Wednesday, December 27, 2017

لوحات عالميـة – 437

الفقـر
للفنانة الألمانية كاثـي كولفيـتز، 1893

معظم الرسّامين يميلون إلى إظهار جمال العالم في لوحاتهم. لكن كاثي كولفيتز كرّست وقتها وموهبتها لرسم الجانب المظلم من الحياة، حيث الألم والحزن والمعاناة جزء من الحالة الإنسانية.
عاشت هذه الرسّامة كشاهد على زمنها الذي اتّسم بالاضطرابات السياسية والاجتماعية، وعاصرت حربين عالميتين، ورأت عيانا معاناة البشر والحيوات الكثيرة التي أزهقت، بمن فيهم ابنها الذي قُتل في الحرب العالمية الأولى وحفيدها الذي قُتل في الحرب الثانية.
كانت كولفيتز فنّانة ملتزمة وأصبحت بنظر الكثيرين تجسّد ضمير ألمانيا بدعوتها إلى السلام ونبذ الكراهية والحروب، وهو موقف شجاع ومحفوف بالمخاطر بالنسبة لأيّ فنّان عاش في ألمانيا في تلك الفترة.
وعندما تحوّل الحكم النازيّ إلى فاشية شمولية، أصبحت السلطة تنظر إلى فنّها بعين الشكّ والتوجّس. ومنع النازيّون آنذاك ودمّروا كلّ ما كانوا يعتبرونه فنّا منحلا واضطهدوا، بل وقتلوا العديد من الرسّامين والمفكّرين والمثقّفين.
لوحات كاثي كولفيتز ليست جميلة ولا مريحة، بل تثير الحزن والألم لأنها تتحدّث عن الحرب والجوع والفقر والموت. وقد رسمتها في وقت كان فيه الحماس لأفكار نيتشه قويّا رغم أن فلسفته لم تحظَ بالرّواج الواسع إلا في بديات القرن العشرين.
في الكثير من لوحاتها، وبدلا من رسم نموذج المرأة الغنيّة كما جرت العادة، رسمت كولفيتز النساء اللاتي يعانين من الفقر الذي يحرمهنّ من إطعام أطفالهنّ والاستمتاع بالأمومة.
وهذه الفكرة تتكرّر كثيرا في أعمالها. وقد عبّرت عنها بتصوير أمّهات يرضعن أو يحمين أو يرعَين أطفالهنّ وقت موتهم.
في هذه اللوحة مثلا، ترسم أمّا شابّة وهي تنحني بيأس فوق طفلها الذي يحتضر في السرير أمامها. وفي الخلفية عند النافذة، تظهر امرأة عجوز مع طفل آخر وهما يراقبان ما يجري بألم وصمت.
الأمّ أيضا تضع يديها على رأسها في إشارة إلى أنها متعبة وعاجزة وبلا قوّة. والطفل يبدو واهناً كهيكل عظميّ بسبب انعدام الطعام. والمنظر بأكمله يُظهر ما يمكن أن يجلبه الفقر للإنسان من تعاسة وبؤس.
الأشياء المظلمة في الغرفة تبدو بلا قيمة. والظلال المخيّمة تعمّق الدراما في المشهد. وخيوط النسيج هي تذكير بمهنة ربّ البيت وكذلك بالقدَر الذي يسيّر حياة البشر دون أن يملكوا له دفعا.
هذه اللوحة هي واحدة من سلسلة من ستّ لوحات تصوّر فيها الرسّامة الحياة القاسية للنسّاجين. وقد جلبت لها تلك السلسلة شهرة واسعة ودفعتها إلى مركز الضوء وأصبحت بفضلها محطّ اهتمام النقّاد والجمهور على السواء.
تعاطُف كولفيتز مع الطبقة العاملة والفئات الاجتماعية المهمّشة عبّرت عنه في العديد من أعمالها بأسلوب بليغ ومقنع. ويقال أن فقدانها لابنها، ومن ثمّ لحفيدها، أسهم في تعاطفها وتبنّيها لقضايا الطبقات الفقيرة والمعدمة.
كانت الرسّامة قد تزوّجت طبيبا كان يعيش في حيّ فقير جدّا في برلين. وقد رأت عيانا ولسنوات طوال معاناة الفقراء وآلامهم. وتركت تلك التجربة أثرها على أفكارها وأعمالها. وكان زوجها أيضا يهتمّ بالفقراء ويقوم بعلاجهم مجّانا في عيادة بالطابق الأرضيّ من منزلهما.
لوحات كولفيتز عموما مظلمة وصادمة، وهي تعكس بيئة باردة وقاسية بتصويرها طبيعة الحياة التي كان يعيشها الناس في ذلك الوقت، وكأنها تطلب من المتلقي أن يرى ويشعر ويفكّر بما يحدث.
ورغم واقعية رسوماتها، إلا أنها اليوم تُعتبر أكثر ارتباطا بالتعبيرية. وهناك من يشبّه لوحتها هذه بلوحة ادفارد مونك أمّ ميّتة وطفل .
في إحدى أشهر لوحاتها الأخرى بعنوان أمّ مع طفلها المّيت ، ترسم الفنانة طفلا ميّتا تحتضنه أمّه إلى صدرها بحنوّ ومحبّة. ورغم أن الطفل ميّت، إلا أن أمّه ما تزال تحسّ به وتضمّه بعطف كما لو انه ما يزال على قيد الحياة. وقد تحوّلت هذه اللوحة إلى عمل نحتيّ واختير عام 1993، أي بعد وفاة الرسّامة بخمسين عاما، ليكون النصب التذكاريّ لضحايا الحرب والاستبداد في ألمانيا.
بالإضافة إلى لوحاتها الملتزمة، رسمت الفنّانة أكثر من مائة بورتريه لنفسها خلال الستّين عاما التي قضتها في الرسم. وبورتريهاتها لنفسها تشبه تلك التي رسمها رمبراندت لنفسه، من حيث ثرائها وعمقها السيكولوجيّ. وتبدو في تلك الصور على درجة من الإنسانية والتواضع وفي حالة بحث وتساؤل دائمين.
ولدت كاثي كولفيتز في بروسيا بألمانيا لأب كان يعتنق الفكر الاشتراكيّ وأمّ لوثرية الديانة. ومنذ صغرها درست الدين والأفكار الاشتراكية. وقد رتّب لها والدها دروسا في الرسم عندما كانت في الثانية عشرة. وبعد أربع سنوات، بدأت ترسم الفلاحين والبحّارة الذين كانت تراهم في مكتب أبيها. وبعد زواجها في سنّ السابعة عشرة، ذهبت لتتعلّم الرسم في ميونيخ.
وفي مرحلة تالية، عملت أستاذة في أكاديمية بروسيا للفنون. وفي عام 1933، اجبرها النازيّون على الاستقالة من وظيفتها، كما أزيلت لوحاتها من المتاحف، ومُنعت من عرض أعمالها، رغم أن النازيّين وظّفوا لوحتها بعنوان أمّ وطفلها لأغراض الدعاية.
وبعد ثلاث سنوات، زارها وزوجها أفراد من البوليس السرّيّ "الغستابو" وهدّدوهما باعتقالهما وإرسالهما إلى احد معسكرات الاعتقال. وقرّر الزوجان أن يقدما على الانتحار متى ما أصبح ذلك الاحتمال ممكنا.
كانت كولفيتز وقتها قد أصبحت شخصية مشهورة في أوربّا وخارجها. لذا تردّد النازيون في اتخاذ إجراءات أخرى ضدّها. وفي عام 1937، أي في عيد ميلادها السبعين، تلقّت رسائل تعاطف من عدد من الشخصيات العالمية وعرضا للقدوم إلى أمريكا والإقامة فيها بشكل دائم. لكنها رفضت العرض خوفا من أن تتسبّب في إثارة أعمال انتقامية ضدّ عائلتها.
وفي عام 1940، توفّي زوجها. وبعد ثلاثة أعوام، قُصف منزلها في برلين أثناء غارة جويّة لطيران الحلفاء، فانتقلت إلى بلدة أخرى حيث توفّيت هناك بعد ذلك بسنتين، أي في ابريل 1945.
وهناك اليوم في برلين متحف يحمل اسم كاثي كولفيتز ويتألّف من أربعة طوابق ويضمّ حوالي مائتين من أعمالها. وقد شُيّد المتحف على أنقاض منزلها القديم الذي أعيد ترميمه ومن ثمّ حُوّل إلى متحف بتمويل من بنك ألمانيا وبلدية برلين.

Sunday, December 24, 2017

لوحات عالميـة – 436

الكاهـن المتـزلّـج على الجليـد
للفنان الاسكتلندي هنـري ريبـيـرن، 1790

كانت نهاية القرون الوسطى تمثّل العصر الذهبيّ للوحات التي تصوّر مناظر الثلج والتزلّج على الجليد.
ولم يكن هذا بالشيء المستغرب، ففي تلك الفترة ساد أرجاء أوربّا ما عُرف بالعصر الجليديّ الصغير، وكان على الناس وقتها أن يواجهوا الظروف الصعبة الناتجة عن الجوّ البارد جدّا.
وكان من أفضل فنّاني هذا النوع من الرسم كلّ من هندريك ايفركامب ويوهان جونكيند وفريدريك كروزمان وغيرهم.
الرسّام هنري ريبيرن رسم، هو أيضا، واحدة من أشهر لوحات الفصول وأكثرها جاذبيةً. وفيها يظهر راهب يُدعى روبيرت ووكر وهو يتزلّج في بحيرة لوك المتجمّدة في اسكتلندا. ووراءه يظهر أفق فضّيّ تذوب فيه التلال في الجليد.
المفارقة التي تثيرها الصورة هي أن زعيما دينيا يجد ما يكفي من الوقت لأن يتخفّف من أعباء مسئولياته ويمارس هوايته الأثيرة. وهو في اللوحة يبدو جادّا، وفي نفس الوقت منهمكا في إمتاع نفسه.
المنظر يثير أيضا شعورا بالانضباط والمهارة، فذراعا الرجل مطويتان خلف ظهره لتخفيف المقاومة. والمنحنيات الظاهرة على سطح الجليد تشير إلى آثار المتزلّجين الذين سبقوه. ومزيج الألوان الزهرية والرمادية للغيوم تشكّل خلفية رائعة، وهي مع الصورة الظلّية للرجل وُظّفت لتوصل الإحساس بلحظات السعادة.
كان ووكر عضوا في جمعية ادنبره للتزلّج على الجليد، وكان أعضاء الجمعية يلتقون دوريّا لممارسة هوايتهم على مياه البحيرة المتجمّدة. و ووكر معروف بين زملائه بأنه متزلّج حاذق ويتقن المناورة.
وكان الرجل قد قضى معظم طفولته في هولندا، حيث كان والده يعمل كاهنا للكنيسة الاسكتلندية في روتردام. وقد تعلّم مهارات التزلّج على الجليد أثناء إقامتهم هناك. وعندما عاد إلى ادنبره، أسّس مع عدد من أصدقائه ناديا للتزلّج اعتُبر أوّل نادٍ من نوعه في العالم.
اللوحة تتضمّن لمسة بهلوانية وهي أيضا تجسّد البراعة وروح الدعابة، بينما الملابس الداكنة مع القبّعة تشيع نوعا من الوقار. كما أن الصورة تنقل لمحة عن اسكتلندا القديمة قبل ما يقرب من المائتي عام.
ولد ريبيرن في ادنبره في مارس عام 1756. وتوفّي والده وهو صغير، فتولّى أخوه الأكبر رعايته. وفي صغره عمل في ورشة لصنع المجوهرات، وكانت وظيفته نقش الصور على الحليّ.
ويمكن القول انه علّم نفسه بنفسه إلى أن أصبح رسّام بورتريه معروفا. وفي ما بعد، ذهب إلى روما للدراسة واستنسخ بعض أعمال ميكيل انجيلو. وبعد عامين عاد إلى اسكتلندا.
وقد صوّر ريبيرن بعض الشخصيات المشهورة في عصره مثل السير والتر سكوت الذي رسمه أربع مرّات. كما رسم صورا لمثقّفي وتجّار اسكتلندا. وفي عام 1812 انتُخب رئيسا لجمعية الرسّامين الاسكتلنديين ثم عضوا في الأكاديمية الملكية. وفي عام 1822 منحه الملك جورج الرابع لقب فارس.
ولوحات ريبيرن تتّسم عموما بالواقعية الشديدة وبآثار الضوء الدراماتيكيّ وغير المألوف. وكان بعض النقّاد يفضّلونه على غينسبورو ورينولدز، غير أن رسوماته اقل بريقا وأناقة من رسوماتهما.
ومع ذلك فإن لوحته هذه غير عاديّة، لدرجة أنها اختيرت كأفضل لوحة في اسكتلندا بسبب جاذبيّتها التي لا تقاوَم والمتعة الاحتفالية التي تصوّرها.
وفي ما بعد وضُعت على طوابع البريد واستُنسخت كثيرا على ربطات العنق وعلى علب الشيكولاته والمناديل وغيرها.
ولأن الصورة لا تحمل سمات محدّدة، فقد شكّك بعض مؤرخّي الفنّ في نسبتها لريبيرن، وساد اعتقاد أن من رسمها قد يكون الفرنسيّ بيير دانلو الذي كان يعمل في اسكتلندا في أواخر القرن الخامس عشر. لكن في ما بعد، ثبت أنها لريبيرن فعلا.
والبعض يشبّهها بلوحة للرسّام الأمريكيّ غيلبيرت ستيوارت رسمها هو الأخر في ادنبره وقريبا من هذا المكان. والأخيرة تصوّر طبيعة جليدية يظهر في خلفيّتها عدد من المتزلّجين مع بعض الأشجار.
توفّي هنري ريبيرن في ادنبره في يوليو عام 1823.