Saturday, August 26, 2017

لوحات عالميـة – 410

على الشـاطئ في تروفيـل
للفنان الفرنسي اوجيـن بُـودان، 1887

كان اوجين بُودان أوّل رسّام فرنسيّ يرسم في الطبيعة المفتوحة. وقد لعب دورا مهمّا في ظهور الانطباعية. كما علمّ كلود مونيه الذي اعترف بفضله عليه في ما بعد عندما قال: إذا كنت قد أصبحت رسّاما ذا شأن فإني أدين بذلك لأوجين بُودان وليس لأيّ شخص آخر. بفضله فتحت عينيّ على الطبيعة وفهمتها وتعلّمت في نفس الوقت أن احبّها".
كان بُودان رسّام النورماندي في سنوات ما قبل مونيه. كما أنه يُعتبر الزعيم الروحيّ لانطباعية شاطئ البحر. وهو مشهور خاصةً بلوحاته التي رسمها لشواطئ النورماندي في أواخر القرن التاسع عشر. وقد رسم تلك الشطآن مرّات عديدة كي يلفت الأنظار إلى التغيير الجديد المتمثّل في ازدهار السياحة النهرية والذي لم تكن تعرفه الأجيال السابقة. ووفّر له توافد السيّاح والمصطافين على المنطقة فرصة لمزج الطبيعة بالحياة اليومية.
وفكرة بُودان الأساسية، شأن كلّ الرسّامين الانطباعيين، كانت تصوير التفاعل المتبادل والسريع بين الضوء والظلّ وتأثيرهما على الماء والغيوم.
في الكرّاس الخاصّ بصالون عام 1869، كتب احد النقّاد يقول إن بُودان ابتكر نوعا جديدا من رسم البحر برسمه الشواطئ وأفراد الطبقة الرفيعة الذين يجتذبهم الصيف إلى المنتجعات السياحية.
وخلال أكثر من ثلاثين عاما، رسم لتلك الشواطئ حوالي ثلاثمائة لوحة، وكانت أعماله تحظى بشعبية كبيرة لدى النقّاد والمهتمّين بالرسم عموما.
في هذه اللوحة التي تغلب عليها الألوان الترابية وتدرّجاتها، يرسم بُودان منظرا للشاطئ في تروفيل، وهي منتجع صيفيّ اعتاد أغنياء المدينة المجيء إليه للاستمتاع بوقت العطلة ولمزاولة السباحة والتمتّع بمرأى وهواء البحر.
الأشخاص في اللوحة، وكلّهم نساء، لم يُعطَوا اهتماما كبيرا، فقط وجوههم هي الظاهرة، مع أن الملامح أشبه ما تكون بأقنعة الطلاء أو البقع اللونية الصغيرة. والتركيز هو على البحر والضوء والسماء وعلى الطقس والرياح.
أيضا هناك تركيز على ملابس النساء السوداء والحمراء والصفراء والبيضاء التي تتباين في ألوانها الساطعة مع الألوان الشاحبة للسماء التي تتغيّر مع حالات الطقس المتغيّرة. ومن اللافت أن الفنّان اختار أن يرسم المنظر من زاوية منخفضة لدرجة أن البحر في الخلفية لا يكاد يُرى.
المعروف أن منطقة النورماندي ارتبطت بشكل وثيق بالحركة الانطباعية بمثل ما ارتبطت بروفانس بكلّ من فان غوخ وغوغان. وقد بدأ بُودان الرسم في المنطقة اعتبارا من عام 1862. كان يرسم بسرعة في الهواء الطلق، ومعظم مناظره تصور نساءً ورجالا يمشون على الشاطئ أو يتفرّجون على القوارب المارّة في الخليج.
ولد اوجين بُودان في اونفلير في يوليو عام 1824. ولأن والده كان يعمل في البحر، فقد اشتغل الابن في صباه على قارب بخاريّ ثم عمل في محل لبيع إطارات الصور.
وفي ذلك المحلّ تعرّف على لوحات الرسّامين الذين كان يقابلهم مثل جان فرانسوا ميليه وتوما كوتور وغيرهما. وقد شجّعوه على دراسة الرسم، لذا ذهب إلى باريس للدراسة، وتأثّر في بداياته بأعمال الهولنديين الأوائل، وخاصّة يوهان يونكند الذي كان يعمل وقتها في باريس وترك بصمته على أوساط الرسم فيها.
وكان الشاعر بودلير أوّل من أشاد بموهبة بُودان عندما عرض أولى لوحاته في الصالون. وفي مرحلة تالية سافر إلى بلجيكا وفينيسيا كي يطّلع على أعمال كبار الرسّامين الفلمنكيين والايطاليين.
في أواخر حياته، عاد بُودان إلى منزله في دوفيل في جنوب فرنسا بعد أن داهمه المرض. وبقي هناك إلى أن توفّي في أغسطس من عام 1898 بالقرب من مياه القنال وتحت السماء التي طالما رسمها في لوحاته.

Monday, August 21, 2017

لوحات عالميـة – 409

بورتـريه إميـل زولا
للفنان الفرنسي إدوار مانيه، 1868

كان إميل زولا كاتبا متنفّذا في زمانه. وقد أولى الكثير من الاهتمام للتغييرات الاجتماعية التي جلبها العصر الصناعيّ في بداية عهد الإمبراطورية الثانية في فرنسا.
كما كان معروفا بكتاباته في النقد الفنّي وبقربه من الرسّامين الحداثيين، وخاصّة الذين كانت تُرفض أعمالهم من قبل المؤسّسة الرسمية والنقّاد التقليديين.
وكان قد اصدر للتوّ روايته المسمّاة "تيريز راكون" التي تناول فيها قصّة حبّ بين زوجة عامل في السكك الحديد ورسّام يُدعى لوران.
وفي تلك الفترة أيضا، اصدر زولا كتيّباً امتدح فيه الرسّام إدوار مانيه الذي رفضه النقّاد، كما تنبّأ له بأن يصبح احد اكبر الرسّامين في المستقبل وبأن لوحاته ستحتفظ بمكان خاصّ في متحف اللوفر.
كان الاثنان، زولا ومانيه، صديقين منذ الصغر وكان مانيه يتعرّض في ذلك الوقت للنقد الشديد في دوائر الفنّ الباريسي بسبب تجاهله لتقاليد الرسم السائدة آنذاك. لكن وقوف زولا إلى جانبه ودعمه القويّ له منحه دفعة معنوية كبيرة وحفّزه على الاستمرار في عمله.
ولكي يردّ مانيه لزولا الجميل، رسم له هذا البورتريه الواقعيّ الذي حشد فيه أشياء مختلفة تشير إلى سمات شخصية زولا وميوله ووظيفته وذوقه.
كان زولا وقتها الروائيّ الصاعد والمدافع العنيد عن الانطباعية، وكان عمره في ذلك الحين لا يتجاوز السادسة والعشرين. وهو يظهر في الصورة ناظرا إلى البعيد ومستغرقا في التفكير بينما يمسك بيده كتاب "تاريخ الرسم" لشارل بلانك، كشاهد على اهتمامه بالفنون والآداب.
وعلى الطاولة التي يجلس إليها، هناك محبرة وقلم ريشيّ ومجموعة من الكتب يبرز من بينها بروشور غلافه اخضر، وهو نفسه الذي ضمّنه زولا كلمات إطراء لمانيه.
وعلى الجدار الخلفيّ للمكتب، يظهر عدد من المقتنيات الفنّية منها نسخة مصغّرة من لوحة مانيه الإشكالية أوليمبيا التي رسمها عام 1863، ونسخة من لوحة انتصار باخوس لدييغو فيلاسكيز والتي تشير إلى إعجاب زولا ومانيه بالفنّ الاسباني. وكان مانيه قد رأى لوحة فيلاسكيز الأصلية قبل ذلك بعام أثناء زيارة له إلى متحف برادو في مدريد.
وعلى الجدار أيضا، تظهر لوحة يابانية مشهورة اسمها المصارع للرسّام اوتاغاوا كونياكي. وفي الجانب الأيسر من الجدار، هناك أيضا لوحة يابانية أخرى منقوشة على الخشب من القرن التاسع عشر.
في تلك الفترة، كان الاهتمام بالفنّ الياباني في ازدياد وكان كلّ من زولا ومانيه معجبَين به كثيرا. وبشكل عام كان الأوربّيون مفتونين بالثقافة اليابانية التي كانت محجوبة عنهم وبدءوا للتوّ يتعرّفون عليها بعد أن فتحت اليابان أبوابها أمام الغرب ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر بعد عزلة دامت مائتي عام.
استخدم مانيه في هذه اللوحة ألوانا محدّدة هي الأصفر والبنّي مع شيء من الأخضر الخفيف كي يضيف إلى جوّها إحساسا بالحيوية والتلقائية. والأنماط الصفراء على الكرسي تبدو في حالة تناغم مع الأشياء الموضوعة فوق الطاولة.
كما أن هناك حالة من التوازن بين الألوان الخفيفة والداكنة في اللوحة. والضوء يسقط على وجه الشخصية وعلى صفحات الكتاب المفتوح أمامه تاركا الجدار الخلفيّ في الظلّ.
زولا يبدو في الصورة متحفّظا وثابتا كتمثال، بينما يحدّق في البعيد، وملامح وجهه ووضعية يديه تضفي عليه مظهرا من الهدوء والوقار.
ومن الواضح أن البورتريه يكرّس علاقة الوفاء والصداقة التي ربطت بين شخصين كان كلّ منهما يطمح لتحقيق قدر من النجاح والشهرة. وواضح أيضا أن البورتريه يعطينا لمحة عن الجوهر الداخليّ لزولا وعن اهتماماته وشخصيّته.
كان زولا داعما كبيرا لصديقه مانيه ولطالما أشاد بموهبته وأصالة فنّه. وقد قال عنه ذات مرّة انه ساير ميوله الخاصّة في الرؤية والفهم وبدأ يرسم بطريقة مخالفة للقواعد المقدّسة التي تُعلَّم في المدارس، ومن هنا استطاع أن ينتج فنّا مبتكرا وأصيلا".
وهذا البورتريه قد لا يكون احتفاءً من رسّام بصديقه الناقد بقدر ما هو إضاءة على العالم الجديد الذي أصبحت فيه حياة الفنّانين ثريّة بفضل سهولة وسرعة وصولهم إلى الإصدارات الأدبية والفنّية والمنشورات والمجلات والكتب.
ومع ذلك لم يكن زولا راضيا تماما عن البورتريه بدليل انه قام بتعليقه، ليس في صالون البيت كما كان يُفترَض، وإنّما في ركن متوارٍ قرب الباب الخارجيّ لشقّته.
كما استقبلت الصحف اللوحة بفتور، وعلّق عليها احد النقّاد بقوله: لقد رسم مانيه الكاهنَ الأكبر لشلّة كارهي الطبيعة "يقصد زولا" باكسسوارات غريبة وبنطال يمكن أن يكون مصنوعا من أيّ شيء عدا القماش". أما الرسّام اوديلون ريدون فقد وصفها ساخرا بأنها "لوحة حياة صامتة أكثر منها تعبيرا عن شخصيّة إنسان".