منحوتة طائـر فـي الفضـاء
للنحّات الروماني كونستانتين برانكوزي، 1940
قليلة هي الأعمال التجريدية التي تحوّلت من كونها مرتبطة بزمن وعصر معيّن لتصبح مع مرور السنوات تحفا فنية خالدة تتحدّى عوامل النسيان والتقادم.
وهذه المنحوتة توفّر نموذجا لذلك. فكلّ ما فيها يضفي شعورا بالتحليق والفخامة.
وقد عمل النحّات على صقل وتنعيم النحاس إلى أن ذابت مادّية التمثال في لمعانه البرونزي المنعكس.
كان كونستانتين برانكوزي في بداياته نجّارا وبنّاءً للحجر. وعندما وصل إلى باريس في مستهلّ القرن الماضي كان متأثّرا بالفنّ الشرقي والأفريقي. وبدأ في تعلّم أسس النحت على يد رودان.
لكنه بدأ ينأى بنفسه عن أسلوب النحّات الفرنسي تدريجيا، ليختار أسلوبا أكثر بساطة واقلّ من حيث العناصر، سعيا وراء ما كان يعتبره شكلا نقيّاً.
منحوتات برانكوزي تتّسم بالحميمية وبالأناقة البصرية وغلبة الطابع التجريدي عليها. وهناك من يعتبرها من أهمّ إبداعات حركة النحت الحديث.
كان النحّات معروفا بحرصه على أن يلتقط بنفسه صورا فوتوغرافية لمنحوتاته لدواعي حصرها وتوثيقها.
وقد عمل معه في إحدى الفترات النحّات الياباني نوغوتشي الذي تعلّم على يد برانكوزي أساليب وتقنيات الحفر على الحجر والخشب.
وفي باريس كوّن صداقات مع عدد من الرسّامين المعروفين في ذلك الوقت مثل موديلياني ودوشان وماتيس وهنري روسّو.
كان اسم برانكوزي قد بدأ في الانتشار والذيوع بفضل اجتهاده وعصاميّته بالإضافة إلى دعم رعاته الذين ساندوه وآزروه.
وفي الثلاثينات، كلّفه احد مهراجات الهنود بالذهاب إلى الهند للقيام بأعمال النحت في احد المعابد الهندوسية.
كما تجوّل في العديد من العواصم الأوربية مثل ميونيخ وفيينا وبودابست. وزار نيويورك مرارا حيث عرض فيها عددا من أعماله.
بدأ برانكوزي الاشتغال على فكرة "الطائر أثناء طيرانه" منذ بداية أربعينات القرن الماضي. واستغرقه ذلك عشر سنوات كاملة. وكان يركّز في عمله على حركة الطائر أكثر من خصائصه وسماته الجسدية.
في هذه المنحوتة لا نرى أجنحة أو ريشا، بل جسم مستطيل يأخذ الرأس فيه شكلا بيضاويا شبيها بذلك الذي للطائرة.
ومن الواضح أن تطلّعات الفنان الروحية وتوقه للتسامي فوق العالم المادي وقيوده الكثيرة تجسّدت في هذا العمل النحتي الجميل.
المعروف أن برانكوزي أنجز ضمن هذه السلسلة ستّ عشرة منحوتة من البرونز والرخام تمّ صقلها وتنعيمها بعناية وإتقان.
وقبيل وفاته في العام 1957، أوصى بأن يؤول الاستديو الخاصّ به إلى متحف باريس للفنون شريطة أن يُضمّ الاستديو بالكامل إلى المتحف. وهناك اليوم من يشبّه مكانة برانكوزي في النحت بمكانة بيكاسو في الرسم الحديث.