Monday, December 01, 2008

لوحات عالميـة - 180

بيغمـاليــون و غـالاتـيــا
للفنان الفرنسـي جـان ليـون جيــروم، 1890

كان بيغماليون، حسب ما يذكره اوفيد في كتاب التحوّلات، نحّاتا قبرصيا موهوبا وبارعا. لكنه كان كارها للنساء اللاتي كان يعتبرهنّ مخلوقات ناقصات ومعيبات. وقد ألزم نفسه بألا يضيّع وقته في مصاحبتهن، بل وأقسم ألا يتزوّج امرأة طوال حياته مفضّلا الفنّ على رفقة النساء.
غير انه في ما بعد صنع تمثالا على هيئة امرأة، كأنّما ليحاول من خلال التمثال إصلاح العيوب التي كان يراها في النساء الحقيقيات. كان التمثال آية في الجمال والروعة والإتقان. وكانت ملامحه تجسيدا لأكثر نساء العالم جمالا ومثالية وكمالا، كما كان يراها في مخيّلته وعقله. وكان من المدهش أن ملامح المرأة لا تشبه ملامح أيّ امرأة أخرى.
وشيئا فشيئا، وجد بيغماليون نفسه واقعا في حبّ التمثال الذي صنعه وأسماه غالاتيا. وأصبح يتعامل معه بعواطفه لا بالمطرقة والإزميل.
وكان يحدّق في المرأة لأيّام طويلة متأمّلا تضاريس جسدها وأعضائها المستديرة والناعمة. وكان يتحسّسها كي يتأكّد إن كانت حيّة، غير مصدّق أنها مجرّد تمثال من العاج.
وكان يتحدّث إليها الساعات الطوال ويلبسها أغلى الملابس ويجلب لها صدف البحر وأفخم الحليّ والمجوهرات.
وفي الليل كان يأخذ التمثال إلى سريره وينام معه.
التمثال نفسه كان هادئا، لم يكن يتكلم أو يناقش أو يثير المشاكل. وكان هذا يروق لـ بيغماليون ويناسب طبيعته.
وفي احد الأيام ذهب بيغماليون إلى الاحتفال السنوي الذي ترعاه أفرودايت آلهة الجمال، وطلب منها أن تهبه زوجة تشبه تمثاله.
وبعد أن عاد إلى البيت، قصد التمثال وطبع على فمه قبلة كما كانت عادته. لكنه فوجئ بأن الشفتين أصبحتا ساخنتين والنهدين طريّين والأطراف مرنة ليّنة. ولفرط المفاجأة تراجع بيغماليون إلى الوراء بذهول. وأيقن أن افرودايت منحته أعزّ أمنياته: أن يتحوّل التمثال الساكن إلى امرأة حقيقية من لحم ودم.
والتقت عيناه بعيني غالاتيا لأوّل مرّة وعرف كلاهما الحبّ ثم تزوّجا وأنجبا طفلا جميلا أسمياه بافوس، الذي سيطلق اسمه في ما بعد على إحدى مدن قبرص.
الفنان جان ليون جيروم (jeanleongerome.org) عُرف بمناظره الاستشراقية الفخمة. وقد استهوته قصة بيغماليون واختار أن يرسم اللحظة التي تدبّ فيها الحياة في غالاتيا وهي تمدّ يدها لتطوّق رأس بيغماليون وكأنها تصحو من سبات عميق.
وقد رسم الفنان لوحتين لنفس الموضوع؛ واحدة تصوّر غالاتيا من الأمام و الأخرى تصوّرها من الخلف.
بالإضافة إلى كونه رسّاما، كان جيروم نحّاتا أيضا. وفي نفس السنة التي رسم فيها اللوحتين، أنجز تمثالا يحكي عن نفس القصّة.
المنظر يحمل لمسة رومانسية واضحة. ويلاحظ دقّة الرسّام ومهارته في الإمساك بلحظة التحوّل في التمثال وكذلك براعته في إبراز الجسد المتحوّل بنعومة وانسيابية.
عندما نتأمّل في تفاصيل التمثال وفي الطريقة الناعمة والمحكمة التي صُوّر بها، لا بدّ وأن نتذكّر ما يقال أحيانا من أن العمل النحتي يستثير في المقام الأول حاسّة اللمس عند الإنسان، بخلاف الرسم الذي يتوجّه في الأساس إلى حاسّة الإبصار التي تميل إلى النظر إلى اللوحة والتمعّن في تفاصيلها.
أسطورة بيغماليون كانت ملهما للكثير من الأعمال الإبداعية المهمّة في الفن والأدب. ومن بين من تطرّقوا إليها الشاعر الألماني فريدريش شيللر والفيلسوف غوته والكاتب المسرحي الايرلندي جون برنارد شو الذي تحوّلت مسرحيّته عن بيغماليون إلى فيلم شهير بعنوان "سيّدتي الجميلة".
بعض الكتّاب يرون في أسطورة بيغماليون رمزا للفنان الواهب للحياة بتحويله الحجر البارد والساكن إلى كائن حيّ. والبعض الآخر يرى فيها رمزا لغموض الحياة وقابلية الأفكار لأن تتحوّل وتتغيّر.
جان ليون جيروم يغلب على رسوماته الطابع الأكاديمي. وقد عُرف بأسفاره إلى بلدان الشرق الأوسط حيث رسم لوحاته الشهيرة التي تصوّر جوانب من سحر الشرق وغرائبيّته.
في الأعمال الأدبية والفنية التي ناقشت أسطورة بيغماليون، كثيرا ما تثار تساؤلات فلسفية وسيكولوجية تتناول السبب الذي دفع بيغماليون إلى نحت امرأة طالما انه كان يكره النساء، ولماذا مثلا لم يصوّر شجرة أو رجلا أو حيوانا؟
ولماذا انصبّ اهتمامه على الشكل دون الجوهر عندما ركّز على الهيئة الخارجية للمرأة ولم يعر اهتماما لشخصيّتها وروحها الداخلية؟
وهل أحبّ بيغماليون غالاتيا لذاتها أم لأنها من صنع يديه ومخيّلته أم لأنها كانت مرآة لنفسه هو؟
وهل كانت المرأة تجسيدا لحلمه الخاص أم انعكاسا لإحساسه الشديد بالوحدة وحالة الخواء التي كان يحياها؟
وهل كان بيغماليون يعوّض عن فشله في التواصل مع النساء على المستوى الشخصي والجنسي من خلال نحته للتمثال الذي يسهل تطويعه والسيطرة عليه لانعدام قدرته على الرفض أو الممانعة؟
ثم هل يوجد بالأساس رجل كامل أو امرأة كاملة؟
وإلى أيّ مدى يمكن تصوّر علاقة بين رجل وامرأة خارج حدود الجنس الذي قيل إن بيغماليون كان يكرهه ويمقته؟
وهل كان بيغماليون باحثا عن الكمال فعلا، أم انه كان مجرّد شخص نرجسي يبحث عن امرأة ترتفع إلى مستوى رغباته ويثير من خلالها غيرة الآخرين وحنقهم؟
بعض الأعمال الأدبية المعاصرة تعاملت مع الأسطورة بشيء من التحوير والتعديل.
في أحدها، مثلا، عندما تُبعث الحياة في غالاتيا فإنها تصبح امرأة متبلّدة الأحاسيس وباردة المشاعر ترفض بيغماليون وتتمنّع عليه فلا يستطيع الظفر بها في النهاية.
وفي إحدى المسرحيات، يقوم بدور النحّات رجل متزوّج تشاطره زوجته اهتمامه بنحت تمثاله المسمّى هو الآخر غالاتيا..
لكنْ عندما يتحوّل التمثال إلى امرأة حقيقية، سرعان ما تدبّ الغيرة في قلب الزوجة فتقلب البيت رأسا على عقب. وعندما تخرج الأمور عن السيطرة، تدرك غالاتيا أنها كانت اسعد حالا في هيئتها الأصلية وتقرّر أن تتحوّل مرّة أخرى إلى تمثال.
في العقود الأخيرة، شاع كثيرا مصطلح "البيغماليونية" الذي أصبح مرادفا لحالة الانجذاب الجنسي إلى التماثيل والدمى والمانيكانات واللعب العارية.