Thursday, September 02, 2010

لوحات عالميـة – 254

نقطـة التـقـاء
للفنان الأمريكي جاكسـون بـولـوك، 1952

يقال أن الفنّ يأتي أحيانا من أماكن بعيدة وخفيّة في أعماق النفس. لذا تصبح الكلمات والأفكار التي تحاول تفسيره أو فهمه غير ذات قيمة أو أهمّية. بل إن محاولات التفسير والفهم يمكن أحيانا أن تثقل العمل الفنّي وتجرّده من جماله وخصوصيّته وغموضه.
هذا الكلام ينطبق تماما على لوحات جاكسون بولوك وما تثيره في النفس من دهشة وحيرة. ومبعث الحيرة هنا يكمن في انك لا تستطيع وصف لوحاته ولا اكتشاف ما أودعه فيها من معانٍ ورسائل ورموز. حركات مشوّشة؟ طاقة فيزيائية زائدة؟ رسائل خفيّة؟ لا شيء واضح على وجه التحديد.
البعض لا يجد لوحات بولوك باعثة على السرور أو المتعة. والبعض الآخر يراها تجلب الدوار وتربك الذهن. وهناك من يقول، على سبيل السخرية والمبالغة، أن أيّ طفل بمقدوره أن يرسم مثلها.
ومع ذلك، فـ جاكسون بولوك يُعتبر اليوم احد أشهر الرسّامين في العالم ومن أكثرهم أصالة وتأثيرا. إحدى لوحاته ابتاعها عام 2006 رجل أعمال مكسيكي بمبلغ مائة وأربعين مليون دولار أمريكي، ما جعلها تتصدّر قائمة اللوحات الأغلى في العالم في ذلك الوقت.
ودائما، كان هناك من ينظر إلى لوحاته محاولا اكتشاف أنماطها وزخارفها الجميلة والمشاعر الدفينة التي قد تكون مخبّأة بين ثنايا خيوطها وأشكالها وألوانها الكثيرة.
كان جاكسون بولوك واحدا من مجموعة من الرسّامين الذين ابتكروا أسلوبا جديدا في الرسم يمزج ما بين التجريد والتعبيرية.
لم يكن هؤلاء يرسمون أشياء مألوفة في لوحاتهم كالطبيعة والأشخاص أو الحياة الصامتة، بل فضّلوا بدلا من ذلك التعبير عن انفعالاتهم من خلال توظيف عناصر الرسم نفسها كالألوان والأشكال والأضواء والظلال والخطوط وما إلى ذلك.
وقد تأثّر بولوك وزملاؤه بأنماط الفنّ الأفريقي وبرسومات الكهوف وفنون سكّان أمريكا الأصليين.
كانت الظروف التي نتجت عن الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك استخدام الأسلحة النووية لأوّل مرّة في تاريخ البشرية، سببا في انتشار حالة من الحيرة والتشاؤم والشكّ بشأن مستقبل ومصير البشر. وكان هذا من بين العوامل المهمّة التي دفعت بولوك وأقرانه إلى التامّل في الواقع والنظر إلى الأشياء بشكل مختلف.
كان هؤلاء يؤمنون بأن الفنّ التقليدي لم يعد قادرا على توصيل انفعالاتهم ومشاعرهم بما فيه الكفاية. لذا بدءوا في البحث عن شكل فنّي أفضل يمكنهم من خلاله أن يعبّروا عمّا بدواخلهم من مشاعر مضطربة وهواجس مؤرّقة.
وقد فتح التجريد أمام الناس آفاقا واسعة وعلّمهم أن يؤمنوا بحرّية الفنّ دون أن يركنوا إلى الأفكار والأساليب الجاهزة مسبقا.
على أن إحدى أهمّ مميّزات الرسم التجريدي هو انه يمكن أن يوجد في كل زمن وجيل كشكل معاصر من أشكال الرسم. بمعنى انه لا يتقادم مع مرور الزمن ولا يبلى بفعل توالي الأساليب والأنساق الفنية والمدارس التشكيلية.
لوحة بولوك هنا عبارة عن فوضى عارمة من الألوان الصفراء والبرتقالية والبيضاء. هذه الألوان يبدو كما لو أنها تنبثق من الخلفية المظلمة للوحة وتتلاقى أو تتقاطع من خلال الضربات التي تكوّن سلسلة من الخطوط والأشكال والظلال التي يعلو بعضها بعضا.
بعض النقّاد وعلماء النفس يقولون عن حالات الانفعال التي يتعذّر تفسيرها أو فهمها أنها أعراض تشوّش وحيرة وارتباك.
هذا الكلام يكتسب مصداقية خاصّة عند النظر إلى السياق الزماني والمكاني الذي أنتج ظاهرة جاكسون بولوك. فعندما رسم الفنّان أعماله، ومن بينها هذه اللوحة، كانت أمريكا ما تزال تعاني من آثار ونتائج الحرب العالمية الثانية وإرهاصات الحرب الباردة وما رافقها من حملات هستيرية ضدّ الشيوعية والمعسكر الاشتراكي.
كان الفنّانون في ذلك الوقت يراقبون ما يحدث بوجوم وغضب، خاصّة بعد أن تبيّن لهم أن آمالهم وأحلامهم بمستقبل أفضل للبشرية قد تدمّرت ووئدت بفعل جنون الحرب وتهوّر القادة السياسيين. لذا أرادوا من خلال التجريد استبدال العالم القديم الآيل للسقوط بعالم آخر جديد يمكن أن يحتضن تطلّعاتهم ويحقّق أحلامهم بغد أكثر سلاما وأقلّ عنفا.
هذه اللوحة يمكن أن يكون لها معنى ما في واقع الحياة. وربّما يكون معناها كامنا تحت الطبقات المتعدّدة والكثيفة من الألوان والأشكال التي يُفترض أنها انعكاس لإسقاطات قويّة وانفعالات جامحة.
وبرغم غموض اللوحة، إلا أنها تجذب العين بألوانها البديعة والمتناغمة. يبدو خيال الفنان هنا متحرّرا ومنطلقا بلا حدود. ويمكننا أن نتخيّل بولوك وهو يصبّ الطلاء أو يرشّه عشوائيا، ثم يرسم دائرة إثر دائرة ويبني حولها طبقات فوق طبقات من اللون بينما يستخدم أصابعه لتذويب ونشر الطلاء فوق مساحة اللوحة الكبيرة.
ويقال إن الرسّام كان يستخدم السكاكين والعصيّ ويمزج الرمل بقطع الخشب والزجاج المكسور وغيرها من الأشياء الغريبة كي يمنح مناظره نسيجا ثقيلا ومتماسكا.
في بداياته، تعرّف جاكسون بولوك على الفلسفات الشرقية والأفكار الثيوصوفية. وكان قبل ذلك شخصا لا دينيا. لكن علاقته بالمعلّم الروحاني الهنديّ المشهور جيدو كريشنامورتي فتحت أمامه الباب واسعا لتعلّم الأفكار والمفاهيم الروحية المعاصرة.
في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، توقّف بولوك عن اختيار عناوين للوحاته واستبدلها بأرقام، في محاولة لتحريض المتلقّي للدخول مباشرة إلى أجواء اللوحة وصرف انتباهه عن أيّ ارتباطات أو تصوّرات مسبقة قد يوحي بها العنوان.
كان جاكسون بولوك يؤمن بأن الرسّام لا يلزمه أن يتمتّع بمهارات تقنية خاصّة وأن كل إنسان مهيّأ لأن يصبح رسّاما على طريقته.
والمعروف أنه جرّب في بداياته حياة التشرّد والفقر. ولم تحقّق لوحاته النجاح والشهرة إلا في المراحل الأخيرة من حياته.
وقد دعمه بعض النقّاد بينما سخر منه آخرون. وفي الستّينات اختير كأهمّ رسّام لأهمّ حركة فنّية أمريكية ظهرت في القرن الماضي.
ويقال إنه بفضل بولوك وزميله الآخر مارك روثكو وغيرهما من رموز التجريدية الأمريكية، أصبحت نيويورك تحتلّ مكانة باريس في كونها الحاضنة الأولى للفنّ الطليعي في العالم.
غير أن حياته الخاصّة لم تكن سعيدة أو سهلة. فقد عانى كثيرا من نوبات الاكتئاب والإدمان على الكحول والتدخين بشراهة.
وفي آخر سنواته أصبح عاجزا ومشوّش الذهن، وبدا كما لو انه غير قادر على مواجهة أعباء وضغوط الحياة.
وفي صيف عام 1956 قُتل جاكسون بولوك في حادث سيّارة عن عمر لا يتجاوز الرابعة والأربعين.
وقد أسهم موته المأساوي وهو في سنّ مبكّرة في إضفاء طابع أسطوري على شخصيّته وفنّه.

Tuesday, August 31, 2010

لوحات عالميـة – 253

بارسيفـال أو فـارس الأزهـار
للفنان الفرنسي جـورج روشيغرو، 1894

تعتمد أوبرا بارسيفال لـ ريتشارد فاغنر على نصّ أسطورة ملحمية مسيحية تعود إلى القرن الثالث عشر الميلادي وتحكي عن مغامرات فارس آرثري بهذا الاسم.
والقصّة تمتلئ بالمعاني والرموز وتجسّد الصراع بين المسيحية والوثنية، وبين الخير والشرّ، والنور والظلام.
عندما ظهرت هذه الأوبرا لأوّل مرّة عام 1857 لاقت إعجابا كبيرا، خاصّة من الرسّامين الانطباعيين الذين كانوا يجدون في أعمال فاغنر عناصر إلهام للوحاتهم.
كان الرسّامون آنذاك متعطّشين للأفكار والمواضيع الجديدة. وقد فتنتهم براعة هذا الموسيقيّ الألماني الذي أعاد الأساطير العظيمة والحكايات القديمة إلى الحياة من جديد.
وعندما فكّر الفنّان جورج روشيغرو في رسم هذه اللوحة، فإنه كان يطمح لأن يقترب من الجماليات النخبوية للرمزيين وأن يستغلّ الشعبية الكبيرة التي كان يتمتّع بها في ذلك العصر الرسّامون الانجليز ما قبل الرافائيليين.
في أحد مشاهد أوبرا فاغنر، عندما يصل البطل بارسيفال إلى قلعة الساحرة كلينغسور يقوم الملك بإصدار تعليماته إلى فرسانه بالتصدّي له ومقاتلته. لكن بارسيفال يتغّلب عليهم جميعا ويلوذون بالفرار.
ثم يتابع الملك بارسيفال وهو يتّجه إلى داخل حديقة قصره باحثا عن الكأس المقدّسة، فيستدعي الساحرة كوندري كي تقوم بإغرائه ومن ثمّ إبعاده عن الحديقة.
الرسّام يصوّر اللحظة التي يجد بارسيفال فيها نفسه داخل حديقة رائعة تحيط به مجموعة من النساء الفاتنات اللاتي يتخفّين في هيئة أزهار. وبعد ذلك ينشب نزاع بين النساء حول أيّهن أحقّ أن تظفر بالفارس.
غير أن بارسيفال لا يكترث لنداءات النساء اللاتي تغطّي أجسادهنّ أزهار النرجس والزنبق والبنفسج.
الطبيعة الخفيفة والمريحة لهذه اللوحة من حيث الشكل والمضمون تجعل منها استثناءً عن بقيّة اللوحات المقتبسة عن أعمال لـ فاغنر الذي تغلب على مسرحيّاته الأفكار المظلمة والمأساوية.
ومن الواضح أن روشيغرو تعمّد أن يبتعد عن نصّ الأوبرا كي يبرز الفكرة الرئيسية التي يقدّمها المشهد، وهي أن بارسيفال كان إنسانا محصّنا ضدّ الإغراء لأنه كان عميق الإيمان بالأفكار المثالية والأخلاقية.
عندما عرض الرسّام اللوحة في صالون باريس نال الكثير من ثناء واستحسان النقّاد. كما بادرت الدولة الفرنسية إلى شراء اللوحة لصالح متحف لوكسمبورغ قبل أن تنتقل في ما بعد إلى متحف اورساي.
وقد كيّف روشيغرو هذا العمل بشكل محكم كي يتناسب مع الذوق السائد في ذلك العصر. ومع ذلك تبدو اللوحة حديثة إلى حدّ كبير.
ورغم انه استخدم لرسمها الأسلوب الواقعي، إلا انه أضاف إليها لمسة انطباعية تبدو واضحة من خلال تعامله مع الطبيعة والخضرة ومزجه الرائع والمتناغم للألوان.
نيتشه الذي كان صديقا لـ فاغنر أثنى على الموسيقى، لكنه انتقد الأوبرا واعتبرها عملا رديئا ومحاولة لانتهاك الأخلاقيات الأساسية.
وقد قيل وقتها أن الأوبرا تروّج لفكرة النقاء العرقي وتتبنّى موقفا معاديا لليهود.
غير أنها وجدت لها أنصارا كثيرين في الوسط الموسيقي. فقد أثنى عليها كلّ من الموسيقي الفرنسي كلود ديبوسيه والألماني غوستاف ماهلر. العلاقة بين الأوبرا والموسيقى من ناحية والرسم من ناحية أخرى وثيقة وقديمة. الكسندر فراغونار، مثلا، رسم أوبرا "دون جوان" لـ موزارت. وغوستاف دوري رسم أوبرا "شمشون ودليلة" لـ كميل سان سونس. بينما رسم كلّ من ادموند ليتون وجون ووترهاوس أوبرا "تريستان وايزولدا" لـ فاغنر.
الرسّام جورج روشيغرو ولد في باريس ودرس الرسم فيها. وقد تخلّى عنه والده وهو صغير فعاش في كنف زوج أمّه. وفي ما بعد تنقّل بين ايطاليا وهولندا وألمانيا وبلجيكا كدارس وسائح. كان مهتمّا في الأساس برسم الأحداث التاريخية. لكنه أيضا رسم الميثولوجيا والطبيعة ومشاهد من الحياة اليومية.
المعروف أن روشيغرو عاش هو وزوجته آخر سنوات حياتهما في الجزائر. وقد أحبّ الرسّام الثقافة المحلية الجزائرية وأعجب كثيرا بالزخارف المعمارية الشرقية.
تجربته في الجزائر يظهر تأثيرها واضحا في العديد من لوحاته التي صوّر فيها الحريم وبعض مظاهر الحياة اليومية. وقد مكث الفنّان في الجزائر إلى أن أحسّ بتقدّمه في السنّ، فعاد إلى باريس ليموت ويُدفن فيها عام 1938م.
ومن أشهر لوحاته الأخرى السلطانة وموت في بابل والمحظيّة وبورتريه سارة برنارد.

Sunday, August 29, 2010

لوحات عالميـة – 252

قريـة عرائـس البحـر
للفنان البلجيكي بـول ديلفـو، 1942

يعتبر بول ديلفو احد الرموز المهمّة في حركة الفنّ الحديث في القرن العشرين. وقد اشتهر بلوحاته السوريالية التي تكثر فيها صور لنساء ذوات عيون كبيرة ومتوتّرة يتحرّكن ويتصرّفن كما لو أنهنّ واقعات تحت تأثير منوّم مغناطيسي. وكثيرا ما يظهرن في محطّات القطار أو يتمشّين داخل مبان كلاسيكية الطابع برفقة رجال غامضين يرتدون القبّعات.
القطارات أيضا من الموتيفات التي تظهر في لوحات ديلفو بشكل متكرّر. ويبدو أن الدهشة لم تفارقه منذ رأى أوّل قطار في حياته في باريس وهو ما يزال طفلا.
ومثل غيره من الرسّامين السورياليين، كان ديلفو يستمدّ مواضيع لوحاته من الأحلام والرؤى. وقد رسم هذه اللوحة اعتمادا على حلم روته له زوجته في احد الأيّام. فقد حلمت أنها رأت مجموعة من عرائس البحر على هيئة نساء يرتدين ملابس طويلة بألوان رمادية وخضراء وهنّ يجلسن قبالة بعضهنّ على كراسٍ مذهّبة في زقاق طويل يقوم على جانبيه صفّان من البيوت الرمادية.
النساء في هذه اللوحة يبدين بلا حراك، بينما يضعن أيديهن فوق ركبهنّ ويحدّقن في المجهول.
الزقاق بدوره يمتدّ إلى آخر اللوحة ويفتح على منظر لشاطئ تحيطه جبال بيضاء. في اللوحة أيضا يظهر رجل وحيد يبدو واقفا قرب جدار في الزاوية التي ينعطف عندها الشارع إلى اليمين. وفي الجانب الآخر من الجدار تظهر عن بعد مجموعة من عرائس البحر وهنّ يقفزن في الماء بعد أن تحرّرن من ملابسهنّّ.
المعنى هنا ليس واضحا تماما. ربّما كان كامنا في العقل الباطن للرسّام وزوجته. واللوحة في النهاية هي محاولة لتصوير حلم يصعب فهمه أو تفسيره.
ولد بول ديلفو في بلجيكا ودرس المعمار والديكور في أكاديمية بروكسل للفنون التي عُيّن في ما بعد مديرا لها.
ويُعرف عنه انه كان مغرما بـ جورجيو دي تشيريكو الذي كان معاصرا له. وكان مثله يعشق مناظر الشوارع الصامتة حيث ظلال البشر الذين لا يمكن رؤيتهم.
كما كان معجبا بمواطنه الرسّام رينيه ماغريت وبأسلوب مزجه الواقع بالخيال في لوحاته. ويقال إن ديلفو كان متأثّرا كثيرا بـ ماغريت. في حين يذهب بعض النقّاد إلى أن ديلفو لم يكن في واقع الحال سوى نسخة باهتة عن ماغريت.
بعض لوحات ديلفو تتّسم بغموضها، وفي بعضها الآخر مشاهد من حنين وإحساس بالصمت والأبدية.
وقد زار الرسّام ايطاليا في وقت مبكّر من حياته وأعجب بمبانيها التاريخية وعكَس حبّه للعمارة في العديد من صوره.
لكن لم يكن أحبّ إلى نفسه من رسم النساء العاريات ذوات الصدور الضخمة وهن يتجوّلن على الشواطئ أو في الطرق المزدحمة أو في الأطلال القديمة تحت ضوء القمر، وأحيانا وهنّ يقطفن الأزهار.
في إحدى لوحاته المشهورة بعنوان فينوس النائمة والموجودة في التيت غاليري بـ لندن، يرسم ديلفو امرأة تنام عارية في ساحة قصر مبنيّ على الطراز الإغريقي. وعند رأس المرأة النائمة تقف امرأة عارية وهي تؤشّر بيدها لامرأة أخرى محتشمة تمرّ عند نهاية السرير بمحاذاة هيكل عظمي لإنسان. وعلى الأرضيّة الرخامية نساء عاريات يؤدّين طقوسا غريبة وأخريات يحلّقن في السماء، بينما يضيء المشهد الليلي نور قمر يشعّ من بعيد.
ديلفو قال انه رسم هذه اللوحة في إحدى الليالي التي كانت تتعرّض فيها بروكسل لوابل من قذائف الطائرات أثناء الحرب العالمية الثانية. تلك اللحظات كانت استثنائية في سايكولوجيّتها وفي كمّية التوتّر والدراما التي صاحبتها. ويبدو أن الرسّام أراد من خلال اللوحة الموازنة بين نقيضين: الهدوء الذي يمثّله منظر المرأة النائمة من ناحية والإحساس بالألم والفجيعة الذي تجلبه الحروب من ناحية أخرى. صحيح أن اللوحة مزعجة إلى حدّ ما، لكنها تتضمّن أيضا نوعا من التعبير الشاعري.
كان بول ديلفو شخصا حالما، ولم يكن يحبّ القراءة كثيرا. كما لم يُعرف عنه تديّنه أو انتماؤه إلى أيّ تيّار أو حزب سياسي. وكان يحتفظ في محترفه بمجموعة من الجماجم البشرية التي كان يرسمها في لوحاته. كما كان معروفا بحرصه الشديد على أن يختار بنفسه، وحسب مواصفاته هو، موادّ وعدّة الرسم التي كان يستخدمها.
زوجته التي ألهمته رسم هذه اللوحة ظهرت في العديد من لوحاته بعينيها الواسعتين ووجهها الكلاسيكي. أما نساؤه العاريات فكان يصوغ ملامحهن على ملامح امرأتين أخريين، إحداهما روسية والأخرى سويدية.
ويمكن القول إجمالا إن مناظر ديلفو السوريالية تخلو من أيّ اثر للعنف أو الكوابيس المخيفة. كان عالمه غريبا، لكنّه مسالم نسبيا.
ومن الواضح انه كان يفهم النساء ويتعاطف معهنّ كثيرا. إحدى القصص التي تُروى عنه تقول إنه أحبّ امرأة وهو في سنّ الثلاثين، لكن والديه رفضا ارتباطه بها. وعندما قابلها بالصدفة بعد أكثر من ربع قرن لم يتردّد في الزواج منها على الرغم من انه كان يشارف على الستّين.
توفّي بول ديلفو عام 1994 عن سبعة وتسعين عاما. ومنذ بضع سنوات احتفلت بلجيكا بذكرى مرور مائة عام على مولده.