يـدان مرفوعتـان بالـدعـاء
للفنان الألماني البـريخـت ديورر، 1508
بعض الأعمال التشكيلية تشدّك بحمولتها الروحية وبمغزاها الإنساني العميق رغم بساطة شكلها الظاهري.
وهذه اللوحة مثال على ذلك. يكفي القول أنها تعتبر إلى اليوم إحدى أكثر اللوحات الفنية استنساخا في العالم. يشهد على ذلك ظهورها الدائم والمتواتر في العديد من الوسائط والأماكن المختلفة.
فهي كثيرا ما تظهر معلّقة في البيوت والمكاتب وعلى بطاقات التهاني بالمناسبات الدينية وعلى الميداليات والتذكارات والكتب والملصقات وقطع الأثاث. بل إن العديد من الأفراد يعمدون إلى نقش صورتها على أجسادهم تيمّنا وتبرّكا برمزيّتها الدينية.
كما استوحى فكرة اللوحة العديد من المثّالين الذين نحتوا أعمالا رخامية ومعدنية على هيئة اليدين المرتفعتين بالدعاء فيها.
وأهمّ ما يلفت الانتباه في اللوحة الدقّة والبراعة المتناهية التي ُرسمت بها تفاصيل وأجزاء اليدين، وهي سمة ُتميّز ديورر الذي اشتهر بقوّة الملاحظة واهتمامه الكبير بدراسة تشريح الجسد وشكل ووظائف الأعضاء.
ومن القصص التي راجت وانتشرت بين الناس أن الفنان رسم اللوحة كبادرة عرفان منه تجاه شقيقه الذي اختار أن يذهب للعمل في احد المناجم كي ينفق عليه، أي على الرسّام، الذي كان يدرس آنذاك في أكاديمية الفنون الجميلة في نوريمبيرغ.
كان البريخت واحدا من ثمانية عشر شقيقا يعولهم أبوان ينتميان للطبقة الاجتماعية الفقيرة. ولأنّ الأسرة لم تكن تملك المال الكافي لتحقيق رغبة البريخت في دراسة الرسم، فقد تطوّع ذلك الشقيق للعمل بتلك المهنة الخطرة كي يسدّد مصاريف الدراسة.
البريخت ديورر رسم في الواقع يدين تعلوهما التشوّهات التي لحقت بها بسبب طبيعة العمل المنهك والشاقّ في المنجم. فعظام الأصابع النحيفة تبدو ملتوية وعلى اليد اليمنى آثار الإصابة بالروماتيزم أو آلام المفاصل التي تلازم عادة من يعمل بتلك المهنة.
في ما بعد انتقلت هذه اللوحة إلى عهدة احد النبلاء الألمان الذي أمر بوضعها في احد الأديرة. ويقال إن الدير تعرّض في ما بعد إلى حريق أتى على كافّة موجوداته، ولم تنجُ من التلف سوى هذه اللوحة.
عندما دخل ديورر كلّية الفنون، سرعان ما اظهر تميّزا على أقرانه، بل لقد كان منافسا حتى لأساتذته الذين بهروا بموهبته وتفانيه.
وقد رسم مئات البورتريهات والاسكتشات والعديد من الأعمال المحفورة على الخشب والحديد والموجودة اليوم في عدد من متاحف العالم الكبيرة.
والغريب أن الفنان أكمل رسم هذه اللوحة في فترة لم تتجاوز بضعة أشهر، ومع ذلك أصبحت على مدار القرون الخمسة اللاحقة إحدى التحف الفنية الكبيرة وتحوّلت مع مرور السنوات إلى مصدر إلهام للكثير من الفنانين والناس العاديّين.