انتصــار المــوت
للفنـان الهولندي بيـتر بـريغــل الأبّ، 1562
أينما نظرت في هذه اللوحة، لا تجد سوى الموت. ولهذا السبب تُصنّف على أنها إحدى أفظع الصور في تاريخ الفنّ التشكيلي.
في هذا المشهد البانورامي الضخم نرى جيشا من الهياكل العظمية وهي تشقّ طريقها وسط إحدى المدن. الهياكل رمز للموت الذي يصطاد الأحياء ويقتلهم بلا تمييز ودون شفقة أو رحمة.
حتى التفاصيل الطبوغرافية للمكان لا تشي سوى بالموت والخراب: النهر، الشاطئ والنيران المشتعلة في البحر.
ووسط هذه الفوضى العارمة، يحاول الناس المذعورون الهرب بينما يقرّر بعضهم أن يقاتل، لكن بيأس.
التفاصيل في اللوحة كثيرة جدّا. ويخيّل للناظر أن الرسّام عاجز عن مواكبة الرغبة الهائلة التي يبديها رسُل الموت في القتل والتدمير.
الحرب هنا ليست عادلة ولا متكافئة. ويبدو أن لا سبيل لوقف جيش الموت من التقدّم وحصد المزيد من الأرواح.
كما أن الجيش الغازي لا يميّز بين الضحايا ولا يفرّق بين ملك أو فلاح أو نبيل أو رجل أو طفل أو امرأة. فالجميع مستهدفون.
كما أن جيش الموت بارع في تنويع طرق القتل، من قطع الأعناق إلى الشنق والإغراق في الماء والصلب وحتى استخدام الخوازيق المنصوبة في الهواء.
الطبيعة شبه محروقة. وبالكاد نلمح وجودا لشجرة أو نبات أو أي شيء يدلّ على حياة. وتبدو السفن مشتعلة أو غارقة في الميناء بينما ترتفع أعمدة الدخان من الأبراج التي تلوح من بعيد.
وبعض التفاصيل في اللوحة تعمّق الحضور الموحش والمشئوم للموت وتكرّس الإحساس باليأس الذي يثيره المنظر. التوابيت، أكداس العظام والجثث الملقاة على الأرض، الكلاب الضالّة التي تنهش الجثث، الهياكل التي تقود عربة محمّلة بالجماجم والشخص الذي يعزف الموسيقى وهو غير منتبه لما يجري.
ثم هناك الغرفة المستطيلة والغريبة الشكل إلى يمين اللوحة حيث يُحشر بداخلها الناس إلى حتفهم. ولا يبدو أن الصُلبان المرسومة حولها تقدّم وعدا بالخلاص أو البعث على نحو ما تبشّر الأفكار المسيحية.
ويُحتمل أن بريغل عمد إلى رسم الرموز الدينية في اللوحة لكي يضفي على المنظر إحساسا بالسخرية والعدمية وكأنه يقول أن لا مكان للحديث عن الدين والخلاص وسط كلّ هذه الوحشية والبشاعة.
لا يُعرف على وجه التحديد السبب الذي دفع بريغل إلى رسم هذه اللوحة.
لكنّ الثابت أن الرسّام عاش في عصر اتسم بكثرة الحروب والحملات العسكرية. وقبل ذلك شهدت أوربّا ذروة اشتداد المعارك والكراهية بين الكاثوليك والبروتستانت.
وهناك من يربط موضوع اللوحة بحادثة اكتساح جيوش اسبانيا للأراضي الهولندية وبالمناخ السياسي المتوتّر في أوربّا الذي سبق نشوب ما عُرف بحرب الثمانين عاما.
غير أن ثمّة من يقول إن اللوحة يمكن أن تكون تصويرا لأجواء الاضطراب الاجتماعي والرعب الذي أعقب انتشار مرض الطاعون القاتل في أجزاء واسعة من أوربّا أثناء القرون الوسطى.
بشاعة اللوحة منحت بريغل قدرا اكبر من الذيوع والشعبية في زمانه. رغم انه جاءت بعده حروب كثيرة ارتكبت فيها مجازر وفظائع اشدّ وأقسى مما صوّره في هذه اللوحة.
الموت، كفكرة دينية وفلسفية، كان موضوعا مفضّلا للكثير من الرسّامين لقرون عديدة.
في القرون الوسطى، كانت معدّلات الحياة أقصر مما هي عليه اليوم بسبب كثرة الحروب وانتشار الأوبئة والأمراض المعدية كالكوليرا والطاعون. ولهذا السبب ازدهرت الرسومات الدينية التي كانت تربط الموت بالدين.
وغالبا ما كانت هذه الرسومات تُعلّق في الكنائس والأديرة كنوع من العزاء والسلوى لجمهور المؤمنين ولتذكيرهم بالآخرة.
وفي بعض الأحيان كان الموت يأخذ شكل رجل يمتطي حصانا ذا هيكل عظمي. كما يظهر أحيانا ممسكا بمنجل مقوّس أو سيف وترس ويداه ممدودتان في إشارة إلى انتصاره على البشر.
وفي بعض اللوحات التي تعود إلى تلك الفترة يظهر الموت على هيئة امرأة بوجه شبحي وملابس سوداء.
وهناك نوع آخر من الرسومات التي تصوّر ملاك الموت على شكل امرأة شابّة لها جناحان ووجه تكسوه تعابير الرقّة والشفقة.
ومن أشهر الرسّامين الذين تناولوا الموت في أعمالهم ألبيرت ديورر وهيرونيموس بوش وإيغون شيلا وإدفارد مونك وألبرت رايدر وإيفلين دي مورغان.