Friday, August 28, 2009

لوحات عالميـة - 208

انتصــار المــوت
للفنـان الهولندي بيـتر بـريغــل الأبّ، 1562

أينما نظرت في هذه اللوحة، لا تجد سوى الموت. ولهذا السبب تُصنّف على أنها إحدى أفظع الصور في تاريخ الفنّ التشكيلي.
في هذا المشهد البانورامي الضخم نرى جيشا من الهياكل العظمية وهي تشقّ طريقها وسط إحدى المدن. الهياكل رمز للموت الذي يصطاد الأحياء ويقتلهم بلا تمييز ودون شفقة أو رحمة.
حتى التفاصيل الطبوغرافية للمكان لا تشي سوى بالموت والخراب: النهر، الشاطئ والنيران المشتعلة في البحر.
ووسط هذه الفوضى العارمة، يحاول الناس المذعورون الهرب بينما يقرّر بعضهم أن يقاتل، لكن بيأس.
التفاصيل في اللوحة كثيرة جدّا. ويخيّل للناظر أن الرسّام عاجز عن مواكبة الرغبة الهائلة التي يبديها رسُل الموت في القتل والتدمير.
الحرب هنا ليست عادلة ولا متكافئة. ويبدو أن لا سبيل لوقف جيش الموت من التقدّم وحصد المزيد من الأرواح.
كما أن الجيش الغازي لا يميّز بين الضحايا ولا يفرّق بين ملك أو فلاح أو نبيل أو رجل أو طفل أو امرأة. فالجميع مستهدفون.
كما أن جيش الموت بارع في تنويع طرق القتل، من قطع الأعناق إلى الشنق والإغراق في الماء والصلب وحتى استخدام الخوازيق المنصوبة في الهواء.
الطبيعة شبه محروقة. وبالكاد نلمح وجودا لشجرة أو نبات أو أي شيء يدلّ على حياة. وتبدو السفن مشتعلة أو غارقة في الميناء بينما ترتفع أعمدة الدخان من الأبراج التي تلوح من بعيد.
وبعض التفاصيل في اللوحة تعمّق الحضور الموحش والمشئوم للموت وتكرّس الإحساس باليأس الذي يثيره المنظر. التوابيت، أكداس العظام والجثث الملقاة على الأرض، الكلاب الضالّة التي تنهش الجثث، الهياكل التي تقود عربة محمّلة بالجماجم والشخص الذي يعزف الموسيقى وهو غير منتبه لما يجري.
ثم هناك الغرفة المستطيلة والغريبة الشكل إلى يمين اللوحة حيث يُحشر بداخلها الناس إلى حتفهم. ولا يبدو أن الصُلبان المرسومة حولها تقدّم وعدا بالخلاص أو البعث على نحو ما تبشّر الأفكار المسيحية.
ويُحتمل أن بريغل عمد إلى رسم الرموز الدينية في اللوحة لكي يضفي على المنظر إحساسا بالسخرية والعدمية وكأنه يقول أن لا مكان للحديث عن الدين والخلاص وسط كلّ هذه الوحشية والبشاعة.
لا يُعرف على وجه التحديد السبب الذي دفع بريغل إلى رسم هذه اللوحة.
لكنّ الثابت أن الرسّام عاش في عصر اتسم بكثرة الحروب والحملات العسكرية. وقبل ذلك شهدت أوربّا ذروة اشتداد المعارك والكراهية بين الكاثوليك والبروتستانت.
وهناك من يربط موضوع اللوحة بحادثة اكتساح جيوش اسبانيا للأراضي الهولندية وبالمناخ السياسي المتوتّر في أوربّا الذي سبق نشوب ما عُرف بحرب الثمانين عاما.
غير أن ثمّة من يقول إن اللوحة يمكن أن تكون تصويرا لأجواء الاضطراب الاجتماعي والرعب الذي أعقب انتشار مرض الطاعون القاتل في أجزاء واسعة من أوربّا أثناء القرون الوسطى.
بشاعة اللوحة منحت بريغل قدرا اكبر من الذيوع والشعبية في زمانه. رغم انه جاءت بعده حروب كثيرة ارتكبت فيها مجازر وفظائع اشدّ وأقسى مما صوّره في هذه اللوحة.
الموت، كفكرة دينية وفلسفية، كان موضوعا مفضّلا للكثير من الرسّامين لقرون عديدة.
في القرون الوسطى، كانت معدّلات الحياة أقصر مما هي عليه اليوم بسبب كثرة الحروب وانتشار الأوبئة والأمراض المعدية كالكوليرا والطاعون. ولهذا السبب ازدهرت الرسومات الدينية التي كانت تربط الموت بالدين.
وغالبا ما كانت هذه الرسومات تُعلّق في الكنائس والأديرة كنوع من العزاء والسلوى لجمهور المؤمنين ولتذكيرهم بالآخرة.
وفي بعض الأحيان كان الموت يأخذ شكل رجل يمتطي حصانا ذا هيكل عظمي. كما يظهر أحيانا ممسكا بمنجل مقوّس أو سيف وترس ويداه ممدودتان في إشارة إلى انتصاره على البشر.
وفي بعض اللوحات التي تعود إلى تلك الفترة يظهر الموت على هيئة امرأة بوجه شبحي وملابس سوداء.
وهناك نوع آخر من الرسومات التي تصوّر ملاك الموت على شكل امرأة شابّة لها جناحان ووجه تكسوه تعابير الرقّة والشفقة.
ومن أشهر الرسّامين الذين تناولوا الموت في أعمالهم ألبيرت ديورر وهيرونيموس بوش وإيغون شيلا وإدفارد مونك وألبرت رايدر وإيفلين دي مورغان.

Wednesday, August 26, 2009

لوحات عالميـة - 207

الكــلــب
للفنان الإسباني فرانشيسـكو دي غــويا، 1823

لا بدّ وأن معظمنا سمع باللوحات السوداء التي رسمها الفنان الاسباني دي غويا على جدران منزله قبيل وفاته.
كان غويا في تلك الفترة يمرّ بأقسى مراحل حياته. وكان قد فقد زوجته وأولاده جميعا ووقع فريسة الاكتئاب والصَمَم والرؤى السوداء.
وقد بدأ رسم اللوحات السوداء، وعددها 14 لوحة، في مطلع العام 1819 وضمّنها صورا لكوابيس وساحرات وأشباح ومناظر مرعبة توّجها بلوحته المشهورة والمزعجة "ساتورن يفترس أبناءه".
هذه اللوحة واسمها "الكلب" هي إحدى أشهر تلك اللوحات، وأحد أكثر الأعمال غموضا في تاريخ الرسم العالمي.
"الكلب" تصوّر طبيعة كئيبة ذات لون اصفر وبنّي يتوسّطها صورة لكلب لا يظهر منه سوى رأسه.
ما قصّة الكلب؟ وما دلالته؟ وهل الصورة استعارة لشيء أو فكرة ما؟
لا أحد يعرف الإجابة على وجه التأكيد. وما تزال اللوحة تثير الكثير من التفسيرات والقراءات المختلفة والمتناقضة.
في الكوميديا الإلهية يتحدّث دانتي عن كلب يقود أرواح الخاطئين والعصاة من بني البشر إلى حيث نار الجحيم والعذاب الأبدي. وثمّة احتمال بأن تكون القصّة أوحت لـ غويا برسم هذا المنظر الغريب والمحيّر.
وربّما أراد من وراء صورة الكلب الوحيد والغامض أن تكون رمزا لحالة الوحدة والمعاناة التي كان يعيشها في تلك المرحلة الصعبة من حياته.
لكن هناك تفسيرات أخرى أكثر إثارة للاهتمام. الكلب في اللوحة يبدو خائفا مذعورا كما لو انه تُرك وحيدا في هذا المكان المقفر الموحش.
إنه يغرق شيئا فشيئا في الرمال المتحرّكة ويحدّق في الفراغ إلى أعلى بيأس وفي عينيه نظرات قلقة ومثيرة للشفقة.
وهناك احتمال أنه عالق وغير قادر على انتزاع نفسه أو انه يحاول أن يحمي نفسه ويتقي خطرا قادما من أعلى قد يكون عاصفة أو طوفانا.
فقط رأسه هو الظاهر في الصورة فيما بقيّة جسمه مغمور. ومن الواضح أن الكلب مجرّد من أي إحساس بالحركة أو الفعل؛ الأمر الذي يوحي بأن فرص الهرب أو النجاة أمامه ضئيلة ومحدودة.
ولا يبدو في المشهد ما يشير إلى بقعة أو مكان ما يمكن أن يوفّر له ملاذا من العالم الخطير الذي يطبق عليه من فوقه ومن تحته.
وقد يكون الكلب جريحا وينتظر الموت. الموت الذي ينتظر الرسّام أيضا.
وربّما كان غويا يرى في الكلب انعكاسا لحالته هو. فالكلب يبدو هنا وكأنه يقاتل ضدّ التيّار. غويا، أيضا، كان دائم السباحة عكس التيّار قبل أن تنهكه متاعب اسبانيا ومشاكلها الكثيرة.
ويُحتمل أن يكون الفنان أراد أن يكون الكلب تجسيدا لحالة اسبانيا في ذلك الوقت والتي كانت تنجرف باتجاه الهاوية بفعل قوى لم يكن ممكنا كبحها أو السيطرة عليها.
بعض النقاد يرون أن اللوحة تدلّ على قوّة البساطة في التعبير. وهناك من وصفها بأنها أجمل لوحة في تاريخ الفنّ العالمي.
الرسّام المشهور خوان ميرو طلب قبل أن يموت أن يذهب إلى متحف برادو في مدريد ليرى لوحتين فيه للمرّة الأخيرة: الأولى وصيفات الشرف لـ فيلاسكيز والثانية لوحة غويا هذه.
رسم غويا اللوحات السوداء بعد مرضه الخطير عام 1819. وقيل انه رسمها مدفوعا بيأسه من الحرب وبمعاناته النفسية جرّاء إصابته بالصَمَم الكامل.
وقد أطلق عليها المؤرّخون هذا الاسم لطغيان اللون الأسود عليها. غير أنها أيضا تعكس مزاج غويا المظلم وتشاؤمه وحالته العقلية في تلك الفترة.
اللوحات بوجوه أشخاصها المشوّهة وأجسادهم المعذّبة تتضمّن سخرية فاقعة من الحياة وخيبة أمل كبيرة من البشر. كما أنها تمثل قطيعة مع أعمال الفنان المبكّرة التي اتسمت بمواضيعها المرحة وبنظرتها المتفائلة للحياة.
في إحدى اللوحات السوداء واسمها "ليل الساحرات أو التيس العظيم" يرسم غويا الشيطان في هيئة تيس ضخم له قرون طويلة ويرتدي زيّ كاهن وقد وقف يعظ جمعا من أتباعه الذين تظهر على ملامحهم تعابير الصدمة والهلع. هذه اللوحة قد لا تبدو مخيفة كثيرا لكنها مزعجة بأجوائها الكابوسية والمقبضة.
وفي لوحة أخرى بعنوان "الحجّ إلى سانت إيزيدرو" يرسم الفنان مجموعة من الكهّان الذين يمشون بلا هدف أو غاية ويرفعون أصواتهم بالإنشاد وسط طبيعة سوداء قاحلة. هنا أيضا تبدو تعابير الأشخاص في حال من الجزع والهوس والكرب. ويقال إن هذه اللوحة تتضمّن انتقادا مبطّنا لرجال الكنيسة بدليل الطريقة الغريبة التي رُسم بها الرهبان.
وفي لوحة "العجوزان" يرسم غويا شخصين أحدهما بهيئة عجوز له لحية طويلة وإلى جواره شخص ذو ملامح شرّيرة وقد راح يصرخ في أذن العجوز. وهناك نظرية تقول إن العجوز هو غويا نفسه والرجل إلى جانبه هو شيطان إلهامه الذي يتعيّن عليه من الآن أن يصرخ بعد إصابة الفنان بالصمم.
وفي لوحة "المنازلة" نرى رجلين يتعاركان بالهراوات الثقيلة وقد انغرزت أقدامهما في الرمل. الصراع هنا يبدو حقيقيا. انه قتال حتى الموت ولا سبيل لحسمه إلا بموت احد الرجلين. وفي هذا إشارة ضمنية إلى الحرب الأهلية.
اللوحات السوداء ظلّت دائما عرضة للتأويلات والتفسيرات المتناقضة. وقيل إنها محمّلة بمعانٍ ومضامين فلسفية ورمزية. وقد ثبت في ما بعد وعلى عكس التصوّر السائد، أن غويا لم يرسمها عفو الخاطر بل حضّر لها جيّدا وعمل لها اسكتشات عديدة ولم يكن اهتمامه بها اقلّ من اهتمامه بلوحاته الأولى.
بعد أن أتمّ غويا رسم اللوحات السوداء غادر اسبانيا قاصدا مدينة بوردو الفرنسية التي بقي فيها حتى وفاته. وانتقل بيته الذي يضمّ تلك اللوحات من مالك لآخر إلى أن استقرّ في عهدة احد البارونات الذي أمر بنقل اللوحات الجدارية إلى الورق قبل أن يتبرّع بها لمتحف برادو الذي ظلّت فيه إلى اليوم.

موضوع ذو صلة: غويا ودوقة ألبا