Wednesday, December 22, 2010

لوحات عالميـة – 274

الحقـل المحـروث
للفنان الاسباني خـوان مِيـرو، 1924

كان خوان ميرو احد أشهر الرسّامين السورياليين والتجريديين الإسبان في القرن العشرين. وقد عُرف بمشاهده ذات الطبيعة الطفولية والحالمة التي تتفجّر بالألوان والأشكال الجميلة.
وقد اختار أن يرسم هنا منظرا للمزرعة التي كانت تمتلكها عائلته في مقاطعة كاتالونيا. وعنوان اللوحة هو استعارة شعرية أراد ميرو من خلالها أن يعبّر عن نظرته المثالية لوطنه.
الجمال والفانتازيا اللذان يميّزان لوحات ميرو لا ينتميان لعالم الواقع. غير انه كان يجد دائما الإلهام في حبّه العميق لاسبانيا كما يبدو واضحا في بعض لوحاته المهمّة ومنها هذه اللوحة.
الأيقونات في هذا العمل كثيرة ومعقّدة. وقد اعتمد فيها على مصادر شتّى. وهي شهادة على اهتمام الرسّام بميراثه الفنّي الطويل.
الألوان الباردة والمتباينة تذكّر بألوان الجداريات الرومانية.
والحيوانات المتعدّدة الألوان استلهمها من أسلوب التطريز الاسباني في القرون الوسطى والذي وجد طريقه في ما بعد إلى أعمال السيراميك التي كان ميرو يجمعها ويحتفظ ببعضها في محترفه.
وبعض الأشكال الأخرى في الصورة استوحاها من رسومات كهوف ما قبل التاريخ التي رآها في بعض أنحاء اسبانيا.
العين التي تظهر في أعلى الشجرة الكبيرة إلى اليمين لها أصل في الفنّ المسيحي القديم. إذ جرت العادة أن تُرسم أجنحة الملائكة بحيث تتخلّلها عيون صغيرة وكثيرة. هذه العين، مع الأذن الكبيرة المثبّتة بجذع نفس الشجرة، تعكسان إيمان الرسّام بأن كلّ شيء في الطبيعة له روح وحياة خاصّة به.
"الحقل المحروث" تُعتبر أولى محاولات ميرو في الرسم السوريالي. وهي تكشف عن خيال الرسّام المجنّح من خلال محاولته جمع كل هذه الأشكال البشرية والحيوانية والنباتية في مكان واحد.
غير أن للوحة معنى سياسيا أيضا. فقد رسم فيها عَلَمَي فرنسا واسبانيا، وأضاف إليهما علما ثالثا هو علم كاتالونيا التي كانت تسعى في ذلك الوقت للانفصال عن الوطن الأمّ اسبانيا. وقد أراد من وراء تضمينه علَمها في الصورة إعلان مناصرته الواضحة للقضيّة الكاتالونية.
ولد خوان ميرو في برشلونة في نهاية القرن قبل الماضي لأبوين رسّامين. وقد نشأ في كاتالونيا التي كانت تشتهر بجمال طبيعتها وتقاليدها الفنّية العريقة، ومن ثمّ أصبحت بالنسبة له مصدر الهام أساسي لأعماله.
وقد تعلّم الرسم على يد فنّان يُدعى خوسيه باسكو علّمه تطويع الألوان ونمّى في نفسه حبّ النحت.
وفي ما بعد تعلّم في أكاديمية برشلونة. وبعد تخرّجه منها بدأ مزاولة الرسم. وكانت تغلب على أعماله الأولى النزعات الوحشية والتعبيرية. وفي مرحلة تالية أعجب بالسورياليين وبدأ يجرّب أساليبهم.
بعض رسومات ميرو يبدو فيها واضحا عشقه للشعر. وكان من عادته أن يستخدم الكلمات المكتوبة كعنصر لا يتجزّأ من اللوحة.
عندما اندلعت الحرب الأهلية الاسبانية كان الرسّام يعيش في باريس. وقد ظلّ هناك طوال سنوات الحرب مكتفيا بسماع أخبار الوطن عن بعد. ورغم انه لم يكن له ميول سياسية محدّدة، إلا انه كان يعبّر عن قلقه على مصير بلده من خلال الرسم. وقد رسم وقتها عدّة لوحات استخدام فيها ألوانا قاتمة تعكس حزنه وقلقه.
عُرف عن ميرو انه كان إنسانا متواضعا ومنضبطا وقليل الكلام. وعلى عكس الكثير من الرسّامين في عصره، لم يكن هناك في شخصيّته ما يشي بكونه بوهيميّا أو فوضويّاً.
ورغم شهرته العالمية، لم تكن حالته المادّية ميسورة دائما. وبعد أن عاد إلى اسبانيا عام 1940 اختار بالما دي مايوركا مكانا دائما لإقامته وشيّد فيها فيللا خاصّة راعى في تصميمها الطراز المعماري الحديث الذي كان شائعا في الخمسينات.
وقد عاش خوان ميرو إلى أن بلغ التسعين. وتوفّي في ديسمبر من عام 1983م.
وفي ما بعد جرى تحويل منزله إلى متحف يحمل اسمه.

Sunday, December 19, 2010

لوحات عالميـة – 273

أرض الحليـب والعسـل
للفنان الهولندي بيـتر بـريغــل الأبّ، 1567

في القرون الوسطى، كان الناس في أوربّا يعتاشون بشكل رئيسي على الزراعة وما تنتجه الأرض من محاصيل وثمار. وكان العمل في الأرض مجهدا ويتطلّب الكثير من المشقّة والتعب.
من جهتهم، كان رجال الدين يحثّون الناس على الزهد في الدنيا والتطلّع إلى ما ينتظرهم من نعيم مقيم بعد الموت، بينما يتمتّعون هم بالثروة والسلطة المطلقة وتوزيع صكوك الغفران على الفقراء.
في ذلك الوقت، ظهرت أسطورة تحكي عن مكان خيالي يقال له كوكين أو ارض الحليب والعسل. تقول تلك الأسطورة انه من اجل بلوغ ذلك المكان يلزم الإنسان أن يعبر نهرا عصيّا وقذرا. وكلّ من يجتاز ذلك النهر بنجاح، ينتهي به المطاف في ارض تتدفّق في جنباتها أنهار من الزيت والحليب والنبيذ مكافأة له على صبره وعزيمته. وفي تلك الأرض تتوفّر كلّ سبل الراحة والرفاهية ويجد الإنسان طوع يده كلّ ما يحتاجه من صنوف المتع والخيرات.
وفيها أيضا بإمكان الإنسان أن ينسى قسوة الحياة الزراعية التي ألفها الناس في أوربّا آنذاك. وفي ارض كوكين لا حاجة للإنسان لأن يعمل لكسب كفافه أو لقمة عيشه. فالطعام وفير والسماء تمطر سمْناً ولبَناً. والإوز المشويّ يطير مباشرة إلى فم الإنسان. والسمك المطبوخ يقفز خارج الماء ليحطّ عند قدمي طالِبه. والطقس دائما معتدل والنبيذ يفيض دون حساب.
وفي ارض كوكين لا حاجة لأن يكافح الإنسان ويكدّ. بل إن الإنسان ممنوع من العمل أصلا. ولا توجد قيود اجتماعية من أيّ نوع. وجميع الناس يستمتعون بالشباب الأبدي والحياة السرمدية. والحرّيات الجنسية متوفّرة للجميع. بل إن الراهبات لا يتحرّجن عن الكشف عن مؤخّراتهن على الملأ.
وقد راج الحديث عن ارض كوكين في الكثير من الأشعار والقصائد في ذلك الوقت. وفي ما بعد استلهمها الموسيقيّ البريطاني إدوارد إلغار في احد أعماله الموسيقية. وكانت الفكرة تختصر رغبة الإنسان في تحقيق أحلامه وتعكس تبرّمه من حياة التقشّف وانتظار الموت التي كان ينصح بها رجال الاكليروس.
وكان لتلك الأرض مُعادِل في كلّ الثقافات الأوربية. لكنّها جميعا تؤدّي نفس المعنى تقريبا. كانت كوكين نوعا من الجنّة الموعودة أو اليوتوبيا. كما يمكن تشبيهها بقارة اتلانتيس المفقودة أو آلدورادو الأسطورية.
رَسَم ارض الحليب والعسل الخيالية فنّانون كثر من بينهم فرانشيسكو دي غويا. وهناك من رسمها على هيئة مدينة بُنيت منازلها من الكعك والسكّر بينما رُصفت شوارعها بالمعجّنات. والناس فيها لا شغل لهم، بل هم مضطرّون للكسل والسكون لأنهم يجدون جميع ما يطلبونه دون تعب أو عناء.
بيتر بريغل رسم ارض الحليب والعسل في واحدة من اغرب لوحاته وأكثرها سخرية. فهو هنا يصوّر ثلاثة أشخاص: عالم وجندي ومزارع، وهم مستلقون على الأرض ويحدّقون في جذع شجرة ضخمة عليها آنية ملأى بالأطعمة. الجندي "الأوّل إلى اليمين" يُرى وهو يفتح فمه بانتظار دجاجة مشويّة تطير باتجاهه في طبق.
وإلى يمين اللوحة رسم الفنان خنزيرا تمّ إلصاق سكّين في ظهره لتسهيل عملية ذبحه وأكله. وإلى يسار اللوحة نرى رجلا جالسا في حانوت، وفوق سطح الحانوت وعلى جانبيه اصطفّت أنواع الأكل والمؤن المعروضة بالمجّان لمن يريدها.
بيتر بريغل الأبّ يتمتّع في الرسم الأوربّي بمكانة خاصة ورائدة. فهو أوّل فنان أوربّي يرسم الثلج المتساقط في لوحاته. وهو أشهر رسّام تحتشد لوحاته بأعداد ضخمة من البشر. وفي إحدى تلك اللوحات، يمكن إحصاء أكثر من مائتي طفل حشرهم جميعا على رقعة الرسم.
وأعمال بريغل إجمالا تتميّز بواقعيتها الشديدة. وقد وصف في بعضها تعاقب الفصول وصوّر الإنسان فيها كجزء من الطبيعة. كما رسم الفلاحين في أوقات صفوهم ولهوهم. ولوحاته الأخرى تصوّر الشياطين والموت. وهناك من يقدّر عدد لوحاته المعروفة اليوم بأكثر من أربعين لوحة.