Saturday, September 16, 2017

لوحات عالميـة – 415

سيّـدة تكتـب رسـالة
للفنان الهولندي يوهـان فيـرميـر،1665

عاش يوهان فيرمير قبل أكثر من ثلاثمائة عام. وحتى اليوم لا يُعرف عنه أو عن حياته سوى الشيء القليل. خبراء الفنّ المعاصرون فحصوا السجلات المدنية القديمة في بلدة ديلفت حيث عاش، بحثا عن معلومات عنه أو عن عائلته، لكنهم لم يجددوا الكثير. كما انه لم يترك صورة تقول لنا شيئا عن ملامحه.
لكن من المعروف انه عمل في تجارة الفنّ لبعض الوقت في شبابه مع والده البروتستانتيّ. لكنه وقع في هوى امرأة كاثوليكية تُدعى كاترينا بولنز ثم لم يلبث أن تزوّجها، الأمر الذي دفع عائلته لأن تطرده من البيت وتتبرّأ منه. فاضطرّ لأن ينتقل إلى منزل والدة زوجته في الحيّ الكاثوليكيّ من البلدة، حيث عاش هناك بقيّة حياته.
كان يوهان وكاترينا قريبين من بعضهما كثيرا. ومعظم العائلات الهولندية في ذلك الوقت كانت تكتفي بطفلين أو ثلاثة، لكنه وزوجته أنجبا احد عشر طفلا ملئا بهم البيت وعاشوا حياة فقر وعوز. وقد اضطرّ أحيانا لأن يقايض دائنيه بلوحاته.
في ذلك الوقت، غزا الفرنسيون والألمان هولندا، وكان طبيعيّا أن يعاني الناس من تردّي الاقتصاد والأحوال المعيشة نتيجة الحرب. وعندما توفّي فيرمير عام 1675 في سنّ الثالثة والأربعين كان مفلسا تماما.
ومن الصعب تصوّر فكرة أنه كان شخصا بوهيميّا أو متعطّشا للجنس، بحسب ما تصوّره السينما وبعض الروايات هذه الأيّام. فالذين درسوا حياته يقولون انه كان زوجا محبّا وأبا حنونا. ولم يكن يشغله سوى العلوم والبصريات والرسم.
وحتى ما كان بحوزته أحيانا من مال قليل لم يكن يكفي لاستئجار محترف أو الاستعانة بموديل معروفة. لذا كان من الطبيعيّ أن تكون زوجته وبناته هنّ جليساته في لوحاته. وجوههنّ النضرة وملامحهنّ الهادئة متشابهة. ومن السهل أن ترى كاترينا، الحامل أحيانا، في بعض صوره.
في هذه اللوحة، يرسم فيرمير زوجته وهي جالسة إلى طاولة في غرفة معتمة، بينما تكتب رسالة. وهي ترتدي معطفا اصفر زاهيا يزيّنه فراء ابيض مع قرطين من اللؤلؤ وشرائط شعر بيضاء.
الضوء في اللوحة يسقط من الزاوية اليسرى، ما يجعل المرأة نقطة الارتكاز فيها. وهي تمسك في يدها اليمنى بقلم، بينما تُريح ذراعها الآخر على الطاولة. لكن اهتمامها يتحوّل بعيدا عن الرسالة كما لو أن شخصا ما قاطعها فجأة. وهي تنظر باتجاهه وعلى فمها اثر تساؤل وابتسامة خفيفة.
الطاولة مؤطّرة بقماش ازرق خفيف، وعليها يستقرّ عقد من اللؤلؤ وشريط من الحرير الأصفر. وفي الخلفية، على الجدار، لوحة بالكاد يمكن رؤية تفاصيلها.
التصميم في اللوحة محكم ويكشف عن إحساس هندسيّ دقيق، وهذه هي إحدى سمات فن فيرمير. وإذا صحّت فرضية أن المرأة الظاهرة في الصورة هي زوجته، وهذا أمر مرجّح اليوم، فإنه يصبح من السهل توقّع أنها كانت عند رسمها في منتصف الثلاثين من عمرها، بالنظر إلى أنها مولودة في عام 1631.
الألوان في اللوحة هي مزيج صامت ومتناغم من الأصفر والأزرق والبنّي. والإضاءة الساحرة والنقاء الفوتوغرافيّ والوضعية الأنيقة للمرأة والقلم المعلّق فوق الورق للحظات، كلّها تؤشر إلى النوعية الممتازة للتفاصيل والأشياء والتي أصبحت علامة تميّز فيرمير.
من الأشياء الأخرى اللافتة أيضا في اللوحة التحوّل السلس للألوان والذي ينتج حوافّ ناعمة. وليس هناك أشكال ولا خطوط محدّدة أو واضحة، هناك فقط إيحاء بالأشكال. وتنفيذ مثل هذه المهارات يتطلّب عادةً وقتا وجهدا كبيرين، حتى لو كان الرسّام بارعا فيها من الأساس.
الرسائل هي عادةً عن الحبّ والعلاقات الحميمة. واللوحة تُظهر أن الكتابة فعل مريح وممتع وله نفس أهميّة الأشياء الماديّة الثمينة التي تعامَل أحيانا كالكنوز وتُحفظ بعيدا عن متناول الآخرين. وجوّ اللوحة يعطي الانطباع بأن هذه المرأة التي عاشت قبل أكثر من ثلاثة قرون يمكن أيضا أن تنتمي إلى عالمنا.
من الأشياء اللافتة أيضا في اللوحة أن المعطف الذي ترتديه المرأة هو نفسه الذي يظهر في بعض لوحات الرسّام الأخرى مثل امرأة تعزف الغيتار . وحتى نفس عقد اللؤلؤ والخزانة الخشبية الصغيرة في الخلفية يظهران في لوحات أخرى له، ما يرجّح فرضية أن فيرمير كان يرسم من مجموعة ثابتة من الأقمشة والإكسسوارات التي كان يحتفظ بها دائما ضمن مقتنياته الخاصّة.
تجدر الإشارة إلى أن هناك ستّ لوحات أخرى لفيرمير تناول فيها نفس الموضوع وتصوّر نساءً إمّا يقرأن أو يكتبن. ويقال أن أوّل من روّج لفكرة المرأة التي تكتب هو مواطنه الرسّام جيرارد تير بورش.
المعروف أن فيرمير لم يترك توقيعا على أيّ من لوحاته، لكنه ترك تواريخ على ثلاث منها فقط. ويبدو أن تأثيره على الكثير من الرسّامين الذين أتوا بعده، بالإضافة إلى كثرة اللوحات المزوّرة المنسوبة له، شكّلا تحديّا كبيرا لخبراء الفنّ الذين حاولوا أن يثبتوا أصالة بعض أعماله وصحّة نسبتها إليه.

Tuesday, September 12, 2017

لوحات عالميـة – 414

فناء منزل في الريف الجزائريّ
للفنان الأمريكي فريـدريك آرثـر بريـدجمان، 1920

كان فريدريك آرثر بريدجمان رسّاما استشراقيا مشهورا في زمانه. لكن الكثيرين اليوم يعتبرونه منسيّا إلى حدّ ما، مع أن أعماله تظهر بانتظام وتبيع جيّدا في مزادات الفنّ العالمية.
وهناك من يقول إن السبب في أن اسمه أصبح غير متداول كثيرا اليوم هو أن ترويجه لنفسه أثناء حياته منع الآخرين من الاقتراب منه أو تناول فنّه تناولا نقديّا. ومنذ وفاته، لم يظهر كتاب يؤرّخ لسيرة حياته كما لم يقم أيّ من المتاحف الكبيرة بتنظيم معرض لأعماله.
كان بريدجمان عاشقا كبيرا لبلدان وثقافات الشرق. وقد أخذته أسفاره الطويلة إلى المغرب والجزائر ومصر وسوريا وتركيا ليطّلع على مظاهر الحياة فيها وليصوّرها.
وهو لم يكن رسّاما فحسب، بل كان أيضا شاعرا وأديبا ومؤلّفا وعازفا موسيقيّا. واهتمام جامعي الفنّ العرب، على وجه الخصوص، بفنّه وفنّ غيره من رسّامي الاستشراق مردّه في الأساس كون الرّسم الاستشراقي هو السجلّ البصريّ الوحيد المتوفّر اليوم عن حياة شعوب المنطقة في القرن التاسع عشر. لكن هناك سببا آخر يتمثّل في تقدير هؤلاء الجامعين لبراعة وإبداع بريدجمان بشكل خاصّ.
اعتبارا من عام 1870، اتّخذ الرسّام من فرنسا وطنا دائما له، حيث تعلّم فيها على يد جان ليون جيروم وكان هو الطالب المفضّل عنده. ويمكن تبيّن تأثير أستاذه عليه من خلال تبنّيه الرسم الأكاديميّ ثم المواضيع الاستشراقية. وما من شكّ في أن رحلات جيروم إلى الشرق عام 1850 شجّعت بريدجمان على أن يسافر إلى هناك مقتفياً خطى معلّمه.
رحلة بريدجمان إلى كلّ من مصر والجزائر بدأها عام 1872. وقد وفّرت له تلك التجربة مصدر إلهام دائم. ورسم خلال رحلته تلك أكثر من ثلاثمائة اسكتش كانت الأساس للعديد من اللوحات الزيتية التي نفّذها في ما بعد.
وفي عام 1890، ألّف بريدجمان كتابا بعنوان "شتاء في الجزائر" ضمّنه العديد من الرسومات والقصص التي لا تُنسى عن أسفاره وخبراته الفريدة في ذلك البلد. وقد سُمح له بدخول بيوت الحريم ورسم ما رآه تقريبا ولم يعتمد على ذاكرته مثلما فعل معاصروه من الفنّانين.
وأثناء رحلاته جمع الرسّام ملابس وأدوات فنّية وتراثية ومعمارية زيّن بها منزله في باريس، لدرجة أن بيته صار مزارا للكثير من الفنّانين. واهتمامه الشديد بالأزياء والإكسسوارات وأنماط الحياة اليومية في الجزائر خاصّة يوفّر سجلا قيّما عن بعض سمات الثقافة الجزائرية في مرحلة انفتاح بلدان المنطقة على الغرب.
في هذه اللوحة، يصوّر بريدجمان جانبا من أنشطة الحياة اليومية في فناء منزل ريفيّ زاره في ولاية بسكرة جنوب شرقي الجزائر. كانت الولاية مشهورة بصناعاتها اليدوية وبساطة الحياة فيها.
وفي اللوحة تظهر امرأتان تقومان بأعمال التطريز بصحبة امرأة ثالثة وخادمة سمراء. المرأة الجالسة أمام طاولة النسيج تعالج الخيط، بينما تراقبها الفتاة الصغيرة باهتمام. وخلفهما تقف فتاة أخرى تمسك بباقة أزهار. وإلى اليسار مائدة مذهّبة عليها عنب وتين.
وفي الخلف يمكن رؤية غزالة تستريح تحت الجدار. والرسّام يضمّنها في اللوحة باعتبارها رمزا لجمال المرأة في الثقافة العربية. وهناك أيضا نافورة وعمود من الرخام ذو طراز أنيق.
ومن الأشياء الأخرى التي تلفت الانتباه الأقدام العارية للنساء والحرّية التلقائية التي يتصرّفن بها والملابس الملوّنة واللمّاعة. وكلّ هذه العناصر فيها إشارة إلى الحواسّ الخمس وإلى جاذبية ونبل الأنثى.
كان بريدجمان قد كتب عدّة تحقيقات عن تجربته في الجزائر ونشرها في مجلّتي اتلانتيك وهاربر الأمريكيّتين. وهو كان مفتونا بالديكور المغاربيّ الذي رآه في منازل الجزائريين الأثرياء. وبعض لوحاته عن تلك البيوت تذكّر بأجواء ألف ليلة وليلة.
كما كتب بإسهاب عن التأثير الكلاسيكيّ، الإغريقيّ خاصّة، على المعمار المغاربي من خلال أشكال الأعمدة والأبواب المقوّسة. وأيضا أشار إلى أن المعماريين العرب عدّلوا وحسّنوا ما وجدوه وأضافوا إليه الكثير من الحيوية الفنّية عبر توظيف الأنماط الهندسية التجريدية والعناصر الزخرفية.
من بين أكثر أعمال بريدجمان الأخرى احتفاءً لوحته منظر لزقاق جزائريّ ولوحة أخرى بعنوان لعبة مثيرة . في اللوحة الأخيرة، يتذكّر الفنّان احد مقاهي القاهرة ويرسم تفاصيله المعمارية وأزياء روّاده. والصورة تُظهِر رجلين يلعبان الشطرنج بحضور رجل ثالث وامرأة.
وقد رسم هذا المنظر عندما عاد إلى باريس، وضمّنه تذكارات أخذها معه من رحلاته إلى الجزائر. تَعامُل بريدجمان البارع مع الضوء والظلّ في هذه اللوحة وتصويره غير النمطيّ للأشخاص، بتوظيفه الحركات والأوضاع والإيماءات كأدوات تعبيرية، كلّ ذلك أكسبه ثناء وإعجاب النقّاد.
ولد فريدريك آرثر بريدجمان في ولاية الاباما الأمريكية عام 1847 لأب كان يعمل طبيبا. وفي البداية درس الرسم في مدرسة بروكلين للفنون، ثم سافر إلى باريس عام 1866 حيث تعرّف فيها إلى جان جيروم الذي كان له تأثير كبير في توجيه مساره الفنّي.
بعد الحرب العالمية الأولى، استقرّ بريدجمان في منطقة النورماندي. ورغم انه استمرّ يرسم هناك، إلا انه توقّف عن عرض أعماله على الجمهور. وقد توفّي في روين عام 1928 وسط تجاهل تامّ تقريبا من النقّاد والصحافة.