Thursday, May 24, 2018

لوحات عالميـة – 466

وادي يوسـاميتـي
للفنان الأمريكي البيـرت بيـرستـادت، 1864

أسهمت صور الطبيعة الأمريكية في صوغ الهويّة الوطنية للأمريكيين في منتصف القرن التاسع عشر. وكانت المناظر البانورامية الضخمة للغرب الأمريكيّ، كما تظهر في الرسم، مؤشّرا على فترة الرخاء والوفرة المنتظَرة.
البيرت بيرستادت كان أوّل رسّام أمريكيّ يُمسك بالقوّة الرمزية لجبال روكي وسييرا نيفادا ويوساميتي. وقد كرّسته مناظره تلك كواحد من أفضل رسّامي طبيعة الغرب الأمريكيّ.
في صيف عام 1863، ذهب بيرستادت إلى الساحل الغربيّ لأمريكا وقضى في تلك النواحي بضعة أسابيع أنجز خلالها دراسات في الطبيعة المفتوحة لوادي يوساميتي في كاليفورنيا. وعندما رأى الوادي لأوّل مرّة ذُهل من جماله وكتب إلى صديق له يصفه بأنه "جنّة عدن الأمريكية".
لوحاته التي رسمها للوادي، على وجه الخصوص، اعتبرها الكثيرون صورة لجنّة لم تطأها أقدام بشر من قبل، وأصبحت محفّزا على ضرورة حماية تلك الطبيعة البكر.
وفي عام 1864، وقّع الرئيس ابراهام لنكولن قانونا يقضي بحماية الجمال الطبيعّي لوادي يوساميتي والمحافظة عليه كمتنّزه عامّ للناس. وحتى ذلك الوقت، كانت كاليفورنيا ما تزال مكانا نائيا وخطيرا ويصعب الوصول إليه بالنسبة لمعظم الناس.
وقبل ذلك كانت بعثة استكشافية قد وصلت إلى يوساميتي وبُهر أفرادها بجمال الطبيعة فيه بعد أن نجحوا في إخضاع القبيلة الهندية التي كانت تقطنه. وبعد فترة قصيرة بُني فندق متواضع هناك لاستقبال السيّاح.
وقد سافر بيرستادت مرارا إلى المنطقة مع بعثات أخرى. وكانت لوحاته الفخمة للمكان تمثّل تجربة شخصية متفرّدة ورأى أن الوادي ينافس جبال الألب والهمالايا في جمال طبيعته. وقيل إن لوحاته حوّلت المكان إلى رمز ومنحت أفراد الطبقة الوسطى لمحة عن الوادي وشجّعتهم على زيارته ورؤيته عيانا.
رسم بيرستادت خمسا وعشرين لوحة لوادي يوساميتي، وجميعها تُظهِر المنطقة كمكان فطريّ لم يتلوّث بعد بآثار الحضارة والتصنيع.
في هذه اللوحة، يرسم الفنّان منظرا مثاليا للطبيعة تظهر فيه مجموعة من الغزلان وهي ترعى بسلام. ولا بدّ أن فكرة الجنّة كانت في عقله، لذا رسم برّية مثالية لا تعيش فيها سوى الحيوانات.
وقد أضفى على المنظر لمسة لامعة من خلال وهج الشمس الغاربة المصطبغ بالألوان الصفراء والبرتقالية المنعكسة على المكان بأكمله.
هذه اللوحة وغيرها أضفت طابعا رومانسيّا على يوساميتي باعتباره مكانا رعويا وفطريا وخالدا وغير مأهول، ما يخلع عليه طابعا من القداسة والسموّ.
وبفضل رسومات بيرستادت، أصبح للمكان تاريخ وبات محطّة سياحية وموضوعا فنيّا وأيقونة للبراري الأمريكية. كما شجّعت لوحاته الناس على المجيء لزيارة الوادي واستغلال التجربة الروحية التي يوفّرها للزائر.
بعد أن رسم الفنّان اللوحة بفترة قصيرة، عُرضت في متحف المتروبوليتان، ثم بيعت بمبلغ لا يتجاوز الألفي دولار، لكنه كان أعلى مبلغ يُدفع للوحة في ذلك الوقت. وكان الذي اشتراها شخص يقال له جون لينوكس أراد أن يضيفها إلى مجموعته الخاصّة. لكن بعد موته اشترتها مكتبة نيويورك، ثم تنقّلت بين العديد من الأيدي إلى أن استقرّت في متحف الفنّ التشكيليّ في بوسطن منذ عام 1947 وحتى اليوم.
كان البيرت بيرستادت وهو يرسم لوحاته يتطلّع لأن يحافظ على هذه الجنّة الجميلة. لكن بعد بضع سنوات اُنشيء أوّل خطّ للسكك الحديد يمرّ عبرها ودخلت السياحة لأوّل مرّة مناطق الغرب الأمريكيّ.
ولد البيرت بيرستادت في ألمانيا وبدأ تعلّم الرسم في دوسلدورف، ثم سافر إلى ايطاليا ومكث فيها أربع سنوات للدراسة، قبل أن يهاجر مع عائلته إلى الولايات المتّحدة.
ويبدو انه اكتسب حبّ الطبيعة بعد أن زار وهو صغير الطبيعة الجبلية لمنطقة جبال الألب السويسرية. والمعروف أن بيرستادت أصبح عضوا في مدرسة هدسون للرسم واشتهر خاصّة ببراعته في توظيف الضوء الطبيعيّ وفي رسم الطبيعة الفسيحة من نقاط منخفضة وبكثير من التفاصيل.
في زمن الرسّام، كان يسود اعتقاد بأن رسم مناظر الطبيعة الآمنة والهادئة والخالية من البشر يرقى لأن يكون بيانا ضدّ الحرب الأهلية والجرائم التي يرتكبها البشر بحقّ أنفسهم وبحقّ الطبيعة. والمعروف أن تلك الفترة اتّسمت بالتوتّر والاضطراب ولم يمرّ وقت طويل حتى اندلعت الحرب الأهلية الأمريكية.
بعد عدّة سنوات، عاد بيرستادت إلى وادي يوساميتي مرّة أخرى، وحزن كثيرا عندما وجد أن الناس لوّثوا المكان الذي ساعد هو في اكتشافه وفي الترويج له من خلال صوره.