من نحن؟ من أين أتينا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟
للفنان الفرنسي بـول غوغـان، 1897
يطرح غوغان في هذه اللوحة ذات الاسم الطويل ثلاثة أسئلة تختزل حيرة الإنسان وقلقه الوجودي وعجزه عن فهم الحياة.
كان الفنّان الفرنسي كان قد قضى جزءا من حياته في جزيرة تاهيتي حيث كان يعكف على رسم النساء الهنديات وتصوير مظاهر الحياة البدائية هناك.
وقد عُرف عنه أنه كان مثالا للفنان البوهيمي الذي عاش حياته طولا وعرضا ولم يؤمن يوما بسلطة التقاليد أو الأعراف الاجتماعية.
وطوال حياته، كان غوغان دائم السفر والتنقّل، ولم يهدأ أو يستقرّ أبدا. وقد أصبح نموذجا للفنان المتجوّل وحيدا والذي لا يتردّد في التضحية بحياته في سبيل فنّه.
غادر غوغان مجتمع المدنية الحديثة في باريس وأخذ طريقه وحيدا نحو البحار الجنوبية النائية بحثا عن الجنّة التي تغذّي روحه وتثري خياله وتروّض جموح نفسه الثائرة.
وقد وجد بغيته في تاهيتي. كانت تلك الجزيرة قد اكتُشفت على أيدي البريطانيين في القرن الثامن عشر. وفي نهاية القرن التاسع عشر أصبحت هي وغيرها من جزر بولينيزيا أرضا فرنسية.
وكانت تأثيرات الثقافة الغربية قد بدأت بتقويض التقاليد القديمة لسكّان تلك الجزر من هنود الماوري. لذا عندما وصلها غوغان، كانت قد فقدت جزءا من سحرها وبراءتها وصورتها الفردوسية التي طالما ارتسمت في مخيّلته.
ويقال إن غوغان حاول في إحدى المرّات الإقدام على الانتحار. حدث هذا قبيل رسمه هذه اللوحة التي يعتبرها الكثيرون تحفته الفنّية بلا منازع.
كان يعاني من تدهور حالته المادّية. وقد ساءت أموره أكثر بعد أن رفض مساعدة الحكومة له على أساس انه لا يقبل صدقة من أحد.
وفي الوقت نفسه كان الرسّام يعاني من آثار الإدمان على الكحول ومن إصابته بمرض الزهري الذي انتقل إليه على الأرجح أثناء إقامته في جزر المارتينيك.
غير أن الحدث الذي كان له تأثير مدمّر عليه كان موت ابنته وهي في سنّ الحادية والعشرين. وما زاد معاناته أكثر اتهام زوجته له بأنه وراء ما حدث بسبب تخلّيه عن واجباته تجاه بيته وعائلته.
وقد صُدم الفنان كثيرا بموت ابنته. ولم يلبث أن أعلن انه لم يعد بحاجة إلى الله وفقد اهتمامه كلّيا بالدين وأصبح يميل إلى الأفكار الفلسفية المتشائمة.
في سياق هذه الظروف رسم غوغان هذه اللوحة الضخمة التي هي أشبه ما يكون بشرح لنظرية التطوّر. إلى أقصى يسار اللوحة نرى مومياء قديمة تغطي أذنيها بيديها. وخلفها آلهة زرقاء من الحجر تشبه ملامحها آلهة الهنود.
والى أقصى اليمين ينام طفل على الأرض قد يكون أراده رمزا للحياة والبراءة. وعلى مقربة منه تجلس ثلاث نساء تاهيتيات.
وفي منتصف اللوحة من الأمام يظهر رجل شابّ وهو يقطف الفاكهة التي قد تكون رمزا لقصّة آدم وحوّاء. وعلى الأرض قطط وكلاب وطيور ونساء.
والمشهد كلّه يشي بنوعية حياة لا مكان فيها سوى للبدائية والبساطة.
ومن الواضح أن غوغان في هذه اللوحة، كما في لوحاته الأخرى، يتعامل مع البراءة والبدائية باعتبارهما الملاذ الوحيد أمام الإنسان للإفلات من قبضة الألم والمعاناة.
المكان الذي تصوّره اللوحة يجسّد جمال الطبيعة الاستوائية، حيث الشمس المتوهّجة والألوان الساحرة التي طالما جدّ غوغان في البحث عنها.
في اللوحة مجموعات من الناس وكلّ واحدة منهمكة في نشاط ما. في الخلفية يبدو نهر صغير ازرق لامع يمرّ عبر الغابة وجبال تلوح من بعيد وقد كساها ضباب خفيف. وإلى أقصى اليسار سيّدة عجوز تبدو وكأنها على وشك الموت، أي نقيض ما توحي به صورة الطفل في الجهة المقابلة من اللوحة عن الولادة واستمرارية الحياة.
وقد استوحى غوغان هيئة العجوز من تمثال محنّط جيء به من بيرو وشاهده في احد متاحف باريس.
كان غوغان دائم البحث عن الجمال النقي ليصوّره بأسلوب بدائي ألهم في ما بعد بيكاسو وترك أثره على ماتيس.
وقد كشف ذات مرّة أنه اعتمد في رسم الأجساد العارية في لوحاته على صور لأشخاص في معبد بوذا العظيم في اندونيسيا. وكان قد اشترى تلك الصور من باريس في إحدى السنوات واحتفظ بها معه بقيّة حياته.
هذه اللوحة تدعو الناظر إلى أن يتأمّل معنى الحياة من خلال الرموز التي وضعها الفنان فيها.
وهي تذكّرنا بلوحات أخرى تعالج نفس هذه الفكرة وتطرح تساؤلات وجودية وفلسفية عن كنه الحياة ومعنى الوجود، مثل رحلة الحياة لـ توماس كول ورقصة الحياة لـ إدفارد مونك.
ولوحات غوغان كلّها، تقريبا، تتناول الانفعالات والتأمّلات المتعلقة بالوجود الإنساني.
وفي بعض لوحاته تلك، ترتسم على وجوه النساء نظرات خالية من أيّ شعور أو عاطفة وكأنها انعكاس لنظرة الفنان نفسه المتشكّكة والحائرة.
بعد أن أكمل غوغان رسم هذه اللوحة، كتب إلى احد أصدقائه يقول: إنني متأكد أنني لن أرسم لوحة أفضل من هذه، ولا حتّى مثلها".
وبعد ذلك بأربع سنوات توفي إثر أزمة قلبية وهو في سنّ الرابعة والخمسين.
كان غوغان ينتمي لعائلة من الطبقة الوسطى. والده كان صحافيا وأمّه تنتمي إلى عائلة ارستقراطية تعود جذورها إلى بيرو بأمريكا الجنوبية.
ورغم أن غوغان مات فقيرا ومريضا ولم يحصل على التقدير الذي كان يستحقه في حياته، فإن لوحاته تباع اليوم بالملايين.
ومؤخّرا بيعت لوحته المسمّاة الأمومة بأكثر من تسعة وثلاثين مليون دولار أمريكي.