هنري فوزيلي كان احد ابرز رموز الحركة الرومانسية. وكان في نفس الوقت يمارس الكتابة ويهوى المسرح. ولطالما انجذب إلى أعمال شكسبير مثل "ماكبث" و"هاملت" و"حلم ليلة في منتصف الصيف" ونقل إلى لوحاته بعضا من أجوائها.
في الفصل الأوّل من مسرحية ماكبث، تظهر لماكبث ثلاث ساحرات يخبرنه انه سيصبح ملكا على اسكتلندا. لكن عندما يتحالف مع شخص آخر يُدعى بانكو لقتل دنكان، ملك اسكتلندا آنذاك، تتغيّر القصّة لتأخذ منحى آخر.
وفي احد المشاهد الرئيسية في المسرحية، يقف كلّ من ماكبث ومساعده بانكو في ميدان المعركة وهما يعتمران خوذتين ويمسكان بسيفين يقطران دما بعد أن قتلا الملك. وأمامهما يقف فرسانهما المسلّحون بالسيوف والرماح، ثم يعلن ماكبث انه قد أصبح ملكا على اسكتلندا.
وهنا تظهر الساحرات الثلاث مرّة أخرى ليحملن إلى ماكبث نبوءتهنّ المشئومة بسقوط حكمه الوشيك. وهذه هي اللحظة التي يرسمها فوزيلي في اللوحة. إذ يصوّر الساحرات جانبيّا وهن يضعن أصابعهنّ في أفواههنّ، وأعينهنّ مبحلقات، وكلّ منهنّ ترتدي غطاء رأس ولباسا فضفاضا. الوقت ليل على الأرجح، وشعر إحداهنّ المتطاير يوحي بأن الجوّ عاصف.
وقد اختار الرسّام أن يعطيهنّ الهيئة التقليدية للساحرات، فهنّ دميمات وبملامح ذكورية تقريبا ومظهرهنّ رثّ واثنتان منهنّ تغمغمان بكلام بينما الثالثة تبتسم. ومن الواضح أن الرسّام لم يكن مهتمّا بتجسيد الشخصيات بدقّة بقدر اهتمامه بأن يترك أثرا في نفس الناظر وأن يثير لديه شعورا بالرهبة.
بحسب المسرحية، فإن ماكبث عندما يلاحظ المنظر المزعج للساحرات الثلاث وهنّ يلقين عليه بالتعويذة التي تتنبّأ بمصيره المحتوم فإنه يتراجع مرعوبا وهو ما يزال ممسكا بالخنجر الدامي الذي قتل به الملك.
هذه اللوحة ليست الوحيدة التي استلهمها فوزيلي من أحداث مسرحية ماكبث، بل رسم مشاهد أخرى من المسرحية من بينها لوحة لزوجة ماكبث وهي تمشي أثناء نومها وتعترف دون وعي بضلوعها في قتل الملك. وشكسبير يوظّف فكرة انعدام النوم كعقاب للمذنب.
لم يكن فوزيلي الرسّام الوحيد الذي استوحى من ساحرات ماكبث موضوعا للوحاته، بل كان هناك رسّامون آخرون منهم الكسندر كولن وجون مارتن وغيرهما.
قصّة ماكبث هي عبارة عن تحالف بين مجرمين متعطّشين للسلطة وتتحكّم في سلوكياتهم مشاعر إنسانية متناقضة من حزن وشجاعة وغضب وطموح وجنون .. الخ.
كان فوزيلي قد قرأ بعض كتابات شكسبير أثناء دراسته في زيوريخ، وقام وقتها بترجمة ماكبث إلى الألمانية. كان منجذبا إلى تعامل شكسبير مع المواضيع الفانتازية والخارقة، وألهمته هذه المواضيع رسم بعض أشهر لوحاته. وبعد أن وصل إلى انجلترا حضر عرضا للمسرحية في احد مسارح المدينة.
احد النقّاد في ذلك الوقت كتب معلّقا على هذه اللوحة أن الفنّان يرسم جيّدا لكن خياله محدود". وفي ما بعد وُظّفت اللوحة من قبل رسّامي الكاريكاتير في عديد من المناسبات للسخرية من رجال السياسة في بريطانيا.
وممّا يجدر ذكره أن اللوحة ظلّت في مجموعة فنّية خاصّة لأكثر من قرنين. ثم اقتنتها مكتبة هنتنغتون البريطانية التي تضمّ عددا من أهمّ اللوحات الانجليزية التي تعود إلى القرن الثامن عشر. والمعروف أن فوزيلي رسم ثلاث نسخ من هذه اللوحة مع تغييرات بسيطة، واحدة منها في زيوريخ والأخريان في لندن.
منذ أواخر القرن الثامن عشر، توقّف معظم الناس في أوربّا عن الإيمان بالساحرات والأشباح. وكانت هذه المخلوقات الخرافية مرتبطة بالقصص الريفية أو الشعبية أو الدينية.
لكن هذه القصص بُعثت من جديد في السنوات الأخيرة مع ظهور روايات تتناول الخفاء والفانتازيا والسحر، مثل "هاري بوتر" و"سيّد الخواتم" وغيرهما. شكسبير نفسه استلهم قصص الساحرات من الفلكلور الانجليزيّ ومن أساطير الإغريق وبلدان شمال أوربّا.
ولد جون هنري فوزيلي في سويسرا عام 1741 ودرس الرسم في ميونيخ. وفي عام 1760 انتقل إلى لندن وعمل ناقدا. وبناءً على نصيحة الرسّام جوشوا رينولدز، ذهب إلى روما لدراسة الرسم وقضى هناك ثمان سنوات.
وعندما عاد إلى انجلترا عزّز حضوره في المشهد الفنّي وأصبح رسّاما معروفا. ورسوماته التي تتناول مواضيع سيكولوجية وغيبية كانت مثارا لسخرية الكثيرين، وبعضهم اعتبروه مجنونا، لكنها صنعت منه فنّانا مشهورا، وهو أيضا كان ناجحا في الترويج لنفسه.
اعتبارا من عام 1790، عمل فوزيلي محاضرا في الأكاديمية الملكية، وكان من بين تلاميذه كلّ من جون كونستابل ووليام بليك.

Thursday, May 10, 2018

لوحات عالميـة – 464

صيـد اليـوم
للفنان الايطالي اوجيـن فـون بـلاس، 1880

كانت فينيسيا في القرن الثامن عشر جزءا من الإمبراطورية المجريّة النمساوية. وكانت وجهة مفضّلة للأثرياء الأوربّيين الباحثين عن مناظر البحر والطبيعة الجميلة. كما كانت مقصدا للتجّار من أماكن شتىّ بسبب ازدهارها الاقتصاديّ ومكانتها الماليّة بين الحواضر الأوربّية.
ولهذه الأسباب ازدهرت حركة الرسم في المدينة وقصدها الكثير من الفنّانين من أوربّا وأمريكا الشمالية الذين اجتذبتهم بيئتها البحرية وأسلوب حياة سكّانها الذي يتّسم بالوفرة والهدوء والاستقرار.
وكان من بين هؤلاء الرسّام اوجين فون بلاس المولود في بلدة قرب روما لأبوين قَدِما من النمسا. وقد انتقل إلى فينيسيا مع عائلته وهو صغير بعد أن أصبح والده، الرسّام هو الآخر، أستاذا في أكاديمية الفنون الجميلة في المدينة.
وقد درس فون بلاس على يد والده ثم في أكاديميّتي فينيسيا وروما لعدد من السنوات. ولأن فينيسيا كانت محطّة يتوقّف فيها السيّاح الأجانب، ومع ازدهار سوق الرسم فيها، أصبح كلّ من يزور المدينة يحرص على اقتناء المناظر التي تصوّر الحياة اليومية لأهلها والمعالم السياحية الجميلة التي تزخر بها.
كان شغف فون بلاس بفينيسيا قويّا، وهذا واضح من صُوره العديدة المرسومة بأسلوب أكاديميّ والتي تعكس حيوية هذه المدينة وأناسها. وقد أصبح جزءا من حلقة من الرسّامين الذين تخصّصوا في رسم المناظر الفينيسية حصرا، مثل روتارو وباوليتو بالإضافة إلى الرسّام الانجليزيّ لوك فيلدز.
لكن وبخلاف الرسّامين الآخرين، لم يرسم فون بلاس بيئة المدينة البحرية ولا ساحاتها الفسيحة، بل ركّز على رسم ما يجري في أفنية البيوت الحميمة وبين الأزقّة حيث الحياة بسيطة وعفوية.
وكلّ رسوماته تقريبا تتناول أسلوب حياة الناس، خاصّة النساء اللاتي يشغلن مساحة واسعة في صوره، ويظهرن وهنّ يقرأن الرسائل أو يغسلن أو يخطن الملابس أو يحملن سلال الأزهار أو يجلبن الماء إلى البيوت أو يقطفن الفواكه أو يقفن في الشرفات متحدّثات أو ملوّحات بأيديهنّ أو مناديلهنّ.
في هذه اللوحة، يرسم فون بلاس زقاقا قديما تصطفّ على جانبيه البيوت، وفي جزء منه تظهر مجموعة من النساء وهنّ يتحدّثن إلى بائع سمك يمرّ بالجوار، وغير بعيد عنه امرأة تحمل إنائي ماء.
الشابّ ينظر إلى الفتاة بقدر من الاهتمام بينما تكتفي هي بالابتسام. والمنظر يعكس حيوية مثل هذه الأماكن والطبيعة البسيطة للناس الذين يقطنونها. المرأة التي تحمل الماء هي زوجة الفنّان، وهي تنتمي إلى عائلة ايطالية ثريّة، وتظهر كموديل في معظم صوره.
وواضح من اللوحة اهتمام الرسّام بتصوير تعبيرات الوجوه والحركات وأنواع الأقمشة الملوّنة والزاهية التي ترتديها النساء. وقد كانت براعته في رسم أشكال متباينة من النسيج والأنماط مثار إعجاب الكثيرين في زمانه.
كما أن اللمعان الذي يشعّ من صوره يذكّر بلوحات مواطنه الأشهر تيشيان الذي كان يضع عدّة طبقات من اللون بحيث تنتج ألوان بشرة لامعة وقريبة من الواقع.
وغالبا ما كان فون بلاس يحيط مناظره بإطار تاريخيّ فخم، فينقل إليها الأعمدة المتآكلة والأشجار المزهرة والحجارة المشيّدة بعناية. وكان أحيانا يضيف عناصر زخرفية إلى صوره كالأزهار والفواكه والشوارع المرصوفة بحجارة مصقولة.
والأشخاص الذين يظهرون في لوحاته يضيفون حياة إلى المعالم القديمة وكأنّهم يخلقون تواصلا بين الأجيال ويمثّلون رمزا للحفاظ على التقاليد الراسخة للمدينة.
كان فون بلاس يتمتّع بشعبية كبيرة في انجلترا، حيث عرض بعض أعماله في الأكاديمية الملكية. كما كان أيضا معروفا في العديد من البلدان الأوربّية وعرَض لوحاته في فيينا وسانت بطرسبورغ وبروكسل وبرلين وباريس وغيرها.

Wednesday, May 02, 2018

لوحات عالميـة – 463

فـلـورا
للفنان الايطالي فرانسيـسكو ميـلـزي، 1517

يُوصف فرانسيسكو ميلزي بأنه أنجب تلاميذ ليوناردو دافنشي. عندما قابله الأخير لأوّل مرّة اجتذبته أخلاقه ومظهره الحسن. ويصفه المؤرّخ فاساري بأنه كان وسيما وبعيدا عن المشاكل. وقد أصبح أبرز تلاميذ المعلّم وأقربهم إلى نفسه بعد أن لمس فيه سرعة التعلّم وحضور البديهة.
ولأن ميلزي ينتسب لعائلة موسرة من نبلاء ميلانو، فقد اُسندت إليه في ما بعد مسئوليات اجتماعية أخرى، ما اضطرّه أحيانا للانقطاع عن دروسه في الرسم. لكنه كان لا يلبث أن يعود بفضل تدخّلات ليوناردو.
عاش ميلزي في بيت دافنشي بدءا من عام 1506، وتعلّم ومارس مهارات الرسم في محترفه من خلال استنساخ لوحات المعلّم الأصلية. وبسرعة صار تلميذه المفضّل وأكثرهم إخلاصا له.
وقد وصف ميلزي دافنشي بالمحبّ والعطوف ورافقه في رحلة في أرجاء ايطاليا. كما ذهب معه في رحلته الأخيرة إلى فرنسا وظلّ معه هناك حتى وفاته. وقيل انه كان الوحيد الذي مثّل عائلة الرسّام في الجنازة وهو الذي ابلغ عائلته في ايطاليا عن موته.
يقال أحيانا أن ليوناردو كان يختار للعمل في ورشته شبابا شديدي الوسامة وأنه كان يختارهم لجاذبيّتهم وليس لموهبتهم. والدليل أن أحدا منهم لم يحقّق شهرة كبيرة. وكان ميلزي استثناءً. وقد شبّه الأخير حبّ الأستاذ له ولزملائه الآخرين بحبّ الأب لأبنائه وبأنه كان يهتمّ بهم ويرعاهم كما لو أنهم أفراد في عائلة واحدة.
وقد جرت العادة أن يعمل عدّة تلاميذ على لوحة واحدة، لذا لم يكن مستغربا أحيانا أن تُنسب لوحات دافنشي الأقلّ شهرة إلى بعض تلاميذه.
لكن لوحات ميلزي كانت مختلفة عن تلك التي لزملائه. فبعضها تبدو كاملة وذات نوعية عالية. ومن أهمّ أعماله هذه اللوحة التي تذكّر للوهلة الأولى بلوحات دافنشي بألوانها الناعمة والأنيقة والمتناغمة وبنصف الابتسامة الغامضة المرتسمة على فم المرأة، أي أنها تحمل كافّة سمات مدرسة ليوناردو.
في الأساطير الكلاسيكية، كانت فلورا أمّا لجميع النباتات والأزهار، وهي التي تُرضِع وتمنح الحياة، لذا يظهر ثدياها عادة في الرسم عاريين. كما أنها مغطّاة دائما بالأعشاب والأزهار. وهي في اللوحة تنظر إلى الأزهار الحوضية التي تُعتبر رمزا للخصوبة.
الموديل أو المرأة الظاهرة في اللوحة كانت سيّدة تعمل في بلاط الملك الفرنسيّ فرانسيس الأوّل آخر رعاة ليوناردو.
وعلى الأرجح، ظلّت الصورة في المجموعة الخاصّة بملوك فرنسا حتى منتصف القرن السادس عشر. وكان يُعتقَد أنها لدافنشي، لكن ثبت في ما بعد أن ميلزي هو الذي رسمها. وهناك بضع لوحات أخرى غيرها رُسمت في القرن السادس عشر وكانت تُنسب لدافنشي، لكنها اليوم أصبحت تُنسب لتلميذه.
يُشار إلى ميلزي على انه كان الشخص الأوّل المسئول عن جمع وترتيب مذكّرات ليوناردو في كتاب والمحافظة عليها في عهدته.
وقد ورث جميع أعمال أستاذه العلمية والفنّية، بالإضافة إلى مخطوطاته ومجموعاته الأخرى. كما عُهد إليه بمهمّة إدارة بيته وقد فعل ذلك بإخلاص.
بعض المؤرّخين يشيرون إلى أن ميلزي كان مجرّد رسّام هاوٍ كرّس حياته وفنّه لخدمة معلّمه وكان يمارس الرسم كنوع من التسلية وإزجاء الفراغ . المؤرّخ فاساري لم يتحدّث في كتابه أبدا عن موهبته الفنّية، لكنه ارجع له الفضل في الحفاظ على تراث معلّمه.
وهناك من ينسب له لوحة أخرى لطالما قيل إنها لدافنشي وهي امرأة بعقد جميل "أو لا بيل فيرونيير" التي تصوّر امرأة تُدعى لوكريشيا كريفالي. لكن لا دليل قاطعا حتى الآن يثبت صحّة هذه الفرضية.

Friday, April 27, 2018

لوحات عالميـة – 462

شخصـان راكبـان
للفنان الروسي فاسيـلي كانـدينسكـي، 1906

كان فاسيلي كاندينسكي احد مؤسّسي الرسم التجريديّ وواحدا من أهمّ الرسّامين الذين ظهروا في القرن العشرين. كما كان من أوائل الرسّامين الذين تحدّثوا عن تأثير الألوان على المزاج والمشاعر.
كان يرى، مثلا، أن الألوان قادرة على مساعدة الإنسان على التواصل مع ذاته الروحية. ونظريّته تشبه نظرية غوته الذي قال إن الألوان توصل مشاعر متباينة.
منذ أن كان طفلا، كان كاندينسكي يستمتع بالرسم وبالموسيقى. وقيل انه استمع ذات مرّة إلى إحدى اوبرات فاغنر ورأى أثناء سماعه للموسيقى خطوطا وألوانا. وهذه هي الفكرة التي ظلّ يعكسها في لوحاته طوال حياته.
ورغم أن كاندينسكي قضى جزءا كبيرا من حياته خارج بلده، أي في ألمانيا ثم في فرنسا، إلا انه ظلّ يكتب ويتكلّم دائما عن بلده روسيا، وخاصّة عن بلدته الواقعة في ضواحي موسكو، وكيف أن جمالها هو الذي أوحى إليه بطريقته الغريبة والفريدة في النظر إلى العالم.
وصور بلدته القديمة تظهر بشكل متواتر في أعماله الأولى. وحتى لوحاته التجريدية لا تخلو من تأثير الأيقونات الروسية بألوانها الثريّة وأشكالها الرمزية. كما أخذت القصص الخيالية والمستوحاة من التراث والفلكلور المحليّ طريقها إلى لوحاته الأولى عندما كان يتلمّس طريقه للبحث عن أساليب تعبير بدائية وغريبة.
في هذه اللوحة، يرسم كاندينسكي رجلا راكبا فوق حصان وإلى جواره امرأة يطوّقها بحنان، بينما يمرّان من أمام نهر يفصلهما عن قرية روسية تعلو بيوتها وكنيستها قباب ملوّنة ولامعة.
من الأشياء اللافتة في اللوحة الملابس الروسية التقليدية ذات الألوان البديعة التي يرتديها الراكبان، والبقع اللونية الساطعة والجميلة المنعكسة على مياه النهر، وأوراق الشجر المتساقطة التي تملأ الأرض. وفي هذه التفاصيل يظهر تأثير النقطية، بل وحتى الوحوشية، فالألوان تصف تجربة الرسّام ولا تصف المنظر الطبيعي نفسه.
ومن الواضح أن اللوحة تخلو من الأشكال الهندسية والألوان الأوّلية. كما أن الألوان فيها تذكّر بالمجوهرات والتطريز والموزاييك.
رسم كاندينسكي هذه الصورة، التي لا تخلو من غموض وفانتازيا، وفي ذهنه تجارب وذكريات استدعاها من زمن الطفولة. وكانت اللوحة جزءا من سلسلة من الصور التي أراد من ورائها التعبير عن حنينه إلى ماضي روسيا وطبيعة الحياة البسيطة التي كان يعيشها الناس في ذلك الماضي. وكان كاندينسكي يشير إلى هذه اللوحات باعتبارها "رسومات لونية".
كان كاندينسكي ابنا لعائلة تشتغل في التجارة. وبسبب تجارة أبيه، ظلّ على الدوام شخصا موسرا ومستقلا. لكن بعد الثورة البلشفية واستبدال نظام القيصر بنظام شيوعي، فقَدَ الرسّام وعائلته معظم ممتلكاتهم بسبب قرار إعادة توزيع الأراضي.
في ذلك الوقت، أصبح الرسّامون الطليعيون هم المفضّلين عند السلطة الجديدة. ورغم أن كاندينسكي لم يعتنق الأفكار الماركسية أبدا، إلا انه حظي باحترام كبير باعتباره مبشّرا بالفنّ التجريديّ الجديد وضَمِن لنفسه وظيفة رسمية محترمة وبدأ يستمتع بدوره الجديد كمثقّف بيروقراطي ومعلّم.
لكن شيئا فشيئا، أصبح أسلوبه الروحانيّ يتناقض مع المبادئ المهيمنة للعقلانية والهندسة النقيّة. وبسبب إحساسه بالعزلة الفنّية المتزايدة، مضافا إليها التبعات المدمّرة للحرب العالمية الأولى التي كانت قد انتهت للتوّ، اضطرّ كاندينسكي لمغادرة روسيا عام 1921 دون أن يعود إليها أبدا.
كان كاندينسكي عاشقا كبيرا للموسيقى، وكثيرا ما أطلق على لوحاته مسمّيات موسيقية، مثل "توليفات" و"ارتجالات" و"انطباعات". وبعض الكتّاب شبّهوا "ارتجالاته" بالكونشيرتوهات، كما انه رسم العديد من "انطباعاته" بعد تجربة الاستماع إلى قطع موسيقية معيّنة.
ولد كاندينسكي في موسكو لعائلة ثريّة تعمل في تجارة الشاي. وتخرّج من كليّة الحقوق في موسكو، ثم أصبح أستاذا مساعدا فيها. لكنّه في سنّ الثلاثين غيّر حياته جذريّا، عندما ترك وظيفته الأكاديمية وذهب إلى ميونيخ لدراسة الرسم.
وقد ذكر في ما بعد أن احد أسباب تغييره مسار حياته هو تأثّره بلوحة كلود مونيه أكوام قشّ في ضوء الشمس التي رآها في معرض في سانت بطرسبورغ. وحتى عام 1914، كان كاندينسكي يعيش في ألمانيا، إذ درس الفنّ الواقعيّ هناك، وكان من بين معلّميه الرسّام الرمزيّ فرانز فون ستاك، وهذا يفسّر ظهور الرمزية في أعماله الأولى.

Saturday, April 21, 2018

لوحات عالميـة – 461

النافـورة، فيللا تورلونيا، فراسكاتي، ايطاليا
للفنان الأمريكي جون سنغـر سارجنـت، 1907

كان كلّ من الرسّام ويلفريد دي غلين وزوجته الرسّامة جين ايميت صديقين لجون سنغر سارجنت. وقد رافقاه في السنوات التي سبقت نشوب الحرب العالمية الأولى في رحلات لرسم الطبيعة في بعض مناطق أوربّا. وكان من عادتهم قضاء فصل الصيف من كلّ عام في فرنسا.
كان الثلاثة رسّامين معروفين. وقد زاروا معا أماكن مثل اسبانيا وجنوب فرنسا وايطاليا وفينيسيا والألب.
وكان سارجنت قد قابل كلا من الزوجين على حدة، ثم لعب دورا مهمّا في التقريب بينهما وتسهيل زواجهما. وأصبح الزوجان جزءا من دائرة الرسم الأنجلو أميركي التي كانت تجتمع حول سارجنت.
وقبل ذلك، كان سارجنت ودي غلين قد عملا معا على انجاز بعض الجداريات في الولايات المتحدة. ومع مرور الوقت جمعتهما صداقة قويّة وظلا صديقين حميمين على الدوام.
ولد دي غلين باسم "فون غلين". وبسبب دواعي الحرب، غيّر اسمه إلى دي غلين كي يتخلّص من عبء حمله اسما ألمانيّا وليتبرّأ من جذوره القديمة. وكان جدّه بارونا ألمانيّا يملك قصرا قديما في تالين عاصمة استونيا.
عُرف دي غلين بكونه رسّاما انطباعيا انجليزيّا. وقد درس الرسم في لندن وباريس وعرض أولى لوحاته في روما عام 1894، ثم في باريس في السنة التالية. وفي السنة التي بعدها عرض أعماله في الأكاديمية الملكية في لندن. وكان ذا شعبية لا بأس بها في انجلترا في بدايات القرن الماضي.
أما زوجته جين ايميت دي غلين فكانت رسّامة بورتريه. وقد ولدت في نيويورك وكانت اصغر أشقّائها العشرة. وهي تمتّ بصلة قرابة للروائيّ هنري جيمس. كانت الصغرى بين ثلاث شقيقات موهوبات. وكلّهن أصبحن فنّانات من نوع ما. وقد درست هي الرسم في نيويورك قبل أن تسافر إلى أوربّا لترى لوحات المعلّمين العظام ولتتلقّى دورات في بعض ورش باريس الفنّية. لكن لم يُقدَّر للناس أن يروا لوحاتها في معارض.
وبعد زواجها من دي غلين عام 1904، قرّر الاثنان الاستقرار في لندن بشكل دائم. ولسبب ما لم تنجب أطفالا، لذا اختارت هي وزوجها أسلوب حياة مترحّلا وسافرا كثيرا مع سارجنت في العديد من أرجاء أوربّا.
وكانا متأثّرين بسارجنت وأسلوبه في الرسم ويجدان نوعا من الإلهام في رسم عالَم وأسلوب حياة لم يعودا موجودين اليوم.
في عام 1907، كان سارجنت يقضي وقته في ايطاليا متنقّلا بين فلورنسا وسيينا. وأثناء رحلاته تلك، كان يجرّب الرسم في الهواء الطلق وفي بيئات خارجية. وقد طلب من صديقه دي غلين وزوجته أن يلتحقا به هناك.
والمعروف انه كان من عادة سارجنت أن يرسم أصدقائه كنوع من المجاملة. فعل هذا مع كلود مونيه ومع كارلوس دُوران الذي سبق أن علّم سارجنت فنّ رسم البورتريه السائل في باريس.
في هذه اللوحة، يرسم سارجنت صديقه دي غلين وزوجته بألوان سميكة وفرشاة معبّرة في حديقة مشمسة في فيللا في وسط بلدة ايطالية تُدعى فراسكاتي. وتظهر الزوجة في الصورة مرتدية فستانا ابيض وخمارا شاحبا تعلوه قبّعة صفراء، بينما هي منهمكة في رسم الحديقة التي يجلسان فيها والمغمورة بضوء الشمس.
ويظهر الزوج وهو ينظر إليها بلا حراك بينما تبدو خلفه نافورة. الوضعية الغريبة التي يبدو عليها الزوج في اللوحة اهتدى إليها سارجنت بعد طول تفكير.
مثل هذا المنظر كان يمثّل أسلوب حياة مفضّلا بسبب خصوصيّته. لكن نوعية الحياة تلك ستختفي بعد بضع سنوات مع بداية نشوب الحرب العالمية الأولى. إذ لم يمرّ وقت طويل حتى التحق الزوجان دي غلين بالصليب الأحمر في فرنسا. وفي طريق عودتهما إلى انجلترا في السنة التالية، أُرسل الزوج مع رسّامين آخرين إلى جبهة القتال في ايطاليا.
ممّا يجدر ذكره أن سارجنت رسم الزوجين دي غلين في لوحة أخرى وهما يزاولان الرسم على أطراف غابة. كما رسم صورة أخرى للزوجة تظهر فيها بملابس أنيقة بينما تقرأ كتابا في حديقة.

Friday, April 13, 2018

لوحات عالميـة – 460

سانـت كاثـريـن الاسكنـدرية
للفنان الايطالي كـارافـاجيـو، 1598

منذ العصور الوسطى وحتى نهاية القرن الثامن عشر، كانت معظم الصور في أوربّا دينية. كان الناس متديّنين كلّ على طريقته، وكان من الصعب تخيّل وجود أشخاص لادينيين في ذلك العصر أو في عصر النهضة.
واليوم عندما ترى لوحة دينية في احد المتاحف، فإنك غالبا لا تفكّر في معناها أو في القصّة من ورائها، بقدر ما يهمّك أن تستمتع بالألوان والدراما والتأثيرات الفنّية فيها.
وكثير من اللوحات التي تزدحم بها المتاحف الغربية اليوم تصوّر شخصيات دينية، أي أنبياء أو أولياء أو قدّيسين الخ. وكان أوّل القدّيسين، بعد العذراء ويوحنّا المعمدان والرسل، هم شهداء المسيحية الأوائل الذين قُتلوا لأنهم رفضوا التبرّؤ من ديانتهم أو تقديم قرابين للآلهة الوثنية، أي ديانة الدولة الرومانية. وأوّل شهيد في المسيحية هو ستيفان الذي رُجم بالحجارة حتى الموت على يد مجلس من اليهود.
ومنذ عام 1234، ظلّ البابا فقط هو المفوّض بتسمية القدّيسين من خلال لجنة بابوية تستعرض حياة ومعجزات المرشّحين. لكن إعلان شخص ما قدّيسا أو خلعه ظلّ دائما موضوعا جدليّا في الغرب. وقد اعتبره الاصلاحيون البروتستانت انحرافا عن رسالة المسيح.
وإحدى الشخصيات التي مُنحت مرتبة القداسة وتناولها الرسم كثيرا هي سانت كاثرين التي تواترت صورها في الأيقونات المسيحية. وأصل هذه المرأة يعود إلى أسرة نبيلة من اسبانيا في القرن الرابع الميلادي. وقد اعتنقت المسيحية ووهبت نفسها لها بعد أن رأت حلما. ويقال أنها في سنّ الثامنة عشرة واجهت الإمبراطور الرومانيّ ماكسيموس وناظرت فلاسفته الوثنيين ونجحت في تحويل عدد منهم إلى المسيحية.
وقد دفع هذا الإمبراطور إلى سجنها، لكن بعد فترة استطاعت تحويل زوجته وقائد جيشه إلى الدين الجديد. وهنا أمر ماكسيموس بإعدام من تحوّلوا على يدها بمن فيهم زوجته، كما أمر بأن تُعدم كاثرين على عجلة خشبية.
وتذكر الأسطورة أن العجلة تدمّرت في اللحظة التي وُضعت عليها المرأة بفعل عاصفة رعدية، ما دفع الإمبراطور لأن يأمر بقطع رأسها بالسيف. وهذا ما حدث.
ومن أهمّ من صوّروا قصّة كاثرين الرسّام كارافاجيو وذلك بناءً على تكليف من الكاردينال فرانسيسكو ديل مونتي الذي كان قد ساعد الرسّام ودعمه عندما وصل إلى روما لأوّل مرّة. وبفضل هذه الكاردينال تمكّن كارافاجيو من الاتصال بالرعاة الأغنياء في روما الذين أعانوه وشجّعوه. وبعد أن أصبح مشهورا، بدأ تكليفه بزخرفة عدد من قاعات وأسقف الكنائس.
في اللوحة، تظهر كاثرين وهي ترتدي لباس الملوك مع هيئة تشي بالنبل، في إشارة إلى أنها كانت في الأساس ابنة لملك.
المرأة تشغل الصورة بالكامل. وهي تبدو وحيدة في مكان يخلو من أيّ الماحات معمارية أو هندسية. كما أنها تنظر إلى المتلقّي وهي محاطة بأشيائها المرتبطة بقصّة استشهادها، مثل العجلة المكسورة التي وُضعت عليها قبل إعدامها، والسيف الذي قُتلت به، وسعفة الشهيد المرسومة عند قدميها على الأريكة الحمراء.
من أهمّ سمات هذه اللوحة الواقعية الشديدة التي رُسمت بها والاهتمام بالتفاصيل. وقد استخدم كارافاجيو هنا ألوانا جريئة تشبه تلك التي وظّفها في لوحته عازف العود . ويلاحَظ أيضا تأثير الكياروسكورو الناتج عن التصوير الدراماتيكيّ للضوء. وهناك أيضا الطريقة التي رُسم بها ثوب المرأة الفخم والمزركش والتي تعكس براعة فائقة.
استخدم كارافاجيو لهذه اللوحة موديلا تُدعى فيلدا ميلاندروني التي كانت تتردّد على قصر ديل مونتي وغيره من رعاة الفنون. وهي نفس الموديل التي استخدمها الرسّام في لوحته المجدلية التائبة من عام 1598.
كانت هذه اللوحة هي الأولى في سلسلة من اللوحات الدينية التي كُلّف بها الرسّام وتصوّر أحداثا وشخصيات دينية. وقد رسم أيضا كلا من متّى وبطرس ويوحنّا المعمدان. لكن لوحته هذه متميّزة عمّا سواها بألوانها وتقنياتها الخاصّة.
جرت العادة على أن لكلّ قدّيس قصّة أو سببا ما في انه عاش حياة مثالية. وعبر تاريخ الكنيسة الكاثوليكية استُخدمت الرموز لسرد تلك القصص، وأصبح لكلّ قدّيس رمز أو "موتيف" يقترن بحياته. وبعد موتها، صارت كاثرين راعية للمكتبات والمعلّمين ولكلّ ما له علاقة بالحكمة والعلم، ورمزا لأرباب الحِرَف ممّن يعتمدون في عملهم على العجلات.
في عام 1969، وبناءً على استنتاجات معظم المؤرّخين، قرّرت الكنيسة أن كاثرين شخصية خيالية ولم يكن لها وجود أبدا، وبالتالي يجب إزالتها من قائمة القدّيسين. لكن في عام 2002، ولم يكن المؤرّخون قد غيّروا رأيهم بعد، قرّرت الكنيسة إعادة الاعتبار للمرأة واعتبارها قدّيسة.
بعد وفاة الكاردينال فرانسيسكو ديل مونتي، انتقلت هذه اللوحة إلى ابنه الذي منحها بدوره إلى كاردينال يُدعى بارباريني مقابل إسقاط الأخير ديون والده الراحل. واستمرّت اللوحة في عهدة عائلته حتى عام 1934، عندما اشتراها متحف ثايسن الاسبانيّ في مدريد وما يزال يحتفظ بها إلى اليوم.

Saturday, April 07, 2018

لوحات عالميـة – 459

أمـومـة
للفنانة الأمريكية سيسيـليا بـو، 1884

قبل حوالي مائة عام، كانت سيسيليا بو تُعتبر من أعظم الرسّامات اللاتي ظهرن في النصف الأوّل من القرن العشرين. لكن بعد وفاتها لم يعد يسمع عنها احد، ربّما لأنها كانت تقصر فنّها على رسم الطبقات الاجتماعية العليا بأسلوب أكاديميّ صارم، وهذا أصبح يُنظر إليه اليوم على انه موضة قديمة.
وهناك سبب آخر في أن بو أصبحت شبه منسيّة اليوم، ويتمثّل في أن شهرة زميلتها الأمريكية ماري كاسات، التي اكتسبتها بسبب قربها من الانطباعيين، غطّت على شهرتها.
ومع ذلك فقد نالت بو صيتاً واسعا في زمانها لدرجة أن الرسّام وليام تشيس وصفها بأنها أعظم رسّامات جيلها. وفي عام 1924، كلّفها متحف اوفيزي الايطاليّ بأن ترسم لنفسها بورتريها كي يحتفظ به ضمن مجموعته الدائمة. وهو تشريف لم ينله سوى القليل من الرسّامين الأمريكيين.
وقد قيل انه لم يكن بمقدور رسّام آخر أن ينافسها في رسم توهّج ولمعان الحرير باستثناء جون سارجنت. وعلى عكس العديد من الفنّانين في عصرها، لم تعش الرسّامة حياة بوهيمية وصاخبة، ولم تكن فنّانة ثورية بالمعنى الشائع تطمح لأن تقلب المعايير الأكاديمية.
بل إنها عندما كانت في فرنسا لم تنجذب إلى أعمال الطليعيين الفرنسيين، وإنما اهتمّت باستنساخ أعمال المعلّمين الأوائل في اللوفر، خاصّة تيشيان ورمبراندت وفيلاسكيز. كما لم يكن لديها الكثير من المال ولا زوج يحميها، لكنها ثبّتت نفسها بإصرار وعصامية وحصلت على مركز متقدّم.
هذه اللوحة هي أشهر لوحات سيسيليا بو وكانت تعتبرها نقطة تحوّل في مسارها الفنّي. وفيها تصوّر شقيقتها ايتا وطفلها البكر. من الواضح أن اللوحة هي عن الأمومة. التصوير الحسّاس للأمّ وهي تمسك بطفلها يذكّر بلوحة جيمس ويسلر التي رسمها لوالدته.
لكن توظيف بو للألوان الرائعة والفرشاة السائلة والنسيج والأشكال، بالإضافة إلى المضمون السيكولوجيّ والعاطفيّ للصورة يتجاوز ما فعله ويسلر. وقد حقّقت لها اللوحة جائزة مرموقة ثم أرسلت إلى باريس وقرّر المحكّمون في الصالون عرضها.
ولدت سيسيليا بو في فيلادلفيا عام 1855 لأمّ أمريكية وأب فرنسيّ من بروفانس كان يعمل تاجر أقمشة. وقد توفّيت والدتها بعد ولادتها بأسبوعين، الأمر الذي شكّل صدمة لوالدها، فعاد إلى فرنسا بعد أن تركها هي وأختها ذات الثلاثة الأعوام في عهدة جدّتهما.
درست الفنّانة الرسم في أكاديمية بنسلفانيا للفنون وتتلمذت على يد الرسام توماس ايكنز. ثم درست على يد وليام سارتن الذي كانت تفضّله على ايكنز. وقد ساعدها الأخير على اكتساب مهارات رسم الأشخاص من الطبيعة.
في عام 1888، ذهبت بو إلى فرنسا لتدرس في أكاديمية جوليان للفنّ. وفي باريس تعرّفت على روّاد الحركة الانطباعية. وعندما عادت إلى أمريكا بعد ذلك بعامين، استقرّت في نيويورك وأصبح الناس يبحثون عن لوحاتها.
فرشاتها التعبيرية وألوانها الثريّة واستخدامها الفعّال للوضعيات المسترخية جعلت الناس يقارنونها بجون سارجنت. كما أن مزاوجتها بين الأسلوب الفرنسيّ وذوقها الأمريكيّ المتميّز أصبح علامة فارقة على فنّها.
كانت سيسيليا بو شخصية مستقلّة طوال حياتها، ولم تتزوّج أبدا وبالتالي لم تُرزق بأطفال، واختارت بدل أن تلعب الأدوار التقليدية للأمّ والزوجة أن تكرّس حياتها للفنّ.
الرجال الذين رسمتهم كانوا في الغالب شخصيات معروفة مثل جورج كليمنصو وروزفلت وزوجته وابنته. أما النساء فسيّدات عصريات يرتدين ملابس محتشمة ومتحفّظة. وفي كلّ لوحاتها يظهر أثر فرشاتها السريعة والأنيقة وتوليفاتها المبتكرة ومراعاتها للنِسَب والذوق الرفيع في تصوير المظهر والملابس.
سافرت الرسّامة كثيرا وعملت محاضرة في أكاديمية بنسلفانيا، كما نشرت سيرتها الذاتية عام 1930. ومجموعتها الكاملة من اللوحات تبلغ حوالي ثلاثمائة لوحة، معظمها موجودة اليوم في متاحف كبيرة وفي مجموعات خاصّة.
توفيت سيسيليا بو في سبتمبر من عام 1942 عن سبعة وثمانين عاما.

Sunday, April 01, 2018

لوحات عالميـة – 458

ثـلاث نسـاء عنـد نبـع مـاء
للفنان الاسباني بابلـو بيكـاسـو، 1921

يُعتبَر بابلو بيكاسو احد أكثر الرسّامين نفوذا في القرن العشرين، وما يزال تأثيره مستمرّا حتى اليوم. وأعماله تتّسم بتنوّع الأساليب الفنّية، لأنه لم يلتزم بمدرسة فنّية بعينها، بل جرّب كلّ مدارس الرسم تقريبا.
ويمكن اعتبار بيكاسو شخصية تاريخية أيضا، فقد عاصر أحداثا شكّلت نقاط تحوّل كبيرة في العالم، كالحربين العالميتين الأولى والثانية والحرب الأهلية الاسبانية. كما تقاطعت حياته مع العديد من الأسماء المشهورة في زمانه مثل ارنست همنغواي ومارك شاغال وجان كوكتو وكوكو شانيل وهنري ماتيس وغيرهم.
رأى بيكاسو العالم بطريقة مختلفة عمّا رآه معظم الناس، ورسم أكثر من خمسين ألف لوحة بعضها أصبحت ايقونية ومشهورة في تاريخ الرسم، مثل عازف الغيتار العجوز وغورنيكا وآنسات افينيون وغيرها.
في هذه اللوحة، يرسم بيكاسو ثلاث نساء مجتمعات حول عين ماء في بيئة متوسّطية. وهنّ يبرزن من المكان الصخريّ مثل تماثيل ضخمة من زمن اليونان والرومان. النساء يلففن أجسادهنّ بأوشحة وأيديهن تستند على النبع، وقد أضاف إليهنّ الرسّام بعدا ثلاثيّا بأشكال هندسية بسيطة. الطبيعة الأنبوبية للأذرع والإيقاعات التجريدية للشخصيات هي من إرث أكثر أعمال الفنّان ثوريةً.
رسم بيكاسو هذه اللوحة في فونتينبلو في فرنسا بعد ولادة طفله، وهو نفس الوقت الذي رسم فيه لوحة الموسيقيين الثلاثة، أي قبيل تحوّله للسوريالية.
وفي ذلك الوقت، كان العديد من الرسّامين الفرنسيين قد بدءوا يرسمون بالأسلوب النيوكلاسيكيّ. وربّما كانوا يتوقون لأن يعيدوا بلدهم الذي مزّقته الحرب إلى مجده الكلاسيكيّ ويغرسوا جذوره مجدّدا في التقاليد العريقة والقديمة. وبيكاسو لم يكن بعيدا عما يجري. فقد كان يطوّر أسلوبه النيوكلاسيكيّ الخاصّ بالتزامن مع دراساته عن التكعيبية.
لكن غاية بيكاسو كانت مختلفة عن زملائه. فوجوه النساء في اللوحة رمادية وذات ملامح كرتونية، أي ليست مثالية أو محافظة بحيث تناسب الفنّ الكلاسيكيّ، كما أنهنّ أيضا بدينات أكثر ممّا ينبغي. وعلى الرغم من أنهنّ يمارسن نشاطا كلاسيكيا، إلا أن أجسادهنّ لا تعكس ذلك الجمال المثاليّ الذي يثير إحساس الناظر وإدراكه عن الجسد. كما أن سماتهنّ نحتية، وكما لو أن ملابسهنّ مصنوعة من الرخام.
طيّات الملابس والاستخدام الدراماتيكيّ للون الساطع ذو النوعية الفضّية والأوضاع الساكنة للنساء تذكّر بالتماثيل الإغريقية وبالفن الهلنستي تحديدا. وتعامل بيكاسو الطموح مع ما كان موضوعا كلاسيكيا وقديما فيه إشارة إلى الصور المبكّرة لبوسان وآنغر، وهما أهمّ رسّامَين كلاسيكيين.
في عام 1916، أي قبل رسمه اللوحة بخمس سنوات، وافق بيكاسو على أن يتعاون مع صديقه الجديد الشاعر والناقد جان كوكتو في التحضير لباليه تجريبيّ وضع موسيقاه اريك ساتي. وفي العام التالي، ذهب الاثنان إلى ايطاليا حيث ظلّ بيكاسو هناك شهرين زار خلالهما المتاحف والكنائس الكبيرة ثم انتقل إلى فلورنسا ونابولي وبومبي.
وكانت تلك أوّل زيارة له إلى ايطاليا، وقد أسهمت بوضوح في ظهور الكلاسيكية في أعماله بعد أن غمر نفسه في الفنّ اليونانيّ والرومانيّ. ومن ذلك الوقت بدأت مرحلته النيوكلاسيكية التي دامت ستّ سنوات.
وقد وجد بيكاسو مصدر إلهام في النوافير الكثيرة المزخرفة وشبكات الينابيع في الحدائق الملكية في فونتنبلو في باريس. ثم أصبح يقضي الصيف في جنوب فرنسا بعد أن اكتشف أن البيئة المتوسّطية تلهمه رسم مواضيع أسطورية.
التقاليد الكلاسيكية ظلّت بالنسبة للرسّام محفّزا وموردا، لكن انشغاله بها لم يُنتِج محاكاة غير ناقدة ولم تدفعه لتوجيه طاقته الإبداعية بالكامل في اتجاه واحد بعينه.
بعض النقّاد ربطوا بين بيكاسو والرسّام دومينيك آنغر قائلين أن اهتمام بيكاسو بالأخير لعب دورا مهمّا في تطوّر التكعيبية. فقد كان آنغر مهتمّا بإظهار العلاقات بين الأشكال، وهذا أدّى إلى ظهور التشوّهات في رسومات بيكاسو. لكنّه كان يشوّه لكي يبني من جديد، كما كان يقول، ومن ثم مَهّد له هذا الطريق نحو التكعيبية وأعطاه تفسيرا للكيفية التي تتعايش فيها الكلاسيكية والتكعيبية جنبا إلى جنب في أعماله.
المرحلة النيوكلاسيكية في حياة بيكاسو لم يكن يعبّر من خلالها عن حنينه للماضي الكلاسيكيّ بالضرورة، بل ربّما أراد من خلالها أن يشير إلى انه لا يلتزم باتّجاه فنّي واحد وإنّما يستوعب العديد من الأساليب والمدارس ويعكسها جميعها في لوحة واحدة.

Tuesday, March 27, 2018

لوحات عالميـة – 457

بونابـرت واقفاً أمام تمثـال أبي الهـول
للفنان الفرنسي جـان ليـون جيـروم، 1886

زار الرسّام جان ليون جيروم مصر لأوّل مرّة عام 1855. ثم زارها بعد ذلك ثلاث مرّات وأصبح على دراية كبيرة بثقافة وجغرافيا وتاريخ هذا البلد.
وقد سلك في أسفاره نفس المسار الذي اتّبعه من أتوا قبله من الرحّالة والرسّامين الأوربّيين. فذهب أوّلا إلى الفيّوم ثم إلى أبو سمبل فصحراء سيناء ووادي عربة ثم إلى القدس وأخيرا دمشق.
ومع رحلاته تلك، بدأ رسم سلسلة من اللوحات الاستشراقية التي تصوّر بعض مظاهر الثقافة العربية والإسلامية في مصر وشمال أفريقيا.
وكان نابليون بونابرت قد وصل بجيشه إلى مصر قبل ذلك التاريخ بأكثر من خمسين عاما، أي في يوليو 1798، على رأس جيش قوامه خمسون ألف جنديّ. وكان الهدف المعلن له هو القضاء على حكم المماليك المستبدّين وجلب عصر الأنوار للمصريين.
وبعد أن ألحق القائد الفرنسيّ الهزيمة بالمماليك، قرّر أن يبني تحالفات مع رجال الدين والأعيان على أمل أن يساعده ذلك على حكم البلاد.
وأشيع بين الأهالي أن بونابرت أعلن إسلامه وأصبح يحضر بانتظام الأعياد والمناسبات الدينية والاجتماعية في محاولة لكسب ودّ المصريين. لكن جهوده تلك باءت بالفشل عندما ثار عليه الناس، ما دفعه إلى قمعهم بعنف.
وبعد اقلّ من ثلاث سنوات من إطاحة الفرنسيين بالحكم القمعيّ السابق، أي المماليك، أصبح المصريون ينظرون إلى نابليون وجيشه باعتبارهم غزاة ومستبدّين جددا.
لكن بالنسبة للفرنسيين، كان نابليون يمثّل عهدا مجيدا في التاريخ الفرنسيّ لدرجة انه أصبح أسطورة. وترسّخت الأسطورة أكثر مع نهاية الإمبراطورية الفرنسية الثانية.
كان جيروم معجبا كثيرا ببونابرت وقرّر أن يصوّر تلك المرحلة من حياة الإمبراطور، أي حملته على مصر. وكانت تلك فرصة للرسّام كي يصوّر مجدّدا الشرق الذي طالما فُتن به وبثقافته.
وقد استمدّ من الحملة الفرنسية مواضيع مزَجها مع حبّه القديم للاستشراق. ومع اقتراب الذكرى المائة لميلاد بونابرت عام 1867، كان جيروم قد أكمل رسم سلسلة من اللوحات التي تصوّر الجنرال وجيشه في مصر.
وقد رسمه في بعضها وهو واقف أمام قبور المماليك في مدينة الموتى أو وهو يسرج حصانه ويتأمّل صروح القاهرة التاريخية وتلك الفخامة التي تنطق بها حضارة عظيمة سادت زمنا ثم تلاشت.
وبعض اللوحات التي رسمها الفنّان لنابليون تستدعي فكرة القدَر، إذ يظهر فيها الجنرال الفرنسيّ وهو مستغرق في تفكير عميق. وهذه تختلف عن اللوحات التي تصوّر انتصاراته وبطولاته أو تتناول أحداثا بعينها وقعت أثناء حملته على مصر.
في هذه اللوحة، نرى نابليون على صهوة جواده واقفا أمام تمثال أبي الهول الذي ينظر من علوّ تحت سماء زرقاء صافية. والجنرال يقف ساهما أمام هذا الأثر القديم الذي يهيمن على نصف مساحة اللوحة، بينما يتأمّل وجهه الحجريّ الضخم والغامض.
في اللوحة، يتجمّد الحدث ويتوقّف الزمن في لحظة، بينما تجاهل الرسّام كلّ التفاصيل الأخرى بما فيها الأهرام وركّز على هذه المواجهة بين عملاقين.
وما نراه في الصورة هو طبيعة فخمة وشاسعة يظهر فيها رجل منعزل وفي حالة تأمّل. لكن هناك عناصر أخرى داخل اللوحة تشير إلى أن الحياة مستمرّة، مثل ظلّ حرس بونابرت ورؤساء أركانه، وأيضا مثل جيشه الذي يبدو متناهي الصغر في خلفية هذا المنظر.
هؤلاء هم جنود نابليون الذين يستعدّون لخوض معركة الهرم المشهورة التي حدثت في يوليو 1798 وواجه فيها الفرنسيون ثلّة من جيش المماليك.
كان جيروم مغرما كثيرا بهذه اللوحة، وقد عرضها في صالون باريس واختار لها اسم اوديب. وكان يشير إلى الأسطورة الإغريقية المعروفة، كي يعقد مقارنة بين الرجل الذي حرّر طيبة والبطل الذي جلب الخلاص لفرنسا، أي نابليون.
الشبه اللافت بين قبّعة نابليون ووجه أبو الهول وجد فيه رسّامو الكاريكاتير في ذلك الوقت فرصة للسخرية. وقد رسم احدهم صورة تشبه هذه اللوحة وكتب تحتها تعليقا يقول: نابليون يصاب بصدمة بعد أن عثر في وسط الصحراء على تمثال لنابليون".

Friday, March 23, 2018

لوحات عالميـة – 456

امـرأة مـع سلـّة
للفنان الاسباني خـوان غْرِيـس، 1927

كان خوان غريس احد الفنّانين الطليعيين في باريس مطلع القرن العشرين، وقد أسهم مع كلّ من بيكاسو وجورج براك في وضع أسس التكعيبية ووجّه الحركة في اتجاهات جديدة عندما نقل إلى أعماله لمسة رسومية.
كان غريس يحترم بيكاسو كثيرا ويعتبره معلّمه، وقد رسمه كمؤسّس للتكعيبية في بورتريه نفّذه بأسلوب تكعيبيّ. لكن بحسب الأمريكية غيرترود ستين التي كانت راعية للفنّ والفنّانين في باريس في ذلك الوقت، كان غريس هو الفنّان الموهوب الوحيد الذي كان بيكاسو يشعر تجاهه بالغيرة وعدم الارتياح.
وغريس كان مختلفا كثيرا عن بيكاسو وبراك اللذين كانا يرسمان باللون الواحد، فقد رسم بألوان ساطعة وبمزيج جريء ومبتكر من الألوان، على طريقة هنري ماتيس.
كان الرسّام يفضّل دائما الترتيب والنقاء، وأصبح مثالا رائدا في حركة "العودة إلى النظام" التي ظهرت بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.
وكلّ لوحات غريس المشهورة والمعروفة نفّذها بالأسلوب التكعيبيّ. وإحدى أفضلها هي هذه اللوحة التي رسمها في نهاية حياته عندما كان في ذروة إبداعه الفنّيّ. وفيها تظهر امرأة تمسك بسلّة من الفاكهة أمام نافذة أو فراغ بيضاويّ الشكل.
ملامح الوجه وأسلوب الشعر والملابس تذكّر برسومات الإغريق والرومان للنساء، وهذه الجزئية بالذات تؤكّد الاهتمام المتجدّد للرسّامين الأوربّيين بعد الحرب بالكلاسيكية وبالتجسيد التقليديّ للشكل.
الشخصية في اللوحة تشير إلى مثال عام للمرأة، فقد تكون ملهمة للرسّام أو إلهة للحصاد أو نحو ذلك. أما السلّة التي تحملها فتمثّل عنصر الحياة الساكنة الوحيد في اللوحة، وهي تذكّر بأعمال غريس المبكّرة.
ربّما تكون هناك رسالة متضمّنة في الصورة، لكنها غير واضحة. والشكل البيضاويّ خلف المرأة قد يكون مرآة أو نافذة. لكن لأنه يأخذ شكل فراغ اسود، فقد يكون أيضا إشارة إلى اقتراب الموت، إذ أن غريس توفّي بعد بضعة أشهر من رسمه للوحة.
ولد خوان غريس في مدريد في مارس عام 1887 باسم خوسيه غونزاليس، ولم يغيّر اسمه إلى خوان غريس إلا ابتداءً من عام 1905. وقد درس الهندسة في مدرسة مدريد للفنون، ثم درس الرسم على يد فنّان أكاديميّ يُدعى خوسيه كاربونيرو.
وفي بداياته، كان غريس يكسب عيشه من خلال رسوماته المرحة للعديد من المجلات. وفي عام 1906، انتقل إلى باريس وأصبح صديقا لهنري ماتيس وجورج براك وفرناند ليجيه ثم بيكاسو.
وعمل كفنّان رسوميات في عدد من المجلات الساخرة في باريس. وأوّل لوحة عرضها في الصالون كانت في عام 1912 وأسماها تحيّة إلى بيكاسو. كما رسم بورتريها لصديقه الرسّام الايطالي اميديو مودلياني.
من الثيمات التي تتكرّر في لوحات غريس فكرة المهرّج، وكان هذا موضوعا مفضّلا لبيكاسو أيضا. والمهرّج شخصية مسرحية ظهرت في بادئ الأمر في ايطاليا في القرن السادس عشر. وأصبحت موضوعا مفضّلا للكثير من الرسّامين. وقد ظهر المهرّج في أكثر من أربعين لوحة لغريس ما بين عامي 1917 و1925، وأشهرها مهرّج مع غيتار المرسومة عام 1918 والتي تظهر فيها امرأة ذات ملامح كرتونية وهي تعزف الغيتار.
في عام 1924، عمل الرسّام محاضرا في الفنّ في جامعة السوربون. وبعد عام 1925، أصبح يعاني من نوبات الربو وضيق التنفّس. وقد توفّي بالسكتة القلبية في مايو عام 1927 وعمره لا يتجاوز الأربعين، تاركا وراءه زوجة وابنا واحدا.
أغلى لوحة لغريس اسمها حياة ساكنة مع غطاء مائدة وتعود إلى عام 1915، وقد بيعت في المزاد بمبلغ خمسة وسبعين مليون دولار.
وكانت لوحة أخرى له قد بيعت قبل ذلك بواحد وعشرين مليون دولار. ثم بيعت لوحة ثالثة له بعنوان كمان وغيتار بمبلغ تسعة وعشرين مليون دولار.

Saturday, March 17, 2018

لوحات عالميـة – 455

لقـاء على دَرَج القلعـة
للفنان الايرلندي فريـدريـك بيـرتـون، 1864

ارتبط الرسّام فريدريك بيرتون بحركة الفنّانين ما قبل الرافائيليين، وكان مثلهم يحترم المعلّمين القدامى ويميل إلى رسم أعمال تصوّر قصصا عاطفية أو ذات مضمون أخلاقيّ ووعظيّ. وغالبا ما كان يستلهم صوره من أفكار الأدب وأساطير القرون الوسطى.
هذه اللوحة تُعتبَر أشهر وأفضل أعمال الرسّام. وقد اختيرت عام 2012 كأفضل لوحة في ايرلندا. وفيها يصوّر حكاية دنمركية تعود إلى القرون الوسطى عن فتاة تُدعى ايليلا وقعت في حبّ احد حرّاسها الإثني عشر ويُدعى هيلدبراند.
لكن يبدو أن والد المرأة لم يكن راضيا عن تلك العلاقة، فأمر أبناءه الستّة بالتخلّص من الحارس قتلاً. لكن هذا الأخير اظهر انه خصم عنيد، فقتل والدها ثم قتل خمسة من إخوتها بينما أبقى على حياة الأخير، أي أصغرهم، بناءً على توسّلات ايليلا.
وقد مات هيلدبراند في ما بعد متأثّرا بجراح أُصيب بها أثناء تلك المبارزات. وبعد مقتله، قام شقيق المرأة الذي نجا من القتل بربطها إلى حصان ثم سحبها وسجنها داخل إحدى القلاع القديمة إلى أن ماتت بعد ذلك بفترة قصيرة.
وقد تجنّب الرسّام في اللوحة تصوير الدماء أو العنف الذي نتج عن ذلك الصراع مفضّلا أن يتبنّى تفسيرا ناعما للقصّة، فرسم لحظات الوداع الأخيرة والعابرة التي تخيّل أنها جرت بين وهيلدبراند وايليلا عندما تقابلا للمرّة الأخيرة على سلالم إحدى القلاع الحجرية بعد تلك الأحداث الأليمة.
وفي اللوحة يظهر الحارس وهو يلثم ذراع ايليلا ويهمّ باحتضانها. وبينما تشيح بوجهها عنه، تسقط أزهار بيضاء من يدها على الأرض في إشارة إلى العلاقة القصيرة التي ربطت بينهما والنهاية المفجعة التي آلت إليها.
موقف المرأة الضعيف يوحي بالحبّ المجهَض أو الممنوع. كما أن انعدام أيّ تواصل بالعيون ومنظر المرأة وهي على وشك سحب ذراعها والمغادرة، كلّ ذلك يشير إلى صعوبة وغموض اللحظة.
شخصية المرأة، خاصّة، تجذب الانتباه، وتصويرها من الخلف يُظهِر ثوبها وجزءا من وجهها فقط. والفستان الأزرق الذي ترتديه اسكندينافيّ الطراز مع فراء ابيض وزخارف لطيور. وهذه التفاصيل تذكّر بالأشياء القديمة من القرون الوسطى.
اهتمّ الرسّام بأدقّ التفاصيل في الصورة واستخدم فراشي ناعمة لإنتاج صورة واقعية، ووضع اسكتشات متعدّدة بالقلم الرصاص والألوان المائية وجرّب العديد من الألوان. وقد ترك توقيعه بالأحرف الثلاثة الأولى من اسمه مع تاريخ اللوحة في أسفل اليسار على الجدار.
رسم بيرتون هذه اللوحة وهو في قمّة مجده الفنّي. وقد بيعت في ما بعد إلى شخص يُدعى ادوارد وايت، ثم تعاقب على امتلاكها أشخاص عديدون طوال أربعين عاما.
وفي عام 1898، اشترتها امرأة تعرف الرسّام واسمها مارغريت ستوكس. وقبل وفاتها عام 1900، أوصت بأن تذهب الصورة مع عدد آخر من أعمال بيرتون إلى ملكية الناشيونال غاليري في ايرلندا والذي ما تزال فيه إلى اليوم.
لأن بيرتون لم يكن يتحمّل رائحة الألوان الزيتية، فقد رسم اللوحة بالألوان المائيّة. ولهذا السبب، وخوفا من أن يؤدّي تعريضها للضوء الطبيعيّ وعلى فترات ممتدّة إلى تآكلها وشحوب ألوانها، قرّر المتحف أن لا يعرضها سوى لساعة واحدة ولأربعة أيّام في الأسبوع، ثم تعاد إلى مكانها داخل خزانة خاصّة خلف أبواب موصدة. وهذا العامل أضفى على هذه الصورة مزيدا من الفتنة والغموض.
ولد فريدريك بيرتون في ايرلندا في ابريل 1816. وتلقّى تدريبه كرسّام في دبلن، ثم ذهب إلى انجلترا التي عُرف فيها واشتهر. ثم زار ألمانيا حيث قضى فيها ستّ سنوات كرسّام في بلاط ماكسيميليان الثاني ملك بافاريا.
وفي عام 1874، عُيّن مديرا للناشيونال غاليري في دبلن، وبقي في ذلك المنصب إلى أن تقاعد عام 1894. وفي عهده اشترى الغاليري حوالي خمسمائة لوحة، منها لوحات مشهورة مثل عذراء الصخور لدافنشي. وفي عام 188، منحته الملكة فيكتوريا وسام فارس تكريما له.
توفّي فريدريك بيرتون في كنزنغتون في لندن في مارس من عام 1900.

Monday, March 12, 2018

لوحات عالميـة – 454

فـي مطعـم مُـوكـان
للفنان الأمريكي وليـام غـلاكينـز، 1905

في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، ازدهرت في مدينة نيويورك مستعمرة فرنسية كانت تضمّ أفرادا من مختلف المهن والحرف، من موسيقيين وفنّانين ومثقّفين وطُهاة وما إلى ذلك. وفي تشيلسي خاصّة، اُنشيء عدد من المطاعم الفرنسية التي أصبحت ذات شعبية كبيرة في أوساط الأهالي، وكان أشهرها مطعم يُعرَف بـ مُوكان.
كان يرتاد هذا المطعم رجال أعمال وممثّلون وفنّانون وكتّاب ومثقّفون. وكان من بين هؤلاء الرسّام وليام غلاكينز وزميله الرسّام روبيرت هنري. وكان هذان الاثنان جزءا من حلقة من الرسّامين الذين كانوا يصوّرون في لوحاتهم تفاصيل المدينة من حولهم ويسجّلون حياة الشوارع وأنشطة الراحة والترفيه.
في هذه اللوحة، يرسم غلاكينز جان مُوكان زوجة مالك المطعم هنري موكان وهي تتناول شرابا مع شخص آخر صديق للعائلة يُدعى جيمس مور الذي كان يمتلك مقهى فرنسيا في الجوار.
المرأة ترتدي فستانا اخضر موشّى بالزخارف والزينة وقبّعة ضخمة سوداء وتضع في عنقها لؤلؤة سوداء كبيرة بينما تنظر هي وشريكها ناحية اليسار، كما لو أنهما يتابعان شيئا أو شخصا ذاهبا أو قادما.
وغلاكينز هنا يقلّد إدوار مانيه في لوحته المشهورة حانة في فولي بيرجير التي رسم فيها الشخصية أمام مرآة. ففي المرآة الضخمة على الجدار الخلفيّ، يظهر في الوسط انعكاس لصورة زوجة الرسّام نفسه من الخلف وهي جالسة مع ناقد فنّي يُدعى تشارلز فيتزجيرالد. وفي مقدّمة الطاولة بعض تفاصيل لحياة ساكنة.
جان موكان هي نقطة الارتكاز في المنظر. وقد رسم الفنّان فستانها مستخدما ضربات فرشاة سائلة، كما نقل إلى اللوحة نظراتها الغامضة والمتململة.
والرسّام يثبت هنا تميّز أسلوبه واستخدامه البارع للألوان واختياره موضوعا برجوازيّا. كان غلاكينز مهتمّا بتصوير حياة الليل الحديثة. وهو يقدم هاتين الشخصيتين بلا تعليق أو نقد، بل بحكم كونهما صديقين فحسب.
ومع أن المنظر يوحي بالمتع وسمات الحياة المعاصرة، إلا أن الرسّام انتُقد على تصويره سلوكا غير لائق يتمثّل في إظهاره رجلا وامرأة وهما يشربان الكحول. ومثل هذا المنظر كان مألوفا وقتها في الرسم الفرنسي، لكن الجمهور الأمريكي لم يكن قد تقبّل مثل هذه الأشياء بعد في الرسم.
كان غلاكينز قد استوعب الحداثة الفرنسية ووظّفها في محاولة لدفع الرسم الأمريكي إلى الأمام. وكان يفضّل هذا المطعم بالذات لأنه كان يذكّره بالفترة التي قضاها في باريس للدراسة.
لوحات غلاكينز كثيرا ما تُشبَّه بلوحات رينوار، لدرجة انه كان يُلقّب بـ "رينوار الأمريكيّ". وكان يؤاخَذ على هذا من قبل بعض النقّاد. وكان ردّه دائما أنه ما من رسّام جدير بأن يُحتذى ويقلَّد أكثر من رينوار. ويمكن رؤية تأثير الأخير في بعض أعمال غلاكينز مثل مقهى لافاييت . ومثل رينوار، فإن لوحات غلاكينز تشيع جوّاً من الاسترخاء والسعادة.
ولد وليام غلاكينز في بنسلفانيا في مارس من عام 1870. وتدرّب في أكاديمية بنسلفانيا للفنون الجميلة على يد توماس آنشوتز، وكان من بين زملائه الرسّام جون سلون.
في عام 1895، سافر غلاكينز إلى أوربّا لدراسة أعمال المعلّمين الأوائل. وقد زار أوّلا هولندا، ثم باريس التي تعرّف فيها، هو وزميله روبيرت هنري، على أعمال الانطباعيين وتأثّرا بهم.
وقد أعجب الفنّان بالرسم الأوربّيّ وروّج له في أمريكا، خاصّة الأسلوب الانطباعي الذي يعتمد استخدام الفرشاة السريعة والألوان الساطعة. وعند عودته إلى نيويورك، انتُخب أستاذا في أكاديمية التصميم.
ثم أصبح عضوا مؤسّسا في ما عُرف بـ "مدرسة آشكان" أو مجموعة الثمانية. وعلى النقيض من زملائه في تلك المدرسة، لم يركّز غلاكينز على تصوير أكواخ الطبقة الفقيرة ومعاناة العمّال، بل فضّل أن يتعامل مع مناظر التسلية والراحة التي تتّسم بها حياة الطبقات الوسطى.
وقد شكّل اهتمامه باللون والفرشاة التعبيرية والرغبة في التجريب انعطافة مهمّة في مسار الرسم الحديث في الولايات المتّحدة.

Thursday, March 08, 2018

لوحات عالميـة – 453

درس سريـريّ
للفنّان الفرنسي بييـر اندريـه بروييـه، 1887

شهد الطبّ في القرن التاسع عشر عددا من التحوّلات الكبيرة. وظهر في ذلك الوقت العديد من الأطبّاء البارزين الذين أسهموا في تطوير المهنة ودفعها للأمام.
من بين هؤلاء الطبيب الفرنسيّ جان مارتن شاركوت مؤسّس علم الأعصاب وأشهر طبيب في هذا التخصّص ورئيس مدرسة سابتريير لطبّ الأعصاب في باريس.
كان شاركوت يلقَّب بنابليون علم الأعصاب. وكان مشفاه ملجئا للنساء اللاتي يعانين من اختلالات عصبية. وبالإضافة إلى شهرته كعالم وطبيب مرموق، كان له حضور مهمّ في السياسة والثقافة أثناء ما سُمّي بالحقبة الجميلة في فرنسا. وكان بيته في حي السان جيرمان مقصدا للكتّاب والمفكّرين والساسة والأدباء المشهورين في ذلك الحين.
كان لشاركوت اهتمام بالهستيريا، وقد وضع العديد من النظريات التي تشرح طريقة عمل هذا المرض وتشخيصه وعلاجه.
في هذه اللوحة، يرسم بيير اندريه بروييه الطبيب شاركوت "الرابع من اليمين" وهو يلقي محاضرة على زملائه في مشفاه يتحدّث فيها عن أعراض الهستيريا. وتظهر في الصورة امرأة فاقدة الوعي يسندها احد مساعدي الطبيب وممرّضة.
اسم المريضة ماري ويتمان، وقد أصبحت هذه المرأة مشهورة جدّا وصُوِّرت كثيرا في الرسم والنحت والأدب، كما كتبت عنها الصحافة الكثير من المقالات والتحقيقات في منتصف القرن التاسع عشر.
كانت ويتمان قد عاشت طفولة تعيسة وعملت في مغسلة بمستشفى قبل أن تصاب بأعراض الهستيريا. وكان الطبيب يتولّى علاجها على جلسات ويشرح حالتها في حضور عدد من الأطبّاء وعلماء الأعصاب الذين أصبح بعضهم مشهورا مثل ديزيريه بورنفيل وبول ريختر وجورج توريت. كما كان هناك أيضا مثقّفون وكتّاب يأتون لسماع ملاحظات شاركوت عن الشلل والنوبات والتشجّنات العصبية المرتبطة بالمرض.
كان شاركوت يستخدم العلاج بالكهرباء والتنويم المغناطيسيّ لاستثارة المريض ودفعه لإظهار أعراض المرض للحضور. كما كان أيضا يوظّف الفنون البصرية في عمله كالتصوير الطبّي والنحت. ومثل العديد من الأطبّاء المعروفين، كان يرسم مرضاه وكانت له اهتمامات تتجاوز حدود الطبّ.
وقد ترك بعد وفاته مكتبة ضخمة تُعرف بمكتبة شاركوت. وهي اليوم جزء من مكتبة بيير وماري كوري في السوربون.
عُرضت هذه اللوحة لأوّل مرّة في صالون عام 1887. ثم تنقّلت كثيرا في باريس إلى أن استقرّت أخيرا على جدران احد ممرّات جامعة ديكارت. وبحسب بعض النقّاد، فإن اللوحة ليست مميّزة فنّيا، لكنّها رائعة من حيث براعة الفنّان في رسم الشخصيات بأبعادها الحقيقية وكذلك في طريقة اختياره لوضعياتهم.
وكلّ الشخصيات في اللوحة حقيقية، وكان معظمهم نشطين في دوائر الطبّ والمجتمع في باريس وقتها. أما الغرفة التي يلقي فيها الطبيب المحاضرة في المشفى فلم تعد موجودة اليوم. لكن نصّ هذه المحاضرة وغيرها ما يزال متاحا للمهتمّين ويتمّ تدريسها لأطبّاء الأعصاب حول العالم.
وطوال القرن التاسع عشر، استُنسخت اللوحة حوالي خمس عشرة مرّة وبأساليب فنّية شتّى. وكان عالم النفس سيغموند فرويد يحتفظ بنسخة مصغرّة منها على جدار مكتبه في فيينا. وعندما هرب من النمسا إلى انجلترا عام 1938 بعد وصول هتلر إلى السلطة، أخذ اللوحة معه إلى لندن وعلّقها في عيادته هناك.
كان من النتائج التي توصّل إليها شاركوت أن سبب الهستيريا اختلال في الجهاز العصبيّ مع اعتلالات جسدية. لكن بعد وفاته عام 1893، خضعت دراساته عن المرض للكثير من النقد والمراجعة. وقد خالفه فرويد بأن قال أن المصابين بالهستيريا لا يعانون من اختلال الجهاز العصبيّ، وإنّما من ذكريات وأفكار مكبوتة.
المعروف أن بيير اندريه بروييه رسم اللوحة وهو في سنّ الثلاثين واتّبع فيها تقاليد الرسم الأكاديميّ التي تعلّمها من أستاذه جان ليون جيروم.

Saturday, March 03, 2018

لوحات عالميـة – 452

لاتـونا وطفـلاها أبوللـو وديـانا
للفنان الأمريكي وليـام هنـري راينهـارت، 1871

بفضل التكنولوجيا المتطوّرة المتاحة هذه الأيّام، أصبح باستطاعة النحّات أن يصنع أيّ شي، وذلك بخلاف ما كان عليه الحال في الماضي، أي قبل مئات السنين، عندما لم يكن هناك كمبيوتر ولا أدوات متطوّرة وكان النحّاتون يضطرّون للاحتفاظ في ورشهم بمساعدين يعهدون إليهم بمهمّة بناء منحوتاتهم قطعة قطعة.
قَطْع الرخام فنّ موجود منذ زمن الرومان. وقد جرت العادة أن يبدأ العمل بتفتيت كتل الرخام بواسطة الإزميل والمطرقة والمثقاب، ومن تلك النقطة تأخذ القطعة في التشكّل. والعديد من التماثيل الموجودة في المتاحف اليوم صُنع بعضها منذ آلاف السنين، ومع ذلك استطاعت أن تتحدّى أثار الحروب والصراعات وأن تصمد بوجه امتحان الزمن.
كان وليام هنري راينهارت احد آخر النحّاتين الأمريكيين الكبار الذين تبنّوا الأسلوب الكلاسيكيّ في النحت. وهو وغيره من النحّاتين الأمريكيين والأوربّيين من القرن التاسع عشر وجدوا في الأساطير الكلاسيكية موضوعات كثيرة مفضّلة. واتّسم العصر الذي عاشوا فيه بالاهتمام بقصص وأحداث الأزمنة القديمة، خاصّة مع انتشار الحفريات الكثيرة التي كشفت عن الكثير من فنون العصور الكلاسيكية.
وقد ذهب راينهارت إلى ايطاليا وأقام فيها سنوات طوالا كي يدرس ويتدرّب على أيدي كبار النحّاتين في روما وفلورنسا وغيرهما من مدن ايطاليا. وكانت ايطاليا وقتها المكان الأمثل الذي يمكن لأيّ فنّان واعد أن يعثر على راعٍ يدعمه وزبائن يقدّرون موهبته ويشترون أعماله. وكان من بين المعجبين بفنّه العديد من الأمريكيين والأوربّيين الذين كانوا يقصدون ايطاليا للسياحة. وقد تعاقد العديد من هؤلاء مع راينهارت على أن ينفّذ لهم مشاريع في أمريكا وأوربّا.
هذا التمثال هو احد أشهر منحوتات راينهارت، وفيه يصوّر لاتونا "أو ليتو بالإغريقية" إلهة الليل والأمومة الرومانية وهي تجلس مع طفليها التوأم ابوللو وديانا وتنظر إليهما بمحبّة وحنوّ.
تذكر الأساطير أن لاتونا حملت من زيوس كبير الآلهة بعد أن فتنه جمالها ثم وضعت طفليها التوأم على ارض جزيرة ديلوس. وقد انتهى دورها في الأساطير بعد ولادتها للطفلين.
من الأشياء اللافتة في هذا العمل النعومة الفائقة واللمعان الرائع اللذان نحت بهما الفنّان شخوصه، وتجسيده البديع لملابس الأمّ والوضعية المسترخية للطفلين النائمين ببراءة. وهناك أيضا الأسلوب الكلاسيكيّ الواضح والمحسوب الذي تعامل به النحّات مع وجه المرأة وملامحها وشعرها. ومن الواضح أنه في ترجمته للأسطورة تجنّب التفاصيل الكثيرة والنواحي العاطفية التي كان يفضّلها عادةً زملاؤه الآخرون.
عندما كبر ابوللو، أصبح واحدا من أهمّ آلهة الأوليمب. وفي الأساطير هو إله الموسيقى والحقيقة والنبوءات والشفاء والشعر والشمس والضوء والمعرفة، كما ارتبط اسمه بالملهمات السبع. وطبقا لهوميروس، لعب ابوللو دورا مهمّا في حرب طروادة، فقد سلّط الوباء على معسكر الإغريق وساعد باريس على قتل البطل أخيل.
أما ديانا فقد أصبحت إلهة الصيد. لكنها أيضا كانت إلهة الغابات والطفولة والخصوبة والحيوانات المتوحّشة. وكانت تكلّم السباع وتسيطر على حركاتها وتصرّفاتها. وكثيرا ما تُصوّر في الرسم وهي توجّه حركة القمر من عربتها، ومن هنا جاء الاعتقاد بأنها إلهة النور. وعلى الرغم من الطبيعة الناعمة نوعا ما لديانا، إلا أنها كانت تميل للانتقام أحيانا، بدليل قصّتها مع اكتيان الصيّاد الذي فاجأها وهي تستحمّ في النهر عارية. وقد انتقمت منه بأن حوّلته إلى أيل ثم أطلقت عليه كلابه لتمزّقه إربا.
كانت لديانا جوانب متعدّدة وسمات متناقضة، لكنّها اليوم تُصوّر على أنها الأمّ الأولى للخليقة وما يزال الأدباء والشعراء والرسّامون يتغنّون بأسطورتها الخالدة والمستمرّة.
الغريب أن الرومان لم يتقبّلوا فكرة أن ديانا هي شقيقة أبوللو التوأم من لاتونا إلا في القرن الرابع قبل الميلاد، أي عندما أصبح اوغستوس أوّل إمبراطور على روما. وقد اختار هذه العائلة كي ترمز لعائلته هو في محاولة لتعزيز منصبه كخليفة ليوليوس قيصر. وقد زعم قرابته مع لاتونا وابنيها فعزا لنفسه خصائص ابوللو بينما منح خصائص ديانا لأخته اوكتافيا.
رسم هذا الموضوع فنّانون كثر منهم البيرت ديورر وجاك لوي دافيد ولوكاس كراناك وجاكوبو دي بارباري وغيرهم.
ولد وليم هنري راينهارت في سبتمبر من عام 1825 في ميريلاند بالولايات المتحدة. وعمل في بدايات حياته في منجم للرخام، ثم أصبح مساعدا لقاطع أحجار. وهناك تعلّم تقنيات القطع والتشكيل والصقل، ثم سجّل في معهد الفنّ الميكانيكيّ في ميريلاند.
وفي مرحلة تالية، قابل جامع فنون مشهورا يُدعى وليام والترز. وقام الأخير بتمويل رحلة راينهارت إلى فلورنسا عام 1855. وعندما عاد من رحلته، كان قد أصبح نحّاتا متمكّنا. وفي عام 1858، عاد إلى روما وكان وقتها في سنّ الثلاثين. وقد عاش فيها وعمل حتى وفاته بالسلّ عام 1874 عن واحد وأربعين عاما.
منحوتات راينهارت موجودة اليوم في بعض اكبر المتاحف الأمريكية مثل المتروبوليتان في نيويورك ومتحف الفنون الجميلة في بوسطن ومتحف كارنيغي وغيرها.

Monday, February 26, 2018

لوحات عالميـة – 451

المدينة الكاملة
للفنان الألماني ماكـس إرنست، 1932

كان ماكس إرنست عضوا مهمّا في دائرة الكتّاب والرسّامين السورياليين في باريس التي كان قد لجأ إليها هربا من بطش النازية في بلده ألمانيا. كان شخصا متعدّد المواهب. ومع انه مشهور أكثر بوصفه رسّاما بارزا، إلا انه كان أيضا نحّاتا وشاعرا.
من أهمّ أعمال إرنست هذه اللوحة التي يصوّر فيها طبيعة غامضة مشيّدة من عدّة مستويات أو طبقات. واللوحة هي واحدة من سلسلة من اثنتي عشرة لوحة تحمل جميعها نفس الاسم، أي المدينة الكاملة. وقد رسمها ما بين عامي 1933 و 1937.
المدينة في الصورة تتألّف من كتل من الأشكال الهندسية أمام سماء زرقاء. وما يُفترض أنها مباني المدينة مميّزة بأنماط زهرية، تعلوها دائرة صفراء في أعلى وسط اللوحة تمثّل القمر.
ومع أن التفاصيل قليلة، إلا أن المدينة تبدو خيالية على الأرجح وربّما لا توجد مثل هذه البنى المعمارية الغريبة إلا في المخيلة أو الأحلام.
وهي تذكّر بأطلال المعابد القديمة التي بنتها حضارات سادت ثم بادت. وبعض النقّاد يشيرون إلى أن المدينة، وخلافا لاسم اللوحة، ليست كاملة بل هي عبارة عن قلاع خربة تشبه آثار أو بقايا مدينة تعرّضت لكارثة ما.
وقد تكون الصورة انعكاسا لحالة التشاؤم والسوداوية التي كان يمرّ بها الرسّام بعد صعود الحزب النازيّ للسلطة في ألمانيا. أي أن المدينة الخربة في اللوحة قد تكون نبوءة الرسّام لما سيحلّ ببلده في المستقبل من دمار على يدي هتلر. أما القمر فربّما يمثّل وميض الأمل الذي يتمنّى الرسّام أن يجنّب سكّان المدينة القتل والدمار.
كان إرنست قد مرّ بفترة تشوّش واضطراب في ذلك الوقت بعد أن اعتُقل من قبل البوليس السرّيّ النازيّ أو الغستابو. ويبدو انه في هذه السلسلة من اللوحات اظهر الجانب المظلم من نفسه بعد أن عانى كثيرا من الملاحقة والسجن.
المعروف انه رسم هذه اللوحات في منزل احد زملائه الرسّامين في جنوب فرنسا. وكان قد حلّ ضيفا على ذلك الزميل بعد نفيه من ألمانيا.
ولد ماكس إرنست في ابريل من عام 1891 في كولون بألمانيا لعائلة من الطبقة الوسطى. كان والده رسّام طبيعة معروفا. وقد تأثّر الابن بحرفة والده الذي غرس في نفسه حبّ الرسم، وأيضا الميل إلى تحدّي السلطة.
درس إرنست الفلسفة وتاريخ الفنّ وعلم النفس والأدب في جامعة بون. وفي عام 1909، بدأ يرسم ثم تعرّف على الرسّام اوغست ماكي والتحق بالتعبيريين الألمان. ثم التقى في عام 1914 بـ هانز آرب الذي ربطته به صداقة طويلة دامت لأكثر من أربعين عاما.
خدم إرنست في الجيش الألمانيّ خلال الحرب العالمية الأولى. وكان تأثير تلك التجربة عليه مدمّرا. وهو يصفها في مذكّراته بقوله: في ذلك اليوم متّ. وفي نوفمبر من عام 1918، أي في السنة التي انتهت فيها الحرب، بُعثت إلى الحياة من جديد".
وقد حصدت تلك الحرب أرواح العديد من زملائه من الرسّامين التعبيريين، مثل فرانز مارك واوغست ماكي اللذين قُتلا وهما في سنّ الشباب.
كان إرنست أحد أوائل الرسّامين الذين طبّقوا نظريات فرويد في أعمالهم. وقد تأثّر بكلّ من فان غوخ وبيكاسو. ويُعرف انه كان مفتونا بالطيور التي تظهر كثيرا في لوحاته.
بعد تولّي النازيين الحكم في ألمانيا، هرب الرسّام إلى باريس. وعندما احتّلوا فرنسا، قاموا باعتقاله. لكنّه تمكّن من الهرب إلى أمريكا بمساعدة من بيغي غونغهايم التي كانت معروفة بدعمها للرسّامين وشراء أعمالهم. وقد تزوّج الاثنان وعاشا في نيويورك عدّة سنوات. وكان قد سبقه إلى أمريكا صديقاه مارك شاغال ومارسيل دوشان.
وبعد انسحاب النازيين من فرنسا، عاد إرنست إلى باريس وظلّ يعيش فيها إلى أن توفّي في ابريل 1976 عن أربعة وثمانين عاما.

Thursday, February 22, 2018

لوحات عالميـة – 450

امـرأة تمسـك بمغـزل أمـام شمعـة
للفنان الهولندي آدم دي كـوسـتر، 1623

الكارافاجيّون مصطلح يُطلق على الرسّامين الذين اتّبعوا أسلوب كارافاجيو، رسّام عصر الباروك الايطاليّ في القرن السادس عشر.
وعلى الرغم من أن هذا الرسّام لم يؤسّس له ورشة أو محترفا مثل معظم الرسّامين في زمانه، ولم يكن له مدرسة تروّج لأسلوبه، إلا أن أثره على الرسّامين الذين أتوا بعده كان كبيرا بما لا يُقاس. وربّما لا يتفوّق عليه في النفوذ والتأثير سوى ميكيل انجيلو.
كان كارافاجيو مشهورا كثيرا في حياته بفضل استخدامه للأضواء الدراماتيكية المبهرة ورسم التباين بين الضوء والعتمة. ويقال انه لولاه لما ظهر رمبراندت ولا فيرمير، وأنه لولا تأثيره لكان فنّ مانيه وديلاكروا وكوربيه وغيرهم من الرسّامين مختلفا جدّا.
وفي بداية القرن السابع عشر، سافر العديد من الفنّانين الهولنديين إلى روما كي يتعلّموا أسلوب كارافاجيو ويكتسبوا شيئا من مهاراته الفنّية. وقد تأثّروا برسوماته ونقلوا في لوحاتهم تقنيات الظلال المنعكسة والوهج المكثّف التي تميّز بها.
وكان من بين هؤلاء غيريت فان هونثورست، وآدم دي كوستر الذي يُعتقد انه كان أكثرهم تأثّرا بكارافاجيو. ويقال أن دي كوستر ربّما كان قد سافر إلى ايطاليا وقابل كارافاجيو أو احد اتباعه على الأقلّ.
وقد عُرف دي كوستر بكونه رسّام مناظر ليلية واشتهر على وجه الخصوص في بلدان شمال أوربّا. وكانت مناظر الليل التي تضيئها الشموع مع خلفية مظلمة رائجة بكثرة آنذاك.
والسجلات التي تعود إلى تلك الفترة تؤكّد أن دي كوستر كان عضوا في حلقة من الرسّامين الهولنديين، وكان فان دايك أهمّهم وأشهرهم. ورسومات هؤلاء كانت ذات قيمة كبيرة في عصرهم وزادت شعبيّتها وقيمتها أكثر مع مرور الزمن.
في هذه اللوحة، يرسم دي كوستر امرأة شابّة تقف في ما يشبه الغرفة وتنظر إلى المتلقّي. وهي ترتدي فستانا بلونين احمر وابيض، مع غطاء رأس كبير ومخطّط، وحزام من الحرير الملفوف حول خصرها، وأحمر شفاه. كما أنها تمسك في يدها اليمنى مغزلا قديما وفي اليسرى شمعة. والشمعة هي مصدر الإنارة الوحيد. وضوؤها ينعكس على وجه المرأة ويكشف عن ملامحها والتفاصيل المزخرفة في ثوبها وغطاء رأسها.
لا تحمل هذه اللوحة تاريخا كما أنها تخلو من أيّ توقيع. وطوال تاريخها كانت تُعزى لرسّامين متعدّدين، من بينهم ماثياس ستومر وغيريت فان هونثورست. لكنها اليوم تُنسب لدي كوستر الذي لم يترك توقيعا على أيّ من لوحاته. ويقال أن الصورة ظلّت في مجموعة خاصّة في باليرمو بإيطاليا منذ القرن السابع عشر وحتى القرن العشرين.
وقد بيعت اللوحة مؤخّرا في مزاد سوثبي بمبلغ خمسة ملايين دولار. وكانت قد أنزلت إلى الأسواق في مطلع التسعينات.
اسم دي كوستر نفسه غير معروف حتى لأكثر خبراء الفنّ درايةً. لكن أسلوبه الخاصّ أصبح مميّزا. وفي زمانه، لكي تكون رسّاما معروفا، يتوجّب عليك إنتاج الكثير من اللوحات. ودي كوستر لم يكن من هذا النوع من الرسّامين. لكن لو أنه لم يكن رسّاما مهمّا، لما قام فان دايك برسم بورتريه خاصّ له، مع انه فُقد في ما بعد.
ولد آدم دي كوستر في ميشلين بهولندا عام 1586م. والتفاصيل المتوفّرة عن حياته قليلة، لكن يُعرف انه لم يكن له تلاميذ معروفون. وبحلول عام 1630، كانت سمعته قد تكرّست في أرجاء أوربّا كرسّام للمناظر الليلية. ومواضيع لوحاته عموما هي نفس مواضيع كارافاجيو وأتباعه، أي أنه كان مهتمّا برسم لاعبي الورق وقارئي الحظ والحفلات الموسيقية وما إلى ذلك.
زار دي كوستر هامبورغ وإيطاليا، مع انه نادرا ما خرج من انتويرب. وبعد وفاته في مايو من عام 1643، نسيه معظم الناس وأصبحت صوره تُعزى لآخرين.
لكن مؤرّخ فنّ انجليزيّا يُدعى بنيديكت نيكولسون نهض منذ ستّينات القرن الماضي بمهمّة البحث عن أعمال الرسّام وتوثيقها. ثم أثبت نسبة العديد من اللوحات له، ومنها هذه اللوحة، بالإضافة إلى لوحة أخرى بعنوان الموسيقيّون الثلاثة ، وفيها يصوّر ثلاثة مطربين، رجلين وامرأة، وهم يغنّون من نوتة موسيقية واحدة أمام ستارة حمراء مع مصدر ضوء يأتي من خارج اللوحة.

Friday, February 16, 2018

لوحات عالميـة – 449

إعـدام توريخـوس ورفـاقه على شاطـئ ملقـا
للفنان الاسباني انطـونيو غيسـبيـرت، 1887

بعض الأعمال الفنّية عبارة عن دعاية. وليس هذا بالشيء الجديد أو المستغرب، إذ لطالما وُظّف الفنّ عبر العصور المختلفة لكي يخدم غرضا سياسيا أو يروّج لرسالة اجتماعية أو أيديولوجية ما.
في عام 1823، قام الجيش الفرنسيّ بغزو اسبانيا. كان ملك فرنسا آنذاك، لويس الثامن عشر، قد أصبح قلقا جدّا من تطوّرات أوضاع جارته الجنوبية، فقرّر أخيرا التدخّل كي يطيح بالحكومة الليبرالية ويعيد الملكيين الإسبان إلى السلطة.
وكان حكم الملك الاسبانيّ فرديناند السابع قد اُسقط قبل ذلك بتسع سنوات. وقبل أن يعيده الفرنسيون إلى السلطة، كان الملك قد تعهّد باحترام الدستور الذي سنّه الليبراليون.
لكن بعد عودته إلى الحكم، قام الملك بإلغاء الدستور وأعلن عن عودة الحكم المطلق. وأدّى ذلك إلى نشوب عدد من الثورات في أرجاء اسبانيا. ثم بدأ فرديناند وأنصاره عهدا وُصف في التاريخ الاسبانيّ بـ "العشرية المشئومة"، فشدّدوا قبضتهم على الحكم وفرضوا رقابة مشدّدة على الصحافة وقاموا بملاحقة وقتل الزعماء الليبراليين واحدا تلو الآخر.
وكان أحد هؤلاء يُدعى خوسيه ماريّا توريخوس. كان هذا الرجل وزيرا للحرب أثناء الحكم الليبراليّ للبلاد. كما كان مؤمنا بالقيم الليبرالية ومناهضا للأنظمة الملكية ذات الحكم الشموليّ التي كانت تحكم أوربّا آنذاك. وكان توريخوس قد قاتل في حروب نابليون وشارك في عدد من الحركات المضادّة للحكم الملكيّ في بلده اسبانيا.
كان الإسبان وقتها توّاقين لمجتمع أكثر حرّية وأمنا. لكن تاريخ البلاد اصطبغ في تلك الفترة وحتى ثلاثينات القرن العشرين بالحروب الأهلية الدامية والمستمرّة.
وعندما تدخّل الجيش الفرنسيّ لإعادة الملكية، فرّ العديد من الجمهوريين الإسبان إلى المنافي. واختار توريخوس أن يلجأ إلى انجلترا التي كان يحظى برعايتها ودعمها. لكن في ديسمبر من عام 1831، قرّر هو وثلاثة وخمسون من رفاقه أن يعودوا من منفاهم في لندن كي يبدءوا تمرّدا ضدّ حكم الملك فرديناند.
وعند وصولهم إلى ملقا، نصب لهم حاكم المدينة شرَكا عندما أوهمهم بأنه سيدعم ثورتهم، بينما كان قد وشى بهم لدى الملكيين. وقد تمّ اعتقال توريخوس ورفاقه بمجرّد وصول السفينة التي أبحروا على متنها إلى شاطئ ملقا. وبعد أسبوع أصدرت السلطة في مدريد حكما بإعدامهم بلا محاكمة.
وقعت تلك الحادثة قبل اكتشاف آلات التصوير. وكانت الطريقة المتاحة للناس آنذاك كي يعرفوا تفاصيل الأحداث المهمّة هي إمّا بسماعها مباشرة من شهود عيان أو بتجسيدها من خلال عيون الرسّامين.
الفنّان انطونيو غيسبيرت رسم واقعة إعدام توريخوس ورفاقه بعد حدوثها بخمسين عاما. وقد سافر الرسّام كثيرا على مدى سنتين وقابل عائلات الرجال القتلى ليعرف المزيد عن شخصيّاتهم وكيف كانت تبدو ملامحهم.
حادثة الإعدام تلك صدمت الإسبان بعنف. وبطبيعة الحال لم يكن مقدّرا للثوّار وقتها أن يوظّفوا هذه اللوحة للدعاية السياسية لأنها لم تكن قد رُسمت بعد، لكنها أصبحت لوحة مهمّة ومقدّرة كثيرا لخصائصها الفنّية الكامنة وباعتبارها صرخة في وجه الحكم الشموليّ.
وقد اختار الفنّان أن يرسم الواقعة على لوحة ضخمة وأن يجعل تعبيرات الأشخاص فيها واقعية بقدر الإمكان، كما استخدم أيضا مخيّلته الخاصّة لرسم بعض التفاصيل. ولهذا الغرض، زار الشاطئ عدّة مرّات وعاين المكان الذي وقعت فيه عملية الإعدام، كما درس طبيعة الطقس السائدة في نفس الوقت من السنة الذي حدثت فيه المذبحة.
في اللوحة، يظهر توريخوس في المقدّمة بهيئة الرجل الرابع من اليمين الذي يرتدي ياقة بيضاء ويمسك بيدي رجلين احدهما يرتدي معطفا رماديّا والآخر عجوز معصوب العينين.
بعض الرجال الواقفين يظهرون وهم معصوبو الأعين. بينما يبدو الكهنة وهم يتلون الصلوات الأخيرة على الرجال الذين ينتظرون موتهم. أما فرقة الإعدام التي ستنفّذ عمليات القتل فتقف خلفهم. والرسّام يعزّز توتّر المشهد بعرض جثث الأشخاص الذين أُطلقت عليهم النار للتوّ.
هذا المشهد المذهل حدث في فجر احد أيّام الشتاء على الشاطئ. الأمواج تبدو هادئة والسماء ملبّدة بالغيوم، وعلى البعد تلوح بعض القرى النائمة في الضباب.
منظر هذه الدراما الإنسانيّة الرهيبة يتباين بحدّة مع جمال وهدوء الطبيعة المحيط. ومن الواضح أن الرسّام ركّز على تصوير الوقفات والتعبيرات التي تعلو الوجوه وعلى الجوّ المشحون بالخوف والرهبة.
رسم غيسبيرت هذه اللوحة في زمن ازدهار الأفكار الرومانسية والقومية في أوربّا، وهو الوقت الذي شهد تشكّل الدول الحديثة وانتشار العنف والحروب الأهلية في غير مكان في أوربّا.
والرسّام نفسه كان ليبراليا. وعلى الرغم من انه توفّي في بدايات القرن الماضي، إلا أن المشاعر التي رسم بها اللوحة والتأثير الذي أحدثته عاشت بعده زمنا طويلا. وما من شكّ في انه أراد أن يكون للوحة مضمون سياسيّ بالإضافة إلى طابعها الفنّي والإبداعيّ.
ويمكن أيضا اعتبار الصورة بمثابة بيان يدافع عن حرّية الإنسان التي سحقها حكم غاشم. والمعروف أن غيسبيرت استلهم مواضيع العديد من لوحاته من أحداث التاريخ الاسبانيّ. وقد رسمها جميعا بأسلوب عاطفيّ وحاول أن يروّج فيها للقضايا والأفكار الليبرالية التي كان يتبنّاها.
ولد انطونيو غيسبيرت في ديسمبر من عام 1834. ودرس الرسم في أكاديمية سان فرناندو، ثم تتلمذ على يد الفنّان خوسيه مادرازو.
وفي ما بعد، أي في عام 1868، أصبح مديرا لمتحف برادو المشهور في مدريد حيث تُعرض اللوحة اليوم. وبعد ذلك بسنوات، انتقل للعيش في باريس التي ظلّ فيها إلى أن توفّي في نوفمبر من عام 1901.

Tuesday, February 13, 2018

لوحات عالميـة – 448

قابليـة للانقسـام إلى مـا لا نهايـة
للفنان الفرنسي إيـف تـانغـي، 1942

أسلوب إيف تانغي متفرّد جدّا لدرجة انه يمكن التعرّف على صوره من النظرة الأولى. وفي لوحاته غرابة وشاعرية، إذ تكثر فيها السموات الواسعة والسهول الممتدّة بلا انتهاء ودون خطّ أفق أو حدّ يفصل السماء عن الأرض.
تأثّر تانغي في بداياته بخوان ميرو وجان آرب، واستلهم في لوحاته الحجارة الغريبة وتشكيلات الصخور التي رآها في مقاطعة بريتاني التي كان يتردّد عليها وهو صغير بمعيّة أمّه.
وعناوين لوحات الرسّام مأخوذة غالبا من علم النفس ولها علاقة بانشغال السورياليين بفكرة العوالم الأخرى التي يصعب فهمها. وفي بعضها إحساس بالفناء يعبّر عنه بخواء السهول وبالنباتات الوحيدة والدخان. ولطالما ردّد انه يرى الأشياء في خياله ويتصوّرها طويلا قبل أن يرسمها.
وقد وجد تانغي أسلوبه الخاصّ ابتداءً من نهاية عشرينات القرن الماضي، ثم اكتسب مهارات مدهشة. ومنذ ذلك الحين ركّز على نفس مواضيعه الحالمة عن طبيعة متخيّلة مهجورة وعوالم صخرية فانتازية مرسومة بكلّ دقّة وبراعة.
كان سبب انجذاب الفنّان للرسم هو رؤيته وهو صغير لوحة للرسّام الميتافيزيقيّ جورجيو دي تشيريكو في حد المعارض. وبعد ذلك بعام، قابل اندريه بريتون وأصبحا صديقين. ثم بدأ يرسم طبيعة تجريدية تكثر فيها الأشكال المتحوّلة التي تشبه النباتات وتفاصيل البيئة البحرية مع عناصر طافية.
وفي عام 1930، نضج أسلوبه أكثر وبدأ يرسم شواطئ مع أفق بعيد يخفيه الضباب وأشكالا موضوعة على أرضية ومكدّسة فوق بعضها البعض. وقد أعجب بريتون والسورياليون بتلك الصور وصفّقوا لها كثيرا.
ثم بدأ تانغي يرسم أشكالا بأسطح معدنية، وأضاف لها خطوطا وأشكالا هندسية. لكن صديقه بريتون أصبح ينفر من شهرته ومن لوحاته التي كان يرى أنها لا تعكس العقل الباطن بما فيه الكفاية. ثم لم يلبث بريتون أن وصف تانغي بالبورجوازيّ، وطلب من زملائه أن يقاطعوه، ما أدّى بتانغي لأن يثور عليه. وتلا ذلك حالة من العداء بين الشخصين استمرّت سنوات.
في هذه اللوحة، يضع تانغي عدّة أشياء ثم يحوّلها إلى شكل إنسان فوق ما يشبه رقعة الرسم. وهذه الأشياء ذات السمات الخرسانية مصطفّة فوق ما يبدو وكأنه شاطئ بحر أزرق. والشكل الغريب، الذي يشبه بناءً طويلا يستقرّ فوق قمّته ما يبدو وكأنه إنسان بلونين أصفر وأخضر، يبدو مائلا كما لو انه يمكن أن ينهار في أيّة لحظة.
بعض النقّاد ذهبوا إلى أن الفراغ الأزرق في اللوحة يمثّل حالة انعدام اليقين لدى الرسّام حول كنه العالم وممّ يتألّف، وهل هناك فرق بين هيئاتنا الإنسانية والأشياء التي نصنعها أم أن كلّ شيء متخيّل؟ وثمّة من قال أن اللون البرتقاليّ في بعض الأجسام يمثّل السعادة والعاطفة.
ولد إيف تانغي في باريس في يناير من عام 1900 لأب كان يعمل بحّارا. وقضى بعض سنوات طفولته في بريتاني في منزل كان يملكه والده.
وقد توقّع منه أبوه أن يلتحق بالبحرية، لكنه لم يفعل وعمل مع بعض سفن الشحن التي تعمل ما بين أمريكا وأفريقيا. وفي عام 1920، جُنّد في الجيش الفرنسيّ، ثم ملّ من المجتمع التقليديّ وتبنّى أسلوب حياة بوهيميّاً في باريس.
ويمكن القول أن تانغي علّم نفسه بنفسه إلى حدّ كبير. وفي مرحلة تالية، قابل اندريه بريتون وحضر معه أوّل معرض للسورياليين.
وفي تلك الأثناء، ارتبط تانغي بعلاقة حبّ مع بيغي غوغنهايم التي اشترت بعض لوحاته وضمّتها إلى مجموعتها الخاصّة. واستمرّت علاقتهما إلى أن التقى في عام 1939 الرسّامة السوريالية الأمريكية كي بيج. وعندما غادرت بيج فرنسا إلى أمريكا إثر نشوب الحرب العالمية الأولى، قرّر أن يتبعها إلى هناك وتزوّجا في السنة التالية وعاشا في نيويورك بالقرب من مجتمع السورياليين في المدينة.
وقد تأثّر تانغي بأضواء أمريكا وفضاءاتها الشاسعة، وأصبح الضوء في صوره أكثر سطوعا وصفاءً ومزْج الألوان أكثر تعقيدا. كما أصبحت أشكاله النباتية تأخذ سمة معدنية، مع بقايا من حجارة عصور ما قبل التاريخ وعظام متحجّرة قام بتنعيمها وصقلها قبل أن يضمّنها لوحاته.
وفي يناير من عام 1955، توفّي تانغي بعد إصابته بجلطة قاتلة، وكان قبل ذلك قد أوصى بأن يُحرق جثمانه. ونفذّت زوجته الوصيّة واحتفظت برماده إلى حين وفاتها عام 1963. وبناءً على وصيّتها، تمّ إحراق جثّتها وجُمع رمادهما معا واُلقي على شاطئ بريتاني حيث عاش الرسّام طفولته الأولى.

Thursday, February 08, 2018

لوحات عالميـة – 447

نقابـة صانعـي الأقمشـة
للفنان الهولندي رمبـرانــدت، 1662

عانى المؤرّخون من ندرة المعلومات عن رسّامي القرن السابع عشر الهولنديين. رمبراندت بالذات لم يترك مفكّرة أو سيرة ذاتية. وكلّ ما وُجد بعد وفاته كان بضع رسائل كان قد كتبها لنفس الشخص عن بعض المشاريع، ولكنها لا تكشف شيئا عن شخصيّة الرسّام وأفكاره.
ومن بين الوثائق الهولندية كانت هناك واحدة مهمّة تتضمّن جردا بممتلكاته بعد إعلان إفلاسه. وندرة المعلومات عن رمبراندت ليست نتيجة عدم اهتمام ولا لأنه كان غير معروف أثناء حياته، بل لأن مزاج الهولنديين عموما كان ضدّ النثر الذي يصف أو يشرح أو يتأمّل.
كان سكّان الأراضي المنخفضة يرون أن الحياة يجب أن تُعاش دون أن توصف بشكل مملّ. وربّما هذا هو السبب في أن هولندا لم تنجب شعراء أو روائيين أو كتّابا مسرحيين، بل رسّامين فقط.
كان الهولنديون يفضّلون أن يتصرّفوا ويفكّروا دون كلام أو تعليق أو تحليل، لذا لم يدوّنوا سوى ملاحظات بسيطة وعابرة عن رسّاميهم في العصر الذهبيّ.
في آخر عشر سنوات من حياته، رسم رمبراندت عددا من أعظم لوحات عصر الباروك. وحتى بعد إشهار إفلاسه، كان ما يزال يتلقّى تكليفات بالرسم، أي انه لم يكن عاطلا عن العمل تماما. وهذا كان مؤشّرا على الاحترام الكبير الذي كان يحظى به.
في هذه اللوحة، يرسم الفنّان بورتريها جماعيّا لأفراد نقابة صنع الأقمشة بتكليف من رئيس النقابة. كانت مهمّة النقابة تتمثّل في مراقبة الأقمشة للتأكّد من جودتها ومطابقتها للمعايير. وكان عمدة أمستردام هو من يعيّن أعضاءها الذين كانوا يعقدون اجتماعاتهم في مبنى خاصّ بهم.
الرجال الستّة في اللوحة يظهرون وهم جالسون في صالة وأمامهم طاولة مغطّاة بقطعة كبيرة من القماش. وأسماء هؤلاء الرجال معروفة لأنها مدوّنة في السجّلات التي تعود إلى تلك الفترة.
والكرّاس الذي أمامهم هو على الأرجح دفتر حسابات تُدوّن فيه أسماء الصنّاع الذين يتمّ اعتماد عيّناتهم، مع تاريخ الموافقة ومبلغ الرّسم المدفوع.
المكان المرتفع الذي يجلس فيه الأشخاص هو أداة توليف استخدمها رمبراندت لإحداث تأثير صوريّ. والرجل الثاني من اليسار يبدو على وشك الوقوف، ربّما لكي يجيب على سؤال من الحضور الذين لا يظهرون في اللوحة.
من التفاصيل اللافتة في الصورة ترتيب الرسّام لأماكن الحضور والعمق السيكولوجيّ الذي رُسمت به الشخصيات الستّ ونوعية الاهتمام والمزاج الذي أعطاه لكلّ منهم.
هناك أيضا الضوء الذي يأتي من جهة اليسار، والقماش الذي يغطّي الطاولة، وملابس الرجال ذات الألوان البيضاء والسوداء القويّة، والألوان البنّية والذهبية اللامعة التي تظهر في خلفية اللوحة لتضفي على المشهد مسحة من الدفء.
الحسّ الجمعيّ هو ما يميّز اللوحة وهو جوهرها وموضوعها الأساس. فجميع الأشخاص مجتمعون لتقييم نوعية الأقمشة التي يبيعها النسّاجون لأهل المدينة. أي أنهم يركّزون على غرض واحد، وهو الاهتمام بمصلحة الجمهور وبمصالح التجّار أيضا.
وقد أظهر فحص بالأشعّة اجري على اللوحة أن الرجل الذي يهمّ بالوقوف كان مرسوما في أقصى يمين اللوحة. أما الخادم، وهو الشخص الوحيد الذي لا يضع قبّعة على رأسه، فقد غيّر رمبراندت مكانه عددا من المرّات قبل أن يقرّر وضعه في مكانه الحالي.
بعد انتهاء رمبراندت من رسم اللوحة، تمّ تعليقها في مقرّ النقابة حتى عام 1771 عندما اشترتها بلدية أمستردام. وفي عام 1808، انتقلت إلى ملكية متحف ريكس الهولنديّ وما تزال فيه إلى اليوم. وفي احد الأوقات، اختيرت اللوحة كي تزيّن علب إحدى ماركات السيغار الهولندية.
ولد رمبراندت في يوليو من عام 1606، وكان الابن التاسع لأبوين فلاحين. كان طفلا معجزة في الرسم منذ طفولته. ورغم تعليمه المتواضع، إلا انه رسّخ نفسه في أمستردام ثم تزوّج من امرأة موسرة وجميلة تُدعى ساسكيا، وتمتّع الاثنان بفترة قصيرة من الرخاء والشهرة.
في العصر الذي عاش فيه رمبراندت، كان عدد الهولنديين اقلّ من ثلاثة ملايين نسمة. لكنهم استطاعوا تحقيق ما يشبه المعجزة عندما أسّسوا لهم امّة مستقلّة وناهضة. ولم يلبثوا أن قيّدوا نفوذ انجلترا كسيّدة على بحار العالم، فتبوّءوا مكانها ودفعوا بها إلى المركز الثاني.
وقد سُمع هدير سفن ومدافع الهولنديين في البحار والجزر البعيدة لعشرات السنين ورأوا علم بلدهم وهو يرتفع عاليا في كلّ مكان تقريبا.
ومع ذلك لم يمجّد الرسّامون الهولنديون تلك الانجازات والانتصارات ولم يتغنّوا بها، بل اكتفوا برسم الحياة الصامتة والقصص الدينية والأساطير القديمة.
بالنسبة لرمبراندت، فعلى النقيض ممّا كُتب عن رحلاته إلى السويد وانجلترا واسبانيا، يُرجِّح مؤرّخو الفنّ الآن انه لم يغادر هولندا أبدا وأن كلّ رحلاته كانت داخل عالمه الخاصّ. واليوم يُقدّر عدد لوحاته المعروفة بأكثر من ألف لوحة، منها تسعون بورتريها رسمها لنفسه.

Sunday, February 04, 2018

لوحات عالميـة – 446

تجربة على طائر في مضخّة هوائية
للفنان البريطاني جـوزيف رايـت اوف ديـربي، 1768

في عصر التنوير، كانت التجارب العلمية تُجرى من قبل علماء مترحّلين يحملون معهم أدواتهم بين القرى والمدن الأوربّية حيث يعرضون تجاربهم على الناس. وفي ذلك الوقت، كانت هناك شكوك حول مدى قدرة العلم على تفسير ألغاز الطبيعة والإجابة على كلّ التساؤلات.
وكانت في انجلترا آنذاك جمعيات علمية عديدة من بينها واحدة تُدعى "الجمعية القمرية". وكانت تضمّ علماء ومثقّفين يعقدون اجتماعاتهم في ليلة اكتمال القمر من كلّ شهر حتى يتسنّى للمشاركين العودة إلى منازلهم بأمان. والأشخاص الذين يحضرون تلك الاجتماعات كانوا عادة متخصّصين في الفلك والطبّ والنبات والجيولوجيا والآثار وغيرها من العلوم.
كان الرسّام جوزيف رايت اوف ديربي يحضر بعض التجارب العلمية التي كانت تُجرى في الجمعية. وقد أصبح مشهورا برسم مثل تلك التجارب. وهو في هذه اللوحة يرسم مجموعة من الأشخاص الذين يحضرون تجربة جهاز عبارة عن مضخّة هوائية. كانت المضخّة الهوائية قد اختُرعت قبل ذلك التاريخ بحوالي مائة عام على يد عالم يُدعى اوتو فون غيريك، وأصبحت أداة مهمّة في المختبرات العلمية، وكثيرا ما كانت تُستخدم كوسيلة إيضاح في المحاضرات والدروس العلمية.
وفكرة المضخّة تقوم على سحب الهواء من فراغ يوضع بداخله قطّ أو طائر أو فأر، فيموت الحيوان أو الطائر بعد ذلك موتا قاسيا نتيجة انقباض رئته بعد أن يغادرها الهواء. وكانت تلك التجارب تصدم كلّ من يراها، والكثيرون كانوا يعتبرون أنها تخلو من الرحمة والإنسانية.
العالِم في هذه اللوحة، أي الشخص ذو الشعر الأشيب الطويل، يقوم بإفراغ الهواء من كرة زجاجية ضخمة يستقرّ بداخلها طائر. ويده اليسرى تمسك بزرّ توقيف الهواء بحيث إذا فتحه في أيّة لحظة فإن الطائر يعيش وإذا استمرّ في حبس الهواء عنه يموت.
والرجل الجالس في مقدّمة المشهد إلى اليسار يضع يده فوق ساعة مهمّتها قياس فترة تعرّض الطائر لانقطاع الهواء. والإناء الزجاجيّ الموضوع على الطاولة يحتوي على سائل يضمّ بقايا جمجمة بشرية. والعجوز الجالس إلى اليمين يتأمّل الجمجمة بصمت باعتبارها تذكيرا بالموت.
ملابس العالم الذي يعرض التجربة غريبة وشعره جامح، لكنه يبدو كاريزماتيّا وذا عزيمة قويّة لأنه هو الذي سيقرّر في النهاية حياة الطائر أو موته. ويقال أن اسمه جيمس فيرغيسون الذي كان صديقا للرسّام، وقيل أيضا انه ايراسموس داروين حفيد العالم تشارلز داروين.
الشمعة التي تضيء الغرفة موضوعة خلف الكأس الزجاجيّ على الطاولة، والفضل يعود لهذه الشمعة الوحيدة في أن نورها هو الذي يكشف عن الوجوه ويعكس التعابير المرتسمة على كلّ وجه. وربّما لو كان الوقت نهارا، لما كان للمشهد كلّ هذا التأثير الدراميّ ولما وجد المتلقّي ما يدفعه للاهتمام بكلّ وجه ونوعية استجابة كلّ شخص لما يجري.
والمشهد كلّه يبدو وكأنه ينبثق من الظلام. وعبر النافذة في أعلى اليمين، نرى قمرا يمرّ من بين الغيوم، وهذا التفصيل يضيف دراما أكثر إلى الصورة.
والرسّام يؤكّد على ردود الفعل المتباينة للحضور. ففي أقصى يسار اللوحة مثلا، يقف رجل وامرأة متزوّجان حديثا، والاثنان يبدوان منشغلين بنفسيهما ولا يعيران اهتماما لما يحدث في الغرفة. وفي منتصف اللوحة تقريبا، تقف فتاتان صغيرتان وهما تراقبان ما يجري. الفتاة الأكبر تشيح بوجهها بعيدا كي لا ترى ما يحدث، بينما يحاول والدهما تهدئتهما، ربّما بالقول أن الهواء لن يُسحب بأكمله وأن الطائر لن يموت.
ضوء القمر والشمعة استلهمهما الرسّام من أسلوب كارافاجيو. أما الواقعية الناعمة والدقيقة التي يتّسم بها المنظر بعمومه فقد اعتمد فيها على أسلوب الهولنديّ غيريت دو، ولم ينسَ أن يضع الحدث بأكمله في دائرة مثيرة من الكياروسكورو.
استخدم رايت أصدقاءه وجيرانه كنماذج للشخصيات. وهو بطريقة ما يُشرِك المتلقّي معه في مراقبة التجربة. أما مصير الطائر فغير معروف على وجه اليقين، لكن المؤكّد انه قد يموت اختناقا في ما لو حُبس عنه الأكسجين لفترة أطول ممّا ينبغي.
ويقال أن الطائر ببّغاء من ذوات العُرف، وهذا الطائر كان غير معروف في انجلترا حتى عام 1773 عندما رسمه أشخاص كانوا ضمن رحلة الكابتن كوك. وربّما يكون الطائر قد جلبه إلى انجلترا تجّار هولنديون. وثمّة احتمال بأن يكون الرسّام قد رأى صورته في بعض المتاحف أو اللوحات. ووجوده في انجلترا آنذاك كان أمرا نادرا، وإن وُجِد فليس من المتصوّر المخاطرة به من اجل تجربة.
كان جوزيف رايت اوف ديربي احد أفضل الرسّامين الانجليز في القرن الثامن عشر. ويوصف بأنه أوّل رسّام انجليزيّ جسّد في صوره روح الثورة الصناعية.
وفي بداياته كان يرسم مناظر تضيئها الشموع وتكثر فيها الأنوار الباهتة والظلال المعتمة. وكان في هذا متأثّرا بكارافاجيو وبالرسم الهولنديّ، وخاصّة رمبراندت.
رسم رايت هذه اللوحة عندما كان في الرابعة والثلاثين من عمره. وعُرضت لأوّل مرّة في عام 1768، ثم بيعت بمبلغ مائتي جنيه إسترليني، ثم اشتراها تيت غاليري عام 1929، ثم اشتراها أخيرا الناشيونال غاليري عام 1986.
ولد الرسّام في سبتمبر من عام 1734 في ديربي بانجلترا لعائلة من المحامين، وكان ترتيبه الثالث بين إخوته. وقد درس الرسم في لندن تحت إشراف جوشوا رينولدز وتوماس هيدسون. وفي ما بعد تأثّر بلوحات الكسندر كوزين وطريقته في التوليف.
وفي عام 1883، ذهب إلى ايطاليا في رحلة دراسية. ويبدو انه أثناء مكوثه في نابولي رصد بعض الأنشطة البركانية في قمّة جبل فيزوف فصوّرها في بعض لوحاته. وفي عام 1781، اختير ليعمل أستاذا في الأكاديمية الملكية في لندن. لوحات رايت تعكس تأثيرات الثورة العلمية التي بدأت تقوّض سلطة الدين في المجتمعات الأوربّية. ومن أشهرها واحدة بعنوان خيميائيّ يبحث عن حجر الفلاسفة يصوّر فيها اكتشاف عنصر الفوسفور على يد الكيميائيّ الألمانيّ هانغ براند.
ومع انه رسم عددا من المناظر الكلاسيكية والبورتريهات، إلا أن أشهر أعماله ذات طبيعة علمية وفلسفية وفكرية. وكانت لتلك اللوحات أهميّتها في أواخر القرن الثامن عشر، أي زمن الثورة الصناعية وعصر التنوير.
قضى رايت معظم حياته في ديربي وتوفّي بها عام 1797.

Wednesday, January 31, 2018

لوحات عالميـة – 445

ممـرّ إلى الشمـال الغربـيّ
للفنان البريطاني جـون ايفـريت ميلليـه، 1874

طوال أكثر من أربعمائة عام، ظلّ البحّارة الانجليز يبحثون عن طريق مباشر يوصلهم إلى المحيط الهادي واليابان والهند. ولم يكن باعثهم لذلك المعرفة الجغرافية أو تطوير إمبراطوريتهم، وإنّما الأرباح الهائلة التي سيوفّرها لهم مثل ذلك الطريق من الاتّجار بالسلع الشرقية، وبخاصّة التوابل.
وقد حفّز الانجليز للبحث عن الممرّ اكتشاف الرحّالة البرتغاليّ فاسكو دي غاما للطريق البحريّ الموصل إلى أفريقيا والهند، وكذلك رحلة ماجيللان الذي أبحر عام 1520 عبر ممرّ جنوبيّ حول رأس الرجاء الصالح وصولا إلى المحيط الهادي.
وبدأ الانجليز بحثهم عما أصبح يُسمّى بالممرّ الشماليّ الغربيّ في مستهلّ القرن السابع عشر. وأشهر حملاتهم كان يقودها بحّار يُدعى جون فرانكلين الذي اختفى دون أن يُعثر له على اثر. ثم تبيّن أن سفينته علقت في ثلوج القارّة القطبية، ما أدّى إلى موت جميع طاقمها.
وكانت آخر مرّة شوهد فيها البحّارة المائة والثلاثون عام 1845م. وتركت تلك الرحلة ذكريات مرعبة عن البحّارة الذين أكلوا لحوم بعضهم من الجوع وعن حالات تسمّم بالرصاص بينهم وموت بالتجمّد البطيء.
ولم يتمّ اكتشاف الممرّ بالكامل إلا بين عامي 1903 و 1906 عندما عبرته لأوّل مرّة سفينة بحّار نرويجي يُدعى رولد اموندسن. وقبل ذلك، كان جيمس كوك قد بدأ البحث عن الممرّ الغامض، ولكنه اكتشف بدلا منه جزر هاييتي.
الممرّ الشماليّ الغربيّ الذي كان يُعتقد انه يوفّر طريقا إلى الشرق كان ممرّا بحريّا تصعب الملاحة فيه، لذا أصبح مرادفا للخطر والفشل والموت، حيث كان البحّارة يصارعون الطقس والعناصر في برّية جليدية لا متناهية ودون أدنى أمل بالعثور على شيء.
والرسّامون الذين تخيّلوا ذلك الممرّ ومحاولات اكتشافه صوّروا في لوحاتهم الجمال المهجور للتضاريس القطبية، مع تفاصيل أخرى كالسفن المحطّمة والبحّارة الغرقى، للإشارة إلى عبثية طموح الإنسان في التغلّب على قوى الطبيعة.
ويقال أن الظروف المناخية الصعبة في الأراضي القطبية والتي أعاقت اكتشاف هذا الطريق المختصر إلى بلاد الشرق أسهمت في مقاومة التوسّع الامبرياليّ الغربيّ ولو إلى حين.
الرسّام جون ايفريت ميلليه اختار طريقة مختلفة لوصف وتصوير قصّة الممرّ من خلال لوحته هذه. فقد استخدم بحّارا متقاعدا يُدعى الكابتن تريلوني، وكان هذا البحّار يلقَّب بالقرصان العجوز بسبب ماضيه الحافل بالأحداث المثيرة. ففي بداية عمله في البحر، اختطفه قراصنة يونانيون ثم أخذوه إلى البرّ وزوّجه زعيمهم من ابنته وأمضى الاثنان شهر العسل في احد الكهوف.
في اللوحة يظهر العجوز وهو جالس في غرفة ببيته أمام طاولة وإلى جواره ابنته. وإذ ينظر إلى المتلقّي، تقرأ عليه ابنته الجالسة عند ركبته بعضا من مذكّراته التي سجّل فيها جانبا من مغامراته للوصول إلى منطقة القطب الشماليّ.
والعجوز يستمع إلى القصص القديمة فيشتعل قلبه بالذكريات ويظهر التأثّر واضحا على وجهه. وعلى الطاولة التي أمامه خريطة ضخمة لممرّ بين جزيرتين. كما انه محاط بأشياء لها علاقة بالسفر والاستكشاف، مثل خريطة وأيضا صورة سفينة معطّلة وسط الجليد تظهر في أقصى يسار الخلفية.
الجانب الأيمن من اللوحة كان يتضمّن صورة حفيدين للعجوز. لكن بعد أن أكمل ميلليه رسمها لم يكن سعيدا بذلك التفصيل، فاستبدله بستارة علّق فوقها أعلام البحرية البريطانية.
كان البحّار العجوز قد قابل ميلليه مرارا. ورغم انه كان يعتبر الرسّام صديقه، إلا انه كان يرفض بإصرار أن يرسمه. لكن زوجة ميلليه أقنعته أخيرا بالفكرة.
رسم الفنّان اللوحة عندما كانت انجلترا تعدّ لحملة بحرية جديدة لاستكشاف الممرّ بقيادة بحّار يُسمّى جورج نيرز. ولهذا السبب، اختار ميلليه عنوانا فرعيّا للوحة يقول: يمكن فعل هذا وانجلترا يجب أن تفعله". ويُفترض أن البحّار العجوز هو من يقول هذا الكلام. والعنوان يشير ضمنا إلى فشل انجلترا المتكرّر في العثور على الممرّ.
بيعت هذه اللوحة بعد رسمها بمبلغ خمسة آلاف جنيه إسترليني. ثم اشتراها هنري تيت عام 1888 وتبرّع بها للمتحف الوطنيّ الذي اُسمي في ما بعد بالتيت غاليري. وقد استُنسخت اللوحة مرارا وأصبحت ترمز لصورة انجلترا كأمّة من المستكشفين الأبطال وبُناة الإمبراطورية.
ولد جون ايفريت ميلليه في يونيو عام 1829 في ساوثامبتون لأسرة معروفة. وقد ظهرت موهبته في الرسم منذ سنّ مبكّرة. وفي عام 1838، انتقل مع عائلته إلى لندن كي يدرس فيها الرسم، وكان آنذاك اصغر طالب في الأكاديمية الملكية.
كان ميلليه احد مؤسّسي حركة الرسّامين ما قبل الرافائيليين والذين كانوا يتبنّون الرسم الواقعيّ مع اهتمام خاصّ بالتفاصيل. وقد نال في اوقات مختلفة عددا من الجوائز عن بعض أعماله.
حياة الرسّام الشخصية لعبت دورا مهما في شهرته. فزوجته كانت متزوّجة من الناقد المشهور جون راسكن الذي كان داعما قويّا لميلليه. كما كانت والدته شغوفة كثيرا بالفنّ والموسيقى. وقد شجّعت موهبته وقال في ما بعد انه يدين لأمّه بالكثير مما حقّقه.
في عام 1853، عُيّن ميلليه أستاذا في الأكاديمية. وفي عام 1896، انتُخب رئيسا لها. لكنه توفّي في نفس ذلك العام متأثّرا بإصابته بسرطان الحنجرة. وقد أمر الملك ادوارد السابع بإقامة تمثال للرسّام أمام متحف تيت تكريما له.

Friday, January 26, 2018

لوحات عالميـة – 444

بورتـريه مـاو
للفنان الأمريكي انـدي وارهـول، 1972

في أوائل سبعينات القرن الماضي، قام الرئيس الأمريكيّ الأسبق نيكسون بزيارته التاريخية إلى الصين، حيث قابل زعيمها ماو تسي تونغ وبدأ البلدان بعدها صفحة جديدة في العلاقات بينهما وتلاشى إلى حين خطر الحرب الباردة.
كان الرسّام اندي وارهول مشهورا وقتها باهتمامه برسم الشخصيات المشهورة في العالم، مثل مارلين مونرو وجاكلين كينيدي وألفيس بريسلي ومحمّد علي كلاي. وقد قرأ في بعض المجلات والصحف آنذاك أن ماو أصبح أهمّ وأشهر شخصية في العالم، إذ كانت أخباره تحتلّ الصفحات الأولى من الصحف الأمريكية والعالمية.
وكان احد أصدقاء وارهول قد اقترح عليه أن يرسم اينشتاين، خاصّة عقب انتشار اسمه في العالم بعد اكتشافه نظرية النسبية. لكن وارهول كان يعتبر أن الشهرة أهمّ من الأفكار والمظهر أهمّ من جوهر الشخص.
ولهذا قرّر أخيرا أن يرسم ماو. وهذه الصورة الضخمة للزعيم الصينيّ رسمها وارهول ضمن سلسلة من عشر لوحات أخرى متماثلة لماو، وأراد من خلالها أن يعكس التغييرات الكبيرة التي حصلت في الصين أثناء وبعد الثورة الثقافية.
والرسّام يقدّم ماو بطريقة تذكّر بلوحاته عن مشاهير السينما والفنّ، على الرغم من أن زعيم الصين كان معروفا باستبداده وبطشه.
غير أن بعض النقّاد اعتبروا اختيار وارهول لماو مناسبا كثيرا باعتباره زعيما مشهورا على أيّ حال. وقد اعتمد في رسمه لهذه البورتريهات العشرة على صورة ماو المنشورة في كتابه الأحمر. وهي نفس الصورة المشهورة التي أصبح معظم الناس في العالم يعرفونها عن هذا الرجل الذي كان يتمتّع بسلطة مطلقة. والمعروف انه كان يتعيّن على كلّ عضو في الحزب الشيوعيّ الصينيّ أن يحمل معه نسخة من كتاب ماو لأنه يتضمّن أسس الايديولوجيا الماويّة.
وعلى يد وارهول، تحوّلت تلك الصورة الرسمية للزعيم، والتي طالما استُخدمت للترويج للشيوعية في العالم، إلى مجرّد سلعة رأسمالية وإلى مادّة استهلاكية يعاد إنتاجها مرّات ومرّات بطريقة لا تختلف عن علب الحساء المشهورة.
صُوَر وارهول العشر التي رسمها لماو أصبحت في ما بعد من بين أكثر الصور الأيقونية شهرة في العالم. وقد افرد له الرسّام حضورا مدهشا وغامضا في فنّه.
ماو في اللوحة ينظر مباشرة إلى المتلقّي، تماما مثلما ينظر من صوره الكثيرة المعلّقة في ميدان السلام السماويّ في وسط بيجين، مع إحساس بالنصر والزهو. وقد استخدم الرسّام في الخلفية اللون الأحمر الشرقيّ الطابع والمرتبط بالشيوعية وبالعلم الصينيّ، وأيضا الذي يذكّر بالسلطة المطلقة.
كما استخدم في ملابس ماو اللون الأصفر الذي يُعتبر اللون الأكثر لمعانا وجذبا للانتباه. كما انه اللون الذي يرمز للإنذار والخطر والأنانية والجنون والآلهة القديمة. وليس مصادفة أن أصول الأصفر توجد في المعادن السامّة والرصاص والكروم والبول وغير ذلك.
الصور العشر المتماثلة لماو تشير إلى احتقار الشيوعية للفردانية وميلها إلى قولبة البشر في نسق واحد. والرسّام يربط بين تقديس الغرب لصور الفنّانين والممثّلين وبين عبادة الفرد في الشرق كما تشير إليه شخصيّة ماو وغيره من الحكّام الشموليين.
هذه الصورة المشحونة بالألوان الساطعة أصبحت أكثر تفرّدا بإضافة طبقات من الغرافيتي حوّلت ماو إلى أيقونة شعبية عالمية، أي أن الرسّام يرى شبها بين الدعاية الشيوعية وصناعة الإعلان في الدول الرأسمالية.
لكن بعض النقّاد رأوا في البورتريه ما يوحي بتلاشي هالة ماو التي ستصبح قريبا مجرّد ذكرى من الماضي بعد أن جرّده الرسّام من سياق الدعاية الإيديولوجية. لكن يمكن القول أيضا أن وارهول ترك اللوحة مفتوحة على تفسيرات شتّى. فهو لم يكن يتبنّى آراءً سياسية معيّنة ولم يكن مهتمّا بالسياسة أصلا، وهو ما يدفع المتلقّي للتساؤل عن نواياه.
عملية تكرار الصور ربّما تتضمّن أيضا فكرة عبادة الشخصية، تماما مثل صور بعض الزعماء التي تتكرّر وتُشاهَد في كلّ مكان في الدول ذات الحكم الشموليّ. وقد جرت العادة في المجتمعات الرأسمالية أن لا يقدّس الناس صور الزعماء السياسيين، بل صور الفنّانين ونجوم السينما. لكن بنظر البعض فإن النتيجة واحدة، وهي أن الناس يميلون إلى إضفاء طابع مثاليّ على الصورة ثم يجعلون من صاحبها بطلا. بمعنى أن كلا من المجتمعين الرأسماليّ والشيوعيّ ينتج أصنامه الخاصّة بتحويل الأشخاص إلى رموز مقدّسة.
الجدير بالذكر أن السلطات الصينية منعت صور وارهول لماو من دخول البلاد باعتبارها "غير محترمة"، كما أنها تشكّل تجاوزا على هيبة الحزب القائد بإظهارها وجه زعيمه وقد لُطّخ بمساحيق التجميل. لكن بعض الصحف الصينية أكّدت على أن نوايا وارهول قد لا تكون سيّئة، فصوره لا تتضمّن أيّة انتقادات أو إساءات وإن كانت ألوانها مستفزّة نوعا ما. كما أعاد البعض للأذهان أن وارهول عُرف عنه ميله إلى محو الخطوط الفاصلة بين الجنسين في لوحاته.
ومع ذلك شوهدت بعض هذه الصور تُباع سرّا في بعض الأسواق والمواقع السياحية في الصين. وقال بعض الكتّاب الساخرين أن وارهول لو كان يعيش في الصين لاُرسل إلى احد الأقاليم البعيدة كي يحرث الأرض ويزرع المحاصيل، هذا إن تُرك حيّاً.
وقال آخرون أن ماو لو كان ما يزال على قيد الحياة لاعتبر كل الفنّ الغربيّ منحلا وفاسدا. لكن هناك من الصينيين من شعروا بالسرور لأن فنّانا غربيّا كان يهتمّ بدراسة الطبيعة الموقّتة للسلطة والشهرة رسم زعيمهم الأوحد على هيئة مهرّج شبحيّ بالألوان، ثم استنسخ صورته عشر مرّات ووقّع عليها بقلم رصاص.
منذ رحيل ماو تسي تونغ، لم يعد احد يتذكّر كتابه الأحمر ولا كلماته المأثورة. كما أن الرأسمالية التي كان يحتقرها كثيرا تشهد اليوم ازدهارا غير مسبوق في الصين نفسها بينما تترنّح في الغرب.
كان ماو قد أسّس جمهورية الصين الشعبية عام 1949 بعد عشرين عاما من الحرب الأهلية. وقد حكم البلاد كزعيم بلا منافس حتى موته عام 1976. وفي السنوات الأخيرة، بدأ الزعماء الاصلاحيون في الصين يعترفون بأخطاء ماو علناً، ومنها حملته السيّئة الصيت والتي اسماها "قفزة كبيرة إلى الأمام"، التي تسبّبت في موت ثلاثين مليون فلاح صينيّ.
لكن صور الزعيم الضخمة ما تزال منتصبة في وسط الميدان الكبير في وسط بيجين. وما يزال بعض الساسة في الصين يتحدّثون عن دوره الأبويّ في قيام الدولة والحزب.
في عام 1982، زار اندي وارهول الصين وأعجب بثقافتها وتاريخها العريق. وقد أقيم لأعماله معرض في شانغهاي تعرّف من خلاله الصينيون على الفنّان الذي رسم بعض أشهر اللوحات عن أهمّ شخصية في تاريخ بلدهم. وقد بيعت إحدى لوحات سلسلة ماو في نيويورك بأربعة عشر مليون دولار، بينما بيعت لوحة أخرى في مزاد بهونغ كونغ بثلاثة عشر مليون دولار.
كان وارهول احد رموز الفنّ الشعبيّ في العالم وأحد أشهر الرسّامين الأمريكيين في القرن العشرين. والمعروف انه بدأ في مستهلّ حياته تحويل الصور الفوتوغرافية إلى القماش واستخدم هذه التقنية طوال ستّينات القرن الماضي.
وقد استغلّ وارهول هاجس الناس الجماعيّ بالشهرة كما لم يفعل رسّام آخر. وكانت فكرته أن الثقافة الشعبية تقدّس المشاهير فقط لأنهم مشاهير. ولوحاته التي تصوّر الشخصيات المشهورة تطوّرت لتصبح سمة مميّزة لعمله ومصدرا لدخله.