Wednesday, June 02, 2010

لوحات عالميـة – 241

بورتريه شارلوت كورديه
للفنان الفرنسي بـول جـاك بـودري ، 1862

تصوّر هذه اللوحة احد الأحداث التاريخية المهمّة التي وقعت في فرنسا أواخر القرن الثامن عشر. كانت فرنسا وقتها غارقة في أتون الدماء والعنف الذي طبع الثورة الفرنسية منذ بداياتها.
كان العنف الهمجي مسيطرا، وانتشر الرعب في كلّ مكان. كان يكفي أن يرفع شخص إصبعه كي يُساق مئات الرجال والنساء إلى حتفهم.
وقد بلغ العنف ذروته في ما سُمّي بعهد الرعب، حيث سُفكت الكثير من الدماء وقُطعت العديد من الرؤوس تحت المقصلة. حتّى الملك نفسه لم ينجُ من السكّين الرهيبة.
جان بول مارات كان احد الثوّار الذين سقطوا في وحل العنف الأعمى. وقد أرسل هذا الشخص ألوف الأبرياء إلى قبورهم. وبلغ من ساديّته انه كان يتملّكه الفرح عند سماعه أخبار موت ضحاياه.
في حياته المبكّرة، كان مارات إنسانا مختلفا. كان طبيبا مرموقا وصديقا للنبلاء، كما كانت له اهتمامات فكرية وصحفية.
لكن عندما انتقل للعمل السياسي أصبح شخصا آخر. الحكايات المنقولة عنه ترسم له صورة شيطان في هيئة إنسان. حبّه للقتل والانتقام لم يوفّر حتى اقرب أصدقائه. ونتيجة لذلك، أصبح شخصا مكروها من معظم الناس.
كان مارات يعرف أن حياته أصبحت في خطر. وكانت تؤرّقه صور أعدائه وخصومه الكثيرين الذين كانوا يترصّدونه مطالبين برأسه.
في تلك الأثناء، كانت هناك فتاة اسمها شارلوت كورديه تستمع من بيتها الهادئ إلى قصص الاغتيال والقتل الرهيبة التي حوّلت باريس إلى مدينة للدم. وقد تداخلت هذه الحكايات في مخيّلة الفتاة مع صور معاناة الفلاحين ووحشية جامعي الضرائب وقمع النظام.
كان كلّ ما تتمنّاه كورديه أن يتحوّل نظام الحكم إلى ملكية دستورية وأن ينتهي عهد الاستبداد. ولهذه الغاية قرّرت أن تذهب إلى باريس وأن تقتل مارات بيديها.
وعندما وصلت، كتبت له رسالة تطلب فيها السماح لها بزيارته في بيته لإحساسها أن حياته باتت في خطر ولأن لديها معلومات عن انتفاضة وشيكة.
في ذلك الوقت، كان مارات مصابا بمرض جلدي مزمن لا يخفّف منه سوى بقائه لفترات طويلة في الماء الساخن. وقد اعتاد أن يستقبل زوّاره في الحمّام الذي تحوّل إلى مكتب. كما كان يقضي معظم وقته ملفوفا بمنشفة منقوعة في الخلّ ومستلقيا في وعاء ماء ضخم.
جاء الردّ من مارات بالسماح لـ شارلوت بزيارته في بيته. وعندما وصلت وسمع صوتها الرقيق عبر الباب، أعطى أوامره فورا لحرّاسه بالإذن لها بالدخول. وعندما دخلت، نظرت إلى الرجل الهزيل الذي تشبه ملامحه وجه فأر وهو يدور ويتعثّر في المغطس.
كانت تخفي تحت ملابسها سكّينا طويلا. وقد شاغلته بسؤال عن مثيري الفتن فقاطعها بقوله: لا تخافي! كلّ هؤلاء سترين رؤوسهم قريبا تحت المقصلة!". وقبل أن يكمل جملته، استلّت السكّين وغرستها بكلّ ما تملكه من قوّة في جنبه الأيسر لتخترق قلبه ورئته. وعندما سقط مارات، نادى على خادمته طالبا النجدة.
هذه هي اللحظة التي صوّرها بول جاك بودري في لوحته. إذ تظهر المرأة وهي تقف متحفّزة في طرف الغرفة بعد أن أتمّت مهمّتها. مارات يبدو في اللوحة وقد تكوّم على نفسه لفرط إحساسه بالألم جرّاء السكّين المنغرزة في صدره بينما راح الدم يتدفق من فمه. منظر الغرفة يشي بحجم الفوضى والاضطراب الذي أعقب الحادثة.
الرسّام جاك لوي دافيد صوّر، هو أيضا، هذه اللحظة في لوحته المشهورة موت مارات. في لوحة دافيد، مارات هو البطل. بينما اختار بودري أن يعطي أهميّة اكبر لدور المرأة. ومن الواضح أن دافيد اختار أن لا تظهر المرأة في لوحته، لأنه كان يعتبر عملها جريمة بحكم الصداقة القويّة التي كانت تربطه بـ مارات.
ولدت شارلوت كورديه لعائلة ارستقراطية. وفي بواكير حياتها، قرأت فولتير وروسو وبلوتارك. كما كانت مفتونة بأخبار المآثر والبطولات وبحبّ الإنسان لوطنه والتضحية بروحه في سبيل أبناء شعبه.
ويبدو أن نوعية قراءتها دفعتها لأن تصبح إنسانة مثالية ويائسة، بل وربّما معزولة عن حقائق المجتمع، لأنها اعتقدت أن حادثا عنيفا واحدا يمكن أن يعيد النظام والهدوء إلى فرنسا.
كانت شارلوت كورديه تؤمن بأن الموت في سبيل الغير هو أكثر أنواع الموت نبلا وشجاعة. وعندما كانت تفكّر بالموت كانت تعتريها نشوة وتتمنّى أن يكون يوم موتها المجيد قريبا.
وقد سبّب قتلها لـ مارات ردود فعل متباينة. البعض اعتبر فعلها جريمة. بينما اعتبرها آخرون نسخة أخرى من جان دارك. لكن ما من شكّ في أن ما قيل عن جمالها ورباطة جأشها وإيمانها بالفلسفة الرواقية جعل منها شخصية مثيرة ونادرة زمن الثورة الفرنسية.
لكنّ المحزن أنها بقتلها مارات حوّلته إلى بطل لقضيّة الثوّار وأعطت مؤيّديه وأنصاره مبرّرا لإعدام المزيد من المعارضين.
بعد عملية الاغتيال، اُخذت شارلوت كورديه إلى السجن ثم مثلت أمام محكمة عسكرية. وقد عُيّن لها محام للدفاع عنها وأعلن أنها مجنونة وبالتالي غير مسئولة عن تصرّفاتها. لكنّها نفت كلام المحامي وأكّدت على أنها قتلت وحشا كي تنقذ حياة مائة ألف، في إشارة إلى كلمات روبسبير التي قالها بعد إعدام الملك لويس السادس عشر.
وقد أصدرت المحكمة حكمها بإعدام شارلوت كورديه قبل أيّام من بلوغها سنّ الخامسة والعشرين. ونُفّذ فيها الحكم في يوم ممطر وعاصف. وكانت آخر كلماتها قبل أن تهوي على رأسها المقصلة: لقد أدّيت واجبي. لا أطلب شيئا ولم يعد يهمّني شيء!".