Friday, November 14, 2008

لوحات عالميـة - 177

صــوت سيـّـده
للفنان البريطاني فرانسـيس بــارود، 1897

بعض الأفكار قد تبدو غريبة وغير مألوفة. لكنها يمكن أن تكون مصدرا للإلهام الذي يحقق لصاحبه الثراء أو الشهرة، أو كليهما.
وهذه اللوحة توفر مثالا على ذلك. يكفي القول أنها عاشت لأكثر من مائة عام وما تزال مشهورة كثيرا بعد أن تحوّلت إلى ماركة تجارية لعدد من كبريات شركات الصوتيات في العالم.
ومن عوامل شهرة اللوحة، بالإضافة إلى طرافة موضوعها، إسمها الموحي والجميل.
وقصّة اللوحة تعود إلى نهايات القرن قبل الماضي.
كان شقيق فرانسيس بارود قد توفي قبل وقت قصير من رسمها. وقد ورث عنه فرانسيس كلبه الصغير وجهاز فونوغراف من صنع شركة إديسون الأمريكية، بالإضافة إلى بعض التسجيلات التي تحمل صوت شقيقه المتوفى.
وكان من عادة فرانسيس بارود أن يستمع من وقت لآخر إلى صوت أخيه في جهاز الفونوغراف الموصّل بمايكروفون.
وقد لاحظ أن الكلب يقترب من المايكروفون ويصدر بعض الهمهمات الغريبة ويهزّ ذيله انتشاءً وطربا كلما سمع صوت سيّده الراحل.
تكرّر هذا الأمر كثيرا. وكان الفنان يراقب سلوك الكلب بالكثير من الحيرة والاندهاش. ولم تلبث الفكرة أن اختمرت في رأسه، فرسم لوحة للكلب وهو يستمع باهتمام إلى الصوت المنبعث من جهاز التسجيل.
وفي أحد الأيّام، أخذ بارود اللوحة إلى الرويال أكاديمي لعرضها هناك. غير أن محاولته رفضت. ثم عرضها على شركة إديسون وفي ذهنه احتمال أن تبتاعها الشركة منه لاستخدامها في الترويج لجهاز الفونوغراف الذي تنتجه.
لكن ردّ الشركة جاء مخيّبا لآماله، بعد أن قيل له إن اللوحة غير ذات موضوع وأن الكلاب لا تستمع إلى الموسيقى.
ومرّ وقت ليس بالقصير كان بارود خلاله قد صرف النظر عن فكرة بيع اللوحة وفقد كلّ أمل في أن يجد من يشتريها.
لكن بعد أشهر، أبدت شركة "غرامافون" البريطانية اهتمامها بالصورة، واشترطت على الفنان لشرائها استبدال صورة الفونوغراف بأحد أجهزة تشغيل الأصوات التي تصنعها.
ثم اشترت اللوحة والاسم بمبلغ لا يتجاوز مائة جنيه استرليني.
وقد استخدمت الشركة اللوحة كعلامة تجارية لها وظهرت في جميع إعلاناتها وطبعتها على ملصقاتها وأوراقها الرسمية وتسجيلاتها.
وما تزال اللوحة الأصلية معلقة إلى اليوم في مكاتب شركة EMI العالمية للصوتيات التي ورثت شركة غرامافون القديمة.
مع مرور الأيّام، تحوّلت صورة الكلب إلى رمز من رموز الثقافة الشعبية والاستهلاكية وظهرت في العديد من الإعلانات والدعايات. كما ظهرت على أغلفة عدد من المنتجات الموسيقية من بينها ألبوم غنائي للمطربة كريستينا اغيليرا.
يذكر أن الكلب مات عام 1895 أي قبل ظهور اللوحة بعامين. وبعد خمسين عاما على رحيله، بادرت شركة غرامافون إلى تكريمه وإحياء ذكراه في حفل مهيب انتهى بوضع لوحة نحاسية على قبره في إحدى حدائق لندن.
أما فرانسيس بارود فقد توفي عام 1924 عن عمر يقارب السبعين.
الجدير بالذكر أن الكلاب كانت دائما موضوعا مفضّلا لدى شركات الدعاية والإعلان.
وإذا كان فرانسيس بارود قد جعل الكلب يستمع إلى الموسيقى والأصوات، فإن بعض شركات الإعلان مشت خطوة أبعد من ذلك عندما جعلت الكلاب في إعلاناتها تعزف الموسيقى وتلعب البوكر وتدخّن السيغار وهي ترتدي ملابس غاية في الترتيب والأناقة.

Tuesday, November 11, 2008

لوحات عالميـة - 176

ديكـور منـزلـي وامـرأة شـابـّة
للفنـان الدانمـركي وليـام هَمَـرشُـوْي، 1904

ترتبط الدانمرك في الأذهان بجملة من الأشياء والانطباعات. ففيها أقدم نظام ملكي في العالم. وهي بلد قبائل الفايكنغ والملك هاملت والكاتب هانس كريستيان اندرسون والفيلسوف الوجودي كيركغارد. كما أنها بلاد شمس منتصف الليل وتمثال عروس البحر الصغيرة وليالي الشتاء الباردة والطويلة بما تثيره من إحساس بالحزن والوحدة والكآبة.
ومن بين من كتبوا عن الدانمرك الأديب البريطاني في إس نيبول الحائز على جائزة نوبل للأدب والذي أقام في الدانمرك فترة.
يقول: إذا كنت مهتمّا بالذهاب إلى مكان مرعب فأوصيك بالدانمرك. هناك لا أحد يجوع، والناس يعيشون في بيوت صغيرة وجميلة. لكن لا احد غنيّ. ولا أحد يملك فرصة أن يعيش حياة باذخة. وكلّ شخص مكتئب!
إنهم يعيشون في زنازين محكمة التنظيم مع مفروشاتهم الدانمركية ومصابيح الإضاءة الأنيقة التي بدونها يمكن أن يصابوا بالجنون".
وبصرف النظر عمّا إذا كان كلام نيبول صحيحا أو أن فيه شيئا من المبالغة الساخرة، فإنه يمكن القول إن لوحات وليام همرشوي، أكبر وأشهر رسّام دانمركي بل واسكندينافي، تقدّم صورة واقعية إلى حدّ كبير عن طبيعة الحياة في الدانمرك. كما أنها تشكّل انعكاسا لشخصية هذا الفنان ونمط شخصيته. فقد كان همرشوي إنسانا خجولا، متكتّما وغامضا مثل لوحاته. وبخلاف هذا، لا تتوفر الكثير من المعلومات عنه. لكن من المرجّح أنه عاش حياة مريحة بفضل خلفيته البورجوازية واشتغال والده بالتجارة.
وأجواء رسوماته تذكّرنا بلوحات مواطنه الفنان كارل هولسو Carl Holsoe وبلوحات كلّ من يوهان فيرمير وإدوارد هوبر.
في هذه اللوحة الجميلة يرسم همرشوي زوجته "آيدا"، وهي بنفس الوقت الموديل التي تظهر في جميع لوحاته.
وهي هنا تبدو واقفة وظهرها للناظر، أي أننا لا نرى ملامح وجهها ومن ثمّ يصعب التعرّف على طبيعة انفعالاتها في تلك اللحظة.
لكن بوسع المرء أن يكتشف أننا أمام منظر ينفتح على عالم من الصمت والسكون ويثير إحساسا بالعزلة والتذكّر الحزين.
حتى الديكور نفسه ساكن، بارد ومنعزل. والألوان في اللوحة هي ألوان همرشوي المفضّلة دائما، أي ذلك المزيج المتدرّج والناعم من الرمادي والأسود والأبيض.
ورغم أناقة هذه الألوان وتناغمها الرقيق والشائك، فإنها لا تعمل إلا على تعميق الإحساس بالهجر والانفصال والكآبة.
لكن المشهد شاعري وحالم إلى حدّ ما. تنظر إلى هذه المرأة، بجسدها الضئيل وفستانها الداكن وانحناءة رأسها الخفيفة، فيخيّل إليك أنها تعيش في عالم آخر يتجاوز حدود الفضاء الفيزيائي الضيّق الذي تقف فيه.
ومع ذلك، فهي تبدو مطرقة، حزينة، جامدة وشاردة الفكر.
قد يكون السبب أنهما - أي الفنان وزوجته - لم يرزقا بأطفال أبدا. ويقال إن همرشوي تزوّج "آيدا" كي يستنقذها من معاملة والدتها التي كانت تعاني من اضطرابات سلوكية.
وهناك احتمال بأن تكون قد ورثت عن أمّها ذلك الجانب المظلم من شخصيّتها.
ومع ذلك كانت العلاقة بين الزوجين تتسم دائما بالمحبّة والدفء والألفة.
ويقال أنها وقفت إلى جانبه بتفان وإخلاص عندما أصيب بالسرطان، واستمرّت تلازمه وترعاه حتى وفاته في سنّ الحادية والخمسين.
وقد أنجز الفنان جميع لوحاته في نفس المنزل الذي عاشا فيه طوال حياتهما.
وما يزال البيت قائما إلى اليوم، لكنه أصبح في عهدة مالك آخر.
كان همرشوي مهتمّا في لوحاته، وبشكل خاص، بتمثيل الضوء الذي كان يرى انه يمنح الأشياء الجامدة حياة ويخلع عليها هويّة وكينونة خاصّة بها.
وافتتانه بالضوء ليس بالأمر الغريب أو المفاجئ. فمعظم رسّامي شمال أوربّا كانوا يرون في الضوء نوعا من الاحتفاء بالحياة وانبعاث الأمل. وكانوا مغرمين برسم تلك اللحظات العابرة التي تشرق فيها الشمس مشيعة بعض الحرارة والدفء قبل أن يخيّم الظلام والبرد مرّة أخرى ومعهما ذلك الإحساس الغامض الثقيل بالحزن والانقباض.
وفي العديد من لوحاته، نرى نفس المرأة إمّا واقفة أو جالسة بهدوء وهي تؤدّي بعض الأعمال المنزلية. وكثيرا ما تظهر صورة لآلة بيانو ولوحة معلقة بطريقة أنيقة على الجدار. في حين تأخذ الملابس والديكور والمعمار بعض سمات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وفي بعض أعماله الأخرى نلمس إحساسا عظيما بالفراغ، عندما يرسم مناظر لغرف خالية إلا من تأثير الضوء المتسرّب عبر النوافذ والمنعكس على ذرّات الغبار المتطايرة، وبعض الأثاث الذي يبدو بسيطا متقشفا. ولطالما اعتقد همرشوي أن الغرف تنطوي على جمال متأصّل وخاصّ حتى مع عدم وجود بشر فيها، وربّما بالتحديد عندما لا يكون فيها بشر.
ومن خصائص لوحاته أنها محدودة الأبعاد، أحادية اللون وكثيرا ما تستعصي على التفسير. لكنها مع ذلك مثيرة للاهتمام بطبيعتها الشاحبة وجمالها اللامع.
وهناك من النقاد من يصفون لوحاته بأنها قصائد صامتة. ويصحّ القول أنها نوع من الجمال الحزين أو الحزن الجميل.
ومن الواضح أن مشاهده الساكنة والحزينة هي نتاج عفوي ومباشر لروحه ومشاعره الشفافة، أكثر من كونها مستندة إلى نظريات أو أطر فنية معدّة مسبقا.
وفي السنوات الأخيرة، ازداد الاهتمام بـ همرشوي ولوحاته، وتضاعف ذلك الاهتمام أكثر إثر قيام تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية بإنتاج برنامج وثائقي نادر عن الفنان وأعماله.
إن ثمّة شيئا ما غامضا يجذب الإنسان إلى لوحات همرشوي بتفاصيلها الغريبة وألوانها الهادئة والمحايدة. شيء ما أعمق بكثير من مسألة الشكل والتكنيك أو الأسلوب الفني الذي يوظفه في أعماله.
ومن المحزن أنه لم يترك وراءه أي مذكّرات أو كتابات يتحدّث فيها عن نفسه بعد أن أتلف مجموعة رسائله الخاصة قبيل وفاته عام 1916م. ولعله فعل هذا متعمدّا كي لا يتعرّف عليه الناس مباشرة، بل يكتفوا بالبحث في لوحاته عن مفاتيح وإشارات قد تدلّهم على طبيعة شخصيّته وأفكاره ونظرته للحياة.
إن من يتأمّل مناظر همرشوي ويتمعّن في ألوانها المرهفة وتفاصيلها البديعة، لا بدّ وأن يعجب به ويتعاطف معه ويقتنع أكثر فأكثر أنه كان إنسانا مختلفا وفنانا متميّزا جدّا.

موضوع ذو صلة: ليالي الشمال الحزينة