Thursday, May 07, 2009

لوحات عالميـة - 194

تايتـوس فـي زيّ راهـب
للفنان الهولندي رمبـرانــدت، 1660

كان رمبراندت مفتونا كثيرا برسم الأطفال. وقد خصّص العديد من لوحاته لرسم ابنه الوحيد تايتوس الذي أتى إلى الحياة بعد وفاة ثلاثة من أبنائه. كان رمبراندت يحيطه بالكثير من العطف والرعاية، خاصّة بعد أن توفّيت والدته بعد أشهر قليلة من ولادته.
في بعض اللوحات يظهر تايتوس جالسا وهو يقرأ. وفي البعض الآخر وهو يرتدي ملابس أنيقة وقبّعة وسلسلة من ذهب. وهناك لوحة أخرى ُرسمت له عندما كان تلميذا صغيرا يظهر فيها جالسا إلى طاولة وممسكا بقلم وزجاجة حبر.
في هذه اللوحة نرى تايتوس بعد أن بلغ مرحلة النضوج وقد ارتدى ملابس ثقيلة من الصوف وغطاء رأس ذا حوافّ عريضة في مشهد مفعم بالتوق والجاذبية. وفيه نلمح ذلك البريق اللوني الأخّاذ الذي يشعّ من رسومات رمبراندت الذي كان بارعا في استخدام الألوان البنّية والداكنة والأضواء الساخنة التي تشعل الأجزاء الباردة من لوحاته بوهج الظلال الأرجوانية والذهبية والصفراء.
رسم رمبراندت هذا البورتريه وهو في أوج شهرته. في تلك الأثناء، كان تايتوس يطمح لأن يصبح رسّاما مثل والده. ويقال انه بدأ فعلا في تعليمه أبجديات قواعد الرسم. لكن لا ُيعرف على وجه التأكيد ما انتهت إليه تلك المحاولات.
عندما رسم رمبراندت هذا البورتريه كان واضحا انه أصبح مقتصدا في رسم مواضيعه الدينية المفضّلة وبات أكثر ميلا لرسم بورتريهات شخصيّة تتّسم بالتأمّل والحميمية.
ملامح وجه تايتوس الوسيم وتعابيره الحالمة وعيناه المسدلتان ووقفته التأمّلية تؤشّر إلى أن اللوحة ُرسمت بقدر كبير من الرّقة والحساسية والعاطفة. وقد اختار رمبراندت أن يخلع على ابنه هنا هيئة ناسك ايطالي اسمه فرانسيس يقال انه هجر الدنيا وعاش حياة تقشّف وزهد بعد أن وهب نفسه لله وتخلّى عن كلّ ما كان يملكه للفقراء والمحتاجين.
بعد وفاة زوجته، أي والدة تايتوس، وجد رمبراندت بعض العزاء والراحة في كنف خليلته هندريكا التي قامت على رعايته ورعاية ابنه وكانت مثالا في الإخلاص والوفاء. ويُعتقد أنها الموديل التي استخدمها في رسم لوحته الشهيرة باثشيبا Bathsheba المأخوذة عن قصّة من العهد القديم.
ومنذ سنوات، اكتشف العلماء ما اعتبروه أحد أسرار عبقرية رمبراندت وعظمته. فقد توصّلوا، اعتمادا على تحليل البورتريهات التي رسمها لنفسه أمام المرآة، إلى أن الرسّام كان مصابا بأعراض الاكستروبيا، وهو اعتلال يصيب العين وُيعرف عند العامّة بالعين الكسولة. ومن المفارقات الغريبة أن ذلك العيب أفاد رمبراندت وجعله يرى العالم بشكل مختلف. وبحسب ما يقوله العلماء، كانت عينه اليسرى ترى بانحراف قدره عشر درجات عن المركز؛ الأمر الذي ساعده على أن يرى الأشياء من حوله بصورة مسطّحة وليس بشكل ثلاثي الأبعاد كما اعتادت أن تراه العين السليمة والمتوازنة.
في العام 1663 ضرب الطاعون هولندا فحصد أرواح عشرات الألوف من الناس وكان من بين ضحاياه هندريكا الوفية. وبعد ذلك بخمس سنوات عاود الوباء الظهور ليخطف معه هذه المرّة روح تايتوس الذي لم يكن قد مضى على زواجه سوى بضعة أشهر. كان عمره آنذاك لا يتجاوز السادسة والعشرين.
وبعد ذلك بأقلّ من عام، أي في الرابع من أكتوبر 1669، توفي رمبراندت بعد أن كانت زوجتاه وجميع أبنائه قد توفّوا. ولم يكن عند سريره في لحظاته الأخيرة سوى ابنته الوحيدة كورنيليا التي أنجبها من هندريكا.
وقد مات فقيرا معدما ودفن في قبر مجهول بإحدى كنائس امستردام القديمة.
كان رمبراندت بإجماع غالبية النقاد ومؤرّخي الفن ظاهرة استثنائية يندر أن تتكرّر. وقد استقطبت حياته وفنّه اهتمام العديد من الكتّاب وظهر عدد لا يحصى من المؤلفات والكتب التي تتحدّث عن مظاهر عبقريّته وعن مكانته الرائدة في تاريخ الفنّ التشكيلي العالمي.
ويمكن اعتبار رسوماته سجلا مصوّرا عن تاريخ وثقافة هولندا خلال القرن السابع عشر.

Tuesday, May 05, 2009

لوحات عالميـة - 193

يـدان مرفوعتـان بالـدعـاء
للفنان الألماني البـريخـت ديورر، 1508

بعض الأعمال التشكيلية تشدّك بحمولتها الروحية وبمغزاها الإنساني العميق رغم بساطة شكلها الظاهري.
وهذه اللوحة مثال على ذلك. يكفي القول أنها تعتبر إلى اليوم إحدى أكثر اللوحات الفنية استنساخا في العالم. يشهد على ذلك ظهورها الدائم والمتواتر في العديد من الوسائط والأماكن المختلفة.
فهي كثيرا ما تظهر معلّقة في البيوت والمكاتب وعلى بطاقات التهاني بالمناسبات الدينية وعلى الميداليات والتذكارات والكتب والملصقات وقطع الأثاث. بل إن العديد من الأفراد يعمدون إلى نقش صورتها على أجسادهم تيمّنا وتبرّكا برمزيّتها الدينية.
كما استوحى فكرة اللوحة العديد من المثّالين الذين نحتوا أعمالا رخامية ومعدنية على هيئة اليدين المرتفعتين بالدعاء فيها.
وأهمّ ما يلفت الانتباه في اللوحة الدقّة والبراعة المتناهية التي ُرسمت بها تفاصيل وأجزاء اليدين، وهي سمة ُتميّز ديورر الذي اشتهر بقوّة الملاحظة واهتمامه الكبير بدراسة تشريح الجسد وشكل ووظائف الأعضاء.
ومن القصص التي راجت وانتشرت بين الناس أن الفنان رسم اللوحة كبادرة عرفان منه تجاه شقيقه الذي اختار أن يذهب للعمل في احد المناجم كي ينفق عليه، أي على الرسّام، الذي كان يدرس آنذاك في أكاديمية الفنون الجميلة في نوريمبيرغ.
كان البريخت واحدا من ثمانية عشر شقيقا يعولهم أبوان ينتميان للطبقة الاجتماعية الفقيرة. ولأنّ الأسرة لم تكن تملك المال الكافي لتحقيق رغبة البريخت في دراسة الرسم، فقد تطوّع ذلك الشقيق للعمل بتلك المهنة الخطرة كي يسدّد مصاريف الدراسة.
البريخت ديورر رسم في الواقع يدين تعلوهما التشوّهات التي لحقت بها بسبب طبيعة العمل المنهك والشاقّ في المنجم. فعظام الأصابع النحيفة تبدو ملتوية وعلى اليد اليمنى آثار الإصابة بالروماتيزم أو آلام المفاصل التي تلازم عادة من يعمل بتلك المهنة.
في ما بعد انتقلت هذه اللوحة إلى عهدة احد النبلاء الألمان الذي أمر بوضعها في احد الأديرة. ويقال إن الدير تعرّض في ما بعد إلى حريق أتى على كافّة موجوداته، ولم تنجُ من التلف سوى هذه اللوحة.
عندما دخل ديورر كلّية الفنون، سرعان ما اظهر تميّزا على أقرانه، بل لقد كان منافسا حتى لأساتذته الذين بهروا بموهبته وتفانيه.
وقد رسم مئات البورتريهات والاسكتشات والعديد من الأعمال المحفورة على الخشب والحديد والموجودة اليوم في عدد من متاحف العالم الكبيرة.
والغريب أن الفنان أكمل رسم هذه اللوحة في فترة لم تتجاوز بضعة أشهر، ومع ذلك أصبحت على مدار القرون الخمسة اللاحقة إحدى التحف الفنية الكبيرة وتحوّلت مع مرور السنوات إلى مصدر إلهام للكثير من الفنانين والناس العاديّين.