Saturday, November 05, 2005

لوحـات عالميـة – 72


تمثـال كيـوبيـد و سايـكـي
للنحّات الإيطالي انتونيـو كانـوفــا، 1796

كان انتونيو كانوفا نحّاتا ورسّاما كبيرا. وفي عصره كانت النزعة السائدة هي إحياء التراث الأسطوري القديم وإعادة إنتاجه من جديد على هيئة أعمال تشكيلية ونحتية.
وفي تلك الفترة التقى كانوفا في نابولي الكولونيل الاسكتلندي جون كامبل الذي عُرف باهتمامه بالفنون وبخاصّة النحت.
وقد كلّف كامبل كانوفا نحت تمثال يكون رمزا لانتصار الحبّ ويعكس بعض السمات والخصائص الإنسانية.
واتفق الاثنان على موضوع التمثال الذي استقر الرأي في النهاية على أن يكون تجسيدا لحكاية أسطورية ورد ذكرها لأوّل مرّة في أحد كتب الأديب اليوناني القديم أبوليوس.
وكانت نتيجة ذلك الاتفاق هذا التمثال الذي أصبح في ما بعد أحد أفضل وأشهر الأعمال النحتية في العالم.
كان كيوبيد "أو ايروس" هو إله الحب والرغبة عند الرومان. بينما كانت سايكي رمزا للروح التي تأخذ هيئة امرأة فائقة الجمال.
تقول الأسطورة إن كيوبيد كان يزور سايكي في الليل فقط وانه كان قد منعها من النظر إلى وجهه. وفي إحدى الليالي وبدافع الفضول، حملت بيدها مصباحا وتسلّلت إلى الغرفة التي كان ينام فيها محاولة اختلاس نظرة إلى وجهه.
وكانت تتوّقع أن ترى شخصا قبيح الخلقة. لكنها رأت مخلوقا راعها جماله الأخّاذ ووسامته الفائقة. وما فعلته سايكي استحقت عليه غضب افرودايت إلهة الجمال التي حكمت عليها بالنوم الأبدي الذي لم يخلّصها منه سوى عناق كيوبيد لها.
و كانوفا يصوّر في التمثال لحظة العناق تلك بأسلوب شاعري جميل. حيث يظهر كيوبيد وهو يطوّق سايكي بذراعيه بعد أن منحها قبلة الحبّ التي أنعشتها وأعادت إليها الوعي، بينما تضع هي في كفّه فراشة رمزا للصفاء والحبّ.
كان عمر كانوفا عندما بدأ العمل في التمثال لا يتجاوز الثلاثين. وما أن انتهى منه بعد ستّ سنوات حتى كان الفرنسيون قد احتلّوا روما وقرّروا نقل التمثال إلى باريس.
يتميّز هذا التمثال بخطوطه الإيقاعية الناعمة وبتناغم وديناميكية حركة الشخصيّتين وباللمسات الزخرفية الرقيقة التي أضافها النحّات إلى التمثال.
هناك أيضا طريقة الفنان البارعة في تمثيل النظرات المتبادلة والإيماءات التي تبدو مترابطة ومتناغمة.
والحقيقة أن كلّ تفصيل في هذا التمثال البديع يشير إلى براعة وإتقان منقطعي النظير. وقد أصبح في ما بعد مصدر إلهام للعديد من الفنّانين، كما استُنسخ طيلة القرن التاسع عشر.
بعد أن اشتهر التمثال خارج ايطاليا وفرنسا، طلب الأمير الروسي نيكولا يوسوبوف من كانوفا عمل نسخة أخرى معدّلة منه. وهي اليوم موجودة في متحف الارميتاج في سانت بيترسبيرغ.
وتحت تأثير إعجاب الروس بموهبة كانوفا عرضوا عليه مرارا الذهاب إلى موسكو والإقامة فيها بشكل دائم. لكنه رفض كلّ تلك العروض والإغراءات وفضّل البقاء في ايطاليا.
بعد سنوات، أي بعد زوال حكم نابليون، اُرسل كانوفا إلى باريس للشروع في إعادة الكنوز الفنّية التي نهبها الفرنسيون من ايطاليا.
لكن لم يكن بالمستطاع نقل التمثال وإعادته إلى ايطاليا خوفا من أن يتعرّض للتلف أثناء الطريق. وقد انتقل في وقت لاحق من عهدة الحكومة الفرنسية إلى متحف اللوفر حيث ظلّ فيه إلى اليوم.
ولد انتونيو كانوفا في فينيسيا لعائلة فقيرة. وفقد والديه وهو ما يزال طفلا. ثم انتقل للعيش في كنف جده. ومنذ صباه كان يُظهر ميلا للنحت. وقد خدمه الحظّ كثيرا عندما تعرّف على احد أعيان فينيسيا الذي عهد به إلى اثنين من أشهر النحّاتين في ذلك الوقت للعمل على تدريبه وصقل موهبته.
وفي السنوات الأخيرة من حياته أحيط بالكثير من الرعاية والتكريم وعُدّ احد النبلاء. كما قُلّد عددا غير قليل من الأوسمة والجوائز اعترافا بمكانته وعبقريته.
ومن أشهر أعماله النحتية الأخرى "فينوس وأدونيس" و"هكتور وأياكس" و"الفضائل الثلاث" وسواها.
الجدير بالذكر أن أسطورة كيوبيد وسايكي ظلّت منذ القدم مصدر إلهام للكثير من الشعراء والأدباء والفلاسفة.
وهناك أعمال فنّية، تشكيلية ونحتية، عديدة مستمدّة من هذه الأسطورة، لعلّ أشهرها لوحة الفنان الفرنسي فرانسوا جيرار بنفس الاسم.

Saturday, October 29, 2005

لوحـات عالميـة – 71


مولــد فيـنــوس
للفنان الفرنسي الكسنـدر كابـانيــل، 1863

ظلت أسطورة فينوس موضوعا مفضّلا للعديد من الفنانين عبر العصور المتعاقبة.
ومن اشهر الأعمال التي صوّرت الأسطورة هذه اللوحة لـ الكسندر كابانيل والتي عُرضت لاوّل مرّة في صالون باريس العام 1863 واهّلت الفنان لنيل الميدالية الذهبية.
في ذلك الوقت، لم يكن الجمهور الفرنسي قد صحا بعد من الصدمة التي سبّبتها لوحة اوليمبيا لـ مانيه، بنظراتها الجريئة وجسدها المكشوف.
لكن رغم ذلك، فقد اعتُبرت فينوس كابانيل مثالا للايروتيكية المقبولة. فهي، مقارنةً بلوحة مانيه، مثالية إلى حدّ ما وخالية من العيوب ومن شعر الجسد، كما أنها تبدو لا مبالية جنسيا وبلا شخصية إلى حدّ كبير.
هذا القدر المحسوب من الحسّية التي ضمّنها كابانيل لوحته، وكذلك البعد التاريخي والأسطوري للقصّة، كانا عاملين اسهما في تقريب اللوحة من الطبقات الاجتماعية العليا.
ومن الواضح أن كابانيل التزم بالعناصر التفصيلية الرئيسية لـ فينوس كما وردت في الأسطورة. فالآلهة تبدو متمدّدة على موج البحر الذي ُيفترض أنها ولدت منه. وفوقها تحوم كوكبة من ملائكة الحبّ "كيوبيد". وهي تفصح عن سحرها ومفاتنها، ولكن حسب قواعد العرف الايروتيكي السائد حينئذ.
دخل كابانيل صالون باريس وعمره لا يتجاوز العشرين، وبعد سنتين فاز بالمركز الثاني في جائزة روما ومكّنه ذلك من اخذ دروس إضافية في الفنّ الكلاسيكي.
وعندما عرض لوحته، كان الفنان قد حظي بشهرة واسعة وحصد العديد من الجوائز.
لوحة مولد فينوس تشكّل مثالا ِحرَفيا ورائعا لأسلوب عصر النهضة والقرن التاسع عشر.
وقد بادر نابليون الثالث فور عرض اللوحة إلى شرائها وضمّها إلى مجموعته الشخصية. وفي نفس تلك السنة ُعيّن كابانيل أستاذا في مدرسة الفنون الجميلة في باريس، كما كلفه نابليون الثالث ولودفيغ الثاني ملك بافاريا برسم أعمال فنية لحسابهما.
رسم كابانيل مولد فينوس بعد عشر سنوات من إنجاز آنغر للوحته المحظيّة الكبرى.
ورغم الاختلاف الواضح بين اللوحتين فإن العامل المشترك بينهما ربّما يكون تعمّد الفنانين إظهار الملامح الجمالية من خلال إطالة الأعضاء والعنق لابراز انسيابية الخطوط.
كان كابانيل خصما قويّا للانطباعيين، وخاصّة مانيه، وكان موقفه ذاك يتماهى مع موقف المؤسّسة الأكاديمية التي كانت تعارض الاتجاهات التجديدية في الفنّ، رغم أن ذلك الموقف أدّى في النهاية إلى تقليص نفوذ المؤسّسة وتهميش دورها.
أما الانطباعيون فكان كابانيل يمثل بالنسبة لهم رمزا للفنّ الأكاديمي الذي كانوا يحتقرونه ويتهمونه بالجمود والماضوية.
ورغم أن لكابانيل لوحات عديدة أخرى تعالج مفردات الحياة العامة والأحداث التاريخية، فإن الخبراء والنقاد ظلوا يتجاهلونها.
وإذا كان هناك اليوم من يتذكّر الكسندر كابانيل، فإن ذلك بسبب هذه اللوحة بالذات.

Friday, October 28, 2005

لوحـات عالميـة – 70


صبــي و غليــون
للفنان الإسباني بابلـو بيكـاســو، 1905

أهميّة هذه اللوحة تكمن في أنها اللوحة الأغلى مبيعا في العالم حتى الآن. فقد ابتاعها في العام الماضي زبون مجهول بمبلغ 104 ملايين دولار في مزاد سوذبي بنيويورك.
وقد كسرت هذه اللوحة الرقم القياسي السابق الذي سجّلته لوحة فان غوخ الشهيرة دكتور غاشيه التي اشتراها مليونير ياباني بمبلغ 82 مليونا ونصف المليون في العام 1990.
"صبي و غليون" تنتمي للمرحلة الوردية وقد رسمها بيكاسو في عام 1905 وعمره 24 عاما. واللوحة تصوّر صبيّا باريسيا كان يتردّد على مرسم بيكاسو في مونمارتر. وفيها يبدو الصبي مرتديا ملابس زرقاء ومطوّقا رأسه بباقة من الورد وممسكا بيده اليسرى غليونا.
وكان جون ويتني سفير الولايات المتحدة في بريطانيا قد اشترى اللوحة في عام 1950 بمبلغ 30 ألف دولار فقط.
يقول بعض النقاد إن اللوحة ترمز للغموض وجمال الشباب الذي أهّلها لان تكون إحدى اكثر لوحات بيكاسو تقديرا واحتفاءً. فيما يميل البعض الآخر إلى القول بأن السعر الذي بيعت به اللوحة له علاقة باسم الفنان اكثر من كونه اعترافا بجدارة اللوحة أو أهميتها التاريخية. إذ أن لبيكاسو لوحات اكثر أهمية لكنها لم تحقق حتى نصف هذا السعر عند بيعها.
وثمة من يجادل بأن اللوحة تحتوي على عناصر جمالية واضحة رغم أنها لا تنتمي للأسلوب التكعيبي الذي ابتكره بيكاسو وبرع فيه وحفظ له مكانة مميّزة في تاريخ الفن التشكيلي العالمي.
بيكاسو له أربع لوحات هي من بين أغلى عشر لوحات في العالم، ويليه مباشرة فان غوخ بثلاث.
وفي السنوات الأخيرة، أصبحت المتاحف الفنية الكبرى تبدي اهتماما وحرصا ملحوظين على اقتناء وشراء اشهر اللوحات الفنية، وأكثر المتاحف تفضّل الاحتفاظ بتلك اللوحات لأجل غير مسمّى.

موضوع ذو صلة: ليلة مع بيكاسو

Wednesday, October 26, 2005

لوحـات عالميـة – 69


بورتريه للفنان في سن السادسة والعشرين
للفنان الألماني البـريخـت ديورر، 1498

كان البريخت ديورر فنانا وشاعرا ورحالة. وإن كانت شهرته كفنّان هي الغالبة.
ورغم انه رسم العديد من اللوحات، فإن هذا البورتريه الذي رسمه لنفسه في العام 1498 هو أحد اشهر أعماله واكثرها انتشارا ودلالةً على تميّزه الفني.
ويرى بعض النقاد أن ديورر هو أهمّ فناني عصر النهضة الشمالية. وقد مكّنه العيش في نورمبيرغ، أي في منتصف المسافة بين هولندا وايطاليا، من العثور على الإلهام الذي كان ينشده في أعمال رموز مركزي الفنّ الأوربي الكبيرين في ذلك الوقت.
ولم يكتفِ الفنان بتقليد أعمال الفنانين الكبار، بل حاول دائما ابتكار أساليب فنية جديدة.
على أن أهمّ سمة في فنّ ديورر هو تنوّع مهاراته الفنية. فبالإضافة إلى الرسم، كان نقاشا ونحّاتا بارعا على الخشب.
في هذا البورتريه، يقف الفنّان بطريقة مستقيمة وواثقة، مميلا يده اليمنى إلى الطاولة. وهو هنا يرتدي قفّازين وسترة أنيقة بنّية اللون بحوافّ سوداء، وتحتها قميص مطرّز. وقد ثبّت الفنان فوق رأسه قبّعة ذات خطوط بنية وسوداء ملامسةً أعلى اللوحة. بينما راح الضوء يتسرّب إلى الغرفة تاركا وهجا على وجه الفنان وشعره المتموّج الطويل.
والى جواره هناك نافذة تطلّ على منظر طبيعي في جبال الألب. وفي هذا تذكير برحلاته الكثيرة إلى روما والبندقية وغيرهما من حواضر شمال وغرب أوربا.
أما الوجه فمرسوم بأسلوب واقعي وبراعة واضحة. وملامحه هنا وطريقة وقوفه تذكّر إلى حدّ كبير باللوحات التي تصوّر المسيح. وربّما أراد الفنان أن يقول إن موهبته مستمدّة من الله الذي خلق المسيح والإنسان على هيئته.
قبيل وفاته عن 57 عاما، رسم ديورر لوحته "رجل الأحزان"، وفيها يظهر المسيح بملامح وجه الفنان وبجسده الذي أصابه الضعف والبلى بفعل الشيخوخة وتقدّم العمر.

Tuesday, October 25, 2005

لوحـات عالميـة – 68


بورتـريه للفنـانـة بقبّعـة من القـشّ
للفنانة الفرنسية لويـز فيجـي لـو بـران، 1790

ولدت لويز فيجي لو بران في باريس وتتلمذت على يد والدها الفنان. وبفضل ما كانت تتمتّع به من ثقافة وحضور وجمال، اصبح لها نفوذ كبير داخل أروقة السياسة في فرنسا الملكية خلال القرن التاسع عشر، رغم أنها كانت تنتمي في الأساس للطبقة الوسطى.
برزت لو بران خصوصا في رسم البورتريه وحققت الكثير من الشهرة والغنى. وفي العام 1778 تعرّفت على الملكة ماري انطوانيت التي قرّبتها منها وعيّنتها رسّامة للبلاط.
وفي 1783 أصبحت الفنانة عضوا في الأكاديمية الملكية التي كانت عضويتها حتى ذلك الحين مقتصرة على الفنانين من الرجال.
كانت لو بران فنانة غزيرة الإنتاج، فقد رسمت عشرات البورتريهات للملكة وأفراد عائلتها وللنبلاء الأوربيين ولها شخصيا.
لكن في العام 1789 اضطرّت لمغادرة فرنسا بسبب قيام الثورة وعلاقتها الوثيقة بماري انطوانيت. وقد وصمتها الثورة بالعمالة لـ "النظام البائد" وسارع زوجها إلى تطليقها لحماية ممتلكاته من المصادرة. وخلال سنوات النفي سافرت إلى ايطاليا والمانيا والنمسا وحققت هناك المزيد من الحضور والشهرة. وفي 1802 سمح لها الحكم الجديد بالعودة إلى البلاد بعد الضغوط والمطالبات التي تقدّم بها زملاؤها.
كانت لو بران امرأة جميلة وذكيّة وموهوبة. وقد عاشت 87 سنة قضت 20 منها مع صديقتها المقرّبة ماري انطوانيت.
وبورتريهاتها تتميّز بأناقتها اللافتة وبغنى ألوانها ودقّة تفاصيلها التي لا تخلو من رومانسية.
في هذا البورتريه الجميل الذي رسمته لنفسها، تبدو فيجي لو بران امرأة حقيقية وفنانة أصيلة. وهي هنا تقف بثقة، ممسكة بعدّة الرسم والالوان، ومرتدية زيّا حديثا وقبّعة من القشّ.
في اللوحة لا بودرة ولا مكياج ولا شعر مرتّب بعناية. وهو نفس الأسلوب التي أخذته لو بران معها إلى البلاط الملكي. حتى في البورتريهات التي رسمتها لـ ماري انطوانيت، تبدو الملكة في هيئة بسيطة، وهي سمة تتناقض كليّا مع ما كان يُشاع عن الملكة من بذخ وإسراف. وقبّعة القشّ البسيطة التي ترتديها الفنانة لا تدلّ بالضرورة على الفقر، بدليل ظهور القرطين النفيسين اللذين تضعهما في أذنيها.
ومثل ماري انطوانيت التي كانت تروج الشائعات عن مغامراتها العاطفية ومجونها، كانت فيجي لو بران هي الأخرى موضوعا للكثير من الشائعات، إذ يقال بأنها كانت تنام مع الرجال الذين كانت ترسمهم.
عاشت لو بران في عصر كانت تغلب عليه الأفكار القائلة بذكورية الفن. ومع ذلك استطاعت أن تتحدّى تلك المفاهيم وان تؤسّس لنفسها وجودا مستقلا. وأصبحت في ما بعد اشهر فنانة امرأة رسمت البورتريه. وفي العصور اللاحقة اصبح اسم فيجي لو بران يظهر جنبا إلى جنب مع أسماء كبار الفنانين من الرجال الذين برزوا في رسم البورتريه من أمثال رمبراندت و غينسبورو و سارجنت وسواهم.
بورتريه فيجي لو بران هو اليوم من ضمن مقتنيات الناشيونال غاليري بلندن.

Friday, October 21, 2005

لوحـات عالميـة – 67


تمثــال ديـفيـــد
للفنان الايطالي ميكيل انجيـلو، 1504

عمل آخر يجمع النقاد والمؤرّخون على اعتباره واحدا من اعظم الأعمال النحتية على مرّ العصور.
في العام 1501 تم تكليف ميكيل انجيلو بنحت تمثال ديفيد (داود) لتُزَيّن به كاثدرائية فلورنسا. ومن اجل هذا الغرض، ُأعطي الفنان كتلة ضخمة من الرخام للعمل عليها وتشكيلها لانجاز المهمة.
وعندما شرع ميكيل انجيلو في العمل، أزاح جانبا كافة الأساليب التقليدية التي كانت متبعة من قبل في تنفيذ الأعمال النحتية.
وعندما أنجز الفنان التمثال، قرّرت لجنة من الأعيان وكبار الفنانين وضعه في الميدان الرئيسي للمدينة. وكانت تلك هي المرة الأولى التي ُيعرض فيها تمثال لرجل عارٍ في مكان عام.
وقد تعمّد ميكيل انجيلو ألا يصوّر ديفيد بهيئة الرجل المنتصر الممسك برأس العملاق غالاياث Goliath (أو جالوت في الأدبيات الإسلامية) بيده والسيف باليد الأخرى، بل اختار تصوير ديفيد في اللحظة التي سمع فيها أن قومه وقعوا فريسة للخوف والتردّد في مواجهة صلف غالاياث الجبّار وإمعانه في احتقارهم والاستهزاء بهم.
ميكيل انجيلو صوّر ديفيد في افضل وضع ممكن، محاكيا أساليب نحاتي الإغريق في تصوير أبطالهم ورموزهم الملحمية.
فـ "ديفيد" ينظر من فوق كتفه الأيسر نظرة تحدّ وجسارة إلى الجهة الأخرى حيث يقف غالاياث. وقد ُترك الجانب الأيمن من التمثال ناعما ومصقولا، بينما اختار الفنان أن يضفي قدرا من النشاط والديناميكية على الجانب الأيسر، ابتداءً من القدم صعودا حتى الشعر الاجعد. أما العضلات والأربطة فلا تبدو نافرة أو بارزة سوى بالقدر الذي يعطي الناظر انطباعا عن قوّة إرادة البطل ورباطة جأشه.
فور عرض التمثال، بادر مواطنون غاضبون برشقه بالحجارة، لا لأنه كان عاريا، بل لأنهم رأوا فيه رمزا لجمهورية فلورنسا التي كانت خارجة على حكم آل ميديتشي. ومع ذلك صمد التمثال في مكانه واعتُبر على الدوام رمزا ايقونيا لفلورنسا الصغيرة ولأفكارها الجمهورية، في مواجهة خصمها الأكبر عائلة ميديتشي ومناصري الملكية.
في العام 1873 ُنقل التمثال من مكانه إلى غاليري الأكاديمية لحمايته، وفي العصور اللاحقة خضع للعديد من عمليات الترميم التي أثار بعضها نقاشات حادّة ما بين مؤيّد ومعترض.
ومؤخرا احتفل الإيطاليون بمرور 500 عام على إنجاز تمثال ديفيد، وأحيوا المناسبة بالألعاب النارية والحفلات الموسيقية والمعارض الفنية والندوات التي تناولت كل جانب من جوانب هذه التحفة الفنية الخالدة بالشرح والنقاش والتحليل.
وما يزال ميكيل انجيلو نفسه يتمتّع بنفس الشهرة التي كان يتمتّع بها في العام 1501 ، إذ يتقاطر على فلورنسا سنويا اكثر من مليوني شخص لالقاء نظرة على تمثال الرجل العاري ذي الملامح الجميلة والتفاصيل الدقيقة والقوام الضخم (اكثر من ستة أطنان).
إن أهمية تمثال ديفيد بالنسبة لعصر النهضة هي انه كان يشكّل قطيعة مع التراث اللاهوتي المسيحي الذي كان يصوّر الإنسان باعتباره كائنا مسيّرا وفاسدا وضعيفا لا يملك من أمر نفسه شيئا، وأن على الإنسان أن يتطلع بكليّته إلى الحياة الأخروية التي تمثّل السعادة والحقيقة والكمال. ولم يكن مصادفة أن الإنسان كان ُيصوّر في القرون الوسطى كوحش مشوّه يتطلع إلى تحرير روحه من اسر الخطيئة الأصلية من خلال الموت الطقوسي والعنيف.
وتمثال ديفيد، بما ينطوي عليه من رموز ودلالات وعبَر، هو نقيض للأفكار القدرية، وهو افضل تعبير عن رؤية عصر النهضة للإنسان. فالراعي الشاب "ديفيد" قرّر باختياره الواعي أن يقاتل عدوّا أقوى منه لكي ينقذ قومه من الهلاك وسلاحه في ذلك مقلاع وعصا وبضعة أحجار، واستطاع في النهاية قهر خصمه والحاق الهزيمة به من خلال سلطة العقل وقوة الإرادة والتصميم.

Wednesday, October 19, 2005

لوحـات عالميـة – 66


جـزيـرة المـوتــى
للفنان السويسري ارنـولـد بوكـليـن، 1880

في هذه اللوحة الشهيرة، نرى رجلا متّشحا بالبياض وقاربا شبحيا يعبر مياها مظلمة باتّجاه جزيرة صخرية.
وفي القارب هناك ما يشبه الكفن، وعلى مسافة قصيرة منه نرى صخرتين عملاقتين تظهر وسطهما مجموعة من الأشجار بدت أشبه ما يكون بأشباح عملاقة تحرس المكان.
رسم ارنولد بوكلين هذه اللوحة في العام 1880 وهو في سن الرابعة والسبعين بناءً على طلب ماريا بيرنا، وهي سيّدة إيطالية كان زوجها قد توفي للتّو. وقد طلبت من الفنان رسم لوحة تصوّر تجربة الموت وتجسّد حالة الفقد التي كانت تمرّ بها.
وقد ظلت اللوحة بلا اسم إلى أن أطلق عليها أحد متعهّدي الفنّ اسم "جزيرة الموتى" بعد ثلاث سنوات من إتمامها. أما بوكلين نفسه فقد كان يسميها "جزيرة الصمت".
والحقيقة أن الفنان لم يقدّم شرحا لمعنى اللوحة ولا الرمز الذي تنطوي عليه. وكان معروفا عنه نفوره من إطلاق تسميات على لوحاته أو إعطاء شروحات لمضامينها.
عاش بوكلين، المولود في بازل بسويسرا، معظم حياته في إيطاليا. وكان مفتونا بمناظر الطبيعة، لكنه كان متأثرا أيضا بأفكار الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه. وربّما كان سبب اختياره العيش في إيطاليا انجذابه للطبيعة والآثار.
هذه اللوحة كانت مصدر الهام لعشرات الكتاب والفنانين والشعراء. فقد ألف الموسيقي الروسي الشهير سيرغي رحمانينوف سيمفونية بنفس الاسم يمتزج فيها الحنين بالرؤى المظلمة. كما استعار الكاتب روجر زيلازني اسم اللوحة ليضعه عنوانا لاحدى رواياته. وفي العام 1945 ُانتج فيلم سينمائي بنفس الاسم.
في ألمانيا التي زارها في ما بعد، تمتّع الفنان برعاية ملك بافاريا، كما تمّ تعيينه أستاذا للفنون بأكاديمية فيمار التي عمل بها سنتين.
لكنه ما لبث أن عاد مجدّدا إلى إيطاليا ليبدأ رسم هذه اللوحة التي تعتبر اكثر أعماله رمزيةً ورؤيوية.
ويقال بأن الفنان قد يكون استمدّ أجواء اللوحة من زيارته لجزيرة ايشيا ومقابر البندقية.
في لوحات بوكلين الأخرى طبيعة فانتازية وحوريات بحر ومخلوقات أسطورية مجنّحة. وقد كان الفنان على ما يبدو منجذبا كثيرا إلى ظواهر ما فوق الطبيعة، تماما مثل كاسبار فريدريش، لكنه كان متفوقا على هذا الأخير في مسحة التشاؤم والسوداوية التي تطغى على لوحاته.
كان بوكلين يردّد دائما أن اللوحة يجب أن يكون لها معنى كالشعر، وأن تترك انطباعا في نفس المشاهد، تماما مثلما تفعل الموسيقى والشعر.
في السنوات الأخيرة من حياته بدأ الفنان يضمّن لوحاته استعارات ورموزا مزعجة عن مواضيع الموت والظلام.
ويرى النقاد أن رموز ودلالات مشاهد بوكلين الشبحية سبقت ظهور المدرسة الرمزية في الفن، بل وسبقت ما ُسمّي بالتصوير الفرويدي الذي طبع معظم فنّ القرن العشرين.
الجدير بالذكر أن لوحة "جزيرة الموتى" هي اليوم من ضمن مقتنيات متحف المتروبوليتان في نيويورك.

موضوع ذو صلة: جزيرة الموتى

Friday, October 14, 2005

لوحـات عالميـة – 65


امـرأة تقشـر التفّــاح
للفنان الهولندي بيـتر دي هــوك، 1663

تعتبر هذه اللوحة أحد أهمّ واشهر الأعمال الفنية في تاريخ الفن الهولندي. رسم بيتر دي هوك امرأة تقشر التفاح في العام 1663، وتصوّر مشهدا منزليا من ذلك العصر، تظهر فيه امرأة مع طفلتها وهي منهمكة بتقشير التفاح.
أهم سمات هذه اللوحة هي التكنيك الفريد الذي استخدمه الفنان في تعاطيه مع الضوء، إذ نرى الضوء يتسلل عبر النافذة ليغمر الجزء المظلم من ديكور الغرفة. هذا الملمح الخاص دفع بعض مؤرخي الفن في البداية للاعتقاد بأن صاحب اللوحة هو يان فيرمير الذي عُرف عنه اهتمامه بالمناظر المنزلية وبراعته في تمثيل الضوء. لكن في ما بعد رجحت وجهة النظر الأخرى التي تعزو اللوحة إلى بيتر دي هوك الذي كان متأثرا في ما يبدو بأسلوب فيرمير.
ولد هوك في دلفت بهولندا وتتلمذ على يد كارل فايريتيوس. وفي الفترة من 1650 – 1660 أنجز هوك افضل أعماله الفنية التي أهلته للقب شاعر المناظر المنزلية الأكبر في هولندا. ولم ينافسه على هذا اللقب سوى فيرمير الذي كان ينتظم معظم لوحاته نمط واحد ومحدّد يتمثل في رسم امرأة وحيدة تقف أو تجلس في إحدى زوايا الغرفة، بخلاف دي هوك الذي كان يرسم مناظر عائلية جماعية.
نساء هوك هنّ في الغالب إما زوجات أو أمّهات أو خليلات، بصحبة أطفال وخدم.
وبشكل عام فإن لوحات الفنان تستمدّ موضوعاتها من مفردات البيت الهولندي من فراغات وملابس وديكورات وشبابيك يتسرّب منها الضوء لينعكس على الجدران والأثاث والأرضيات. ويمكن القول أن لوحات الفنان، بشكل عام، تقدّم صورة مصغّرة لما كانت عليه منازل الهولنديين في القرن السابع عشر.
من غير المعروف على وجه القطع تاريخ وفاة دي هوك، غير أن من شبه المؤكّد انه توفي في سن الخامسة والخمسين بعد أن قضى السنوات الأخيرة من حياته في مصحّ للأمراض العقلية.

Wednesday, October 12, 2005

لوحـات عالميـة – 64


المونـاليــزا
للفنان الإيطالي ليــونــاردو دافـنـشـي، 1506

الموناليزا أو الجيوكاندا هي اشهر لوحة في تاريخ الفن بلا منازع. وبسبب هذه اللوحة، توارت الجوانب الأخرى التي شكّلت شخصية الفنان الكبير ليوناردو دافنشي. فنادرا ما يتذكّره أحد اليوم باعتباره مهندسا أو نحّاتا أو رياضيا أو فلكيا بارزا.
ما تبقّى من دافنشي اليوم وما حفظ اسمه في سجلّ الخالدين هو إبداعه لهذه اللوحة بالذات، التي طغت شهرتها أحيانا كثيرة على شهرة الفنان الذي أبدعها.
وقد ظلت الموناليزا مثارا للكثير من النقاشات والدراسات الأكاديمية التي لم تترك جانبا من جوانب هذا العمل الفني الفريد إلا وتعرضّت له بالنقد والدراسة والتمحيص.
وقد قام العديد من الفنانين التشكيليين بتعديل وتغيير ملامح المرأة التي تصوّرها اللوحة التي تستقرّ اليوم في متحف اللوفر بباريس، من اجل خدمة فكرة ما أو غاية سياسية أو اجتماعية معينة.
وكمثال على ذلك، ما فعله الفنان السوريالي الفرنسي مارسيل ُدوشان الذي رسم موناليزا بشاربين وملامح ذكرية، محاولا بطريقة ساخرة ترجمة كلام سيغموند فرويد الذي أشار إلى غموض فكرة الجندر عند دافنشي وزعم أن الفنان ربما كان مثليا، جنسيا، وأنه عندما رسم اللوحة لم يرسم في واقع الأمر سوى نفسه.
وهناك فنانون آخرون أعادوا رسم اللوحة بأسلوب ينحو باتجاه "أنسنة" موناليزا ونزع المسحة الميثيولوجية عنها وجعلها اقرب إلى روح ومزاج الطبقة الوسطى، عبر تقويض الأعراف والقواعد الصارمة التي كانت تتّبع في رسم البورتريه إبان عصر النهضة الأوربي.
الحديث عن قصة الموناليزا ودافنشي متشعّب وطويل، وهناك العديد من المواقع الإليكترونية المكرّسة للحديث عن اللوحة والفنان بإسهاب وتوسّع اكثر..

موضوع ذو صلة: نساء في الرسم

Tuesday, October 11, 2005

لوحـات عالميـة – 63


عــربـة القــشّ
للفنان البريطاني جـون كونستـابـل، 1821

لوحة أخري من اكثر الأعمال الفنية شهرةً واحتفاءً في بريطانيا. رسم جون كونستابل عربة القشّ في العام 1821، وفيها يصوّر منظرا طبيعيا في مقاطعة سافولك حيث ُولد ونشأ.
كان كونستابل يهتمّ بتصوير مظاهر الحياة في الريف الإنجليزي، وقد قضى سنوات عديدة مسافرا في أرجاء الريف ومتأملا جمال الطبيعة ومترجما مشاهداته إلى لوحات وألوان تنبض بالحياة.
في اللوحة تظهر عربة يجرها حصانان وهي تمشي الهوينا عبر مياه النهر. وفي المروج البعيدة إلى أقصى اليمين ظهرت مجموعة من دارسي القشّ وهم يعملون. في هذه اللوحة تتجلى مقدرة الفنان في توزيع الألوان والظلال والكتل والتحكّم بدرجات الضوء، كما تظهر براعته الفائقة في تمثيل الغيوم على نحو خاص.
عند عرض اللوحة لاول مرة لم تلاق ِ كبير استحسان في بريطانيا. لكن بناءً على إلحاح صديقه الفرنسي متعهّد الفنون، قام جون كونستابل بنقل اللوحة إلى فرنسا. وفي صالون باريس حظيت بإعجاب ملك فرنسا الذي منح الفنان ميدالية ذهبية تقديرا لموهبته.
أثناء حياته لم يحقق جون كونستابل سوى القليل من الشهرة في بلده. ولم يلفت أسلوبه الكلاسيكي في رسم مناظر الطبيعة انتباه الكثيرين. لكنه اليوم يعتبر أحد اكثر الفنانين البريطانيين تميّزا، بل يمكن اعتباره اعظم فناني بريطانيا الذين تخصّصوا في تصوير الطبيعة أثناء الحقبة الرومانسية.
بعض النقّاد يشيرون إلى أن طريقة تمثيل كونستابل للطبيعة تذكّر إلى حدّ كبير بتفاصيل الطبيعة التي تتضمنها قصائد وليام ووردزوورث اشهر شعراء بريطانيا الرومانسيين.
كان كونستابل زميلا للفنان جوزيف تيرنر أثناء دراستهما في الأكاديمية الملكية، لكنهما لم يصبحا صديقين أبدا. وقد كان كونستابل يرفض التصوير البانورامي للطبيعة، بل كان يفضّل الإمساك بتأثيرات الضوء المتغيّر وأشكال الغيوم المتحرّكة في سماء الريف. لذا لم يكن مستغربا أن ُيلقب بـ "فنّان الغيم".
توفي جون كونستابل في العام 1837، والى اليوم ما يزال الكثير من تفاصيل المواقع، التي تضمّنتها هذه اللوحة وغيرها من أعماله، ماثلة للعيان.

Saturday, October 08, 2005

لوحات عالميـة – 62

العــروس
1950 ،للفنّان الروسي مـارك شاغـال

من أهم الخصائص التي تميّز لوحات مارك شاغال تلك المسحة من السوريالية والفانتازيا التي تخاطب اللاوعي، وميل الفنّان إلى تضمين أعماله بعض اللمسات الشاعرية التي لا تخلو من غرابة أحيانا.

ولد شاغال في روسيا، وكان اكبر أخوته التسعة. وفي الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، هاجر إلى فرنسا حيث قضى في باريس بقيّة حياته. هناك درس أعمال كبار الرسّامين في ذلك الوقت واطلع عن كثب على المدارس التكعيبية والسوريالية والوحشية قبل أن يحدّد السمات الخاصّة والمتفرّدة التي أصبحت علامة فارقة للوحاته.
وقد نقل الفنان في الكثير من أعماله جوانب من ذكرياته عن مظاهر الحياة في قريته الروسية الصغيرة حيث ولد. كما ضمّن بعضها الآخر تفاصيل لأحداث مرّ بها في حياته الخاصّة.

لوحة العروس يعتبرها النقّاد احد أفضل أعمال شاغال وأكثرها شهرة. وهي تصوّر فتاة في ثوب زفاف احمر لامع، وبيدها باقة من الورد.
في هذه اللوحة تتجلّى مقدرة الفنّان في اختياره المتميّز للّون والشكل. وهي صفة اكتسبها من التعبيرية الروسية، التي زاوج في باريس بينها وبين الأسلوب التكعيبي الفرنسي.
بالإضافة إلى الفستان الأحمر القشيب، هناك الوشاح الأبيض المنسدل على رأس الفتاة. أما خلفية اللوحة فهي عبارة عن مزاوجة فريدة بين الألوان الرمادية والزرقاء.
والجانب الفانتازي في المشهد يبدو جليّا في صورة الخروف الذي يعزف الموسيقى، والسمكة التي تضرب على ما يشبه الدفّ، والرجل الواقف عند رأس الفتاة محاولا في ما يبدو تعديل الوشاح على رأسها لجعلها تبدو في صورة أحسن.
وفي الزاوية البعيدة ثمّة بناء ربّما كان كنيسة، على اعتبار أن الكنيسة عنصر أساسي في مراسم الزواج. المعروف انه تمّ توظيف هذه اللوحة في أعمال أدبية وشعرية وموسيقية مختلفة، كما ظهرت في مشاهد من أفلام سينمائية كان آخرها فيلم نوتنغ هيل.

شخوص شاغال، من عمّال وعشّاق وموسيقيين وحيوانات وأزهار، تجريديون. لكنْ يمكن التعرّف عليهم وتمييزهم بسهولة. ورسوماته مرحة ومليئة بالعاطفة كما أنها تركّز على الجوانب الخفيفة والايجابية من الحياة.
وهو لم يكن من الرسّامين الذين يحرصون على تغيير أساليبهم وتقنياتهم مع مرور الوقت. غير انه مع ذلك نجح في ابتكار لغة جديدة من الأشكال المشوّهة والألوان الغنيّة والاستعارات الشاعرية التي طوّعها لتصوير العالم من حوله ببساطة حالمة وبكثير من الحنين والشغف والبراءة.
كان شاغال يستخدم الكثير من الوسائط. كما برع في تناوله للسيراميك والموزاييك والزجاج المعشّق. ومن أشهر مشروعاته الديكورية سقف دار الأوبرا في باريس وجدارياته في أوبرا المتروبوليتان في نيويورك.

شاغال كان شخصا متفائلا ومحبّا للحياة. البيوت الصغيرة والبسيطة في لوحاته ومشاهد عازفي الكمان والعشّاق الذين يحتضن بعضهم بعضا في إطار من الألوان الجميلة والزاهية، كلّ ذلك يجعل من كلّ واحدة من لوحاته نشيدا للفرح والاحتفاء بالحياة.

وقد اجتذبته باريس التي كانت في ذلك الوقت مدينة للثقافة والحرّية والحداثة. كانت باريس في السنوات المبكّرة من القرن العشرين مدينة جاذبة للفنّانين والمبدعين من كلّ أنحاء العالم.

المعروف أن شاغال كان يهتمّ كثيرا بتصوير المشاهد الدينية، وله العشرات من الأعمال الفنية التي تستند في مضامينها إلى قصص من الإنجيل والعهد القديم. ومع ذلك، يصعب كثيرا تصنيف شاغال ووضعه ضمن تيّار فنّي محدّد. فهو يبدو فريدا وخاصّا ولا يشبه أحدا. لكن بعض منتقديه يجدونه عاطفيا أكثر من اللازم ويكرّر نفسه.

والذين كتبوا سيرته يقولون انه ابتكر لغة صورية سجّل من خلالها بعض لحظات الإثارة والرعب التي حفل بها القرن العشرين. كما أن لوحاته تؤشّر إلى انتصار الحداثة وتحوّل الرسم إلى أداة للتعبير عن المشاعر الداخلية. وقد مسّته هو شخصيا بعض فظاعات الحرب أثناء فترة الحربين العالميتين والثورات والاضطهاد العرقي والنفي . في ذلك الوقت، لجأ العديد من الفنّانين الكبار إلى التجريد كوسيلة للهروب من الواقع، بينما فضّل شاغال أن يحوّل تجاربه ومعاناته إلى صور فورية وبسيطة ورمزية يمكن أن يستجيب لها كل إنسان.

Wednesday, October 05, 2005

لوحـات عالميـة – 61


نـوم العقـل يوقـظ الوحــوش
للفنان الإسباني فرانشيسـكو دي غــويا، 1799

يعتبر فرانشيسكو دي غويا أحد كبار روّاد الفن الحديث الذين ظهروا خلال القرن التاسع عشر.
تميّز نتاجه الفني الذي امتدّ طوال اكثر من ستين عاما بالتنوّع والغزارة. وقد جرّب غويا الأساليب الكلاسيكية في بدايات احترافه للرّسم، لكنه تحوّل إلى الرومانسية التي طبعت جزءا مهمّا من أعماله.
ولد في ساراغوسا بإسبانيا وتتلمذ على يد خوسيه لوزان الذي تعلّم منه الرسم وتقليد أعمال الفنانين الكبار. ثم لم يلبث أن سافر إلى إيطاليا ليتعلّم فيها أساليب الروكوكو الزخرفية.
كان الفنان يتمتّع بشعبية كبيرة عند العامة، وعاصر ثلاثة أجيال من ملوك إسبانيا وكان مقرّبا من أوساط السّلطة ومراكز النفوذ. ورغم ذلك، فقد ظلّ غويا على خلاف مع البلاط والنظام الملكي والكنيسة. والكثير من لوحاته لم ترَ النور إلا بعد وفاته، لأنها اعتبرت مضادّة للأعراف الدينية والممارسات السياسية التي كانت سائدة في عصره.
ُعرف عنه ميله إلى ملاحظة السلوك الإنساني وتمثيل الطبيعة البشرية في لوحاته بأسلوب لا يخلو من السخرية والرؤى الفنتازية.
في العام 1799 رسم غويا مجموعة من 48 لوحة اسماها "الـنـزوات Los Caprichos"، كرسّها للسخرية من النبلاء ورجال الدين وكشف شرور وآفات المجتمع. وعندما عرض غويا مجموعته للبيع، سرعان ما تمّ سحبها بأمر من محاكم التفتيش الإسبانية، إذ كانت إحدى تلك اللوحات تصوّر مشهدا لاحد ضحايا تلك المحاكم، الأمر الذي كان يشي بتعاطف الفنان مع الضحايا ومعارضته للفظائع التي كانت ُترتكب في ذلك الوقت.
ومن بين لوحات تلك المجموعة حظيت هذه اللوحة بالذات بشهرة واسعة وأصبحت في ما بعد من أهمّ الأعمال الفنية في تاريخ الفن الأوربي. وفيها يظهر رجل نائم وقد أسند رأسه ويديه إلى طاولة بينما نحّى قلمه جانبا. وخلف الرجل تظهر مجموعة من البوم والخفافيش الضخمة وهي تصفق بأجنحتها وتصيح. كما يظهر في اللوحة وحشان غريبا الهيئة أحدهما رابض على الأرض وقد صوّب نظراته الشرّيرة إلى الرجل بينما قفز الآخر على ظهره وعيناه تلمعان في الظلمة.
وعلى مقدّم الطاولة التي ينام عليها الرجل ُكتبت عبارة: إذا نام العقل استيقظت الوحوش". هذه اللوحة اعتبرت ترجمة بسيطة ومباشرة لأفكار غويا الذي كان يحترم العقل ويؤمن بحرية الفكر ويدعو إلى نبذ الجهل والخرافة.
عاش غويا حياة تعيسة في غالبها، فقد مات سبعة من أبنائه قبل أن يبلغوا سنّ النضوج، كما تعرّض هو نفسه لأزمات صحية خطيرة، ثم ماتت زوجته. وكل تلك المآسي تركته هزيلا مشوّش الفكر يعاني الفقر والإحساس بالمرارة طوال السنوات الأخيرة من حياته.
وقبيل موته في سن الثانية والثمانين، أصيب غويا بالاكتئاب فاعتزل الناس ولزم بيته، وبدأ يرسم على جدران منزله ما ُعرف في ما بعد باللوحات السوداء، وهي سلسلة من الرؤى الكابوسية التي توجّها في النهاية بلوحته الشهيرة "ساتيرن يفترس أبناءه".

موضوع ذو صلة: غويا.. نوم العقل

Saturday, October 01, 2005

لوحـات عالميـة – 60


عالــم كـريستـينـا
للفنان الأمريكي انـدرو وايــت، 1948

ُتعتبر هذا اللوحة إحدى أشهر وأكثر اللوحات احتفاءً في تاريخ الفن الأمريكي.
وقد رسمها اندرو وايت لجارته كريستينا اولسون. كانت كريستينا تعاني من إعاقة جسدية منذ صغرها اثر إصابتها بمرض غامض في العظام.
ومع مرور السنوات كان الشلل يزداد وطأةً، إلى أن أصبحت غير قادرة على الوقوف أو المشي.
وقد رسم وايت هذه اللوحة في العام 1984، وتبدو فيها كريستينا مرتديةً فستانا زهريا وهي تزحف عبر الأعشاب باتجاه أعلى التلّ لزيارة قبري والديها.
والى يمين اللوحة إلى أعلى، تبدو شبابيك منزل عائلة اولسون التي رسمها الفنان على هيئة أعين أو "أجزاء من الروح" كما كتب في ما بعد، وكأن كل شبّاك يمثل فصلا مختلفا من حياة كريستينا.
كانت كريستينا اولسون قد عاشت في ذلك البيت مع أبويها حتى وفاتهما، وبعد ذلك عاشت فيه برفقة شقيقها الأصغر.
وعندما توفيت في العام 1969، لم تكن كريستينا تعلم بأن عالمها الصغير قد تغيّر واصبح مشهورا بفضل هذه اللوحة التي حولّت المنزل والمنطقة حوله إلى مزار سياحي.
في اللوحة، تبدو أطراف المرأة بالغة الضعف والهزال، مما يوحي بحجم المعاناة التي ظلت تكابدها في تجربتها مع الإعاقة والمرض. لكنّ أهم ملمح في هذا العمل الفنّي هو المنظور الذي استخدمه الفنان، فالناظر لا يرى المرأة سوى من الخلف، وبناءً عليه ليس بالإمكان التنبؤ بعمرها أو طبيعة انفعالاتها في تلك اللحظة.
أما الألوان المستخدمة في اللوحة فربّما لا توحي للناظر سوى بالإحباط والسوداوية.
عاشت كريستينا اولسون تجربة الإعاقة والمعاناة معتمدةً على إصرارها وقوّة عزيمتها. وبعد وفاتها كتب عنها وايت يقول إنها كانت امرأة شجاعة لم تكن تطلب شيئا من أحد، وكانت على الدوام كريمة ومعطاءة.
ولد اندرو وايت في العام 1917 واصبح في ما بعد رساما مشهورا بفضل أسلوبه الواقعي الذي يركّز على الموضوع في المقام الأوّل.
وكان الفنان يبحث عن مواضيع للوحاته في تفاصيل وتحوّلات الحياة اليومية من حوله.
ولوحته "عالم كريستينا" توفّر نموذجا لطريقته في النظر إلى الأشياء وسبر غور الظواهر العادية والمألوفة من خلال رؤية تتسم بالتكثيف والتفصيل والعمق.
بالإضافة إلى هذا العمل، أنجز اندرو وايت لوحات عديدة أخرى تتوزّع اليوم على المتاحف والغاليريهات الكبرى في الولايات المتحدة.

Friday, September 30, 2005

لوحـات عالميـة – 59


اوليـمـبـيــا
للفنان الفرنسي إدوار مـانيــه، 1863

يعتبر ادوار مانيه أحد أهمّ الفنانين الانطباعيين الكبار.
في بدايات حياته، ذهب إلى المانيا وايطاليا والنمسا باحثا ودارسا ومنقّبا، قبل أن يعود ثانية إلى فرنسا ليدرس الفـن الإسباني في اللوفر.
وعندما بـدأ اسمه في الذيوع، اجتمع حوله بعض كبّار الفنانين امثـال ليغرو وجيمس ويسلر.
عند عرض "اوليمبيا" في صالون باريس (1856)، أصيب النقاد والجمهور بالصّدمة، نظرا لجرأة اللوحة وحسيّتها الفائقة. ورغم ذلك قبل المحكّمون عرض اللوحة تجنّبا لاتهامهم بالتشدّد في الرقابة، خاصة بعد أن رفضوا قبل ذلك لوحة أخرى للفنان. ويبدو انّهم سعوا إلى تجنّب نقـد وتقريع الجمهور وفضّلوا بدلا من ذلك تعريض الفنان المشاكس لغضب النقّاد والعامّة.
"اوليمبيا" هي اشهر لوحة عارية ظهرت في القرن التاسع عشر، وقد ارتبطـت صورة المرأة العارية في أذهان الناس آنذاك بالبغاء.
اللوحة تصوّر اوليمبيا التي استخدم مانيه لرسمها "فيكتورين موران"، الموديل التـي ظهرت في اكثر من لوحة من لوحاته. وبالإضافة إلى المرأة هناك خادمة سمراء وقط اسود. وعلى وجـه اوليمبيا ارتسمت نظرات غامضة لا ُيعرف على وجه التحديد إن كانت تنمّ عن حزن أو ازدراء. بينما راحت الخادمة تقدّم لسيّدتها باقة من الزهور ربّما كانت هديّة من أحد زبائنها.
اللوحة، كما هو واضح، مثيرة في حسيّتها، فالبشرة شديدة البياض والعينان سـوداوان واسعتان كما أن ربطة الشعر الحمراء وانحناءة اليد الخفيفة وحدّة التباين بين الموديل والخلفية الداكنـة، كلّها عناصر أراد من ورائها الفنان تكثيف الإحساس بإثارة المشهد وحسيّته.
هذه اللوحة هي ترجمة لا تختلف سوى بالكاد عن لوحتي الفنّانًين الواقعيّين جورجيوني وتيتيان اللتين صـوّرا فيهما نساءً عاريات، كما أن اللوحة تتضمّن شيئا من كلاسيكية آنغر، ويتجلّى هذا في دقّة رسم تفاصيـل الجسد.
الثورة العارمة التي جلبتها اللوحة على مانيه مثّلت فرصة سانحة للفنانين الانطباعيين الشباب آنذاك، الذين هبّوا للدفاع عن مانيه ودعمه بوجه منتقديه، باعتباره بطلا وقف بشجاعة ضدّ التعصّب والتحامـل والجهل.
وفي غمرة ذلك الجدل تقوّى الانطباعيـون اكثر وتجذّرت أفكارهم واتّسع نفوذهم. كما انبرى للدفاع عن مانيه كبار الأدباء والفنانين من أمثال اميل زولا و شارل بودلير و ديلاكروا.
لا ُيعرف بالتحديد ماذا كان يقصد مانيـه من وراء رسم هذه اللوحة، وهل أراد تقديم عمل فنّي كبير أم انه ببساطة أراد أن يسخر من طريقة سابقيه من الفنانين الذين رسموا لوحات مماثلة.
مانيه كان ينتمي للشريحة الاجتماعية فوق المتوسّطة في باريس، وكان الفنان الوحيد بين معاصريه الذي لم يكن مضطرّا لبيع لوحاته من اجل كسب العيش. فقد كان يتمتّع بمنزلة اجتماعية مرموقة مكّنته من مصادقة الفنانين والأدباء الكبار في ذلك الحين.
هذه اللوحة ظلّت مصدر الهام للكثير من الفنانين المعاصرين. ومؤخرا ُانتج فيلم سينمائي عن "اوليمبيا"، تحدّث فيه عدد من النقاد ومؤرّخي الفن ودارسيه عن أسباب شهرة اللوحة والجدل الكبير الذي أثارته في حينه.

Wednesday, September 28, 2005

لوحـات عالميـة – 58


سـاحــة مقهـى فـي الليـل
للفنان الهولندي فنسنـت فــان غــوخ، 1888

لوحة جميلة أخرى من روائع فان غوخ. أنجز الفنان هذه اللوحة في سبتمبر من العام 1888 أثناء إقامته في آرل بفرنسا.
وفيها يصوّر فان غوخ انطباعاته عن أحد المقاهي المنتشرة هناك. وأوّّل ما يلفت النظر في هذا العمل الرومانسي الجميل هو غلبة اللون الأزرق عليه، وقد كان فان غوخ، أثناء وجوده في آرل، يفضّل الأزرق على غيره من الألوان.
هنا نرى الطبيعة الديناميكية لحركة السماء الليلية وتوزيع الإضاءة المبهر، خاصة في خلفية المشهد.
وهناك أيضا هذا التماهي الفريد بين اللون والضوء، حيث تنعكس التموّجات اللونية المشعّة على الأشخاص والأشياء لتخلع عليها وجودا إضافيا يكشف عن بعدها الروحي.
لوحة "ساحة مقهى في الليل" كانت اللوحة الأولى التي يرسم فيها فان غوخ خلفية من النجوم. وبعد سنة من إتمامها، رسم الفنان لوحته الأشهر: ليلة مرصّعة بالنجوم.
تعلّم فان غوخ في باريس أساليب تكثيف الألوان وجعلها تبدو اكثر إيقاعا واشدّ سطوعا، من خلال تعرّفه على لوحات الفنانين الانطباعيين آنذاك.
وفي السنوات الأخيرة من حياته، رسم الفنان اشهر لوحاته على الإطلاق. وقد أمكن التعرّف على الكثير من تفاصيل حياة فان غوخ وجوانب فنّه بفضل السجلّ الضّخم من الرسائل التي بعثها إلى شقيقه ثيـو.
في إحدى تلك الرسائل يكتب فان غوخ إلى أخيه بعد إتمامه رسم هذه اللوحة: فرغتُ للتوّ من رسم صورة لليل ولكن من دون لون اسود. فقط الأزرق والبنفسجي والأخضر. وأشعر أنني مفتون كثيرا برسم الليل والسماء في الطبيعة المفتوحة".
السماء الليلية ظلّت منذ القدم مصدرا ثريا للإلهام الذي ينتج الفنّ والشعر الجميل. ومنظر الليل في هذه اللوحة المعبّرة يذكّرنا بالرحلة اللانهائية التي مشاها فان غوخ نفسه باتّجاه الضوء الذي كان ينشده داخل كونه الخاص.

Tuesday, September 27, 2005

لوحـات عالميـة – 57

فتـاة غجـريـة فـي حـانـة
للفنان الهولندي فـرانـز هـولــس، 1628

أكثر ما يميّز هذا البورتريه الجميل والمألوف هو ملمح التلقائية والبساطة الظاهر على وجه الفتاة، والذي ينمّ عن براعة الفنان في تصوير المزاج المبتهج والتعابير الفورية والعفوية.
لوحة الفتاة الغجرية هي أشهر أعمال الفنان الهولندي فرانز هولس الذي عُرف عنه قدرته على رسم التعابير العفوية لشخوص لوحاته من خلال ضربات الفرشاة العريضة والسريعة.
وبالإضافة إلى ذلك، وظّف الفنان أسلوبه الخاصّ في استخدام الضوء ومزج الألوان الساطعة ونثرها على مساحة اللوحة.
وممّا يُعزى إلى فرانز هولس أيضا طريقته المبتكرة في رسم بورتريهات جماعية لأشخاص. ومع انه كان يحرص على تمثيل ملامح وتعابير كلّ شخصية على حدة، إلا انه كان يربط بين شخصيّات البورتريه الواحد بخيط مشترك حيث تتّسق الخيوط وتنسجم الألوان والظلال على طول وعرض اللوحة.
وعندما نضجت تجربته الفنية، استبدل الرسّام الألوان الساطعة والمختلطة التي ميّزت أعماله الأولى بألوان أحادية يغلب عليها اللونان البنّي والأسود، مع تركيز اكبر على الموازنة الدقيقة بين نسب الضوء واللون والظل.
والحقيقة انه لم يكن لـ هولس مكانة مهمّة في تاريخ الفن الأوربي حتى بدايات القرن التاسع عشر، عندما لفت أسلوبه المتحرّر واستخدامه البارع للألوان كلا من الفنانين الانطباعيين؛ الفرنسي ادوارد مانيه والهولندي فنسنت فان غوخ.
ولد فرانز هولس في بلجيكا لكنه عاش معظم حياته في هولندا، حيث حظي برعاية الطبقة البورجوازية في هارلم.
وفي نهايات حياته عانى من الفقر والعوز بعد أن بدأ الناس ينصرفون عن بورتريهاته، مفضّلين الأسلوب الأحدث والأكثر أناقة الذي ابتدعه في انجلترا الفنان الهولندي الآخر انتوني فان دايك.
وكما هو الحال مع مواطنيه الآخرين رمبراندت وفيرمير، اضطرّ هولس لبيع ممتلكاته ومنزله من اجل سداد ديونه؛ الأمر الذي دفع مجلس المدينة لتخصيص راتب سنوي للفنان يقيه غائلة الفقر وذلّ الحاجة.
وقبيل وفاته بسنوات قليلة، فقدت ألوانه وهجها واختفى عنصر المرح والابتهاج من رسوماته وحلّ محله إحساس بالعزلة واللامبالاة.
توفي فرانز هولس في العام 1666 وتحوّل منزله بعد ذلك إلى ما أصبح يُسمّى اليوم بمتحف فرانز هولس في هارلم.
في حوالي منتصف القرن العشرين انتعشت حظوظ هولس بعد أن اشترى ثريّ بريطاني لوحته المشهورة الفارس الضاحك. كما اقبل الأثرياء الأمريكيون على اقتناء بعض أعماله الأخرى الموجودة اليوم في عدد من المتاحف الأمريكية الرئيسية.
وهناك اليوم من النقاد من لا يشكّك في موهبة الرسّام، لكنهم يجادلون بأن تركيزه على رسم البورتريه حدّ كثيرا من شعبيته وأضعف شهرته.
ومن أشهر لوحات فرانز هولس الأخرى البورتريه الذي رسمه في العام 1648 للفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت.

Saturday, September 24, 2005

لوحـات عالميـة – 56


غــورنيـكــا
للفنان الإسباني بابلـو بيكـاسـو، 1937

غورنيكا هو اسم لقرية صغيرة في إقليم الباسك الإسباني تعرّضت في العام 1937 لهجوم بالطائرات والقنابل على أيدي القوات التابعة لنظام فرانكو بمعاونة من جنود المانيا النازية. وقد راح ضحيّة المذبحة اكثر من ألف وستمائة شخص.
الحادثة فجّرت في حينها ردود فعل شديدة في العالم مستنكرة ومندّدة بما حدث، من خلال المظاهرات والمسيرات الاحتجاجية. ووصلت أخبار المذبحة إلى باريس حيث كان يقيم الفنان الإسباني بابلو بيكاسو.
كان بيكاسو يفكّر في إنجاز عمل فني يجسّد فظائع الحرب الأهلية الإسبانية وما جرّته من موت ودمار، لكن حالة الاضطراب والتشوّش النفسي التي كان يعيشها نتيجة ذلك كانت تمنعه من تحقيق تلك الرغبة.
وقد وفّرت له الحادثة فرصة مواتية لتحقيق ما كان قد فكّر فيه مرارا، مع انه كان يكره السياسة وينفر من فكرة توظيف الفن لأغراض سياسية.
في تلك السنة أقيم معرض باريس الفني وهو مناسبة أراد من خلالها منظمو المعرض الاحتفال بالفن الحديث الذي يستخدم التكنولوجيا الحديثة ويقدم رؤية متفائلة لعالم مختلف عن عالم الثلاثينات الذي تخللته الحروب والاضطرابات السياسية والكساد الاقتصادي العظيم.
وعندما أنجز بيكاسو غورنيكا، دفع بها لتمثل إسبانيا في معرض باريس لتلك السنة.
اللوحة تصوّر فراغا تناثرت فوقه جثث القتلى وأشلاؤهم الممزّقة. وهناك حصان في الوسط وثور إلى أعلى اليسار، بالإضافة إلى مصباح متدلٍّ من الطرف العلوي للوحة. وعلى الأرضية تمدّدت أطراف مقطّعة لبشر وحيوانات. بينما تمسك اليد الملقاة على الأرض بوردة وبسيف مكسور. والى أعلى يمين اللوحة ثمّة يد أخرى تمسك بمصباح. ويبدو أن وظيفة المصباح المعلق في أعلى اللوحة هي تسليط الضوء على الأعضاء المشوّهة لتكثيف الإحساس بفظاعة الحرب وقسوتها. أما الثور إلى يسار اللوحة فليس واضحا بالتحديد إلامَ يرمز، لكن ربما أراد بيكاسو استخدامه مجازيا للتعبير عن همجية المهاجمين ولا إنسانيتهم.
وهناك ملمح مهم في هذه اللوحة وهو خلوّها تماما من أي اثر لمرتكبي الجريمة، فليس هناك طائرات أو قنابل أو جنود. وبدلا من ذلك فضّل بيكاسو التركيز على صور الضحايا.
ردود الفعل الأولية على اللوحة اتّسمت بالنقد والهجوم الشديدين. فالنقاد الألمان قالوا إنها مجرّد هلوسات كابوسية لرجل مجنون، وان بوسع أي طفل في الرابعة أن يرسم افضل منها. أما الروس فقد تعاملوا مع اللوحة بفتور.
ويبدو أن المنتقدين كانوا يعتقدون بأن الفن الواقعي اكثر قدرة على تمثيل الصراعات والحروب ومآسيها.
حتى العام 1981، كانت غورنيكا ضمن مقتنيات متحف الفن الحديث بنيويورك، ومع ذلك فقد طافت بالكثير من المتاحف في أوربا وأمريكا.
وقد ُطلب من بيكاسو اكثر من مرّة أن يشرح مضمون اللوحة، لكنه كان يردّ دائما بأن تلك مهمّة المتلقي، وان اللوحة قابلة للعديد من التفسيرات المختلفة وحتى المتناقضة.
لكن رغم ذلك، أصبحت اللوحة تمثل صرخة بوجه الحرب وشهادة حيّة على حجم البؤس والخراب الذي تخلفه الحروب بشكل عام.
كان بيكاسو يطمح في أن تنتقل غورنيكا إلى إسبانيا في النهاية، لكنه كان يفضّل الانتظار إلى أن ينتهي حكم فرانكو العسكري.
وبعد سنتين من وفاة بيكاسو في العام 1973، توفي فرانكو نفسه. وفي 1981، قام النظام الجديد بنقل اللوحة إلى إسبانيا كأفضل احتفال بالذكرى المئوية لمولد بيكاسو.
وكانت تلك الخطوة رمزا لتحوّل إسبانيا الكبير من الديكتاتورية إلى عهد جديد من الحرية والديمقراطية.
غورنيكا هي اليوم من ضمن مقتنيات متحف الفن الحديث في مدريد.

Friday, September 23, 2005

لوحـات عالميـة – 55


بورتريه جـان إيبيـتيرن
للفنان الإيطالي اميديـو موديـليـانــي، 1920

كان اميديو موديلياني رسّاما ونحّاتا ذا أسلوب متفرّد وخاص. ومن السهل التعرّف على لوحاته بفضل الطابع القوطي لشخوصها وبساطة تفاصيلها ودقّة خطوطها وأناقة ووضوح ألوانها.
ولد موديلياني لعائلة إيطالية يهودية ودرس الرسم في روما والبندقية، ثم هاجر إلى فرنسا حيث عمل لبعض الوقت مع النحّات الروماني كونستانتين برانكوزي. لكنه ما لبث أن تحوّل إلى الرّسم متأثرا بأعمال سيزان وبيكاسو ولوتريك ورولو.
انتهج موديلياني في البداية الاسلوب التكعيبي في الرسم لكنه لم يكن جزءا من الحركة التكعيبية في ذلك الوقت. وفي ما بعد اتبع أسلوبا هو مزيج من الكلاسيكية والحداثة ورسم جسد الأنثى بطريقة لم يسبقه إليها أحد من الفنانين. وقد ُعرف عن موديلياني بوهيميته وغرابة أطواره وإسرافه في تعاطي الكحول والمخدّرات، ما جلب له متاعب صحّية واجتماعية كثيرة.
وفي ما بعد وقع الفنان في حبّ جان إيبيتيرن وربطت بينهما علاقة حبّ قويّة. وقد ظهرت في العديد من البورتريهات التي رسمها. أما لوحاته الأخرى فتتضمّن مشاهد لنساء في أوضاع عارية ومتكشّفة.
موديلياني ُينظر إليه اليوم باعتباره أحد اكبر فنّاني القرن الماضي، وأعماله تزيّن قاعات متاحف العالم الكبيرة. وقد بيعت إحدى لوحاته منذ سنتين بمبلغ 27 مليون دولار، رغم انه هو نفسه عاش فقيرا ومعدما.
في بورتريه جان إيبيتيرن تبدو السيّدة مستندة إلى الأريكة بهيئة مريحة ومزاج مسترخٍ ونظرات هي مزيج من السلبية واللامبالاة. وكما هو الحال مع بقية البورتريهات التي رسمها لنساء، فقد تعمّد موديلياني إطالة اليدين والعنق وتدقيق الأنف فيما بدت الرأس صغيرة مقارنة بحجم الجسد والعينان لوزيتين بلون يتراوح ما بين الأزرق والبنّي والأخضر. واللوحة بشكل عام تختزل أسلوب موديلياني الخاص في التوظيف البارع للخطوط المتعرّجة والخلفيات ذات الألوان الباردة لتمثيل جمال الأنثى التي تتصّف بالغموض والجاذبية.
أما جان إيبيتيرن نفسها فتنحدر من عائلة ارستقراطية كاثوليكية، وقد تبرّأت منها عائلتها المحافظة بعد ارتباطها بالفنان.
توفي موديلياني بالسلّ في العام 1920 عن عمر لا يتجاوز الخامسة والثلاثين. وبعد وفاته عادت جان إيبيتيرن إلى منزل أبويها في مونمارتر. لكنها لم تلبث أن ألقت بنفسها من أعلى البناية التي كانت تقطنها عائلتها لتموت منتحرة مع طفلها الجنين. وبعد مرور عشر سنوات على وفاتها سمح أهلها بنقل رفاتها لتدفن إلى جوار زوجها.
كان موديلياني مصرّا منذ البداية على خلق نموذجه الصوري الخاصّ والشائك عن الجمال. وقد نجح في اختراع جنس جديد من الكائنات ذوات الأطراف المستطيلة والخصور الضّيقة والوجوه الدقيقة اللاتي يغلب على ملامحهنّ الهدوء والبرود وأحيانا الانفعالات الجامدة والمحايدة.
غير أن بعض أعماله لا تخلو من حسّية لإظهارها بعض المناطق الخاصّة من الجسد. ونساؤه إجمالا رقيقات مع شيء من الحزن والتأمّل. وميلان الشفاه الخفيف والأعين المظلمة أو الغائرة وسمات زوايا الجسد تعطي إحساسا بالهجر والغربة والانفصال.
اليوم ينظر إلى موديلياني باعتباره جسرا ما بين تولوز لوتريك ورسّامي الفنّ الديكوري الذين ظهروا في عشرينات القرن الماضي.
ولوحاته النسائية الممتلئة بالحبّ الرثائي والتوق والخشوع ما تزال تذكّر الناس به وبموهبته التي تستحقّ الإعجاب والاحترام اللذين ُحرم منهما في حياته. وقد بيعت إحدى لوحاته مؤخّرا بأكثر من 27 مليون دولار أمريكي.
وفي العام الماضي تحوّلت قصّة الحب المأساوي بين موديلياني وجان إيبيتيرن إلى فيلم سينمائي أخرجه ميك ديفيس ولعب دور الفنان فيه الممثل اندي غارسيا بينما قامت بدور إيبيتيرن الممثلة الفرنسية إلسا زيلبيريستين.

موضوع ذو صلة: نساء موديلياني

Wednesday, September 21, 2005

لوحـات عالميـة – 54


القبــلــة
للفنان النمساوي غـوستـاف كليـمـت، 1908

تعتبر لوحة القبلة لغوستاف كليمت من اشهر الأعمال الفنية العالمية التي أنجزت في القرن العشرين. بل إن كثيرا من نقاد الفن لا يتردّدون في تصنيفها ضمن افضل خمس لوحات في تاريخ الفن التشكيلي العالمي كلّه.
وقد أصبحت هذه اللوحة رمزا للأمل ومرادفا للجمال الأنثوي والانجذاب العاطفي بين الجنسين.
في "القبلة"، كما في أعمال كليمت الأخرى، ثمّة استخدام لافت للألوان الداكنة والخلفيات الذهبية والخطوط الزخرفية والعناصر الايروتيكية.
ورغم أن هذه اللوحة كانت في البداية مثار جدل واسع، فإنّها أصبحت في العقود التالية واحدة من اكثر الأعمال الفنية التشكيلية تفضيلا وشهرة.
وكان لها تأثير واسع على الحياة الثقافية في عصر كليمت، وضمنت له بالتالي شعبية كبيرة في أوساط مجتمع فيينا آنذاك.
اشتغل غوستاف كليمت في بدايات حياته الفنية بالديكور والزخرفة وتعلّم مهارات الحفر والنقش التي اكتسبها من والده، الفنان هو الآخر.
وهناك ملمح ثابت في كافة أعماله، يتمثل في غلبة اللونين الفضّي والذهبي عليها، كما كان يركّز بوضوح على تضمين لوحاته عناصر وتفاصيل زخرفية. ويبدو أن ميله للزخرفة كان بسبب افتتانه بالموازييك البيزنطي الذي اكتشفه أثناء تجواله في ضواحي فيينا والريف الإيطالي. وقد تمرّد كليمت على القواعد والأساليب التقليدية التي كانت رائجة في عصره، وكان مناصرا قويا لأساليب الفن الحديث.
في " القبلة"، استخدم كليمت الأشكال المسطّحة والأنماط الزخرفية بشكل عام، وتعمّد أن يرمز للأنثى بخطوط دائرية وللرجل بأشكال مربّعة ومستطيلة.
ورغم بساطة هذه اللوحة ظاهريا، فإن رمزيّتها العميقة والمهارة الفائقة التي ُنفّذت بها كانت دائما مثار حديث أوساط الفنّ التشكيلي ودارسيه.
لوحات غوستاف كليمت تغطي مواضيع متنوّعة، بدءا من ثراء الطبقة البرجوازية في فيينا ومرورا بالمضامين الأسطورية والإشارات الايروتيكية وانتهاءً بجمال الطبيعة.
وبالإضافة إلى الرسم، عمل كليمت في السياسة، وكان مدافعا عنيدا عن الفنانين الشباب الذين كان يشجّعهم على الثورة على الأساليب الفنية المحافظة في ذلك الوقت. كما أنشأ مجلة استقطب لها الآلاف من الفنانين الصاعدين من مختلف أرجاء العالم وعمل على نشر أعمالهم الثورية والتجديدية.
على المستوى الشخصي، كان كليمت منجذبا بقوّة نحو النساء، بل انه كان يستخدم بغايا كموديلات للوحاته. والكثير من رسوماته اعتبرت في عصره حسيّة اكثر من اللزوم وجريئة بما يكفي لتحدّي الأعراف والقواعد السائدة في مجتمع فيينا خلال السنوات الأولى من القرن العشرين.
في شهر يناير من عام 1918 أصيب كليمت بجلطة مفاجئة شلّت حركته وأضعفت قواه ليتوفّى بعدها بشهر عن عمر ناهز الخامسة والخمسين.

موضوع ذو صلة: المرأة التي ألهمت كليمت

Tuesday, September 20, 2005

لوحـات عالميـة – 53

الصـحــوة
للفنان الكندي جوناثان باوزر، 1998

في لوحات هذا الفنّان، لا تلمس أثرا لمعاناة الإنسان وهمومه ومشاغله. فهو يعتقد أن العالم، برغم ما ينوء به من صراعات ومشاكل، ما يزال مكانا يضمّ بين جنباته الكثير من مفردات وعناصر الجمال الذي لا تحدّه حدود.
ومناظر باوزر البديعة يمكن اعتبارها محاولة لاكتشاف قدسيّة الحياة ورمزية الأسطورة ودعوة للكشف عن غموض وجمال الكون المختبئ وراء المظاهر المادّية والمصطنعة للأشياء.
يقول واصفا مغزى لوحته "الصحوة": في اللوحة تعبر الآلهة عتبات الأبعاد لتدخل عالما مفقودا في الثلج والظلام. وعلى خطاها التي تحتضن العالم، تتناثر ستّون زهرة لوتس ترمز للخلق. وحولها هالة مضيئة بينما تمسك بيدها برعما مشعّا يرمز إلى حضورها الدائم الذي يولّد في العالم أمواجا من الضوء الواهب للحياة. وحول الهالة الشمسية العظيمة، تطير سبع حمامات بصحبة سرب من الفراشات المضيئة".
وظّفت هذه اللوحة في أعمال شعرية وأدبية كثيرة. وقد أثار وضعها منذ سنوات على غلاف رواية صدّام حسين "زبيبة والملك" خلافا قانونيا بين الرسّام والحكومة العراقية. إذ اتهم باوزر وزارة الإعلام العراقية وناشري الرواية بانتهاك حقوق الملكية الفكرية عندما وضعوا اللوحة على غلاف الكتاب دون إذن مسبق منه.
وفي ما بعد، أزيلت اللوحة من غلاف النسخة الانجليزية من الرواية واستبدلت بصورة للرئيس العراقي عند أسره. وقد ثار سؤال وقتها عن سبب إعجاب صدّام بامرأة غامضة ومسالمة. وقيل انه ربّما رأى في الأقواس التي تظهر في خلفية اللوحة ما ذكّره بأقواس مدينة بابل القديمة.
"الصحوة" لوحة تختزل رؤية الفنان الباحث دوما عن المعرفة القديمة والأزلية التي تتأتّى من خلال الكشف الشعري والوجداني كلّ ما هو مقدّس وسامٍ في هذا الكون.
وباوزر يعتقد بأن الميثولوجيا، سواءً كانت اعتقادا دينيا أو استعدادا نفسيا للحياة، يجب أن ُينظر إليها باعتبارها الروح الضرورية والدائمة لعالمنا المعاصر المدفوع بالتكنولوجيا والتغيير الدائم والمستمر.
كما انه يحاول في أعماله تمثيل الجمال وقوى الطبيعة والتاريخ والفلسفة ومزجها بالجوانب الروحية والسيكولوجية.
من الأشياء الملفتة في لوحات الرسّام هذا الحضور الدائم والمتكّرر للنساء وكأنه يؤكّد على صورة الأنثى باعتبارها رمزا للخصب والتجدّد والخلق والنماء.
ومن الواضح أنه متأثّر مثل كثيرين غيره من الفنانين المعاصرين بالفلسفات الشرقية القديمة التي تربط بين عناصر الطبيعة والأسرار الكلّية للكون ووحدة الوجود.
ولد جوناثان باوزر في كندا ودرس فيها الرسم والتصميم. وقد تأثر منذ بداياته بـ بوغورو ونسائه الصامتات المتأمّلات. كما تأثر بـ البيرت بيرشتادت الذي اشتهر بمناظره الطبيعية ذات السمات المقدّسة والغامضة.
وتتوزّع لوحاته اليوم على العديد من المتاحف والغاليريهات والمجموعات الفنّية الخاصّة.

Monday, September 19, 2005

لوحـات عالميـة – 52

حـدائق خلف بوّابـة الخـريف
للفنان الأمريكي تومـاس كينـكيـد، 1994

كان توماس كينكيد من أكثر الرسّامين شعبية ورواجا في الولايات المتحدة. ولوحاته توصل إحساسا بالسكينة والتفاؤل والسلام بفضل الضوء الذي يشعّ من ألوانه التي تبعث الأمل والإلهام في النفس.
وتصوّر رسوماته قمم جبال مغطّاة بالثلوج وسماوات ذهبية ومنارات مضيئة وغابات وأنهارا حالمة وبيوتا وأكواخا مغمورة بالضوء. وهذه اللوحات ليست من ذلك النوع الذي يتطلّب منك النظر إليها طويلا كي تفهمها، كما لا يلزمك شهادة في الفنّ كي تقرّر إن كانت جيّدة أو رديئة.
كينكيد يركّز في رسوماته على القيم العائلية والإيمان بالله من خلال الجمال المضيء للطبيعة. وعادة ما يُطلق عليه لقب رسّام الضوء بالنظر إلى مهارته العالية في توظيف الضوء في لوحاته.
وهناك ما يربو على التسعين ورشة فنّية تعرض جميعها أعمال الرسام التي يتسابق هواة الفنّ والناس العاديّون إلى شرائها واقتنائها. ويقال إن لوحاته تُعلّق في واحد من كلّ عشرين منزل أمريكي. كما أن دخل لوحاته السنوي يُقدّر بأكثر من مائة وخمسين مليون دولار.
وهناك من النقّاد من يقارن كينكيد بـ مونيه ورينوار من حيث انه عاش حياة صعبة في البداية وجاهد وتعب كثيرا وهو يبحث لنفسه عن أسلوب فنّي متفرّد.
في بداياته، درس كينكيد باستفاضة أعمال رمبراندت وكارافاجيو وتعلّم منهما طريقتهما في توظيف الضوء والظلّ، كما تجوّل طويلا في الطبيعة الأمريكية دارسا ومنقّبا ومتأمّلا.
من بين أشهر لوحاته وأكثرها رواجا هذه اللوحة التي يصوّر فيها بركة ماء صغيرة تتوسّطها مزهرية عبر ممرّ تتناثر على جانبيه الورود والأزاهير في كرنفال لونيّ بديع. وفي الأعلى قليلا نرى منظرا لمنزل صغير تتسلّل عبر نوافذه الأنوار التي تشعّ مبدّدة بعض ما علق في الأجواء من ضباب الليلة الفائتة.
المعجبون بـ كينكيد والذين يبتاعون لوحاته يقولون إنه يقدّم لهم الجمال في عالم قبيح. وهم يجدون فيها ما لا يجدونه في الفنّ الحديث الذي يركّز على بؤس الحياة وقبحها وعدميّتها.
لكن على الرغم من الشعبية الكبيرة التي يحظى بها الفنّان في أوساط الجمهور، ظلّت المؤسّسة الفنّية تتجاهله والنقاّد يرفضونه ويعتبرونه رسّاما تقليديا وغير جدير بالدراسة. وبعضهم يصف أعماله بأنها ساذجة وتعكس نظرة هروبية بإغراقها في الخيال وابتعادها عن الواقع وعن مشاكل الناس.
في البيوت التي يرسمها توماس كينكيد، لا نرى أشخاصا أو أشياءً في الداخل. فقط الضوء الذي يأتي من النوافذ، وأحيانا دخان المداخن الذي يرمز إلى الدفء الإنساني. وثمّة احتمال بأن الأشخاص الذين يهوون اقتناء هذه المناظر يتماهون مع أجوائها لا شعوريّا ويتخيّلون أنهم هم من يسكن هذه البيوت ويتمتّعون بالدفء والحميمية اللذين تشيعهما.
مناظر كينكيد المشبعة بألوان الباستيل تخلو من أيّ اثر للحزن أو التوتّر. وربّما كان هذا هو احد أسباب افتتان الناس بها. فهو ينقل الناظر إلى أماكن مثالية تشبه الجنّة. كما انه يثير في نفس من يرى هذه المناظر حلم العودة إلى هذه الأماكن برغم أنها قد لا توجد إلا في الخيال. ومن الواضح أنه يشيّد عوالمه الفانتازية من آثار الماضي ومن مفاهيم الأدب القديم والحكايات الخيالية.
وعندما انتشر خبر وفاة كينكيد المفاجئة في السادس من ابريل عام 2012 عن أربعة وخمسين عاما، تدفّق الناس بالآلاف على الغاليريهات والمعارض والمتاجر لشراء نسخ من لوحاته.
كان توماس كينكيد يطمح لأن يرى أثناء حياته تقييما أكثر ايجابية لفنّه من قبل النقّاد. ولكنّه كان يشكّ في أن هذا سيحدث. النقّاد يفترضون أن على الفنّان أن يعاني الفقر والتشرّد. ومثال كينكيد هو على النقيض تماما، لأنه لا يجسّد الصورة الرومانسية عن الفنّان المكافح والجائع. فقد كان ناجحا في الترويج لفنّه واستطاع طوال سنوات أن يراكم ثروة تقدّر بمئات ملايين الدولارات من بيع أعماله. وهناك من يقدّر قيمة مبيعاته السنوية من نسخ لوحاته بحوالي مائة مليون دولار.
توماس كينكيد يظلّ أيقونة ثقافية، على الرغم من كلّ ما قيل ويقال عنه وعن فنّه. في الأيّام القليلة التي تلت وفاته، تقاطر المعجبون بفنّه على المتاجر والمعارض الفنّية وعلى موقعه الالكتروني للبحث عن لوحاته واقتنائها.

(تمّ تحديث الموضوع في فبراير 2013م).

موضوع ذو صلة: توماس كينكيد.. أماكن في القلب

Sunday, September 18, 2005

لوحـات عالميـة – 51


أزهــار الـريــح
للفنان البريطاني جون وليام ووترهاوس، 1903

ظلت أعمال الفنان جون ووترهاوس تحظى بالشعبية والتفضيل دائما، وقد تخصص في تصوير مشاهد من أساطير القرون الوسطى والعالم القديم.
وفي العام 1902 ظهرت هذه اللوحة الهامة "أزهار الريح" في مقدمة سلسلة من اللوحات التي تعالج فكرة جديدة تتمثل في تصوير فتيات في ملابس فضفاضة وهن يجمعن الأزهار في طبيعة مفتوحة.
ووترهاوس كان يحب الأزهار وهناك العديد من الدراسات النقدية المكرسة لتحليل هذه الظاهرة اعتمادا على تفاصيل بعض لوحاته.
ولد الفنان ووترهاوس في روما، وعندما أتى إلى انجلترا درس في استديو والده، الفنان هو الآخر، ثم في أكاديمية الفنون الملكية.
تأثر بـ لورانس تاديما ورسم مشاهد من الحياة في إيطاليا حيث كان يقيم.
في 1891 اكتشف "موديلا" جميلة ظهرت في معظم لوحاته التي رسمها في ما بعد.
يغلب على لوحات ووترهاوس الطابع الكلاسيكي، لكنه مصنف بكونه منتميا للأسلوب ما قبل الرافائيلي بسبب تركيزه على رسم النساء الجميلات وافتتانه بفكرة الأنوثة وتبنيه للاتجاه الواقعي في الرسم.
لوحته الجميلة "أزهار الريح" تتميز برومانسيتها الفائقة ورقة خطوطها وأناقة توزيع الألوان فيها.

Saturday, September 17, 2005

لوحـات عالميـة – 50


بورتريه الليدي اغنـيــو
للفنان الأمريكي جون سنغر سارجنت، 1893

في أواخر عام 1892 بدأ الفنان جون سارجنت العمل على بورتريه الليدي اغنيو "غيرترود فيرنون" وهي زوجة صديقه الاسكتلندي، وعندما أتمّ رسم البورتريه استقبله نقاد الفن بتقدير واحتفاء كبيرين وعدّوه تحفة فنية تمثل انتصارا للتكنيك المتميز الذي طالما انفرد به جون سارجنت في رسمه للبورتريه.
عندما نتمعّن في لوحة الليدي اغنيو عن قرب، فان أول ما نلاحظه هو أن المرأة سيّدة جميلة وتتمتع بوجه متناسق يقترب من الكمال، كما أن الوجه يعطي انطباعا عن إحساس صاحبته بالارتياح والدعة. وهذه السمة تعرف بالسيميترية التي يرى بعض النقاد أنها المعيار الموضوعي الذي يمكن من خلاله الحكم على شئ ما بأنه جميل من عدمه.
ومع ذلك فهناك بعض النقاد ممن تحدثوا مطولا عن سمات بورتريهات هذا الفنان، واهمها وجود عنصر توتّر نسبي في ملامح النساء اللاتي يرسمهن. ولوحة الليدي اغنيو ليست استثناء. إذ على الرغم من أن السيدة تجلس بوضعية مريحة وتبدو متآلفة مع الأشياء من حولها وتملك حضورا طاغيا، فان هناك قدرا من الطاقة العصبية تتجلى في طريقة الجلوس وشكل الفم وامساك اليد بالكرسي وانحناءة الرأس الخفيفة إلى اسفل.
وكما هو الحال مع الكثير من رسامي البورتريه فان جون سارجنت كان يتلقى بعض الملاحظات من زبائنه الذين يعبّرون فيها أحيانا عن عدم رضاهم على بعض تفاصيل الصور التي ينجزها لهم.
لكن سارجنت كان رجلا ذا قناعات فنية عميقة، ولم يكن من السهل أن يتنازل عن رأيه من اجل إرضاء هذا الزبون أو ذاك.
كان جون سارجنت يحب النساء اللاتي يتمتّعن بقوّة الشخصية والذكاء والجمال، ومن الواضح انه كان يستمتع كثيرا بحضورهن أثناء ساعات الرسم. ورغم تمتّعه هو الآخر بشخصية ساحرة ومرحة فقد كان إنسانا شهما يغلب على طبعه الخجل والحياء. وكان بالإضافة إلى براعته في الرسم عازفا ماهرا على البيانو، ويبدو انه كان يستمد من الموسيقى النشاط والخيال اللذين كانا يعينانه على الرسم، وبعض لوحاته لا تخلو من عناصر موسيقية فيها.
لوحة الليدي اغنيو هي بلا شك أحد افضل أعمال الفنان جون سارجنت، إذ تبدو الليدي سيدة حديثة جدا. والأمر المؤكد هو أن هذه اللوحة البديعة كانت نتاجا للتفاعل المتسامي بين امرأة جميلة ورجل ذي شخصية آسرة وقادرة على قراءة الآخرين بعمق.

Friday, September 16, 2005

لوحـات عالميـة – 49


عـذراء كنيسـة سيسـتـين
للفنان الإيطالي رافـائيــل، 1514

تعتبر لوحة "عذراء كنيسة سيستين" واحدة من اعظم الأعمال الفنية في العالم ومن أكثرها نقاشا واحتفاء.
وقد ظلت هذه اللوحة على الدوام رمزا مميزا للتطوّر الذي شهدته الفنون بعامة خلال عصر النهضة الإيطالي.
بل إن شعبيتها الكاسحة دفعت بعض النقاد إلى تشبيهها بلوحة الموناليزا لدافنشي.
وأحد عناصر اللوحة التي كانت مثارا للكثير من النقاش هو التعابير الغامضة التي رسمها رافائيل على وجه العذراء وطفلها وحاول النقاد ودارسو الفن فكّها ومعرفة كنهها.
وقد حاول الكثير من المؤرخين والفلاسفة عبر العصور تفسير المعاني والدلالات التي أراد الفنان تضمينها في هذه اللوحة، ومن بين هؤلاء غوته وشوبنهاور وشرودر.
شوبنهاور، مثلا، تحدّث عن ملامح الخوف التي ترتسم على وجه وعيني الصبي، بينما تساءل آخرون عن مغزى إظهار العذراء في حالة حيرة وارتباك.
في اللوحة تقف الشخصيات (العذراء وطفلها والقدّيس والقديسة والملاكان الصغيران إلى أسفل) على مقعد من الغيم تؤطّره ستارتان منفتحتان إلى أعلى.
وتبدو العذراء كما لو أنها هابطة من السماء فيما يتوجه القدّيس (إلى اليسار) بنظره إلى المسيح الصغير، بينما توجّه القديسة (إلى اليمين) نظراتها الحانية إلى الملاكين الصغيرين الظاهرين في اسفل الصورة.
ومما لا شك فيه أن أشهر جزء في هذه اللوحة الفريدة هو صورة الملاكين الصغيرين إلى الأسفل، إذ ُطبعت صورتهما على ملايين البوسترات والصور التذكارية.
لوحة "عذراء سيستين" كان مقدّرا لها على الأرجح أن تزيّن قبر البابا يوليوس الثاني، وقد ُعثر عليها في ما بعد في أحد الأديرة لتجد طريقها بعد ذلك إلى موسكو بعد الحرب العالمية الثانية، قبل أن تنقل إلى متحف مدينة درسدن الألمانية حيث ظلت هناك حتى اليوم.
ُيذكر أن هذه اللوحة أصبحت رمزا للأمومة المثالية. كما أن خطوطها المنحنية والعريضة نزولا وصعودا، وتوازن الكتل فيها وتوزيع الألوان الدقيق ما بين الذهبي والأخضر، والبني والأزرق، كل ذلك يعطي الناظر إليها شعورا بالسلام والطمأنينة.
تلقى رافائيل تعليمه على يد أبيه، الفنان هو الآخر، والذي لمس في ابنه الاهتمام والموهبة. وفي زمن قياسي اصبح فنانا موهوبا وتجلت عبقريته وهو ما يزال في سن السابعة عشرة.
انتقل الفنان بعد ذلك إلى فلورنسا حيث درس أعمال دافنشي ومايكل انجيلو وبارتولوميو.
لوحات رافائيل بشكل عام تجسّد فكرة الجمال المثالي وعظمة الإنسان، و "عذراء سيستين" تمثل ذروة عبقريته وتفرّده الفني، ولهذا اعتبر واحدا من اعظم الرسامين الذين جاد بهم عصر النهضة في إيطاليا.

موضوع ذو صلة: لوحة لها تاريخ

Wednesday, September 14, 2005

لوحـات عالميـة – 48


وســـام الفــارس
للفنان البريطاني ادموند بلير ليتون، 1901

تُعتبر هذه اللوحة أحد أشهر الأعمال الفنّية التي تتناول تقليدا يعود أصله إلى القرون الوسطى.
وفيها تظهر ملكة، انجليزية على الأرجح، ترتدي فستانا ابيض مزيّنا بالذهب وتقف عند أسفل عرشها لتمنح مرتبة الفروسية لأحد فرسانها العائد منتصرا من معركة.
الصورة ربّما تكون مثالية وعاطفية أكثر من اللازم. لكنها مدهشة من حيث أنها تنقل الناظر إلى العصور الخوالي أو أزمنة الفرسان والفروسية.
ومن الواضح أنها رُسمت أثناء الفترة الادواردية والفيكتورية. لكنها تتضمّن حنينا إلى ماض غابر، والناس عادة يحبّون مثل هذا النوع من الصور.
الفارس، الذي يرتدي سترة حمراء عليها علامة نسر اسود وهلال، يظهر في الصورة وهو ينحني على أريكة جلدية بعد أن نحّى خوذته الحديدية جانبا.
وعند الباب يقف حشد صغير من الناس يتابعون هذه المراسم، بينهم رجل عجوز وراهب وصبيّ يمسك بترسه.
طبقا لتاريخ الفروسية في أوربّا، كان الشباب يُمنحون مرتبة الفروسيّة في سنّ الحادية والعشرين. وكانت مناسبات منح رتبة الفارس تأخذ شكلا احتفاليا معيّنا.
فبعد حمام التطهير الذي يخضع له المرشّح لنيل لقب الفارس، يُطلب منه أن يقضي الليل في الصلاة أمام المذبح الذي يضع عليه عدّته الحربية.
وفي الصباح تقام بعض الطقوس الدينية من بينها خطبة للكاهن عن واجب الفارس في حماية الضعيف وتقويم الخطأ واحترام النساء.
وبحضور الفرسان والأعيان والسيّدات يقوم الفارس بارتداء حلّته القتالية قطعة قطعة، قبل أن يجثو على ركبتيه لتلقّي وسام الفروسية.
والوسام هنا ذو معنى مجازيّ، إذ أنه ليس أكثر من ضربة خفيفة بباطن السيف على الكتف يقوم بها رجل أو سيّدة. وبعد أن ُيخلع على المرشّح لقب الفارس يصبح له مطلق الحرّية في أن يذهب حيثما شاء، باحثا عن المغامرة وحاملا معه سيفه ورمحه وترسه.
اسم الرسّام ادموند بلير ليتون ليس معروفا كثيرا. لكن لوحاته كانت مشهورة في عصره. وهو كان متخصّصا في المناظر الملوكية ومواضيع القرون الوسطى. وقد لعب دورا مهمّا في توعية الناس بأهميّة مواضيع الرسم المرتبطة بالأزمنة القديمة.
ولوحاته إجمالا تتميّز بزخارفها الجميلة ومضامينها الرومانسية التي أكسبته بعض الشعبية، رغم أنها لا تتحدّث عن أشخاص أو مناسبات أو أحداث بعينها.
تلقّى ليتون تعليمه في مدرسة الفنون قبل أن يلتحق بمدارس الأكاديمية الملكية. وكان يعرض لوحاته سنويا في الأكاديمية من عام 1878 إلى 1920.
وعلى الرغم من أن اسمه ليس مألوفا كثيرا، إلا أن فنّه ما يزال يروق للكثيرين. قد يعود السبب إلى أن الناس عادةً ينجذبون إلى الصور التي تذكّرهم بالماضي لأنها تأخذهم إلى أزمنة وأمكنة أخرى مختلفة.
ورغم اختلاف الأزمنة، إلا أن مواضيع الحبّ والرومانسية تظلّ دائما قيما عامّة وصالحة دائما برغم تغيّر الأحوال والظروف.
كان ليتون يهتمّ كثيرا بالتفاصيل وبالدقّة التاريخية في أعماله. وكان اهتمامه يشمل تصوير الأزياء وملابس الحرير والدانتيل والتطريز والمخمل التي كان يرسمها بدقّة متناهية.
وقد اعتاد أن يحتفظ في مرسمه بقطع كثيرة من طرز الملابس والآلات الموسيقية والأسلحة التي تعود للقرن الثامن عشر والتي كان يرسمها في لوحاته.
وكان على وجه الخصوص مفتونا بتصوير تقاليد القرون الوسطى في أعماله. كما كان من عادته أن يحتفظ بكرّاس يدوّن فيه أفكاره ومشاهداته قبل أن يقوم بمعالجتها وترجمتها إلى أعمال فنّية.
ولا تخلو صوره من مشاهد لنساء أنيقات وفرسان بكامل هيئتهم في طبيعة مفتوحة أو في بيئة داخلية مرتّبة بعناية.
لا يُعرف عن بلير ليتون الكثير. فهو لم يترك وراءه أيّ مذكّرات أو أوراق تتحدّث عن حياته أو فنّه. لكن معروف انه ولد في لندن عام 1852 وتوفّي فيها عام 1922. ووالده كان رسام بورتريه.
وبعض النقاد ينظرون إلى أعماله على أنها رسومات شعبية، ربّما بسبب مضامينها الرومانتيكية الغالبة. لكن لوحته هذه معروفة ويسهل تمييزها باعتبار أنها من بين أكثر الأعمال الفنّية استنساخا وبيعا.

لوحـات عالميـة – 47


البارجــة تيميـريــر
للفنان البريطاني جوزيف تيرنر، 1838

يعتبر جوزيف تيرنر برأي الكثيرين اعظم رسّامي الطبيعة ومناظر البحر الرومانسية في بريطانيا خلال القرن التاسع عشر.
لكنه اقلّ الفنانين حظّا، نظرا لان النقاد انصرفوا عنه رغم موهبته وميله للتجديد واهتمّوا بغيره من الفنانين الأقلّ شأنا وموهبة.
ولا بدّ وأن ميله للعزلة بعد جنون والدته ومن ثم موتها هو أحد الأسباب التي أدّت إلى ابتعاد النقاد عنه.
وأحد اعظم أعماله الفنية هو لوحته الجميلة "البارجة تيميرير" التي يصوّر فيها السفينة الحربية التي لعبت دورا مشهودا في معركة الطرف الأغرّ وهي ُتسحب بعيدا عن البحر من قبل سفينة من النوع الجديد آنذاك الذي يعمل بالبخار.
هذه اللوحة وغيرها من أعمال تيرنر حاول فيها الفنان تسجيل بعض مظاهر تحوّل بريطانيا إلى الثورة الصناعية والتغيّرات التي رافقت ذلك وأثرت على وسائل المواصلات وغيرها من اوجه الحياة.
كان تيرنر يدرك أهمّية هذه اللوحة ولذا فقد كان يرفض بيعها على الدوام منذ أن ظهرت لاوّل مرّة في العام 1838م.
في زمانه تعرّض تيرنر للهجوم والسخرية، إذ أن الجمهور في تلك الأيام كان يطمح في رؤية أعمال فنية واقعية وقريبة جدا من الصور الفوتوغرافية في تعاملها مع الأجسام المادية.
في حين أن تيرنر كان يركّز على اكتشاف التفاعل الوثيق والخلاق بين الضوء والجوّ، وهو ملمح طبع جميع لوحاته.
وبعد أن تغيّر الحال اصبح الناس يقدّرون دور الفنان في ترجمة الأشياء والإحساس الكامن فيها بدلا من الانشغال بالحقائق والمفردات المادية والمجرّدة.
توفّي جوزيف تيرنر في لندن في العام 1851م.

Tuesday, September 13, 2005

لوحـات عالميـة – 46


الفتــى الأزرق
للفنان البريطاني توماس غينسبورو، 1770

يُعتبر توماس غينسبورو أشهر من رسم البورتريه من الفنانين الانجليز. وأحد أشهر بورتريهاته هو الفتى الأزرق الذي استنسخ مرّات لا تُحصى.
في هذا البورتريه الكلاسيكي يحاول غينسبورو محاكاة أسلوب الرسّام الهولندي انتوني فان دايك الذي اشتهر بلوحاته الني يصوّر فيها ملابس الفرسان التي كانت شائعة في القرن السابع عشر.
كان غينسبورو معجبا كثيرا بـ فان دايك الذي كان قد أقام في بريطانيا فترة. ويبدو انه رسم "الفتى الأزرق" بوحي من إعجابه ووفائه للرسّام الهولندي.
كان أسلوب فان دايك في رسم البورتريه يبرز أناقة وثراء الشخصيات التي يصوّرها وكان يبالغ في ارتفاع الشكل وتطويل الأيدي لإبراز الأناقة والمنزلة الرفيعة. كما كان يصوّر شخصّياته بملابس ثمينة وزاهية الألوان.
واللوحة تصوّر جوناثان بوتال وهو ابن تاجر خردوات ناجح كان صديقا لـ غينسبورو.
وقد ألبس الرسّام الشاب ثيابا تعود إلى ما قبل 140 عاما من ذلك التاريخ. ويظهر جوناثان في اللوحة وهو يرتدي ثوبا من الساتان الأزرق المطرّز ويمسك بقبّعة سوداء ويقف أمام منظر طبيعة ريفية.
ملامح الشابّ ونظراته وطريقة وقوفه تعطي انطباعا بالجسارة والثقة بالنفس. كما أن استطالة وجهه تذكّر بتماثيل عصر النهضة.
وشأن بقيّة لوحاته الأخرى، رسم غينسبورو الشابّ اعتمادا على ملاحظاته الخاصّة عن طبيعة الشخصية ومزاجها أكثر مما كان يعتمد على قواعد الرسم الأكاديمي المتعارف عليها.
ورسوماته إجمالا تتسم بالإثارة والشاعرية. كما أنها لا تخلو من الأناقة والتلقائية والدفء الإنساني. وفي بعضها يظهر تأثّره إلى حدّ ما بأسلوب روبنز.
ولد توماس غينسبورو لعائلة متواضعة وكان اصغر إخوته التسعة. ومنذ بداياته، كان شغوفا برسم الطبيعة فصوّر الغابات والمراعي وحياة الريف.
ومناظره الطبيعية تتميّز بطابعها التأمّلي وبتلك المسحة من الحزن الشاعري الذي تعمّقه طريقته المتفرّدة في تمثيل الضوء الخافت.
وقد عُرف عن غينسبورو انجذابه القويّ للموسيقى. وعندما سافر إلى ايطاليا حرص على الالتقاء بالموسيقي النمساوي موزارت حيث ربطتهما في ما بعد صداقة وثيقة.
وفي زمانه كان غينسبورو، مع زميله جوشوا رينولدز، أفضل رسّامَين في انجلترا. غير انه كان الرسّام المفضّل عند أفراد الطبقة الارستقراطية. وبفضل تعاملهم معه وقربه منهم أصبح شخصا ثريّا وذا مكانة اجتماعية مرموقة.
ومن أشهر لوحاته الأخرى بورتريه إليزابيث شيريدان التي كانت موسيقية موهوبة وأحد رموز الارستقراطية الانجليزية آنذاك.
في أحد الأوقات كانت "الفتى الأزرق" اللوحة الأكثر شعبية في الولايات المتحدة.
وقد حدث هذا بعد أن اشتراها ثريّ أمريكي في عشرينات القرن الماضي مع لوحة توماس لورنس المشهورة بورتريه سارة مولتون أو الفتاة الزهرية.
ومنذ ذلك الوقت واللوحتان تُعرضان جنبا إلى جنب في متحف هنتنغتون الأمريكي.
ويقال إن إقبال الناس على شراء نسخ من اللوحتين كان ظاهرة نادرة الحدوث.
ولأن العنصر المشترك بين العملين هو طبيعة اللباس الذي ترتديه الشخصيّتان، فقد كان لذلك تأثير قويّ على لون اللباس الذي يفضّله الأمريكيون، لدرجة أن الأزرق أصبح اللون المفضّل للأولاد والزهري اللون الذي تفضّله الفتيات.
رسم الفنان توماس غينسبورو على امتداد سنوات حياته الستّين حوالي 500 لوحة: 300 منها تتناول مواضيع الطبيعة و 200 عبارة عن بورتريهات لأشخاص.

Monday, September 12, 2005

لوحـات عالميـة – 45


الغجـريّـة النـائمـة
للفنان الفرنسي هنـري روسّـو، 1897

ولد هنري روسو في العام 1844 بفرنسا لعائلة فقيرة، وعندما صقل موهبته الفنية بدأ في بيع لوحاته ليعيل أسرته.
كان الفنان يتردّد كلما توفّر له الوقت على حديقة الحيوان بحثا عن مواضيع لرسوماته.
بعض الحيوانات في الحديقة كان منظرها يدخل الخوف في قلبه، وقد الزم نفسه مرارا بعدم الذهاب إلى هناك، لكنه كان يعود إلى الحديقة من جديد ليرسم الحيوانات.
"الغجرية النائمة" هي اشهر لوحات روسو وأكثرها مبيعا وهي مثال ممتاز على طبيعة أعمال هذا الفنان.
فهي تصوّر غجرية نائمة في صحراء والى جوارها أسد فضولي يحاول، بحذر، الاقتراب منها.
ربّما يكون الأسد من نسج أحلام المرأة، إذ الظاهر أنها تنظر إليه باعتباره مجرد فانتازيا اكثر من كونه يشكّل خطرا.
في هذه اللوحة لمسة طفولية واضحة لان الفنان استخدم فيها خطوطا غير واقعية، وقد عمد إلى تغميق بشرة الغجرية والأسد لابراز التباين المطلوب مع الخلفية البيضاء. كما ترك مساحات فارغة حول الشخصيات الرئيسية لكي يجذب انتباه الناظر إلى وسط اللوحة.
روسو ينتمي إلى الرمزية – ما بعد الانطباعية – والتي لا تهتم بالعالم المنظور والمظاهر السطحية بل تركّز على عالم الفانتازيا الداخلي.
وكان منجذبا إلى رسم مناظر الغابات والحيوانات المثيرة للاهتمام كالأسد والنمر، مع ميله إلى رسم الطبيعة وتأمّل جمالها.
وبالإضافة إلى تركيزه على استخدام الخطوط المستقيمة، كان روسو يميل إلى استخدام ألوان الباستيل في رسوماته الفانتازية، ولعلّ هذا هو ما يفسّر إعجاب الأطفال برسوماته.

Sunday, September 11, 2005

لوحـات عالميـة – 44


القـوط الأمـريكيـون
للفنان الأمريكي غـرانـت وود، 1930

عندما ظهرت هذه اللوحة لاول مرة أثارت جدلا كبيرا في أوساط الفن، إذ اعتبرها بعضهم كاريكاتيرا مهينا بحق سكان الريف البسطاء.
لكن لوحة "القوط الأمريكيون" اكتسبت القبول والاعتراف شيئا فشيئا إلى أن أصبحت في فترة وجيزة اكثر اللوحات الفنية شعبية ورواجا في الولايات المتحدة.
كان الفنان غرانت وود يتبنى واقعية القرن الخامس عشر في الفن الأوربي، وقد استمد الفنان موضوع لوحته من بيئة موطنه في ولاية ايوا بالغرب الأوسط الأمريكي.
لوحة "القوط الأمريكيون" تصوّر مزارعا وابنته العانس وهما واقفان أمام منزلهما ذي الملامح المعمارية القوطية، ومن هنا أخذت اللوحة عنوانها.
وفي الواقع فان "الموديلين" اللذين استخدمهما الفنان في رسم اللوحة هما أخت الفنان نفسه وطبيب أسنان العائلة.
وقد اتهم الفنان وود بإنتاج هذه اللوحة من اجل السخرية من التعصب والصرامة اللتين تتسم بهما الطبيعة المنعزلة لسكان الريف الأمريكي.
واصبحت اللوحة مثارا للكثير من الآراء المتناقضة. فبعض النقاد قالوا إنها تشكل احتفالا بالقيم الأمريكية الاصيلة، والبعض الآخر ذهب إلى أن اللوحة تمثل نقدا ساخرا لتلك القيم.
قد يكون الرجل الواقف في اللوحة ممسكا بمقشّة مزارعا، وقد يكون واعظا، وهو هنا – وبدافع الغيرة – يحرس ابنته من عيون الرجال المتطفلين.
الطراز القوطي للمنزل والنظرات الوقورة للرجل والملامح الحادة للمرأة كلها ثيمات قد ترجح احتمال أن يكون الفنان أراد فعلا السخرية من القيم الموغلة في المحافظة والتشدد الذي كان سائدا في بيئته خلال ثلاثينات القرن الماضي.
ومنذ العام 1930 وحتى اليوم، ظلت "القوط الأمريكيون" من مقتنيات معهد شيكاغو للفن المعاصر، وتعتبر اللوحة واسطة عقد الأعمال الفنية الممتازة التي تضمها مجموعة المعهد.
واللوحة برأي الكثير من النقاد تعتبر إحدى اشهر عشر لوحات في تاريخ الفن العالمي كله.
أما المرأة العانس فينظر إليها على أنها إحدى اشهر ثلاث شخصيات أنثوية خلدهن فن التصوير، أما الشخصيتان الأخريان فهما موناليزا دافنشي ووالدة الفنان جيمس ويسلر.

موضوع ذو صلة: عندما تتحوّل الصورة إلى أيقونة

Saturday, September 10, 2005

لوحـات عالميـة – 43

المـوجـة التاسعـة
للفنان الروسي ايفـان ايفازوفسـكي، 1850

كان ايفان ايفازوفسكي معاصرا لانبثاق عصر النهضة الروسيّ بعد انتهاء حرب نابليون، والذي شهد ولادة الكثير من الأسماء اللامعة في ميادين الثقافة والموسيقى والأدب والفنّ مثل بوشكين وغوغول وليرمنتوف وميخائيل غلينكا وغيرهم.
ويمكن اعتبار هذا الرسّام آخر وأكثر ممثّلي الرومانسية نفوذا. وهذا واضح من لوحاته التي تمجّد المعارك الحربية. في تلك اللوحات يُخيّل إليك للوهلة الأولى انك أمام مهرجان كبير واحتفالات وألعاب ناريّة، لكن بعد قليل يتّضح لك أن ما تراه هو معركة تجري في البحر ليلا وأن سفينة من الأسطول المعادي تنفجر محترقة في الظلام.
رسم ايفازوفسكي أكثر من ستّة آلاف لوحة خلال ستّين عاما من العمل. والعديد من لوحاته يمكن اعتبارها تمجيدا لأسطول البحرية الروسيّ في القرن التاسع عشر.
وهذه اللوحة هي أشهر لوحاته، بل يقال أحيانا أنها أجمل لوحة روسية على الإطلاق. كان عمره عندما رسمها لا يتجاوز الثالثة والثلاثين. وفيها تتبدّى موهبته في أجلى صور النضوج والتبلور.
اللوحة تصوّر بحرا هائجا بعد عاصفة ليلية، وبحّارة على سفينة وهم يواجهون خطر الموت ويحاولون إنقاذ أنفسهم بالتمسّك بحطام السفينة الغارقة، بينما ترسل الشمس خيوطها الأولى لتلمع فوق الأمواج الضخمة.
وأكبر هذه الأمواج، الموجة التاسعة، تبدو على وشك أن تبتلع البحّارة الذين يصارعون من اجل النجاة بأنفسهم فوق السارية الغارقة بعد أن هلك عدد من رفاقهم.
البحّارة يدركون أنهم لن يستطيعوا السباحة للخروج من الخطر المحدق، وأنهم يواجهون موتا شبه محتّم، ومع ذلك يتشبّثون بالسارية ويصارعون العناصر من اجل البقاء. والمشهد كلّه يوحي بشيئين: الإحساس باليأس ومحاولة التمسّك بالحياة.
تتألّف هذه اللوحة من تدرّجات لونية دافئة قوامها الأزرق والأخضر والزهريّ والأرجوانيّ. والبحر لا يبدو شرّيرا كثيرا، الأمر الذي يدفع الناظر إلى الظنّ الواهم بأن البحّارة ربّما يتمكّنون من النجاة. لكن مثل هذا الاحتمال يبدو شبه مستحيل.
وموهبة ايفازوفسكي في تحكّمه بالألوان وإجادته لعبة الضوء هي التي تجعل البحر يبدو هنا طبيعيّا ومتوهّجا. كما أن انعكاس ضوء القمر يعطي للوحة حيوية وأصالة ولمسة رومانسية إلى حدّ ما.
اسم اللوحة، أي الموجة التاسعة، مصدره اعتقاد شعبيّ بأن كلّ موجة من أمواج البحر تختلف عن الأخرى في حجمها وقوّتها. الإغريق كانوا يعتبرون أن الموجة الثالثة هي الأقوى تدميرا. والرومان كانوا يعتبرون الموجة العاشرة هي الأخطر. لكن في رأي معظم البحّارة فإن الموجة التاسعة هي الأكثر تدميرا ولا يمكن أن تقف سفينة بوجهها مهما كانت مؤمّنة ضدّ الكوارث.
أيضا للوحة معنى دينيّ يتمثّل في أن الخلاص يمكن أن يأتي للإنسان إذا ما تسلّح بالإرادة الصادقة في قهر الصعاب. البحّارة يعرفون القوّة المميتة للموجة، لكنهم لا يفقدون الأمل في النجاة.
ورغم الدراما المأساوية للقصّة/اللوحة إلا أنها لا تترك ذلك الانطباع الحزين، فهي مملوءة بالضوء والهواء وتنقل إحساسا متفائلا. والرسّام نفسه يبدو معجبا بجمال البحر.
وربّما لهذا السبب أثارت هذه اللوحة مخيّلة أكثر من شاعر روسيّ أهمهم باراتينسكي الذي كتب قصيدة من وحيها عن الرغبة في القتال والثقة في النصر.
ولد ايفان ايفازوفسكي في مدينة فيودوسيا الروسية في العام 1817 لعائلة أرمنية فقيرة. ووقت ولادته كانت المدينة مدمّرة بسبب الحرب وتعاني من آثار تفشّي مرض الطاعون القاتل.
في طفولته كان الرسّام مفتونا بخليج المدينة الساحر وبآثار قلعة يونانية قديمة فيها. وفي عام 1833 دخل أكاديمية الفنون الروسية حيث درس فيها رسم المناظر الطبيعية على يد رسّام الطبيعة فوروبييف.
وفي عام 1838 اُرسل إلى شبه جزيرة القرم لمدّة سنتين حيث رسم هناك لوحات تتناول عناصر الطبيعة. ثم ذهب بعد ذلك إلى الخارج، ليعود إلى روسيا في العام 1844. وما لبث أن ُمنح لقب "أكاديميّ" وُعهد إليه بمهمّة رسم الموانئ العسكرية الروسية الكبرى الواقعة على بحر البلطيق.
خلال حياته الطويلة، سافر ايفازوفسكي كثيرا، فزار روما وباريس وغيرهما من مدن أوربّا. كما عمل في القوقاز وأبحر إلى شطآن آسيا البعيدة وقضى وقتا في مصر، بل وحتى سافر إلى الولايات المتحدة.
لكن رحلته إلى ايطاليا كان لها أهمّية خاصّة، إذ اكتسب أسلوبه هناك تميّزا اكبر. جون تيرنر، رسّام مناظر البحر الانجليزيّ المشهور، التقاه في روما ورأى لوحته "الهدوء في البحر" فذُهل للمنظر وكتب قصيدة شعر يمجّد فيها الرسّام ويصفه بالعبقريّ.
قضى ايفازوفسكي معظم حياته في فيودوسيا، المدينة التي ولد ونشأ فيها. وكثيرا ما كان ينظّم معارض للطلبة الفقراء في أكاديمية الفنون في المدينة. وبالإضافة إلى الرسم، كان بارزا في عدّة مجالات، فقد كان يعزف الكمان، كما كان مهندسا معماريا وخبيرا في الآثار.
وفي آخر عشر سنوات من حياته حاول رسم البورتريه، لكن معظم بورتريهاته التي رسمها لم تلاقِ النجاح المنشود.
غير أن ايفازوفسكي هو اليوم أكثر رسّام روسيّ يبحث عنه مقتنو الأعمال الفنّية من القرن التاسع عشر. وأعماله تُباع في المزاد بأسعار قد تصل أحيانا إلى ملايين الدولارات.

Friday, September 09, 2005

لوحـات عالميـة – 42


تمثـال فيـنوس دي ميلــو
(القرن الثاني قبل الميلاد)

ينظر الكثير من نقاد الفن ودارسيه إلى تمثال فينوس دي ميلو باعتباره ثاني اشهر عمل فني في العالم بعد الموناليزا. وأحد مظاهر شعبية هذا التمثال هو الصفوف الطويلة من الزوّار الذين يتقاطرون على اللوفر في باريس لمشاهدة التمثال.
ولا تتمثل شعبية التمثال فقط في توظيفه في الراويات وعلى أغلفة المؤلفات الموسيقية، وانما أيضا في حقيقة انه كان مصدر الهام للعديد من الفنانين الكبار وعلى رأسهم دالي وسيزان وماغريت وسواهم.
وعندما أعارت فرنسا التمثال لليابان في العام 1964 كان عدد من تقاطروا لمعاينته اكثر من نصف مليون شخص.
بعض أسباب شعبية التمثال واضحة، فهو نموذج رائع في البراعة والإتقان الفني. كما أن ذراعي التمثال المفقودين يجعلان من السهل التعرّف عليه وتمييزه عن مئات الأعمال النحتية الأخرى.
غير أن هناك سببا آخر لا يقلّ أهمية، وهو الحملة الدعائية الكبيرة التي نظمها الفرنسيون للتمثال منذ بدايات عام 1821 م.
لقد كان لدى الفرنسيين منتج متميّز وكانوا يدركون أهمية الترويج له. لكن المشكلة الأساسية التي كان يتعيّن عليهم تدبير حلّ لها كانت حقيقة أن اسم النحّات الذي أبدعه كان مجهولا.
وقد ُعثر على تمثال فينوس دي ميلو في الثامن من أبريل 1820 في إحدى المناطق الأثرية بين جزيرة كريت والبرّ اليوناني من قبل أحد الفلاحين. وقد أخفى الفلاح التمثال عن أعين الأتراك لبعض الوقت مخافة أن يصادروه، إلى أن تعرّف على أهميته بعض الفرنسيين الذين قرّروا شراءه والاحتفاظ به.
وبعد مفاوضات مضنية بين الفرنسيين والسلطات اليونانية، وافقت الأخيرة على بيعه لفرنسا مقابل 1000 فرنك فرنسي، أي بما لا يتجاوز قيمة قطيع من الماعز بمقاييس ذلك الزمان.
وبعد رحلة في البحر عبر المتوسّط، وصل التمثال أخيرا إلى باريس، حيث قام ماركيز ريفيير سفير فرنسا لدى الأتراك العثمانيين بإهدائه إلى لويس الثامن عشر في احتفال خاص.
ويظهر أن هذه التحفة الفنية النادرة التي تعود للعصر الكلاسيكي لليونان كانت هي بالضبط ما كان اللوفر يتوق لاقتنائه في النهاية.
كان ُينظر إلى التمثال على الدوام باعتباره تجسيدا للخيال والإلهام والعبقرية التي أبدعت كلاسيكية الإغريق. وقد تبوّأ التمثال مكانا متفردا في اللوفر منذ اقتنائه واصبح مصدرا مهما استوحى منه العديد من الفنانين الفرنسيين أعمالهم.
نابوليون بونابرت لم يكن يظهر كبير اهتمام بالفن، ومع ذلك كان يحرص على الوقوف إلى جانب التمثال لكي يحذو حذوه ضيوف الشرف الذين كانوا يزورون باريس في تلك الأيام.
لكن بعد هزيمة بونابرت في ووترلو ونفيه إلى جزيرة سينت هيلينا، توافد على فرنسا مندوبون من الدول التي هزمت نابوليون لكي يطالبوا بقطعهم الفنية المنهوبة.
وخلال عام واحد تمكّنت ايطاليا وانجلترا من استعادة كنوزهما الأثرية التي تعود للعصور الرومانية والإغريقية.
لكن بقي تمثال فينوس دي ميلو بحوزة الفرنسيين كي يقلدوه وينسجوا على منواله.
يقول بعض خبراء الفن إن التمثال ربّما يعود للفنان العظيم فيدياس أو لزميله براكسيتيليس، وهما نحّاتان إغريقيان عاشا في القرن الرابع أو الخامس قبل الميلاد.
لكن بناء على بعض النقوش والكتابات التي وجدت في المنطقة التي ُعثر فيها على التمثال، يميل بعض المؤرخين الآن إلى أن مبدع التمثال هو الكساندروس الانطاكي، الذي كان موسيقيا ونحّاتا عبقريا في ذلك الزمان، ولم تكن شهرته أو موهبته الفنية تقلّ عن تلك التي لزميليه.

Wednesday, September 07, 2005

لوحـات عالميـة – 41


ليــدي ليـليــث
للفنان البريطاني دانتي غابرييل روزيتي، 1873

شهد العام 1848 ذروة اهتمام أوساط الأدب والفن بشخصية الليدي ليليث الأسطورية وذلك بفضل أعمال كل من الشاعر الإنجليزي كيتس والفيلسوف الألماني غوته.
وفي الأعمال الشعرية والفنية في ذلك العصر، ترسّخت أسطورة ليليث باعتبارها رمزا للمرأة التي تتمتع بالجمال والذكاء والقوة.
وينظر العديد من النقاد إلى لوحة دانتي غابرييل روزيتي عن ليليث باعتبارها تمثل لحظة التحوّل في تلك الشخصية الأسطورية.
كان دانتي روزيتي، الإيطالي الأصل، يوصف بأنه مصوّر درامي وباحث عن المعنى وصانع أساطير، وربما تعمّد رسم ليليث بهذه الهيئة الحديثة كــي يخلع على أسطورتها مضمونا معاصرا.
ليليث – حسب الروايات الإنجيـلية – كانت الشقيقة التوأم لآدم، وكانت تعيش معه في جنات عدن، وآدم كان ملك الجنة، وكانت ليليث تتطلع إلى أن تشاركه في الحكـم غير أن ذلك لم يتحقق رغم أنها كانت تتصف بالحكمة والأناة ورباطة الجأش. وقد ضاقت ليليـث ذرعا بآدم الذي كان اقلّ منها ذكاء وحكمة.
بعد أن ُاخرجت ليليث من الجنة، تعلمت من إله النور المزيد من الحكمة وعاشت ملكـة لليـل، إذ كانت تدعو السُـمّـار والساهرين للرقـص والمرح إلى أن يغيب ضـوء القمر.
اليوم أصبحت ليليث، بفضل تمسّكها بحرّيتها الشخصية واعتدادهـا بنفسـها وتحكّمها في رغباتها وتمرّدهـا على استبـداد الرجل، رمزا للكثير من الحركـات النسوية في العالم.
أما في الأساطيـر فما تزال ُتصوّر على هيئة أفعى أو شيطان أو ملاك سقط من عليائه. وفي تراث الكثيـر من الشعوب، ومنهم اليهـود والمسلمون، يكفي أن تعصـي المرأة أمر زوجها لكي تتعرّض للنبذ وتتحوّل بالتالي، كما ليليث، إلى حيّة ماكرة أو شيطان مريد.

موضوع ذو صلة: الليدي ليليث

لوحـات عالميـة – 40


تمثـال ابـوللـو و دافـنـي
للنحات الإيطالي جيان لورنزو بيرنيني، 1625

في العام 1624، كلّف الكاردينال بورغيزي النحّات والفنان جيان لورنزو بيرنيني بتحويل قصّة ابوللو ودافني الأسطورية إلى عمل رخامي.
وشرع بيرنيني في نحت هذا التمثال الذي يصوّر اللحظة التي تمكّن فيها ابوللو إله النور من الالتحام بالحوريّة دافني بعد أن دأبت على صدّه وإبعاده. تلك اللحظة التي تقول الأسطورة إن جسد دافني تحوّل عندها إلى شجرة غار وشعرها ويديها إلى أغصان وأوراق.
هذه القطعة النحتية الرائعة هي أفضل مثال على براعة بيرنيني وحرفيّته العالية. وقد جرت العادة على أن يُصنّف التمثال على انه من الفنّ الايروتيكي، غير انه بنفس الوقت يمكن أن يرمز إلى التحوّلات التي مرّ بها النحّات في مراحل تطوّره الفنّي.
كان بيرنيني نحّاتا ورسّاما ومهندسا معماريا بارزا، كما كان مناصرا قويّا لفنّ الباروك في إيطاليا. وقد ولد لأب كان يعمل نحّاتا هو الآخر. وعندما لاحظ براعة ابنه في التعامل مع الحجر وهو بعدُ في سنّ مبكرة، عهد به إلى من يعلّمه وينمّي ويرعى موهبته.
"ابوللو ودافني" كان آخر عمل موّلته عائلة بورغيزي، وهو أحد أشهر الأعمال النحتية وأكثرها شعبية وشهرة حتى اليوم. وقد بدأ بيرنيني نحت التمثال وهو في سنّ الرابعة والعشرين وتطلّب إنجازه ثلاث سنوات كاملة.
والقصّة التي يجسّدها التمثال تحكي عن الرغبة وتتضمّن إشارات عديدة إلى الحواسّ وخاصّة اللمس. وقد حوّل النحّات الأسطورة إلى قطعة فنية مليئة بالرقة والشاعرية. ومن الواضح أن بيرنيني عمد إلى استلهام الصورة التي كانت رائجة عن ابوللو في العصر الهيلينستي، فصوّره بشعر طويل وملامح جميلة وبهيئة ليست بالذكورية ولا بالأنثوية الخالصة.
السؤال الذي أثاره الكثيرون في تلك الفترة هو: ما الذي يدفع رجلا متديّنا كالكاردينال بورغيزي للاهتمام بتجسيد أسطورة وثنية والاحتفاظ بها في منزله؟
الجواب نجده في بيت الشعر المنسوب للكاردينال بارباريني "البابا في ما بعد" والذي أمر بورغيزي بحفره في إطار قاعدة التمثال والذي يقول: "أولئك الذين ينشدون المتع السريعة الزوال لا يبقى بأيديهم في النهاية أكثر من أوراق الحنظل".
بحلول العام 1624 تبنّى بيرنيني اتجاها تعبيريا مفعما بالمضامين الانفعالية والسيكولوجية. ويُعزى له الفضل في تصميم عدد من النوافير ذات التماثيل البديعة والفخمة وأشهرها نافورة الأنهار الأربعة، لدرجة أن روما أصبحت في زمانه تسمّى مدينة النوافير. كما صمّم عددا من القصور والكنائس المشهورة. وقبيل وفاته ذهب إلى باريس كي يشارك في إعادة تصميم متحف اللوفر.
وقد عاش بيرنيني حياة طويلة امتدّت زهاء ثمانين عاما أنجز خلالها عددا من الأعمال النحتية التي تعتبر اليوم علامات بارزة ومهمّة في تاريخ النحت الغربي. ومن أشهر أعماله الأخرى تمثال سينت تيريزا، الحقيقة كما يكشفها الزمن، ديفيد، و"بلوتو وبروسيربينا".
وممّا يؤثر عن احد النقاد قوله واصفا قوّة منحوتات بيرنيني: للفنّ العظيم سلوكياته المخيفة. فقد أخذ بيرنيني الحجر وحوّله إلى لحم، وأخذ راهبة ومنحها شهوة".
الجدير بالذكر أن أسطورة ابوللو ودافني كانت موضوعا للعديد من الأعمال المسرحية والشعرية عبر العصور. كما استوحى من أحداثها الموسيقي الألماني فريدريك هاندل أحد أشهر أعماله الاوبرالية.

Tuesday, September 06, 2005

لوحـات عالميـة – 39


عـذراء المستشـار روليـن
للفنان الهولندي يان فـان آيـك، 1436

طلب المستشار نيكولاس رولين من الفنان الهولندي يان فان آيك رسم بورتريه له.
رولين كان حاكما على بورغوندي وبرابانت، وكان ذا شخصية صارمة جدا. وبالرغم من خلفيته المتواضعة فانه كان رجلا متوقّد الذكاء إلى أن استطاع في النهاية تولي تلك الوظيفة المرموقة.
وطوال أربعين سنة كان رولين اليد اليمنى للملك فيليب الملقب بالطيب، كما كان أحد المهندسين الرئيسيين وراء نجاح العرش.
وقد رسم فان آيك هذه اللوحة عندما كان رولين في ستّينيات عمره.
ورغم المسئوليات الجسام التي كان ما يزال يقوم بها آنذاك، فان وجه رولين في اللوحة ما يزال يفتن الناظر مع انطباع هو مزيج من القوة والنشاط والصرامة.
رولين هنا يرتدي سترة موشّاة بالذهب. ويبدو المستشار في وضع الانحناء علامة الخضوع والاحترام.
أما نظراته فتبدو مستغرقة في التأمّل والخشوع كما لو انه فرغ توّا من قراءة الكتاب المقدّس.
والى اليمين تبدو العذراء جالسة في رداء احمر وقد قدّمت إلى المستشار المسيح الصغير، بينما أمسكت إحدى الملائكة بالتاج الضخم لتضعه على رأس العذراء.
أما الأعمدة الثلاثة التي ينكشّف عنها المشهد في الخلفية فتبدو كبيرة بعض الشيء مقارنة بالأشياء القريبة، وعبر الأعمدة تبدو حديقة صغيرة تناثرت فيها الزهور التي ترمز إلى فضائل السيّدة العذراء.
وعلى مقربة من المشهد يلوح ملاكان صغيران يعطي أحدهما ظهره للناظر.
والى جوارهما يبدو طاووسان ربّما أراد الفنان أن يتّخذ منهما رمزا للخلود والأبدية، أو قد يرمزان للرفعة والكبرياء التي تتّسم بها شخصية المستشار رولين.
لكن المشهد الأكثر جلالا وروعة في هذه اللوحة هو بلا شكّ منظر المدينة الذي يتراءى خلف الغرفة.
والانطباع الذي يتركه المشهد بأجمعه هو أن القصر هو في واقع الأمر حصن بني على حافّة تلة مرتفعة.
والى اسفل، أي في منتصف اللوحة تماما، يبدو نهر يترقرق ماؤه متدفّقا عبر وسط المدينة بينما بدت في منتصفه جزيرة صغيرة.
والى اليسار وخلف المستشار رولين يبدو الجزء الأكثر تواضعا في المدينة.
والى اليمين، أي خلف العذراء، تبدو الأحياء الموسرة من المدينة مجللة بالمنظر المهيب للكنيسة القوطية.
وعلى ضفاف النهر بدت القوارب وهي تتهادى على صفحة الماء وصولا إلى الشاطئ.
الشاهد هنا هو أن جميع البشر الذين يوحّدهم الإيمان يسافرون جميعا باتجاه هذه المدينة وكاثيدرائيتها العتيقة.
وفي البعيد، يلوح الأفق وقد ُسدّ بمنظر الجبال التي تكلل قممها الثلوج تحت سماء زهرية صفراء.
يرى بعض النقاد أن هذه اللوحة تقدّم نظرة شاملة للكون، أما فان آيك نفسه فقد كان اشهر الفنانين الفلمنكيين خلال القرن الخامس عشر. وقد منحته موهبته ميزة القرب من بلاط الملك فيليب في لاهاي.
أنجز فان آيك افضل لوحاته بين العامين 1432 و 1439م ، واشهرها العذراء والمستشار و ارنولفيني وزوجته.
توفّي جان فان آيك في العام 1441م.

موضوع ذو صلة: رسوم وتصاوير دينية

Monday, September 05, 2005

لوحـات عالميـة – 38


بورتريـه الدكتـور غاشيـه
للفنان الهولندي فنسنـت فــان غــوخ، 1890

بورتريه الدكتور غاشيه هو أحد اشهر أعمال الفنان فان غوخ.
أما لماذا هو مشهور فلعدة أسباب، أهمها أن فان غوخ رسمه في الأشهر الأخيرة من حياته، ثم لان موضوع اللوحة ظل لزمن طويل مثار جدل كبير، أما السبب الثالث والاهم فلأن لوحة الدكتور غاشيه كانت الى ما قبل ثلاث سنوات اللوحة الأغلى مبيعا في تاريخ الفن وذلك عندما بيعت لثري ياباني بحوالي 83 مليون دولار بعد ثلاث دقائق فقط من طرحها في مزاد فني في العام 1990م.
فان غوخ رسم لوحتين لطبيبه الخاص الدكتور غاشيه، اشهرهما هذه اللوحة التي يتفق كثير من النقاد على اعتبارها تجسيدا لبراعة فنية لا نظير لها.
لكن إلى أي حد كان هذا الطبيب بارعا هو الآخر؟
في إحدى رسائله إلى أخيه ثيو يشير فان غوخ إلى الدكتور غاشيه قائلا: انه مريض مثلي، بل ربما يكون اكثر مرضا"!
في عام 1888 انتقل فان غوخ إلى ضاحية آرلي في جنوب فرنسا، وفي آرلي تعرّف على الدكتور غاشيه الذي اصبح صديقه المقرّب الذي يلتمس عنده العلاج لنوبات الصرع العنيفة التي كانت تنتابه من وقت لاخر.
في هذا الوقت، كانت ألوانه كثيفة ولمسات فرشاته مضطربة كما يتضح من لوحاته التي تعكس تشوّشا واضطرابا ذهنيا ومن اشهرها "الملهى الليلي".
طوال حياته لم يجد فان غوخ أي تقدير أو إشادة بفنه ولم يبع سوى لوحة واحدة فقط.
كان فاشلا في حياته ولم يجد عطفا أو صداقة من أحد. وخلال السنوات الخمس الأخيرة من حياته اكمل فان غوخ رسم اكثر من 800 لوحة زيتية.
على الطاولة، وأمام الدكتور غاشيه، تبدو نبتة "قفاز الثعلب" التي اشتق منها عقار الديجيتاليس، في إشارة من فان غوخ إلى كفاءة الدكتور غاشيه ومهارته الطبية، وربما كانت تلك إشارة من الفنان إلى انه كان يعالج بذلك العقار قبل أن يقدم على الانتحار بعد جلسة طويلة مع غاشيه ليلة التاسع والعشرين من يوليو 1890م.