Saturday, June 24, 2006

لوحات عالميـة - 100

وصـيفــات الـشّـــرف
للفنان الإسباني دييـغـو فـيلاســكيــز، 1656

تعتبر هذه اللوحة واحدة من أعظم الأعمال التشكيلية في تاريخ الفنّ الغربيّ كلّه، كما أنها إحدى اكثر اللوحات إثارةً للغموض والنقاش والجدل.
وبعض النقّاد لا يتردّد في وضعها في منزلة متقدّمة حتى على الموناليزا أو الجيوكندا.
ومنذُ أن رسم دييغو فيلاسكيز اللوحة قبل ثلاثة قرون ونصف وهي تتبوّأ موقع الصّدارة في كافة القوائم المخصّصة لافضل الأعمال التشكيلية في العالم.
فيلاسكيز نفسه يُعتبر أهمّ رسّام إسباني على الاطلاق وأحد أعظم الرسّامين في التاريخ، بل إن مانيه وبيكاسو مثلا يعدّانه الأعظم. وقد كتب بيكاسو عدّة دراسات عن هذه اللوحة ورسم سلسلة من اللوحات التي تعطي "وصيفات الشرف" تفسيرات متباينة.
ُعرف عن فيلاسكيز مهارته الفائقة في مزج الألوان وتعامله المبهر مع قيم الضوء والكتلة والفراغ.
وقد رسم هذه اللوحة في قصر الكازار في مدريد عام 1656 حيث كان يعمل رسّاما أوّل في بلاط الملك فيليب الرابع ورئيساً لتشريفات القصر.
واللوحة تصوّر "انفانتا مارغاريتا" كبرى بنات الملك وهي محاطة بوصيفاتها وكلبها. لكن فيلاسكيز عمد إلى رسم نفسه ايضا في اللوحة، وهو يظهر هنا منهمكاً في الرّسم ومرتدياً ملابس محاربي القرون الوسطى. بيد أن اللوحة التي يفترض أن الفنّان يرسمها مخفية تماماً عن الأنظار.
ووسط الجدار الخلفي ثمّة مرآة تعكس صورة الملك والملكة. والى يمين اللوحة في الخلفية بدا الحاجب كما لو انه يهمّ باستقبال زوّار ما.
الوصيفتان تظهران في وضع انحناء دليلاً على احترامهما وتقديرهما للأميرة الصغيرة التي ترتدي تنّورة واسعة ومزركشة. ومع ذلك فإن الأميرة ووصيفاتها يبدين كالدّمى أو كالتماثيل الشمعية مقارنةً بالحضور الطاغي والقويّ الذي يفرضه الفنان نفسه على المشهد بأكمله.
ولد دييغو فيلاسكيز "أو فيلاثكيث كما ينطق اسمه بالاسبانية" في اشبيليه عام 1599 وعاش سنوات حياته المبكّرة في أوج عصر النهضة في أوربا. في تلك الفترة بالذات كان سيرفانتيس وشكسبير يعكفان على كتابة أعمالهما الإنسانية العظيمة.
على المستوى الشخصي، ُعرف عن فيلاسكيز تواضعه الجمّ وتعاطفه الكبير مع فئة الفقراء والمهمّشين.
وقد اعتنق منذ بواكير شبابه الأفكار الديمقراطية والإنسانية وتعزّزت تلك الأفكار لديه اكثر عندما دخل دائرة المجتمع الأرستقراطي الذي عرف بتهتّكه وانحلاله.
وكان فيلاسكيز يقارن حياة الترف والتخلّع تلك بالمعاناة الشديدة التي كان يكابدها العامّة من أفراد الشعب.
ويبدو أنّ أحد الاسباب المهمّة في شهرة هذه اللوحة يعود إلى غموضها الذي ما يزال يتحدّى إلى اليوم أكثر النقّاد قدرةً على قراءة الأعمال الفنية وتفسيرها.
ترى هل كان فيلاسكيز يبغي من وراء رسم هذه اللوحة جعل الناظر أهمّ من اللوحة وشخوصها، أم أراد أن يقول إن الشخوص ليسوا اكثر من أفراد افتراضيين ولا يوجدون سوى في عقولنا؟
ثمّ ما الذي كان يرسمه الفنّان على وجه التحديد؟ هل كان يرسم نفسه أم الملك والملكة المنعكسة صورتهما في المرآة المعلّقة على الحائط؟
ولماذا رسم الأميرة والوصيفات في محترفه وبين لوحاته الأخرى ولم يرسمهنّ في إحدى قاعات أو أروقة القصر الفخمة على غرار ما كان يفعل الفنّانون في ذلك الزمان؟
وهل أراد فيلاسكيز أن يشير ضمناً إلى حضور ذهني وسيكولوجي للأفراد مقابل حضورهم الفيزيائي أو الجسدي؟
كلّ تلك الأسئلة وغيرها ما تزال ُتثار إلى اليوم حول طبيعة ومضمون هذا الأثر الفنّي الهام الموجود حالياً في متحف برادو بمدريد.

موضوع ذو صلة: التاريخ والسياسة والفنّ في لوحة

لوحـات عالميـة - 99

بورتـريه جيـرولامـو سـافـونــارولا
للفنان الإيطالي فــرا بـارتــولـوميــو، 1488

تكمن شهرة وأهميـة هذا البورتريه في كونه يصوّر شخصيّة غير عادية وطالما أثارت جدلا واسعاً بين المؤرّخين.
فقد لعب هذا الراهب دوراً محورياً في الأحداث التي عصفت بفلورنسا وبالكنيسة الكاثوليكية على وجه الخصوص حوالي منتصف القرن الخامس عشر.
كان سافونارولا ثائرا على طغيان الكنيسة وفساد رجال الدين واستبداد الساسة آنذاك.
وقد ُعرف عنه احتقاره للأمور الدنيوية وتقديسه للقيم الدينية من خلال خطبه الحماسية القوية التي كان يضمّنها نبوءاتٍ وتهديداتٍ مبطنة للكنيسة في روما وللحكاّم في فلورنسا.
ورغم تحذيرات الكنيسة له، فقد استمرّ سافونارولا في حشد الأنصار من حوله وتهييج العامّة ضدّ رجال الدين، وشرع يبشّر باقتراب الثورة الموعودة التي ستجدّد الدين والأخلاق.
وبعد انهيار حكم أسرة ميديتشي في فلورنسا في العام 1494، اصبح سافونارولا الحاكم الفعلي للمدينة، فنصّب حكومة ديمقراطية وبدأ في إصلاح الجهاز البيروقراطي وتعهّد بإزالة كافّة مظاهر الفساد من الحكومة والكنيسة.
لكن ما كان لذلك أن يمرّ بسهولة، إذ أن إصلاحات الرجل أوغرت عليه صدور أعدائه الأقوياء وخصومه الكثر.
وأمام ازدياد نفوذ الراهب وتعاظم تأثيره على الناس، اضطرّت الكنيسة لاستدعائه ومحاكمته ثم اتّهامه بالزندقة. وعلى خطّ موازٍ كانت هناك حملة منظّمة لتدمير سمعته وإبعاد الناس عنه.
وفي عام 1498 نفذّت الكنيسة حكم الموت شنقا في سافونارولا وفي اثنين من كبار اتباعه وأمرت بإحراق جثثهم جميعا.
الفنان فرا بارتولوميو كان أحد اتباع سافونارولا المقرّبين وقد رسم له هذا البورتريه خلال حياة الأوّل على الأرجح.
في البورتريه يبدو سافونارولا في مظهر يغلب عليه الزهد والتقشّف وقد اعتمر عمامة سوداء.
الخلفية أيضا اختار لها الفنان لونا اسود، ربّما لإضفاء شئ من الغموض والقداسة والوقار على هيئة الرجل الذي يبدو مستغرقا في التفكير والتأمّل.
أما العبارة المنقوشة باللاتينية اسفل اللوحة فتقول: بورتريه النبيّ جيروم المرسل من الله". وجيروم هو الاسم الكنسيّ لسافونارولا، والعبارة تثبت أن اتباع الراهب كانوا يعتبرونه نبيّا فعلا، وهي الصّفة التي استغلتها الكنيسة لوصمه بالزندقة ومن ثم الحكم عليه بالموت.
بارتولوميو كان متخصّصا في رسم المواضيع الدينية. وفي هذا تنفيذ لوصيّة سافونارولا الذي استنكر ما اسماه بفساد وانحلال الفن آنذاك مؤكّدا على أهمية أن يكون الفن مرآة لتعاليم الإنجيل فينشر الفضيلة ويعلّم الأمّيين.
اليوم وبعد انقضاء خمسة قرون على إعدام جيرولامو سافونارولا، ما يزال المؤرّخون منقسمين حول أهمّية الرّجل وطبيعة وحجم الدور الذي قام به.
البعض يقول إن أفكاره كانت الشّرارة التي أدّت في ما بعد إلى ظهور المصلح البروتستانتي مارتن لوثر.
وهناك من ينظر إلى سافونارولا باعتباره أحد المدافعين الكبار عن الحقوق المدنية وحريّة الضمير، مؤكّدين على شجاعته وعظم تضحيته في التصدّي لطغيان الكنيسة وفساد الساسة في زمانه.
في ما بعد، أعادت الكنيسة الاعتبار إلى سافونارولا فوصفته بالمسيحيّ الصالح الذي احبّ الكنيسة بإخلاص ووقف في وجه المظاهر الوثنيّة التي كانت رائجة في ذلك الحين.